أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - ويسألونكَ عن -الجاذبية-..!















المزيد.....



ويسألونكَ عن -الجاذبية-..!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2640 - 2009 / 5 / 8 - 08:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"التعريف"، أي تعريف الشيء، أو الظاهرة، هو جزء من منطق العِلْم، فالبحث العلمي يبلغ غايته عند تعريفه للشيء موضع البحث؛ و"سؤال التعريف" هو "ما هو أو ما هي.."، أي تعيين "ماهية الشيء".

ثمَّة شيء (أو ظاهرة) يسمَّى "الجاذبية"، فـ "ما هي الجاذبية؟".

اثنان، في المقام الأوَّل، عرَّفا "الجاذبية" هما نيوتن وآينشتاين؛ ولقد اختلفا وتباينا في تعريفها.

ومع ذلك، يتَّفِق الفيزيائيون، أو معظمهم، على أنَّ سؤال "ما هي الجاذبية؟" لم يُجَبْ عنه بَعْد بما يكفي لانتفاء الحاجة إلى الاستمرار في طرحه وإثارته.

لغوياً، وفي العربية، نَفْهَم العبارة "جَذَبَ إليه الشيء" في معنى "شدَّ (أو سَحَبَ) إليه (أو نحوه) الشيء"، فثمَّة "شادٌّ" و"مشدود". إذا شَددتَّ إليكَ كرسياً، فأنتَ "الشاد"، والكرسي هو "المشدود". وبوسيلةٍ هي "الحَبْل"، مثلاً، تَشُدُّ إليكَ الكرسي. وهذا "الشد"، وعلى ما ترى، يشتمل على "الحركة"، فأنتَ بشدِّكَ الكرسي (بوسيلة الحَبْل) إليكَ تُحرِّك هذا الكرسي (المشدود) من مكانه، أي تنقله من موضع إلى موضع.

وفي الانجليزية، يُميِّزون، عِلْمياً، "Gravity" من "Gravitation"، فالأولى تعني "الجاذبية الأرضية"؛ أمَّا الثانية فتعني "الجاذبية الكونية"، أو الجاذبية على وجه العموم. إنَّه تمييز لـ "الجزء" من "الكل".

في مثال "شَدِّكَ الكرسي"، لا تَظْهَر "الجاذبية" في معناها الفيزيائي الحقيقي؛ لأنَّ "الجاذبية" هي فِعْل "شَدٍّ متبادَل".

اصْرِفْ النظر الآن عن "الحَبل"، وعن "فِعْل الشدِّ" الذي تمارِسه"، وعن "انتقال هذا المشدود، وهو الكرسي، من موضع إلى موضع"، وافْهَم الأمر على النحو الآتي:

أنتَ الثابت في مكانكَ، وهذا الكرسي الثابت في مكانه هو أيضاً، والذي يَبْعُد عنكَ، مثلاً، ثلاثة أمتار، تتبادلان، في الوقت نفسه، "الشدَّ"، أو "الجَذْب"، فكلاكما "شادٌّ" و"مشدود" في الوقت نفسه. إنَّ "الجاذبية" هي "التجاذُب"، أي "الجَذْب (أو الشد) المتبادَل المتزامِن"، و"المتكافئ"، كما سنرى لاحقاً، فهذا الشيء وذاك يتبادلان، في الوقت نفسه، الجَذْب والشد.

منذ القِدَم والبشر يشاهدون ظاهرة "سقوط الأجسام"، فأنتَ الواقف على سطح الأرض تَقْذِف حجراً إلى أعلى؛ ولكنَّه مهما علا وارتفع يسقط إلى سطح الأرض، وكأنَّ هناك "قوَّة غير مرئية"، تشبه "حَبْلاً غير مرئي"، تشدُّه إلى سطح الأرض.

ولو حرصتَ على رؤية مزيدٍ من تفاصيل هذه الظاهرة لرأيْتَ الحجر "يَصْعَد"، و"سرعة صعوده تتضاءل"؛ وفي نهاية مساره الصاعد، "يتوقَّف" توقُّفاً لَحْظياً، ثمَّ يشرع يسقط نحو سطح الأرض سقوطاً متسارعاً (تسارُعاً ثابتاً).

إنَّكَ لم ترَ قط، ولن ترى أبداً، حجراً ارتفع، ثمَّ ظلَّ معلَّقاً في الهواء، فسقوطه إلى سطح الأرض فَهِمَهُ القدماء على أنَّه "الحتمية" بعينها.

وكان "التفسير الافتراضي (القديم)" هو أنَّ ثمَّة "قوَّة خفية (غير مرئية)" تَشُدُّ الحجر دائماً إلى سطح الأرض، فإذا أنتَ أمسكتَ به، وقذفته في الهواء، فإنَّكَ تزوِّده "قوَّة مضادة"، تسمح له (في أثناء صعوده وارتفاعه) بالتغلُّب على تلك "القوَّة الخفية"؛ ولكن من غير أن تُبْطِل تأثيرها إبطالاً تاماً مُطْلَقَاً. هذا الحجر، "في أثناء" ارتفاعه، و"بسبب" ارتفاعه، يَفْقِد، تدريجاً، تلك "القوَّة" التي أكْسَبْتُهُ إيَّاها إذ قذفته في الهواء، فتتضاءل سرعة صعوده، حتى إذا نَفَدَت تلك "القوَّة" المُكْتَسَبَة" اشتدَّ وعَظُم تأثير "قوَّة الجاذبية الخفية"، فشرع الحجر يسقط سقوطاً متسارِعاً تسارُعاً منتظَماً، وكأنَّه كلَّما اقترب، في سقوطه، من سطح الأرض أكْسَبتهُ "قوَّة الجاذبية" مزيداً من السرعة.

