|
فلتقصّ الشريطَ تلك السيدة!
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 2681 - 2009 / 6 / 18 - 10:42
المحور:
سيرة ذاتية
صبيٌّ صغير. اكتشف مبكرًا أن الخطَّ واللونَ طائعان بين يديه. واكتشف المحيطون أن ريشته الصغيرةَ تقولَ الكثير. حثّوه على دخول كلية الفنون، فهذا منطق الأمور. نظر حوله: إلى معلمي الرسم؛ يجلسون في الفصل يقرأون الصحفَ فيما الصغارُ لاهون عن كراسات الرسم، ثم نظر إلى أكاديميي كليّات الفنون؛ يُنظّرون للفنّ، لأن فرشاتهم جفّت من اللون، فارتعب. هو لا يريد التنظير! يريد اللوحةَ بيضاءَ وباليتهَ لون، ثم ريشةً تغازلُ هذه وتلك. لذا، غافلَ الجميعَ ودخلَ كلية الهندسة، قسم الميكانيكا، مُضحيًّا بدراسة الفن! فالفنُّ ليس على مقاعد الدرس، بل في مكان آخر. ظل يسرق من مكتبة أخيه كتاب "تشريح الفن" ليقف منه على إعجازية تكوين الجسد البشري ونسبه الذهبية المدهشة. ثم انطلقَ، بعد تخرجه من الهندسة، إلى ألمانيا ركضًا وراء ريشته التي لا تستقرُّ في مكان. وهناك، بدأ رحلته الحقيقية في ميادين برلين. يرسمُ الوجوهَ والطبيعةَ الصامتة ويطاردُ الفنانين وآثارَهم. على رأسهم مودلياني، الفنان الإيطاليّ العدميّ الذي أتلفَ غبارُ النحت رئتيه؛ فمات مصْدورًا. ذلك الذي احترف رسم وجوه النساء، وحينما أحبَّ، رسمَ وجهَ حبيبته دون عينين! قائلا: "حينما أعرفُك جيدًّا، سأرسمُ عينيك!" هذا الإيطاليّ المجنون فتَنَ رسامَنا المصريَّ العالميّ؛ فسعي وراء لوحاته ينهلُ منها الفنَّ وجنونَه. ليعودَ بعد ذلك إلى مصرَ الوطن، مُحَمّلا برسالتين. رسالته نحو فنّه الخاص، ورسالة أخرى نحو تلامذته، الذين يذهبون إلى مرسمه لكي يتعلموا جوهرَ الفنّ العميق، الذي لا تقدمه الجامعات ولا النظريات. اسمه أحمد الجنايني. مفتونٌ بمصرَ الفرعونيةِ حدَّ الولع، شأنَ كلِّ مثقف حقيقي. وقف في المتحف المصري ببرلين أمام النسخةِ الأصلية، الوحيدة بالعالم، لتمثال نفرتيتي. صناديقُ زجاجيةٌ مصفّحة، صندوقٌ داخلَ صندوق، وحارسان مدجّجان بالسلاح لا يغفلان عن مليكة مصر الفاتنة، إحدى فرائد البشرية. الألمانُ يعرفون جيدًّا عِظَم ما يملكون، لذلك رفضوا رجاءَ الرئيس السادات بزيارتها مصرَ. قالوا له: "نثقُ أنكَ ستُعيدها لنا، لكننا نخافُ شعبَ مصر، لربما رفض!" (ونشكرهم على حُسن ظنهم بنا! ليتنا حريصون هكذا على كنوزنا كما يظنون!) وقف الجنايني يتأملُ، بعين الفنان، ذلك السِّحرَ المصريَّ الفريد: عينان دوختا العالم، وعنقٌ دقيقٌ يحملُ أجمل رؤوس النساء. في تلك اللحظة قرر أن تكون ابنته الأولى نفرتيتي، ثم أعقبتها: هاميس، إيزيس، نفرتاري. هنَّ بناتُه الأربع. وفضلاً عن كونه فنانًا رفيعَ الطراز، فهو حكّاءٌ عظيم. يعرفُ عنه ذلك كلُّ أصدقائه. حكى لنا الكثيرَ عن نوادره في برلين. ويعدُّ كتابًا، وشيك الصدور، عنوانه "حين هربتْ عارياتُ مودلياني" يقصُّ فيه حكاياه مع الفنِّ والحياةِ والنَّزَق. كان يرسمُ في ميادين برلين، كتمرين