أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - اشتعال المرارة















المزيد.....

اشتعال المرارة


سعيدي المولودي

الحوار المتمدن-العدد: 2763 - 2009 / 9 / 8 - 21:11
المحور: الادب والفن
    


( لذكرى صالح الأعرابي وحده)
1 –
في شهوة الأفق البعيد، تتهاوى الأسماء كالظلال، وتمضي في بهائها العليل، تماما، كالأشجار الذاهبة في الأعالي.
غيوم هاربة تشرب الصدى، تملأ الفيض اشتدادا أو سوادا، تسير سيرها الوئيد وتمسح غفوة الشمس ثم تغرق في تلة الغياب. يقول بعض ضبابها:
لا شمس تتفسح اليوم في سرير الوقت،
لا يوم بعد اليوم،
هرمت جدران الوقت.
هكذا خطوات الحياة تمضي في جلبة النسيان، وترسم صبواتها تحت سوط الموت، الموت السافل يهرق شجر الأحبة ويمضي كاللص هاربا.

2-
زمانا كنا، كانت المدينة تخفق،وربوات الدفء تحدونا،للشوارع طعمها، الصاخبات، وللسطوح اشتعالها، ولليالي أبوابها، الساحرات. نمضي في الزحام البعيد صغارا، أو أسوارا، أو كبارا أو زوارا تشدونا قطرات الرغبة البعيدة ( يا بؤس هذه الدماء التي لا تلين) وأراجيح النهايات التي تأكل ماء المدينة، المدينة البهية كصبية المراعي، تستيقظ على الذل، وتصحو على زبد القهر، وسماء الحسرات التي تنثال من بيوتاتها الحزينة الموشومة بالفقر والأسى البهيج.
كنا نبني حقول الذكريات والثورات المهدورة، والحروب الخاسرة، هل كانت المدينة تغشانا أم كنا نحن نغشاها، يأتيها الأصدقاء والأعداء ذابلة، نضحك من هواها وتفتح صدرها كوة لأمل بعيد بعيد( وها أنت قضيت وما زال البعد يؤوينا).
هل كنا نحرث الماء أم كنا نروم النجوم؟ كانت جذوع الحلم تسمق فينا حطاما أخضر يغمرنا وتملأنا هديرا، أو عبيرا، وكانت الجزائر البعيدة تتلألأ في الأفق، نرتاد ظلالها الوردية الندية تقترب اقترابا أو نغترف فيتراءى الصوت باردا، شاردا وتمضي الصباحات في هباء المروج، تطفح بشذى ذكريات رمادية تتهاطل مراكبها على سفوح المدينة المخبوءة تحت الأقدام..
كانت تغرينا جسور الظهيرة، أشلاء هذا العالم الساقط، والشبابيك المرقطة بالحديد( حديدك الموكول لبردة الاشتعال)، والهامات الموصدة كالسرائر تفرش الأرض مدادا أو مهادا، ويرسو جمر العاشقين على مداها، القادمين على صهوة العشب البلدي المصادر.كانت الجهات، تلتقطنا هذه المودة الفضفاضة كالبيداء، لكن الأرصفة السوداء تلاحقنا، تغازل ماءنا وحنين الآباد، أتوجس عودها لعلي أهتف بك، أو أراك قريبا، وتبهرني لوعة صدرك الملتاع والبسمة العريقة الهابطة من الأعماق.
لا ماضي يتبعني كالمخبول، أنا المحارب الزائف.
وسألتي السواحل الموقدة، والسواعد الواعدة، والخيمات الآهلة بالعياء أهرب إليها ، أسألها بدوري: هي المدينة تذبحني، أدخلها غريبا كالعاري، وأرحل فيها غريبا، وكل الأشياء فيها مؤجلة ( كهذه الديون التي تخنقنا)، الغربة وحدها تلف الحارات، وتعاند قفار الضفاف المتعبة التي تعرفنا.
الآن وكل الآن يارفيقي،
لا ظل في المدينة،
تساقط أوراقها كالغبار، وتغمض أجفانها على النار( النار الصاعدة من بؤس الخطوات و"قلة الشيء" والكدح المضاعف)
لا مدينة في المدينة.
يولد الخوف تحت الأنفاس وترتد المذلات لقارعة الطريق، سنون تقاذفها السموم، ترفع عقيرتها في وجه المسافات، والمعابر الذليلة، الراقدة في عنف الدروب الباردة، الملطخات بعار الشماتات وريح الديموقراطيات اللقيطة التي تتأله وتسفح دماء النبوءات.
جبال من الفواجع تأتيني، الفواجع القديمة الآكلة عمرنا البالي، تملأ الساحات، يسكنها أنينها القاتل، عاد اسمها من القسوة عزلاء كالرذائل وشظايا الحديد( حديدك الشاهد على حصون الشهامة).
خواء من سنين عمياء ومغامرات في كف الانتظار تنهار أغصانها كالفضلات، كأنا ما التقينا، انشق الود بيننا أيها العبد الصالح، وجاءني التعب المغمض على دفة المساء ينهش بقايا القباب كأنما لفتني الظلمات. مولولا أصرخ في وجه اليباب،
ياصالح كان للمدينة أوانها،
ها أنذا أمضع هواني، يرشقني برده ( البارد يا زمن الويلات) وأمضي في هجوع الصمت.
هذا اشتعال المرارة.
زمانا كنا ، كانت المدينة تغتسل بالجمر، والفرحة تلبس رحيل اليبس، وأحلام صغيرة لا تغيب. هبطنا المدينة، وجهها المكسور كالرعب اعتادته الشراسة العامرة، وكان الخناسون والنخاسون أشباه الرجال والعداؤون والوصوليون، كأنما فتحت المدينة مجراها لكمائن الهواء.
كنا، وكان الشتات، وظل بوح الصداقات يحاصرني في الشارع المرير فيلبسني خطوك الغارب، ووجهك البشوش، وتجمد الدماء في جراب القافلة، ويعروني ذهول من هذيان قديم وتشتعل المرارة.
يسألني الرماد،
معدن الأمسيات، ونبضها النازف،
تخون اللغة أقدامي، أسقط في مسالك رهيبة ( أفترض أنها القبور) أدفن الرأس في عقرها الجارح، وأدلف لقراراتها علني ألقاك، أو صدفة أراك. ولكن لا حياة في من يناديني.