ولكن، لماذا وُصِفَت "الجاذبية الأرضية" بأنَّها "قوَّة" Force؟

السبب يكمن في سيادة وهيمنة "التصوُّر الميكانيكي"، فالتجربة علَّمت البشر أنْ لا شيء يتحرَّك من مكانه إلاَّ بفضل "قوَّة خارجية"، تدفعه أو تسحبه، فإذا تحرَّك فلا يتوقَّف إلاَّ بفضل "قوَّة خارجية"، فـ "القوَّة الخارجية" هي التي تحرِّك الجسم إذا كان ساكناً، وتُوْقِفه عن الحركة إذا كان متحرِّكاً، وهي التي، أيضاً، تزيد، أو تقلِّل، سرعته، أو تُغيِّر اتِّجاه حركته، كأنْ تجعله ينتقل في حركته من الاستقامة إلى الانحناء، أو ينعطف إلى اليمين أو إلى اليسار، أو يصعد إلى أعلى أو يهبط إلى أسفل.

لقد فُهِمَت "الحركة في المكان"، أي انتقال الجسم من موضع إلى موضع، أو من نقطة إلى نقطة، على أنَّها ثمرة عمل وتأثير "قوَّة خارجية"، فالجسم، أو الشيء، لا يملك في ذاته ما يُحرِّكه، أو يُسكِّنه، أو ما يزيد، أو يقلِّل، سرعته.

أُنْظُر إلى كرة تتحرَّك على سطح الأرض. كانت الكرة ساكنة، ثابتة في مكانها، فأثَّرَت فيها "قوَّة خارجية" هي قَدَمُكَ إذ ضَرَبَتْهَا، فتحرَّكت؛ ولكنَّ سرعتها شرعت تتضاءل بسبب "قوَّة (خارجية) أخرى"، هي "قوَّة الاحتكاك" بين سطحي الأرض والكرة.

لو كان سطح الأرض (أي سطح الكرة الأرضية) مستوياً منبسطاً، ولو كان "الاحتكاك" بين سطحي الأرض والكرة معدوماً، لظلَّت الكرة تتحرَّك إلى الأبد، في خطٍّ مستقيم، وبالسرعة نفسها.

قَدَمُكَ التي ضَرَبت الكرة الساكنة، فجعلتها تتحرَّك، هي (بالنسبة إلى الكرة المضروبة) تلك "القوَّة الخارجية"؛ ولكنَّ هذه "القوَّة" ليست بالخفية، غير المرئية.
أمَّا "الجاذبية (الأرضية)" التي أسقطت الحجر المرتفع فهي، على ما افْتَرَض نيوتن، تلك "القوَّة الخارجية"؛ ولكن "الخفية، غير المرئية".

ومع نشوء وتطوُّر عِلْم "الفيزياء الجسيمية"، توسَّع وتغيَّر مفهوم "القوَّة" Force.

تَخيَّلْ لاعبيْن يتقاذفان "كرةً غير مرئية". ترى أحدهما وقد تأثَّر على نحو مخصوص إذ تلقَّف الكرة (غير المرئية). إنَّكَ ترى تأثُّره في حركة يديه اللتين تلقَّفتا الكرة، وفي تراجعه قليلاً إلى الوراء.

بمساعدة هذا المثال يمكننا فهم تبادل التأثير بين الجسيمات دون الذرِّية، ففي داخل "الذرَّة"، يؤثِّر "البروتون"، مثلاً، في "الإلكترون" في طريقة مشابهة. إنَّ "جسيمات معيَّنة"، أصغر حجماً وكتلةً، تنطلق من "البروتون"، مثلاً، نحو ذلك "الإلكترون"، فيتأثَّر هذا الجسيم الذرِّي على نحو مخصوص. تلك الجسيمات المنطلِقة هي التي حَمَلَت، أو نَقَلَت، هذا "التأثير"، الذي يسمُّونه "القوَّة"، فثمَّة "جسيمات حاملة (أو ناقلة) للقوَّة (أو التأثير)"، تنطلق، في مثالنا هذا، من "البروتون" إلى "الإلكترون"، فتؤثِّر فيه على نحوٍ مخصوص، وكأنَّها أصابته بـ "قذائف" تَحْمِلها على متنها.

و"الكرة غير المرئية"، في مثالنا، هي كناية عن "الجسيمات الحاملة للقوَّة (أو التأثير)"، والتي ينبغي لها أن تسير بسرعة الضوء، أي بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية.

ولكونها تسير بتلك السرعة الكونية القصوى لا بدَّ لها، بحسب افتراض فيزيائي، من أن تكون عديمة الكتلة Massless.

هذا "التفسير الجسيمي" لـ "التأثير"، أو لـ "التأثير المتبادَل (بين شيئين، أو بين جسيمين)"، حلَّ مشكلة "الانفصال الفراغي، أو الفضائي، بين المؤثِّر والمتأثِّر"، فَلْتتخيَّلْ وجود شيئين (جسمين، أو جسيمين) يفصل بينهما "فراغ (أو فضاء) تام"، فكيف لأحدهما أنْ يؤثِّر في الآخر؟!

كيف لأحد الطرفين، وهو A مثلاً أنْ يؤثِّر (على نحو مخصوص) بالطرف الآخر، وهو B مثلاً، إذا ما كان بينهما (ولا بدَّ من أن يكون بينهما) فراغ تام (وواسع)؟!

إنَّنا، وفي هذا المثال الافتراضي، نرى أنَّ B تأثَّرَ على نحو معيَّن من غير أن يكون متَّصِلاً بالذي أثَّر فيه، وهو A، أو ملامساً له. و"التأثُّر" هو كل "تغيير"، أو "اختلاف"، يطرأ على B.