يوميّ، ولكي يوفر تكاليفَ إقامته هناك، وفي إحدى الليالي كان قد تعب من الرسم وهمَّ بلملمة أدواته، فإذا بثلاثِ فتيات ألمانيات رُحن يرجونه أن يرسمهن. اعتذرَ مُتعلِّلا بالتعب، وألحفن في الرجاء. فتوسّل مكرَ الفنان، ودهاءَ الفلاح المصريّ. أجلسهن متجاورات، وراح يتأمل ملامحهن بعينه المصرية الباحثة عن الجمال. وكلٌّ منهن تُمنّي النفسَ بلوحة تصنعها ريشةٌ مصرية. وبعد الانتهاء، تفاجئن بأن اللوحاتِ الثلاثَ قد تقلصن في لوحةٍ واحدةٍ لفتاةٍ واحدة: لها عينا الأولى، وشَعرُ الثانية، وفمُ وأنفُ الثالثة! فطرن فرحًا؛ إذْ لوحةٌ واحدة، مجنونة، جمعتهن معًا. أما أرقى حكاياته التي لم يحكها، لكننا شاهدناها حيّةً نافذةً، فكانت في معرضه الأخير "إنسانيات" بأتيلييه القاهرة 2007. سأله منظمو المعرض أن يختارَ شخصيةً عامةً تقصُّ الشريط. فإذا به يقول: "لم يساندني، طيلةَ مشوار كفاحي الفنيّ، وزيرٌ ولا غفير. لم يصنعني أحدٌ ليستحقَّ شرفَ قصِّ شريط معرضي!" ثم أشار إلى سيدةٍ تقفُ على استحياءٍ في ركن معتم بنهاية المعرض قائلاً: "هذه السيدةُ هي التي ساندتني وتحملتْ نَزَقي وجنوني، هذه السيدةُ عليها الآن أن تتقدمَ لتقصَّ الشريط." أما تلك السيدةُ، فلم تكن إلا زينب مجاهد. زوجته.جريدة "المصري اليوم" 8/6/09 (طالع إحدى لوحات الجنايني بالصفحة الأخيرة- بورتريه شخصي)
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقابر جماعية للمصريين
-
ردُّ الأشياءِ إلى أسمائها الأولى
-
المواطَنة ودرس الفلسفة
-
هذا شابٌ من جيلي
-
مصر
-
سألتُ الأستاذَ: لمَن نكتب؟
-
وأكره اللي يقول: آمين!
-
الغُوْلَة
-
-شباب يفرح القلب-
-
بل قولوا إنّا شبابٌ صغار!
-
إنهم يذبحون الأخضرَ
-
مصرُ التي خاطرهم
-
القططُ المذعورة
-
لا تأتِ الآن، فلسْنا أهلاً لك!
-
أيها الطائرُ الخفيف، سلامٌ عليك
-
فريدة النقّاش، صباحُ الخير
-
عزازيل ومرآة ميدوزا
-
لشدّ ما نحتاجُ إليكَ أيها الشارح
-
قال: لا طاغوتَ يعْدِلُ طاغوتَ الكُهّان
-
وإننا لا نبيعُ للكفار!
المزيد.....
-
بريطانيا: توقيف 200 شخص خلال تظاهرة تأييد لمنظمة -فلسطين أكش
...
-
فرصة حزب الله التاريخية قد حانت
-
6 أسرار في -سيري- لم تكن تعرفها قبل
-
محللون إسرائيليون: نتنياهو يعرف أن حماس لن تستسلم لكنه يحاول
...
-
صحف عالمية: إسرائيل تنزف إستراتيجيا وخطتها للسيطرة على غزة و
...
-
كيف توازن غرف الأخبار بين الحصول على التمويل واستقلالية التح
...
-
لبنان يندد بتصريحات ولايتي بشأن سلاح حزب الله
-
الجيش اللبناني يحذر من تعريض أمن البلاد -للخطر-
-
الجيش الروسي يسيطر على -يابلونوفكا- ويسقط 475 مسيرة أوكرانية
...
-
حماس تحذر إسرائيل من -مغامرة- احتلال غزة
المزيد.....
-
أعلام شيوعية فلسطينية(جبرا نقولا)استراتيجية تروتسكية لفلسطين
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة
/ تاج السر عثمان
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
المزيد.....
|