3 –
أعوام مضت، منذ غيابك أيها العبد الصالح، وأنت في بلاد غير مرئية، بعيدة، تسافر ذكراك وحدها في رحبتها النسيان، وصور عتيقة تحمل أطيافا تصلي العمر تباعا، مطفأة كالتابوت. سقطت المدينة بعدك، يا صالح، في قبضة الأعداء، أكلوا أخضرها واليابس منها، وافترسوا حلمها التليد، وقتلوا براءة الحقول، والضايات الآمنة، و سودوا فيها القلوب البيضاء، جاؤوها من كل فج عميق وشقوا جيوب مجاريها من الحدود للحدود، وانتشروا في عيون الأرض ومنافذها، ملثمين أو سافرين. وأضحت ثكنة لأعدائها الراسخين.
جاءتها الديموقراطيات الموبوءة،ياصالح، فحصدت الزرع وجف الضرع، واستحال الليل والنهار ليلا، وأقفرت الأهواء، وماتت القيم وامحت الأنواء، وتوجت الكلاب والخنازير أمراء على بواباتها النحاسية، وتوغل القراصنة في الدم والماء، ظلت المنازل مراسي فارغة، والحارات محاجر كأنها السجون المعهودة ( هيكل الخطايا والجباه الذليلة).
بكت المدينة وحشتها ،
كان ليلها يستطيل كالموج،وفلول الأعداء تزحف على السطوح، جاءها الحمالون والمهرجون والسماسرة وكلاب الصيد والقردة والمومسات والخفافيش والقوادون وآهلوها بالكساد، وعاثوا فيها الفساد، واستوى القاتل بالمقتول والغالب بالمغلوب والمذنب بالبريء وأطلق الهواء عوراتها في السماء... جاءها الأعداء، يا صالح، مصفحين بكل الجهالات وأوصدوا باب الصداقات ومصابيح الضياء وأبراج العبور..
كأنما الآلهة لا ترانا.
أغواني الصمت يا صالح، وأدمنت على ريح تقل صحراء الدمع، جلست في غابة أبي المهجورة أمشق جراحي مكللا بالعراء ، هاربا من ضجيج هذه الكآبة، ولكن رائحة الأعداء تتبعني، تتزوجني قسرا، وأصعد كالعادة لرأس الجبل (رأس القلة، ودخانها المستطير) لأصرخ في وجه هذا التاريخ الأجوف: لم نموت ويحيا الأعداء، لم نتهاوى واحدا بعد الآخر ويسطع نجم الأعداء، لم نحيا على الكفاف، ويغتني الأعداء، ونشقى الشقاء كله ليسعد كل الأعداء.
أعوام مضت أيها العبد الصالح، أكلت المدينة أبناءها وسواحل الفرحة الصغيرة تنأى( لا تأتي هذه الخنساء لترثينا) ظلت مائدة تلتف بها كتائب الأعداء، وما زلنا من خارج الجذوع نهتف بهم: تلك مائدتنا.ولا أحد يرانا.
أعوام مضت بعدك، ولا شيء تغير تماما، فلا تؤاخذ غيابك، الأرض ما زالت تكبر، يملأها صديد الأسى والمدينة تجر أذيال الخيبة وأشباه رجالها باعوا غرتها، وتاريخ المسرات، باعوا ضفائرها الوردية والأحلام والأصوات، وسقطت الأقنعة، عادت الديموقراطية جيفة ملقاة في العراء يأكلها الهوام، والجوارح والسباع وتتعاوى حولها ذئاب الوقت والكلاب الضالة وبيع جلدها في سوق الدباغين.جاءتها بثور المال الحرام وانهالت على المدائن الصخرية وأضحت الآلهة العفنة تنهض بأركانها، ماتت الضمائر كالقطط الجرباء، وأغرق العباد أفواههم في مستنقعات القيح، وأصبح الواحد منا يا صالح خائبا يبيع التاريخ في جوطية الأعداء، ويقتلع بابه من الرماد وأمسى المال الحرام حمار الديموقراطية و المرتزقة الشعراء المتسلقين...