وفي "التفسير"، يقال الآن إنَّ "جسيمات معيَّنة"، انطلقت من A حاملةً "قوَّةً"، أي ذلك "التأثير"، فاجتازت "الفراغ (أو الفضاء) التام" الفاصل بينهما، سائرةً بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ لأنَّها "عديمة الكتلة"، ثمَّ أصابت B، مُفْرِغةً فيه تلك "الحمولة" من "التأثير"، فرأينا B يختلف ويتغيَّر على نحو معيَّن.

وهذا "التفسير" يمكن تعميمه، أي جعله تفسيراً لكل تغيير فيزيائي، فقَدُمُكَ التي ضَرَبَت الكرة، مُحْدِثةً فيها تأثيراً معيَّناً، هو جَعْلِها تتحرَّك، ما كان لها أن تؤثِّر على هذا النحو لو لم تنطلق منها (نحو الكرة الساكنة) جسيمات تَحْمِل هذا "التأثير".

لا تَقُلْ معترِضاً إنَّ قَدَمِكَ الضارِبة والكرة (الساكنة) المضروبة قد اتَّصلتا وتلامستا، وما عاد بينهما، بالتالي، عند لحظة الضرب، من فراغ. لا تَقُلْ ذلك؛ لأنْ ليس من شيئين في الكون يمكن أن يتَّصِلا (أو يتلامسا) اتِّصالاً مُطْلَقاً (أو تلامُساً مُطْلَقَاً).

حتى هذا القلم الذي تُمْسِكه بأصابع يدكَ لا يتَّصل بها اتِّصالاً (مباشِراً) مُطْلَقَاً، فثمة فراغ، ولا بدَّ من وجود فراغ أو فضاء، بينه وبين أصابع يدكَ الممسكة به.

وفي مزيدٍ من التفصيل والتوضيح نقول إنَّ الأشياء تتألَّف من "جزيئات"، تتألَّف من "ذرَّات". كل ذرَّة حولها، أو تحيط بها، "غيمة من الإلكترونات"؛ وكل جزيْ، بالتالي، حوله، أو تحيط به، "غيمة من الإلكترونات".

اُنْظُرْ في داخل قطرة من الماء. ترى ملايين الجزيئات؛ وكل جزيء منها يتألَّف من ذرَّة أوكسجين متَّحِدة، كيميائياً، مع ذرَّتي هيدروجين (H2O). كل ذرَّة من هذه الذرَّات الثلاث تحيط بها "غيمة من الإلكترونات"؛ وكل جزيء، بالتالي، تحيط به "غيمة من الإلكترونات". و"الغيمات الإلكترونية"، أكانت ذرِّية أم جزيئية، لا بدَّ لها من أن تتنافر إذا ما تقاربت. وهذا إنَّما يعني وجود، وحتمية وضرورة وجود، فراغ، أو فضاء، بينها.

هذا "التفسير الجسيمي لتبادل التأثير (أو القوى)" هو ما شجَّع بعض الفيزيائيين على تعميمه أكثر، ليشمل ظواهر الجاذبية، فالجسمان يَشُدُّ كلاهما الآخر إليه؛ لأنَّهما يتبادلان، في استمرار، كميِّات من جسيم (افتراضي) يسمُّونه "غرافيتون" Graviton، فالحجر، قبل ارتفاعه، وفي أثناء ارتفاعه، وفي أثناء سقوطه، كان مشدوداً إلى سطح الأرض بفضل "خيوط غير مرئية"، هي كناية عن كمِّيات من جسيمات "غرافيتون"، تنطلق، في استمرار، من الأرض نحو الحجر (الذي هو أيضاً يُطْلِق نحو الأرض كمِّيات من هذا الجسيم الافتراضي، الذي يسمُّونه "جسيم الجاذبية").

"الجاذبية"، على ما بسطها لنا نيوتن، هي "الشدُّ، أو الجذب، المتبادَل بين شيئين (أو جسمين، أو جسيمين)". وهذا "الشدُّ المتبادَل" هو "شدٌّ متزامِن" أيضاً، أي يمارسه الشيئان في اللحظة عينها.

وفي صفته الثالثة، نقول إنَّه "شدٌّ متكافئ"، فالجسمان يشدُّ كلاهما الآخر إليه بالقوَّة ذاتها، فأنتَ الواقف على سطح الأرض تتبادَل وكوكب الأرض قوَّة الجذب (أو الشدِّ) ذاتها؛ فما معنى هذا؟

إنَّ كتلتكَ أقل بكثير من كتلة كوكب الأرض؛ ومع ذلك فهي تشدُّكَ إليها بقوِّةٍ تعدل القوَّة التي تشدُّ أنتَ بها الأرض إليكَ، فالجسم الأعظم كتلةً يشدُّ إليه الجسم الأصغر كتلة بقوَّةٍ تساوي تماماً القوَّة التي بها يشدُّ الجسم الأصغر كتلةً إليه الجسم الأعظم كتلةً.

إذا زادت كتلتكَ زادت القوَّتان: قوَّة شدِّ الأرض لكَ، وقوَّة شدِّكَ للأرض إليكَ. أمَّا إذا ابتعدتَ عن سطح الأرض فإنَّ الشد المتبادَل بينكَ وبين الأرض يقلُّ قوَّةً؛ وليس وزنكَ سوى صنو قوَّة شدِّ الأرض لكَ.

يقال إنَّ نيوتن كان جالساً يقرأ تحت شجرة تفاح، فإذا بتفاحةٍ تسقط على رأسه.. لقد شاهد ما شاهده من قبل ملايين البشر، وهو ظاهرة سقوط تفاحةٍ من غصنها إلى سطح الأرض؛ ولكنَّه اختلف عنهم، وتفوَّق عليهم، إذ تساءل في استغراب قائلاً: لماذا التفاحة المنفصلة عن غصنها تتحرَّك سقوطاً، ولا تتحرَّك صعوداً؟!

