أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد البشيتي - في -فوضى الفتاوى-.. كاد يُحرَّم الحلال ويُحلَّل الحرام!















المزيد.....

في -فوضى الفتاوى-.. كاد يُحرَّم الحلال ويُحلَّل الحرام!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2654 - 2009 / 5 / 22 - 10:06
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


"المفتي"، تعريفاً، هو المختص بـ "الإفتاء"، يجيب دينياً (أي إسلامياً) عمَّا يشكل ويلتبس من أمور ومسائل في حياة الناس (الفرد أو الجماعة) المؤمنين، مبيِّناً لهم "الحُكْم الشرعي"؛ و"المفتي"، صفةً، هو، وبحسب ابن القيم، المُبْلِغ عن الله، وعن الرسول، أي أنَّ الرأي الذي يدلي به (أو الفتوى التي يُخْرجها) يجب، ولو من حيث النيَّة والقصد، أن يكون مِمَّا يُقرُّه الله ورسوله.

و"الفتوى"، مهما كانت منزلة مُخْرِجها، ودرجة أهليته؛ ولو كانت محل إجماع بين أهل الإفتاء، تظل رأياً لصاحبها، يصحُّ فيه قول الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".

و"الأجرأ على الإفتاء"، على ما قال الرسول، "أجرأ على النار"؛ فإذا أراد "المفتي" أن يقي نفسه عذاب النار فإنَّ عليه أن يزن كل كلمة يقولها في فتواه، وأن يجتهد في جعلها، على ما يُقدِّر في نهاية مطافه الطويل الشاق، مستوفيةً لشروط نيله الثواب، وإلاَّ وجب عليه أن يكون "مفتياً سلبياً"، أي أن يقول "لا أعلم"، فإنَّ "من قال لا أعلم فقد أفتى".

لا بدَّ من قول ذلك؛ لأنَّ الناس في المجتمع المسلم في ميل متزايدٍ إلى طلب الفتاوى؛ وهذا الميل هو جزء من ميلهم الأوسع إلى أن يزنوا كل تصرُّف (فردي أو جماعي) بميزان الحلال والحرام، فتلوين كل منحى من مناحي حياة الأفراد والجماعات بلون الدين الإسلامي، والذي هو شمولي الطبيعة، هو ما يستأثر باهتمام كثير من الناس، أو أكثريتهم.

ومن هذه "الحاجة السلوكية ـ الدينية" التي في اشتداد وتعاظم، يَنْفُذ إلى عقول الناس كثيرٌ من المُغْرضين في "فتاواهم"، والمتَّجرين بها، والذين، عن وعيٍ أو عن جهلٍ، يريدون لفتاواهم أن تكون مُسيِّراً لكثيرٍ من المسلمين (والشباب منهم على وجه الخصوص) بما تشتهي مصالح وأهداف قوى تلبس لبوس الدين توصُّلاً إلى سَتْر عدائها للشعوب الإسلامية، بمصالحها وحاجاتها الواقعية الحقيقية غير الوهمية.

في فتاواهم تَصْغُر العظائم، وتَعْظُم الصغائر، فالأمور والمسائل التي تضرب جذورها عميقاً في المصالح والحاجات العامة والأساسية للمسلمين، أفراداً وجماعات، لا مكان لها في فتاواهم على فيضها وكثرتها وتكاثرها؛ فلم نسمع قط أنَّ أهل الإفتاء قد توفَّروا على إخراج فتوى يؤكِّدون فيها للعامة من المسلمين أنَّ الديمقراطية ليست من الكفر في شيء، إنْ لم تكن من الإيمان، وكأنَّ لهم مصلحة تقضي بالتصالح مع ذوي المصلحة في إبقاء شعوبنا ومجتمعاتنا بمنأى عن الديمقراطية بخيرها وشرِّها.

إنَّ أحداً منهم لم يجرؤ على أن يفتي بما يسمح بتذليل العقبات من طريق قيام صحافة حرَّة في الدول العربية؛ ولكنه لم يخجل من أن يمتثل لمشيئة شياطين الاستبداد، وأن يصنع لهم فتوى يبيح لهم فيها "جلد الصحافي" الذي ينشر أخباراً غير صحيحة، أو تُشهِّر بوزراء ونوَّاب..

