أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر - فاطمة ناعوت - إنهم يذبحون الأخضرَ














المزيد.....

إنهم يذبحون الأخضرَ


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2656 - 2009 / 5 / 24 - 08:49
المحور: الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
    


فتاةٌ نحيلةٌ دقيقةُ الملامح. عيناها تشعّان حبًّا للحياة، واحتفاءً بها. الحياةُ، بمعناها الوجوديّ الأشمل، والصحيّ: لكي أحيا أنا، لابد أن يحيا الجميع. الجميعُ من إنسانٍ وطيرٍ ونبات. الحياةُ بصخبِها وبهائها وألوانِها التي اجتهدَ الإنسانُ منذ الأزل أن يحاكيها؛ فنجحَ قليلا، وأخفقَ كثيرًا. ولئن كان مبضعُ نَحْتٍ في يد الفتاة، وريشةٌ وباليتهُ ألوانٍ في الأخرى؛ بما يعني أنها نحّاتةٌ وفنانةٌ، ولئن كانتْ عيناها تعرفان كيف تلتقطان ما قد يمرُّ على عيون الناس، ولئن ناوشتِ الكتابةَ فأصدرتْ مجموعةً قصصيةً عنوانُها "عشان ربنا يسهّل"، ودراسةً تحليلية عنوانها "ما وراء التعذيب"، إلا أنها بحكم الدراسةِ والعمل طبيبةُ أمراض نفسية. يعني، وحتى بعيدًا عن كونها فنّانةً تدرك معنى الكتلةِ والفراغ، وقيمةَ اللون والحياة، فهي تعلم، كذلك، ما للون من أثرٍ مباشرٍ على صحّة الإنسان نفسًا وروحًا وثقافةً. فاللونُ، بوصفه إحدى أدواتِها لتشكيل اللوحة والقطعة النحتية، هو ذاته أحدُ مباضعها لعلاج مرضاها. لذا كان من الطبيعيّ جدًّا أن يُفزعها قطعُ شجرةٍ وإهراقُ أخضرها في العدم. اسمُها بسمة عبد العزيز.
بدأت الحكايةُ بقرارٍ اتخذه مدير مستشفى الأمراض النفسية والعصبية بالعباسية، مقرّ عملها، بانتدابِ لجنةٍ من هيئة البساتين لاتخاذ اللازم من أجل تقييم وضع أشجار الكافور الموجودة بحدائق المستشفى. وانتظرتِ البنتُ على قلق "كأن الريحَ تحتها". وجاء التقريرُ يقول إن هناك 144 شجرة يجب اجتثاثُها! وتم عمل مزادٍ أسفر عن شراء أحد التجّار "الشُّطّار" الشجرةَ الواحدةَ بمبلغ 170 جنيه، في حين تساوي قيمتُها الحقيقية آلافَ الجنيهات، قيمةً شرائية للخشب، وما لا يقدر بمال، قيمةً فلسفيةً وجماليةً وحضاريةً وفنيّةً ووجوديةً. وحين علم الأمين العام للصحة النفسية بالأمر، أوقف عمليات القتْل الجمْعيّ للأخضر. ثم أبلغ النيابة العامة. فجاءت، مجدّدًا، لجنةٌ مُشكّلةٌ من هيئة البساتين لمعاينة الأشجار المغدورة. وقالت في تقريرها الثاني إن الأشجار المقطوعةَ أربعٌ وثمانون شجرة، من بينها أربعُ شجرات، فقط، مصابةٌ والباقي سليم تمامًا. وما تزال التحقيقاتُ جاريةً في النيابة حدَّ الآن.
وساختِ الأشجارُ على الأرض جثامينَ حزينةً، لا أحدَ يُعيرها نظرةَ وداعٍ أو كلمةَ تأبين تشيّعُها. سقطت في صمتٍ، وسقطتْ معها ظلالُها التي كانت تهبُها للقائظين فترحمهم من هجير الشمس. لكنَّ عينًا واعيةً قررت أن تكون شاهدةً على هذا الحدث الدامي. وماذا إلا عينُ امرأة، وفنّانة، تعرف كيف تُجمِّدُ اللحظةَ فتوقفُ الزمنَ! ها هنا مشهدٌ يجبُّ ألا يمرَّ! ها هنا مذبحةٌ تدينُ الإنسانيةَ! حملت بسمة عبد العزيز كاميراها وجابت المقبرةَ الجماعية بين جذوع الأشجار المَيْتَة التي لم تعد منتصبةً سامقةً، بل نائمةٌ فاقدةُ الروح. التقطتْ عدستُها مشاهدَ فاتنةً لأجساد الشجر الصريع. فالحُسْنُ لا يبلى بالموت. حتى إنني حدّثتُ صديقي الشاعر سمير درويش، ونحن نتفقّدُ معًا معرضها الذي أقامته لعرض تصاوير المذبحة في إحدى قاعات المركز الدولي للتنمية الثقافية بالدقي، بما حدثتني به نفسي الخبيثةُ قائلةً: "طوبى لمذبحةٍ أنتجتْ كلَّ هذا الجمال!" فابتسمَ الشاعرُ، ثم سرعان ما عدنا لنتأسى على ضياع الجمال، الأحرى، تضييعنا الجمالَ عمدًا، ومع سبق الإصرار والترصّد.
ولم تنس الفنانةُ أن ترسمَ بقلمها الأسود الحزين، فتاةً في كلِّ لوحة، تنظرُ إلى المذبحة بحَزَنٍ، كأنها حنظلةُ "ناجي العليّ" الشاهدُ مذابحَ صهيون.
في بلاد مثل سويسرا وألمانيا، مستحيلٌ أن تقطعَ شجيرةً صغيرةً بغير قرار حكوميّ. والحكومةُ ذاتُها لا تمتلك حقَّ قطعِ شجرةٍ إلا بعمل استفتاء عام توافق عليه غالبيةُ المواطنين. صندوقُ البريد لدى المواطن السويسريّ يكتظُّ كلَّ يوم بعشراتٍ من خطاباتِ الاستفتاءات يرسلُها له عمدةُ الكانتون الذي يسكنه. استفتاءاتٌ حول زرع شجرة، عمل مطبٍّ صناعيّ، بناء سور، تشييد مدرسةٍ، انتخاب محافظ، إقالة آخر، الخ. كلُّ قرار، صَغُر أو كَبُر، يخصُّ البلد لابد أن توافقَ عليه جموعُ المواطنين. وما الحكومةُ إلا منفّذٌ أمينٌ لقرار المواطن، وأحلامِه.
قبل عامين، كنتُ وصديقتي الفنانة التشكيلية السويسرية "أورسولا باخمان"، نتناول الغداء في حديقة بيتها بمدينة زيوريخ السويسرية. استشارتني حول مسألةٍ معمارية، بحكم دراستي. كانت تودُّ بناء غرفة في الحديقة لعمل ورشة رسم صغيرة. وكان لابد من قطع شجرة في الحديقة تعوّق التصميم الذي فكّرنا به. فأطرقتْ صديقتي في حزن وقالت: لكنْ لا يمكن قطع الشجرة! فصفقتُ لها حبًّا واحترامًا، ثم أردفتُ، بعدما اكتشفتُ أن هذا هو الحل الوحيد: "معلش بقا يا أورسولا، إحنا مضطريين يعني! وممكن نزرع غيرها هناك!" فقالت: "مستحيل يا عزيزتي، حتى لو وافقتُ أنا، فلن توافق الحكومة، هذه قراراتٌ سيادية، البيتُ ملكي نعم، والشجرةُ أيضًا أمتلكُُها، لكنني لا أمتلكُ روحَها، أمتلكُ، وحسب، حقَّ الانتفاعِ بها والاستمتاعِ بظلِّها وشكلها وثمارِها، لكنني لا أمتلكُ قرارَ وأدها."
هكذا يفكر الناسُ هناك. لذلك عرفوا كيف يحافظون على الجمال الذي يهبه اللهُ لهم. وعرفوا، من ثَمَّ، كيف ينتجونه. فأين نحن من هذا؟- جريدة "اليوم السابع 5/5/09