وفي الإجابة قال افتراضاً: ثمَّة "قوَّة خفية، غير مرئية"، تَخُصُّ سطح الأرض، هي التي شدَّت، أو جذبت، تلك التفاحة إلى سطح الأرض.

ثمَّ توسَّع في الإجابة فقال إنَّ كتلتي كوكب الأرض وتلك التفاحة تتبادلان الشدَّ، أو الجذب؛ وهذا الشدُّ، أو الجذب، المتبادَل، لا بدَّ له من أن يكون متزامناً متساوياً (بمعنى التساوي الذي أوْضَحْنا من قبل). وكلتاهما تُعاكِس الأخرى في "اتِّجاه الشدِّ".

وتوسَّع أكثر فقال إنَّ "القوَّة" التي تُسْقِط التفاحة إلى سطح الأرض هي ذاتها القوَّة التي تَجْعَل كوكب الأرض يدور في استمرار حَوْل الشمس، فالشمس الدائرة حَوْل محورها تشدُّ إليها كوكب الأرض، عن بُعْد، وبـ "قوَّة خفية"، فتجعله يدور حَوْلها. وهكذا انتقل نيوتن من الجاذبية الأرضية Gravity إلى الجاذبية الكونية Gravitation.

إذا قَذَفْتَ حجراً إلى أعلى فلا بدَّ له، ومهما ارتفع، من أن يسقط إلى سطح الأرض. وهذا الحجر المقذوف ينطلق نحو السماء بسرعة معيَّنة، فإذا أنتَ قَذَفْتَهُ بقوَّة أكبر فإنَّه ينطلق بسرعة أكبر، ويرتفع، بالتالي، إلى مسافة أعلى، قبل أن يسقط إلى سطح الأرض.

أمَّا إذا قَذَفْتَهُ بقوَّة معيَّنة، تتناسب ومقدار كتلته، فإنَّه ينطلق بسرعة تكفي لبلوغه ارتفاعاً، إذا ما بلغه لن يسقط إلى سطح الأرض، ويشرع، بدلاً من ذلك، يدور حَوْل كوكب الأرض في مدارٍ معيَّن.

وهذا الدوران لا يعني أنَّه قد تحرَّر نهائياً من قبضة الجاذبية الأرضية، فكل ما حَدَث هو أنَّ هذه الجاذبية التي كانت من قبل تعيده ثانيةً إلى سطح الأرض، ترغمه الآن على الدوران في مدارٍ معيَّن حَوْل كوكب الأرض، وكأنَّ تأثيرها في حركة الحجر هو الذي اختلف.

ولو كانت سرعة انطلاق الحجر أكبر، أي لو قَذَفْتَهُ بقوَّة أكبر، لدار حَوْل الكرة الأرضية في مدارٍ أبعد. أمَّا إذا كانت سرعة انطلاقه من الكِبَر بمكان فإنَّه عندئذٍ يتحرَّر تماماً من أسر الجاذبية الأرضية، فلا يدور حَوْل الكرة الأرضية في أيِّ مدار بعيد، وإنَّما يتابع سيره في الفضاء البعيد إلى أنْ يقع في أسر جاذبية جسم كوني آخر، فيسقط نحوه، أو يدور حَوْله.

خُذْ الحجر نفسه، واذهبْ به إلى كوكب المشتري، الذي تفوق كتلته (وجاذبيته بالتالي) كتلة كوكب الأرض بكثير، وقُم بالتجارب ذاتها، فتَكْتَشِف أنَّكَ بحاجة إلى قوَّة أعظم بكثير، تَقْذِف بها الحجر، توصُّلاً إلى جعله يتخطَّى نقطة اللا عودة، أي جَعْلِه يدور حَوْل كوكب المشتري في المدار الأقرب إليه بدلاً من يسقط إلى سطحه.

ومع إجراء مزيدٍ من التجارب والأبحاث، توصَّل العلماء إلى استنتاجين مهمين، الأوَّل هو أنَّه لو زادت الكتلة.. كتلة كوكب الأرض مثلاً، لزادت السرعة التي ينبغي للحجر المقذوف أن ينطلق بها توصُّلاً إلى تخطِّيه نقطة اللا عودة، أي إلى دورانه حَوْل كوكب الأرض بدلاً من السقوط إلى سطحه؛ والثاني هو أنَّه لو لم تَزِدْ كتلة كوكب الأرض؛ ولكن زادت بدلاً من ذلك كثافته، من خلال تقلُّص حجمه، لاشتدت الجاذبية عند سطحه، ولترتَّب على ذلك زيادة في مقدار القوَّة التي ينبغي لكَ أن تَقْذِف بها الحجر توصُّلاً إلى جَعْلِه ينطلق بسرعة تكفي لتخطِّيه نقطة اللا عودة.

ومع إمعان النظر في هذين الاستنتاجين المهمين، افْتَرَضَ العلماء، أو تصوَّروا، وجود جسم كوني (نجم مثلاً) لديه من عِظَم الكتلة، أو من عِظَم الكثافة، ما يَمْنَع حتى شعاع الضوء، الذي يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، وهي السرعة القصوى أو العظمى في الكون، من أن ينطلِق من هذا الجسم، متخطِّياً نقطة اللا عودة.

ويكفي أن يَحْدُث ذلك، أي منع الضوء من مغادرة هذا الجسم، حتى يغدو هذا الجسم مُظْلِماً، غير مرئي؛ فنحن نرى الأجسام بفضل الضوء المنبعث منها، أي الذي غادرها إلى عيوننا.

ولقد سُمِّيت الأجسام التي من هذا النمط، والتي منها، أو في مقدَّمها، "الثقب الأسود" Black Hole "المادة المُظْلِمة (أو الداكنة)" Dark Matter.