حتى إصلاح أحوال المرأة لم تشمله الفتاوى إلاَّ بما يؤدِّي إلى رفع منسوب الرذيلة، فالمرأة، بحسب "فتوى إرضاع الكبير"، ينبغي لها أن تُرْضِع زميلها في العمل (والذي تعمل معه في غرفة واحدة) خمس رضعات، فيصبح، بالتالي، محرَّماً عليها، فتكشف عن شعرها وتَخْلع الحجاب أمامه؛ وتتحوَّل "الخلوة"، بحسب تلك "الفتوى"، من "غير شرعية" إلى "شرعية". "الرذيلة"، بحسب "فتوى" الدكتور عزت عطية، رئيس قسم الحديث في كلية أصول الدين في جامعة الأزهر، إنَّما هي "الاختلاط" بين الجنسين في العمل؛ أمَّا "الفضيلة" فهي أن تكشف المرأة لزميلها (ولكثيرٍ من زملائها من ثمَّ) عن صدرها لترضعه خمس رضعات (لا أكثر ولا أقل)!

جمال البنا، الذي يوصف بأنَّه "مفكِّر إسلامي" حلَّل القبلات بين الجنسين في الأماكن العامة، أي على مرأى من الناس، ففي المكان العام يُحَلَّل ما يُحرَّم في الخلوة، التي هي أيضاً محرَّمة!

إننا في "عصر السرعة"؛ ولكننا لم نرَ من أثرٍ لهذه السمة لعصرنا إلاَّ في "الوجبات السريعة"، وفي "الفتاوى السريعة"، التي يطهونها لنا شيوخ الفضائيات في دقائق معدودات، لعلَّ المتضورين جوعاً إلى الفتاوى من أبناء مجتمعنا "يهتدون"!

لقد هالني ما سمعت، فمصادفةً ليس إلاَّ شاهدت فضائية أردنية، فإذا برجل صغير السن، لا شارب له ولا لحية، يلبس بدلة، أي زيَّاً "غير "إسلامي"، يقف مُفْتياً في أمور ديننا ودنيانا أمام جمع صغير من الجنسين، وأمام جمع أكبر من المشاهدين، فيقول في فتواه، وكأنه سادن الحقيقة المطلقة، ويملك أفقاً يتسع لكل شيء ولا يسعه شيء، إنَّ المرأة التي تخرج من منزلها متعطِّرة هي "زانية"!

لا ألومه هو، ولا تلك المحطة الفضائية، بل ألوم الحكومة التي على ميلها المتزايد إلى التضييق على المجتمع عيشه الديمقراطي والاقتصادي تُوْسِع حرية الإفتاء على أناسٍ ينبغي لهم أن يفكِّروا ملياً قبل أن يجيبوا عن سؤال من قبيل "هل الساعة الآن العاشرة صباحاً أم العاشرة مساءً؟".

وددت لو كنت أملك إحصاءً عن عدد النساء في مجتمعنا اللواتي يخرجن من منازلهن متعطرات حتى أعرف عدد اللواتي اتهمهن بـ "الزنا"؛ وهي تهمة يجب أن يعاقَب عليها ليس "المتَّهَم"، وإنما "المتَّهِم"، لو كان لدينا أقل حرص على حقوق النساء في مجتمعنا.

إنَّ كثيراً ممن يمنحون أنفسهم حق الإفتاء في أمور تبدو صغيرة؛ ولكنها كبيرة في معانيها، لا يملكون شيئاً من سلطان المعرفة بوجهيها الديني والدنيوي، فهم متخلِّفون قراءةً، ومتخلِّفون في فهم ما يقرأون.

وفي "فتوى" أصدرها الدكتور محمد المسير، أحد كبار علماء الأزهر والأستاذ في كلية "أُصول الدين والدعوة"، جاء: "يجوز (شرعاً) للرجل أنْ يتزوج ابنته غير الشرعية، كما يجوز للابن الشرعي أنْ يتزوج شقيقته غير الشرعية"!