4 –
آه ، يارفيقي.
لو أني شاعر كتبت مرثية، علني أبكيك حقا.
ولكني مثلك فقير،
سأموت يوما ما على الطريق،
وينساني الأصدقاء العابرون
ويقال على المضض، كان في الواقع طيبا.
آه يارفيقي.
بدل الكلمات، يأتينا الصمت.
بدل النور تأتينا العتمات.
أنت الحي، ونحن الأموات خائنو الأمانات، الجبناء، الضالعون في المهانات.
أطلب الصفح.



#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ترقية الأساتذة الباحثين وإرادة التقويض
- كلية الآداب،مكناس استقالة جماعية من مجلس المؤسسة
- المطالب المفخخة: نظام الإطارين في التعليم العالي.
- لبن الوظيفة العمومية
- الإصلاح البيداغوجي الجديد وسحر المقاربات الجديدة
- مروج الذهاب
- المشي بحالتنا
- الذكريات والحجارة
- -ثيسوراف- ( الخطوات)
- لاقصائد
- مدونة الأهواء الشخصية
- حوليات متأخرة
- -حالة استثناء معلنة في سوق الشهادات الجامعية العليا.-
- غزة -المعصوبة العينين-
- ثيمدلالين
- حاشية حديثة إلى الكاهنة داهية
- حصريا بالمغرب:- شهادة الإعفاء من الشواهد الجامعية العليا-
- ترقية الأساتذة الباحثين و-الشبكة العنكبوتية-
- دلالات المكان في مجموعة - قمر أسرير- للشاعر محمد علي الرباوي
- عيون(6)


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيدي المولودي - اشتعال المرارة