بحسب تصوُّر نيوتن لـ "الجاذبية"، والذي يتَّخِذ من "الكتلة" Mass شرطاً للجذب، أو الشدِّ، المتبادَل، بين جسمين، أو جسيمين، كان مستعصياً على العلماء أنْ يفسِّروا ظاهرة تأثُّر مسار الضوء على مقربة من جسم كوني عظيم الكتلة كالنجم، فالضوء يتألَّف من جسيمات من نوع "الفوتون"؛ وهذا الجسيم "عديم الكتلة"، فكيف له، بالتالي، أن يتأثَّر بـ "حقل جاذبية" ما؟!

إنَّنا، وبما يوافِق "العلاقة السببية" بين "السرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية" و"انعدام الكتلة" Massless، نقول، في تعريف ما لـ "الكتلة"، إنَّها ما يَمْنَع بعض المادة (منعاً مُطْلَقَاً) من أن تسير بسرعة الضوء.

آينشتاين أدركَ تلك "الثغرة" في تصوُّر نيوتن لـ "الجاذبية" إذ جاءت التجربة بما يُثْبِت ويؤكِّد صحَّة توقُّعه أن ينحرف مسار الضوء (قليلاً، والآتي من نجم بعيد) على مقربة من "حقل الجاذبية الشمسية".

هل يَسُدَّ هذه "الثغرة" بأنْ يقول، مثلاً، إنَّ "قوَّة الجاذبية الخفية، غير المرئية، والتي تَعْمَل عن بُعْد" يمكنها، أيضاً، أن تؤثِّر في "الجسيمات عديمة الكتلة"؟

كلاَّ، لم يَقُلْ ذلك، ولم يَقُلْ به، فهو كان محبِّذاً لتصوُّرٍ آخر لـ "الجاذبية"، لا مكان فيه لتلك "القوَّة"، ويتلاشى فيه الفَرْق بين "الكتلة" و"الطاقة" لجهة علاقتهما، أو تأثُّرهما، بـ "الجاذبية".

في تصوُّره الجديد (والمضاد) عامَلَ آينشتاين "الفضاء" Space على أنَّه "شيء"، أو ما يشبه "الشيء"، يتفاعل، أو يتبادَل التأثير، مع "الأجسام"، ومع "الجسيمات" أكانت تملك "كتلة" أم "عديمة الكتلة".

لقد وسَّع آينشتاين مفهوم "المادة" Matter إذ أضاف إليه، أو أدخل فيه، "الفضاء"، فالأشياء بنوعيها الفيزيائيين (الأشياء ذات الكتلة، والأشياء عديمة الكتلة) تَتَّحِد و"الفضاء" اتِّحاداً لا انفصام فيه أبداً، فـ "الفضاء الخالص، المُطْلَق، المجرَّد"، أي الذي لا وجود فيه لتلك الأشياء، إنَّما هو فضاء ميتافيزيقي، خرافي، وهمي، لم يُوْجَد قط، ولن يُوْجَد أبداً. وكذلك هي "الأشياء" التي ينعدم فيها "الفضاء" انعداماً مُطْلَقاً.

وتبسيطاً لجوهر هذا التصوُّر (الذي جاء به آينشتاين، أو يَكْمُن في أحاديثه عنه) أقول: لا شيء إلاَّ وينطوي على "فضاء (أو فراغ)"، ويحيط به، في الوقت نفسه، "فضاء (أو فراغ)". لا شيء إلاَّ ويشبه "ذرَّة الأوكسجين" في داخل جزيء الماء، مثلاً. إنَّ تلك الذرَّة تنطوي على "فضاء (أو فراغ)"، ويحيط بها، في الوقت نفسه، "فضاء (أو فراغ)".

وإيَّاكم أن تستصغروا شأن "الفضاء" الذي تنطوي عليه "الذرَّة"، مثلاً، فهو يتَّسِع، بحسب نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang، لكل كتلة (وطاقة) الكون!

آينشتاين تصوَّر "الفضاء الكوني" على هيئة "سطح (أو سطوح)" تسير عليه (أو فيه) الأجسام الكونية، كالنجوم والكواكب. إنَّها تسير عليه كما تسير كرة على سطح طاولة، أو على سطح الأرض.

ومع احتفاظه بإيمانه بمفهوم "القصور الذاتي (للأجسام)" Inertia، فسَّر آينشتاين كل تغيُّر يطرأ على حركة جسم كوني ما على أنَّه نتيجة حتمية لـ "الخواص الهندسية للفضاء (أو للسطح الفضائي)" الذي يقع فيه هذا الجسم، ويسير فيه (أو عليه). كل ظواهر الحركة والجاذبية (التي تخصُّ جسماً ما، أو جسماً كونياً ما) يجب أنْ تُفسَّر الآن، وتُفْهَم، على أنَّها نتائج، أو ثمار، لـ "الخواص الهندسية للفضاء" الذي يخصُّ هذا الجسم.

كوكب الأرض، مثلاً، إنَّما يشبه "عربة"، "قائدها"، أو "سائقها"، هو "الفضاء" الذي تسير فيه، والذي أثَّرت فيه "كتلة الشمس (في المقام الأوَّل)" بما جعله في "خواص هندسية معيَّنة".

هذا الكوكب، ومن تلقاء نفسه، يعجز عجزاً مُطْلَقاً عن إحداث أي تغيير في حركته، كأن يزيد، أو يقلِّل، سرعته، أو يغيِّر مداره، مقترِباً من الشمس أكثر، أو مبتعِداً عنها أكثر؛ كما لا يستطيع أن يغيِّر الشكل الهندسي لحركته، ليجعل مساره الفضائي أكثر، أو أقل، انحناءً.

والشمس، في حدِّ ذاتها، ليست هي التي تُحْدِثُ هذا التغيير، أو ذاك، في حركة كوكب الأرض؛ وهي لا تملك تلك "القوَّة الخفية"، التي تشبه "اليد"، والتي بها تُحْدِثُ هذا التغيير، أو ذاك، في حركة الكوكب الأرضي.