بهذه "الفتوى"، وأمثالها، وبهذا النمط من "الشيوخ"، نَدْخُل القرن الحادي والعشرين، أو الألفية الثالثة، ونلحق بركب الحضارة، ونواجه كل التحدِّيات والمخاطر التي تحاصرنا مِن كل حدب وصوب!

لا تستغربوا الأمر، فنحن أبناء مجتمع دمَّروا جهاز المناعة في رأسه وقلبه حتى أنَّ نانسي عجرم فازت بلقب "القوَّة المؤثِّرة الأكثر من سواها" في العالم العربي.

فلتنظروا، الآن، كيف نشأت واشتدت الحاجة إلى تلك الفتوى.

هذا الرجل (المسلم) زنى، أي أتى المرأة من غير عقد شرعي، فأنجبت له المرأة التي زنى بها بنتاً، فهل يجوز له شرعاً أنْ يتزوج ابنته هذه "غير الشرعية"؟!

هُمْ لم يختلفوا في أمر أنَّ هذه البنت، "غير الشرعية"، مِنْ صلبه، ولكنَّهم اختلفوا، بما يتَّفق كل الاتِّفاق مع المنطق الذي بحسبه يتَّفق العرب ويختلفوا. لقد اختلفوا في أمر "شرعية أنْ يتزوج الرجل ابنته غير الشرعية"، فاتَّفقوا، سريعاً، على جواز هذا الزواج شرعاً!

الزِّنا رذيلة، ليس في حُكم الدين فحسب، وإنَّما في حُكم القيم والأخلاق الإنسانية. وأحسب أنَّ "الفضيلة" تقضي بأنْ يُعامِل الرجل ابنته "غير الشرعية"، وهي الضحية الكبرى لفعلته، كما يُعامِل ابنته الشرعية، فرذيلة الزِّنا لا يفوقها رذالة إلاَّ رذيلة أنْ يتزوج الرجل ابنته "غير الشرعية"، أو أنْ يتزوج الابن الشرعي شقيقته "غير الشرعية".

هذا الرجل الزاني ينبغي له أنْ يُكفِّر عن ذنبه، فهل يُكفِّر عنه بأنْ يُسْمَح له (شرعاً) بأنْ يتزوج ابنته "غير الشرعية"؟!

إنَّ التكفير عن الذنب لا يكون إلاَّ في الضحية ذاتها، فليُحْسِن معاملة ابنته "غير الشرعية"، وليعاملها كما يُعامِل ابنته "الشرعية" في كل شيء.

وهذه "الابنة غير الشرعية" إنَّما يظلمها المجتمع أعظم ظُلْمٍ إذا هو رفض نسبها إلى "أبيها الطبيعي"، فما الذنب الذي ارتكبتْ حتى يتضافر والدها "غير الشرعي" والمجتمع على معاقبتها هذا العقاب؟!

هذا "المفتي" وأمثاله، وبعدما أفتوا بـ "عدم جواز" أنْ تُنْسَب "الابنة غير الشرعية" إلى أبيها ولو تزوَّج (بعد الزِّنا) أُمَّها، أفتوا بـ "جواز" أنْ تُنْسَب إلى أُمِّها، ثمَّ أوصوا بوضع "الطفلة غير الشرعية" في "دار للأيتام"!

لن نستغرب "فتوى" هذا المفتي وأمثاله، فقد عرفنا كثيراً من "الشيوخ" الذين قضوا حياتهم، واستنفدوا وقتهم وجهدهم، في تحليل كثيرٍ مِن الحرام، وفي تحريم كثيرٍ مِن الحلال، حتى قضايانا القومية أجازوا الزِّنا السياسي بها!

هل سمعتم عن "القُصَّر" و"القصور" في مجتمعنا النسائي.. وعن مبدأ قوامة، أو وصاية، الرجل على المرأة، والذي بموجبه ينبغي للمرأة أن تحصل على إذْنٍ من ذَكَر في عائلتها (من أبيها، أو شقيقها، أو ابنها) للعمل، أو الدراسة، أو السفر، أو الزواج، أو الذهاب إلى طبيب، بدعوى أنَّها مهما كبرت عُمْراً تظل قاصراً؟!