#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصرُ التي خاطرهم
- القططُ المذعورة
- لا تأتِ الآن، فلسْنا أهلاً لك!
- أيها الطائرُ الخفيف، سلامٌ عليك
- فريدة النقّاش، صباحُ الخير
- عزازيل ومرآة ميدوزا
- لشدّ ما نحتاجُ إليكَ أيها الشارح
- قال: لا طاغوتَ يعْدِلُ طاغوتَ الكُهّان
- وإننا لا نبيعُ للكفار!
- أبريلُ أقسى الشهور
- احذروا هذا الرمز!
- الكونُ يتآمرُ من أجل تحقيق أحلامِنا
- ما تشدي حِيلك يا بلد!
- من أين نأتي بسوزان، لكلِّ طه حسين؟
- طواويسُنا الجميلةُ
- أنا أقولُها علنًا!
- وأين صاحبي حسن؟
- حينما للظلام وَبَرٌ
- الله كبير!
- -وهي مصر بتحبني؟-


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- ‫-;-وقود الهيدروجين: لا تساعدك مجموعة تعزيز وقود الهيدر ... / هيثم الفقى
- la cigogne blanche de la ville des marguerites / جدو جبريل
- قبل فوات الأوان - النداء الأخير قبل دخول الكارثة البيئية الك ... / مصعب قاسم عزاوي
- نحن والطاقة النووية - 1 / محمد منير مجاهد
- ظاهرةالاحتباس الحراري و-الحق في الماء / حسن العمراوي
- التغيرات المناخية العالمية وتأثيراتها على السكان في مصر / خالد السيد حسن
- انذار بالكارثة ما العمل في مواجهة التدمير الارادي لوحدة الان ... / عبد السلام أديب
- الجغرافية العامة لمصر / محمد عادل زكى
- تقييم عقود التراخيص ومدى تأثيرها على المجتمعات المحلية / حمزة الجواهري
- الملامح المميزة لمشاكل البيئة في عالمنا المعاصر مع نظرة على ... / هاشم نعمة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر - فاطمة ناعوت - إنهم يذبحون الأخضرَ