إنَّ "الفضاء"، الذي أثَّرت فيه "كتلة الشمس (في المقام الأوَّل)" بما جعله في "خواص هندسية معيَّنة"، هو وحده الذي يقود حركة كوكب الأرض، مُحْدِثاً فيها هذا التغيير، أو ذاك.

وتبسيطاً للتصوُّر ليس إلاَّ نقول: تخيَّلوا كرةً تقف في منتصف سطح طاولة؛ وفجأةً "تقعَّر" السطح حيث تقف الكرة. عندئذٍ، نرى الكرة الساكنة قد شرعت تتحرَّك؛ ونراها تسقط بسرعة متزايدة، وفي خطٍّ منحنٍ، نحو "قعر تلك الحفرة"؛ ثمَّ نراها تتحرَّك صعوداً؛ ولكن بسرعة متضائلة. إنَّ الخواص الهندسية الجديدة لهذا السطح هي التي تفسِّر لنا كل تغيير حركي طرأ على الكرة.

ولا شكَّ في أنَّ آينشتاين قد تأمَّل حركة كوكب الأرض حَوْل الشمس، مثلاً، فتساءل قائلاً: إذا كان كوكب الأرض يَعْجَزُ عجزاً مُطْلَقاً (بسبب خاصية "القصور الذاتي" لكتلته) عن إحداث أيِّ، وأقلِّ، تغيير في حركته (مقداراً وشكلاً واتِّجاهاً) وإذا كانت الشمس لا تملك تلك "القوَّة الخفية، غير المرئية، السحرية، التي تَعْمَل عن بُعْد"، والتي تشبه "اليد (المحرِّكة)"، فما يكون هذا الذي يتحكَّم في حركة كوكب الأرض بأوجهها كافة؟

لم يبقَ سوى "الفضاء" إجابةً، وتفسيراً وتعليلاً، فـ "كتلة الشمس (المتفاعلة مع كتلة الأرض، ومع كتلٍ كونية أخرى)" أثرَّت في الفضاء المحيط بكوكب الأرض، والذي فيه يسير هذا الكوكب، جاعلةً هذا الفضاء بـ "خواص هندسية معيَّنة"، هي وحدها مفتاح التفسير لحركة الكوكب الأرضي بأوجهها كافة.

حتى "تفاحة نيوتن" أصبح ممكناً تفسير حركتها بمنأى عن تصوُّر نيوتن لـ "الجاذبية"، وبما يوافِق تصوُّر آينشتاين لها، فالتفاحة التي انفصلت (إذ نضجت) عن غصنها إنَّما كانت تقف في نقطة ما على "سطح فضائي" يشبه "المنحَدَر"، فسقطت، إذ انفصلت، نحو أسفل هذا "المنحَدَر الفضائي"، أي إلى سطح الأرض، فـ "السقوط (أو الانحدار)" لا "الصعود" هو شكل حركتها الممكن فيزيائياً. و"السقوط"، بحسب هذا التصوُّر، يجب أن يكون متسارِعاً (تسارُعاً ثابتاً منتظَماً).

كوكب الأرض يسير في مسارٍ (فضائي) مُنْحَنٍ، أو شبه دائري، حَوْل الكتلة الأعظم كثيراً من كتلته، أي حَوْل كتلة الشمس. وهذا المسار يشبه "الخط المستقيم" لجهة كونه "المسار الفضائي الأقصر"، الذي "اختار" الكوكب الأرضي السير فيه، فنحن نعرف أنَّ "المسار الأقصر" هو "الخط المستقيم"، الذي هو، تعريفاً، "المسافة الأقصر بين نقطتين".

ومع ذلك، لا تسير الأرض في "خطٍّ مستقيم"، فهي تدور حَوْل الشمس، أي أنَّها تسير في مسارٍ فضائي مُنْحَنٍ، أو شبه دائري.

ولجلاء هذا الأمر، الذي يبدو متناقضاً منطقياً، نقول: تخيَّلوا أنَّ جوف، أو مركز، الكرة الأرضية هو الشمس؛ وتخيَّلوا كوكب الأرض على أنَّه "عربة (أو سيَّارة)" تسير في خطٍّ مستقيم في موازاة "خطِّ الاستواء". من وجهة نظر الراكب في "العربة"، تسير هذه العربة في خطٍّ مستقيم، لا ريب في استقامته؛ أمَّا الذي يشاهِد حركتها من على سطح القمر، مثلاً، فلا ريب لديه في أنَّ تلك العربة تدور حَوْل مركز الكرة الأرضية.

الفضاء على وجه العموم مُنْحَنٍ، وإنْ تفاوت في درجة، أو شدَّة، انحنائه، بما يوافِق توزُّع "الكتلة الكونية" فيه. وهذا إنَّما يعني أنَّ السير في خطٍّ مستقيم لا يمكن فهمه، أو تصوُّره، إلاَّ على أنَّه سير في خطٍّ منحنٍ؛ و"المسافة الأقصر بين نقطتين" إنَّما هي جزء من منحنى فضائي.

وحتى لا يبقى من ذريعة لاصطناع تناقض منطقي بين "الدياليكتيك" و"النسبية العامة" لآينشتاين، والتي من خلالها نتصوَّر "الجاذبية"، وأشياء أخرى، أقول إنَّ "المستقيم الفضائي (أو الكوني)" إنَّما هو "الخط الأقل انحناءً"؛ وإنَّ "المنحنى الفضائي (أو الكوني)" هو "الخط الأقل استقامةً"، فـ "الاستقامة" تظل منطوية على "انحناء" مهما عَظُمَت واكتملت؛ و"الانحناء" يظل منطوياً على "استقامة" مهما عَظُم واكتمل. وأنتَ تستطيع أن تَعْثُر على "المستقيم" في "الجزء الأصغر من محيط دائرة".