وأفتى مفتي مصر علي جمعة في مسألة "تولِّي المرأة رئاسة الدولة"، فأكَّد في فتواه، التي وُصِفَت بأنَّها "فتوى رسمية"، ونشرتها صحيفة "الأهرام" الحكومية، أنَّ هذا الأمر غير جائز شرعا؛ "لأنَّ من سلطات رئيس الدولة إمامة المسلمين في الصلاة شرعا، وهي (أي تلك الإمامة) لا تكون إلا للرجال".

المفتي، حتى يُسْمَع، أبدى شيئا من "المرونة الحضارية"، فقال في فتواه "الرسمية": "إذا كانت الحقوق السياسية، بمفهومها الشائع، تشمل حق الانتخاب والترشيح وتولِّي الوظائف العامة، فإنَّ مبادئ الشريعة لا تمانع في أن تتمتع المرأة بحق الانتخاب والترشيح، وفي أن تتولَّى الوظائف العامة ما عدا وظيفة رئيس الدولة".

وعليه أجاز المفتي، إذ أجازت له مبادئ الشريعة، التي لا مصلحة له في تأويلها (حتى الآن) إلا كما أوَّلها في فتواه، للمرأة أن تصبح قاضية.

ولمَّا كان "الرجال البرلمانيين" في عالمنا العربي لا يملكون من سلطة القرار (السياسي) إلا ما يقل عمَّا تملكه المرأة من "سلطة" في "بيت زوجها، أو في "بيت أبيها"، أجاز المفتي للمرأة الترشيح في الانتخابات لعضوية هذا المجلس التمثيلي أو ذاك، "على أن" تُوَفِّق بين عملها العام هذا وبين حق زوجها وأولادها.. عليها؛ وعلى أن تبتعد عن السفور، والتبرُّج، و"الخلوة غير الشرعية (مع الرجال)".

ما أعلمه علم اليقين أنَّ ما يتحدى المفتي على أن يفتي فيه، وتحتاج "الرعية" إلى سماع رأيه (أو رأي الشرع عَبْر رأيه) فيه، هو مسألتي "الرئيس الأبدي"، في دنيا العرب، ولو تأبَّد حكمه بفضل "نظام ولاية تِلْوَ الولاية"، و"حق الابن في أن تكون رئاسة الدولة، أو الوظيفة العامة العليا، جزءا ممَّا يَرِث عن أبيه".

المفتي كان "علمانيا" في الأمر السياسي الذي لرئيس الدولة مصلحة في "عَلْمَنَتِه"، فالمواطنون المسلمون لا يحق لهم، ولا يجوز، أن يدخلوا المعترَك الانتخابي، ترشيحا، إذا ما كانوا ينتمون إلى حزب سياسي "يقوم على أساس ديني (إسلامي)"، فـ "الدولة لا دين لها"، وإنْ اتَّخَذت، في دستورها، الإسلام مَصْدرا للتشريع!

لماذا لم يتجرأ المفتي على التكلُّم بالكلام غير المباح؟!

لماذا لم يُجِبْنا، في فتوى رسمية أو غير رسمية، عن السؤال الآتي: "هل يحق لحزب سياسي (أو للرجال من هذا الحزب) يقوم على أساس ديني (إسلامي) الترشيح في الانتخابات البرلمانية والرئاسية؟"؟!

إذا كان جوابه الذي نَفْتَرِض هو "كلا، لا يحق له؛ لأنَّه يقوم على أساس ديني"، فلماذا جَعَلَ "الإمامة" شرطا لـ "الرئاسة"؟!

ولماذا لم يَدْعُ رئيس الدولة، الذي ما مِنْ سلطة إلا ويمارسها، إلى ممارسة "سلطة الإمامة"، فلا نحن، ولا المفتي ذاته، رأيْنا رئيس الدولة يَؤُمَّ المسلمين في الصلاة، ولو كانت صلاة الجمعة أو العيد؟!