كوكب الأرض، وفي أثناء دوراته حَوْل الشمس، يدور حَوْل نفسه. والشمس، أيضاً، تدور حَوْل نفسها، أو حَوْل محورها، في أثناء دورنها (مع كواكبها) حَوْل مركز مجرَّتنا، مجرَّة درب التبَّانة، التي في أثناء دورانها حَوْل مركزها (الذي يستوطنه "ثقب أسود" هائل على ما يُتَوَقَّع، أو يقال) تدور مع سائر المجرَّات في "عنقودنا" حَوْل مركز هذا "العنقود من المجرَّات".

وظاهرة "الدوران حَوْل المحور" يجب ألاَّ تشذ عن القاعدة ذاتها، فـ "الخواص الهندسية" للفضاء الذي يقع فيه كوكب الأرض، مثلاً، هي التي يمكن، ويجب، أن تفسِّر دوران الأرض حَوْل محورها؛ ولكَ أن تتخيَّل ماهية تلك الخواص الهندسية التي "تُكْرِه" كوكب الأرض على الدوران، والاستمرار في الدوران، حَوْل محوره.

"الكتلة"، أكانت لجسم أم جسيم، هي "الخصم" لـ "الخط المستقيم"، فهذا الخط هو "الضحية" لـ "الكتلة". ونحن نعرف أنَّ الخطوط الهندسية على نوعين: "الخط المستقيم" و"الخط المنحني". ومن "الخط المستقيم" نبتني أشكالاً هندسية من قبيل "المربَّع"، و"المستطيل"، و"المثلَّث"، فإذا انحنى "الخط المستقيم"، بسبب "الكتلة"، فلا بدَّ لـ "الانحناء" من أن يشمل كل شكل هندسي يبتنى من "الخطِّ المستقيم".

و"الخط المستقيم" لا ينحني فحسب في الفضاء المحيط بالشمس، مثلاً، وإنَّما في الشمس ذاتها، فـ "الكتلة" تُنْتِج انحناءً في "المكان" بكل أوجهه ومعانيه؛ وليس الفضاء المحيط بالشمس، مثلاً، سوء جزء من مفهوم "المكان الشمسي". وأنتَ لو كان في مقدوركَ أن تذهب إلى الشمس، وأن تقيم على سطحها، لرآكَ الناظِر إليكَ من على سطح الأرض أكثر كرويةً في شكلكَ الهندسي.

إذا أنتَ قَذَفْتَ حجراً إلى أعلى، فانطلق بسرعة 300 مترٍ في الثانية فهذا إنَّما يعني أن تَجْعَل هذا الحجر يسير على "سطح فضائي" يشبه محيط دائرة صغيرة، فيعود إلى حيث انطلق بعد ارتفاعه إلى مسافة معيَّنة. وإذا أنتَ قَذَفْتَهُ إلى أعلى بقوَّةٍ تمكِّنه من أن ينطلق بسرعة 1000 مترٍ في الثانية فهذا إنَّما يعني أن تجعله يسير على "سطح فضائي" يشبه محيط دائرة أكبر، فيعود إلى حيث انطلق؛ ولكن بعد أن يرتفع إلى مسافة أبعد.

الآن، تخيَّل شعاع ضوء ينطلق من "سطح" ذلك الجسم الكوني المسمَّى "الثقب الأسود". إنَّه ينطلق منه (نحو الفضاء الخارجي) بسرعة 300 ألف كيلو متر في الثانية، وهي السرعة القصوى والعظمى في الطبيعة. إنَّ هذه السرعة، وعلى عِظَمِها، تَضَعَهُ في مسارٍ فضائي يشبه محيط دائرة في منتهى الصِغَر، فيعود إلى حيث انطلق، أي إلى ذلك "السطح"، قبل أن يتمَّكن من الوصول في "ارتفاعه" إلى تلك "النقطة".. نقطة اللا عودة.

إنَّ "الضوء"، وعلى افتراض وجوده في داخل "الثقب الأسود"، لا يستطيع (وهو الذي يسير بالسرعة الكونية القصوى) أن يغادِر مركز (Singularity) هذا الجسم الكوني إلى محيطه، أو سطحه، أي إلى "أُفْق الحدث" Event Horizon.

وإذا ما افْتَرَضْنا أنَّه قد وصل إلى تلك النقطة، أو الحد، أي "أْفْق الحدث"، فإنَّه لن يتمكَّن أبداً من تخطِّيها، أو تخطِّيه، إلى "الفضاء الكوني الخارجي".

إذا أنتَ اقْتَرَبْتَ من "الثقب الأسود" بما يكفي لسقوطِكَ في "فمه"، أو في "حفرته"، التي لا مثيل لها لجهة عُمقها، فعندئذٍ تسقط في منحدره سقوطاً لا مثيل له لجهة تسارعه؛ وعندما تصل في سقوطكَ إلى "قعر" هذا "البئر" فإنَّك، ومهما امتلكت من سرعة انطلاق لن تقدر أبداً الصعود منه إلى "الفضاء الكوني الخارجي"، لتعود إلى حيث كنت. هنا، أي في "قعر" هذا "البئر (الكوني)"، ليس من "سطح فضائي" تسير عليه، صعوداً، سوى السطح الذي في منتهى الانحناء، والذي يشبه محيط دائرة في منتهى الصِغَر.

في الجسم الكوني عظيم الكتلة، ينحني كل وجه من وجوه "المكان".. الفضاء المحيط بهذا الجسم ينحني، أي أنَّ كل مسارٍ فضائي في جواره ينحني. ويشمل الانحناء كل "مستقيم" يَدْخُل في تكوين الأشكال الهندسية للأشياء هناك.

وهذا الانحناء في الفضاء والمكان يقترِن، حتماً، بظاهرتين: "تباطؤ الزمن" و"قِصَر (أو اختصار) المسافة".

ولكن، كيف نفهم ذاك "التباطؤ" وهذا "القِصَر"؟

إذا سافرتَ أنتَ إلى كوكب يبعد عن الأرض 100 مليون كيلومتر، مثلاً، وإذا ما كان هذا الكوكب يفوق الأرض كتلةً بنحو مليون مرَّة، مثلاً، وإذا ما وَصَلْتَ إليه، وأقَمْتَ فيه، فعندئذٍ..

سأرى أنا الذي أراقبكَ من على سطح الأرض أنَّ تدخينكَ للسيجارة الواحدة، مثلاً، يستغرِق، بحسب ساعتي، 100 ساعة مثلاً. أمَّا أنتَ، وبحسب ساعتكَ، فلن يستغرق أكثر من 5 دقائق، أي لن يستغرق تدخينكَ للسيجارة، بحسب ساعتكَ، زمناً أكثر من الزمن الذي كان يستغرقه عندما كنت في الأرض. إذا ما عُدتَّ إلى كوكب الأرض بعدما زاد عُمْركَ سنتين مثلاً، بحسب ساعتكَ، وسألْتَ عني فسوف يخبرونكَ أنَّني قد مُتُّ منذ 100 سنة مثلاً.

إذا ظَلَلْتَ مقيماً على سطح ذلك الكوكب، وقُمْتَ بقياس بُعْده عن كوكب الأرض، بكل ما لديك من وسائل وأدوات وطرائق قياس دقيقة، فسوف تتوصَّل إلى أنَّه يَبْعُد عن الأرض مليون كيلومتر فحسب.

شيء واحد لا يختلف فيه اثنان في الكون على اتِّساعه، وهو سرعة الضوء، فكل مَنْ يقيسها يجد أنَّها لا تزيد، ولا تقل، عن 300 ألف كيلومتر (بحسب متره) في الثانية الواحدة (بحسب ساعته).

نحن سكَّان الأرض نقول الآن إنَّ عمر الكون 18 بليون سنة؛ أمَّا سكان ذلك الكوكب الذي يفوق الأرض كتلةً بنحو مليون مرَّة فيقولون إنَّ عمر الكون 9 بلايين سنة مثلاً، فالمسافة بين كوكبهم وبين المجرة الأبعد في الكون قد تقلَّصت واخْتُصِرت بما يسمح للضوء باجتيازها في زمن مقداره (بحسب ساعتهم) 9 بلايين سنة.

إنَّنا يكفي أن نفهم "الجاذبية" على هذا النحو، أي بما يوافِق "النسبية العامة" لآينشتاين، حتى لا يبقى من موجِبٍ لـ "التفسير الجسيمي" لـ "الجاذبية"، فجسيم "الغرافيتون" لا حاجة إليه، ولا من موجِب لـ "تفسير نيوتن" لها على أنَّها "قوَّة خفية، غير مرئية، تَعْمَل عن بُعْد"، ولا من موجِب، بالتالي، إلى النظر إليها على أنَّها إحدى القوى الفيزيائية الأساسية الأربع، وإلى السعي في إنشاء وتطوير نظرية نَدْمِج فيها، ونوحِّد، "الجاذبية" مع "القوى الفيزيائية الأساسية الثلاث".

"الجاذبية"، في فهمها الجديد هذا، إنَّما هي، كالحركة والمكان والزمان، خاصية جوهرية للمادة، فـ "المادة"، أكانت على هيئة "كتلة" أم على هيئة "طاقة"، لا تُوْجَد إلاَّ في وحدة لا انفصام فيها مع "الفضاء" و"المكان" و"الزمان"؛ وليست "الجاذبية" سوى الظواهر المتأتية من "انحناء الفضاء والمكان".



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أغْمَضوا أعينهم فرأوا -غموض- نتنياهو!
- ثقافة -الانحطاط الثقافي-!
- صحافتنا مصابة ب -أنفلونزا الرقابة الذاتية-!
- -أنفلونزا الخنازير- أم -أنفلونزا الرأسمالية-؟!
- -الشيزوفرينيا السياسية الفلسطينية-.. داء أم دواء؟!
- قنبلة صوتية من نوع -سيداو-!
- في فِقْه -السلام الاقتصادي-!
- نتنياهو في منتصف الطريق بين -لا- و-نعم-!
- حتى لا يتحوَّل العرب إلى -أقلية قومية-!
- شرط نتنياهو لقبول -حل الدولتين-!
- اكتشاف فلكي يُزَلْزِل -العقل السليم-!
- هذا -الإفراط القانوني- في تنظيم -حرِّية الصحافة-!
- عندما يختلف نتنياهو وأوباما -لغوياً-!
- لا تجريم لإسرائيل حتى تعترف هي بجرائمها!
- فتاوى تَعْظُم فيها الصغائر وتَصْغُر العظائم!
- -أصل الأنواع- في الكتَّاب!
- أوباما -يكتشف- تركيا!
- العرب.. أُمَّة عاطلة عن العمل!
- الموت والحياة!
- -الوسيط- ليبرمان يجب ألاَّ يفشل!


المزيد.....




- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...
- بلينكن يأمل بإحراز تقدم مع الصين وبكين تتحدث عن خلافات بين ا ...
- هاريس وكيم كارداشيان -تناقشان- إصلاح العدالة الجنائية
- ما هي شروط حماس للتخلي عن السلاح؟
- عراقيل إسرائيلية تؤخر انطلاق -أسطول الحرية- إلى غزة
- فرنسا تلوح بمعاقبة المستوطنين المتورطين في أعمال عنف بالضفة ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - ويسألونكَ عن -الجاذبية-..!