لقد تمادوا في التحليل والتحريم، في اجتهاداتهم الفقهية، حتى أنهم، في الأردن، كادوا أو أوشكوا أن يستلوا سيف التحريم من غمده، ليقطعوا به رأس "المُدخِّن"، فالتدخين، في فتواهم أو اجتهادهم الديني، غدا من الحرام، كالميتة والدم ولحم الخنزير..!

إنني مدمن على التدخين، وأعلم مضاره الصحية عليَّ، وعلى من حولي من غير المدخنين، وأعاني ضرره الاقتصادي عليَّ وعلى أسرتي، وحتى على المجتمع، ففيه إنفاق للمال الشخصي والاجتماعي في سُبِل تضر ولا تنفع.. ومع ذلك، أقول، بصفة كوني مدمنا على التدخين، إنَّه "نعمة" لا يعرفها، ويعترف بها، إلا المُدخِّن، الذي لكونه مدمنا لا يضيره أبدا أن يعيب عليه خصومه من غير المدخنين ضعف إرادته، التي لا يرون موضعا آخر غير التدخين يختبرون فيه ضعفها من قوتها.

ليس من مُدْمِن على التدخين إلاَّ ويعرف على خير وجه مضار ومساوئ التدخين؛ ويمكنه أن يقبل النظر إلى التدخين على أنه شيء مكروه، حتى دينياً؛ ولكن لا هو ولا كل حريص على استقامة الفتاوى والاجتهادات الدينية يقبل النظر إلى التدخين على أنه "حرام"، ومعاملة المُدخِّن على أنه مارق من الدين، يحلِّل ما حرَّمه الله.

التدخين يكافَح، ويحرزون نجاحا في مكافحته، في الدول والمجتمعات الغربية على وجه الخصوص؛ ولكن مكافحيه لم يتسلَّحوا، ولم يحتاجوا إلى أن يتسلَّحوا، في حربهم الحضارية والصحية على التدخين والمُدخِّنين، بفتاوى دينية تحرِّمه.

قبل التدخين، كان الموقف (الديني) من القهوة، فذهب بعض أهل الإفتاء إلى تحريمها، مشهرين علينا حججاً مشابهة لحجج تحريم التدخين، فصدَّقهم كثيرون من عامة الناس، حتى "أُلقي القبض على المحرِّمين متلبسين بجريمة شرب القهوة"، فاضطُّروا إلى تحليلها، قائلين في حججهم الجديدة إنها (أي القهوة) خَمْر الصالحين!

ما أن ظهر التدخين حتى اختلف الفقهاء في أمره، وفي الموقف (الديني) منه، فهل يقولوا بتحليله، أو بتحريمه، أو باجتنابه لكونه مكروها؟

لقد توفَّروا على جمع الأدلة على ضرره، صحياً واقتصادياً.. ثم اتخذوا مضاره سببا للفتوى بتحريمه، ضاربين صفحاً عن المبدأ الفقهي والاجتهادي الأول وهو أن الإباحة لا الحظر هي الأصل في الموقف الديني من عادات الناس، فالأمر والنهي، والتحليل والتحريم، هي أمور ليست من اختصاصهم مادامت شرع الله.

وقد جاء في القرآن: "أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله (الشورى 21)"، وجاء: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا (يونس 59)"، وجاء: "وقد فصل لكم ما حرم عليكم (الأنعام 119)".

وفي أحاديث نبوية عديدة نقف على معانٍ كثيرة من هذا القبيل منها: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. ومنها: الحلال ما أحله الله في كتابه، والحرام ما حرم في كتابه، وما سكت عنه فهو ممَّا عفا لكم. ومنها: إنَّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم لأجل مساءلته.

لقد أنفقوا كثيراً من الوقت والجهد في إنتاج "فتاوى" لا أهمية لها، ولا تتخطى، في مواضيعها وأحكامها، "الخلاص الفردي"، في وقت تشتد حاجة الأُمَّة إلى "الخلاص الجماعي"، فالأسئلة التي توفَّروا على إجابتها كانت من قبيل: "هل يدخل المسلم الحمَّام برجله اليمنى أم اليسرى؟"، و"هل تجوز الأضاحي من الدجاج؟".

إنَّ خير خدمة يمكن أنْ يسدوها، الآن، إلى الدين ومجتمعاتهم هي أنْ يتوفَّروا على إصدار فتوى في شأن "الإصلاح الديمقراطي الشامل"، يقيمون فيها "الدليل الشرعي ("غير النصِّي")" على أنَّ الإسلام "يُحلِّل"، و"لا يُحرِّم"، الحقوق والحرِّيات الديمقراطية، الفردية والجماعية، وحقوق الإنسان، والحقوق والحرِّيات المدنية، ووجود "الآخر"، جسداً وفكراً، وقيام "الحكومة التمثيلية" و"المعارَضة" في كل أوجهها.

ولمكافحة ظاهرة "فوضى الفتاوى" الشرعية، توفَّرت الحكومة السعودية على إصدار قانون جديد، فالوضع، بحسب تصريح أدلى به وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، "أصبح مختلطا أعظم اختلاط"، وقد تقع "كارثة دينية اجتماعية"، وقد نصل، بسبب "فوضى الفتاوى" إلى "تحريم الحلال وتحليل الحرام".

أمَّا الذي يتحمل المسؤولية عن هذه الكارثة الوشيكة فهو الشخص الذي يتصدى للفتوى، أي الذي يُصْدِر الفتاوى، والشخص الذي يطلب الفتوى. ورأى الوزير السعودي أن في الأمر "حيلة شرعية"، فبعض الناس يطلبون الفتاوى لأخذ "الرخصة الدينية على ذمة المفتي".

وحتى لا يستمروا في اللجوء إلى مثل هذه الحيلة الشرعية قال الوزير السعودي إن أخذ الرخصة الدينية على ذمة المفتي لن يبرئ ذمتهم أمام الله.

لقد حان، بحسب تصريح الوزير، للحكومة أن تُصْدِر القوانين التي من شأنها "تفكيك أوهام القدرة على الإفتاء".

إنَّها أزمة تشتد وتعنف؛ ولكنَّها تشدِّد الحاجة إلى ثورة إصلاحية تشبه في كثير من جوانبها تلك التي قادها الزعيم البروتستانتي مارتن لوثر، فالرجال العظام لا ينجبهم الفراغ وإنَّما الضرورات والحاجات التاريخية للبشر؛ وقد حان لمجتمعاتنا الإسلامية أن تكتشف خلاصها بما يتفق مع قاعدة "أصل الشريعة مصلحة الناس"؛ وليس لنا من مصلحة في كل فتوى تتعارض مع المصالح العامة الواقعية لشعوبنا ومجتمعاتنا.





#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما يردع إسرائيل عن مهاجمة إيران!
- -جمود تفاوضي- حتى نهاية العام الحالي!
- -ساعة الحقيقة- في البيت الأبيض!
- السياسة في فضائها المنحني!
- عندما نتبادل مع إسرائيل القلق من إيران!
- لعبة ضارة تدعى -التدليس اللغوي-!
- مُثَلَّث أوباما!
- -عباريم- تَحُدُّه -الأوهام- غرباً و-الحقائق- شرقاً!
- ردٌّ من جواد البشيتي على ما نُشِر من تعليقات على مقالته -ويس ...
- ويسألونكَ عن -الجاذبية-..!
- أغْمَضوا أعينهم فرأوا -غموض- نتنياهو!
- ثقافة -الانحطاط الثقافي-!
- صحافتنا مصابة ب -أنفلونزا الرقابة الذاتية-!
- -أنفلونزا الخنازير- أم -أنفلونزا الرأسمالية-؟!
- -الشيزوفرينيا السياسية الفلسطينية-.. داء أم دواء؟!
- قنبلة صوتية من نوع -سيداو-!
- في فِقْه -السلام الاقتصادي-!
- نتنياهو في منتصف الطريق بين -لا- و-نعم-!
- حتى لا يتحوَّل العرب إلى -أقلية قومية-!
- شرط نتنياهو لقبول -حل الدولتين-!


المزيد.....




- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...
- أسعدي ودلعي طفلك بأغاني البيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي عل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جواد البشيتي - في -فوضى الفتاوى-.. كاد يُحرَّم الحلال ويُحلَّل الحرام!