أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - الموت والحياة!















المزيد.....

الموت والحياة!


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 2608 - 2009 / 4 / 6 - 10:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


كيف يمكن أنْ تُفَكِّر وتعيش وتتصرَّف إذا ما عَلِمْتَ، على وجه اليقين تقريباً، أنَّكَ ستموت بعد شهرين أو ثلاثة أشهر؟

في حلقة من برنامج "أوبرا" الشهير الذي تبثُّه فضائية mbc4، شاهدتُ الإجابة الحيَّة عن هذا السؤال، فضيف الحلقة كان أستاذاً جامعياً، في منتصف العمر تقريباً، متزوجاً، أباً لثلاثة أطفال، ناجحاً في حياته المهنية، سعيداً في حياته الزوجية، وفي حياته على وجه العموم. لقد اكتشف الأطباء إصابته بأخطر أنواع مرض السرطان، وهو سرطان البنكرياس، الذي لا يُكْتَشَف إلاَّ عندما يصبح الشفاء منه مستحيلاً، فصارحوا المريض في حقيقة حاله الصحية، مؤكِّدين له أنْ لا أمل له أبداً في الشفاء، وأنَّ موته محقَّق بعد شهرين أو ثلاثة أشهر على الأكثر.

هذا المريض، أو "الحيِّ ـ الميِّت"، تحدَّث عن الموت، وعن موقفه الفكري والنفسي والعملي من موته المحقَّ في القريب العاجل، وعمَّا سيفعل في البقية الباقية والضئيلة من حياته، والتي ستكون مفعمة بآلام وأوجاع المرض في نهايتها، فأثَّر فيَّ حديثه، وفي الحضور، على نحوٍ لم أعِشْهُ أو أعرفه من قبل، فما قاله في أمْرِ الموت، وفي فهمه له، وموقفه منه، جعلني أقِف على معنى الحياة الذي لم نتعلَّمه حتى الآن، وأُدْرِك، في الوقت نفسه، كم نحن في حاجة إلى "تثوير" ثقافة الموت التي تستبدُّ بعقولنا ونفوسنا، فتغيير هذه الثقافة تغييراً جذرياً وعميقاً هو المفتاح لحياة كلها حياة.

وهذا "التثوير" الضروري لـ "ثقافة الموت" عندنا، والتي هي من حيث الجوهر والأساس ضد الحياة، ليس بالقضية النظرية، أو الفلسفية الخالصة والمجرَّدة؛ ذلك لأنَّ الإنسان، وفي أصغر تصرُّف من تصرفاته، يُظْهِر ويؤكِّد تأثُّره العميق بوجهة نظر فلسفية معيَّنة، فخطر الصاعقة، مثلاً، يمكن أن يواجهه هذا الشخص بالدعاء والصلاة فحسب، وذاك بتثبيت مانعة صواعق، وذلك بالأمرين معاً.

وطالما رأيْتُ شيوخاً (وغير شيوخ) يزاولون نمطاً من التربية الدينية (للأطفال ولغير الأطفال) يَجْعَل متلقيها، والذي خضع لتأثيرها، يَفْهَم الموت، ويتصوَّره، في طريقة تميت كل معنى للحياة في عقله وسلوكه، وكأنْ لا سبيل إلى الإيمان الديني سوى بث وزرع وغرس هذا الرعب (رعب الموت) في نفوس الناس، صغاراً وكباراً.

أمَّا "مرجعيتهم التربوية" فهي، في المقام الأوَّل، كتاب "عذاب القبر"، الذي أدعو "دولنا"، مُفْتَرِضاً أنَّها الحريصة على القيم التربوية الحقَّة، إلى جَمْع نسخه، وحرقها، وحظر تداوله؛ لأنَّ هذا الكتاب، وأشباهه، ينشر ثقافة موتٍ تَجْعلنا أموات ونحن على قَيْد الحياة، ولا يفيد منها إلاَّ ممتهني حراسة النعوش والقبور والليل، والساعين دوماً إلى استمرار وتثبيت حُكْم الأموات للأحياء على مرِّ القرون والعصور.

حتى طقوس الموت عندنا تَتَّجِه في الاتِّجاه الضار ذاته، فَلْتَنْظروا، إذا ما أردتم دليلاً على ذلك، إلى فحوى الخُطَب التي يلقيها شيوخ القبور عند دفن ميِّت، وإلى الطرائق التي من خلالها نُعبِّر عن حزننا، أكان صادقاً أم كاذباً. يكفي أنْ تَنْظروا وتتأملوا حتى تدركوا أنَّ الغاية هي جَعْلُنا نحن الأحياء (حتى الآن) في حالٍ من الموت الإنساني والحضاري والاجتماعي والفكري.. والسياسي أيضاً، فَقُلْ لي كيف تَفْهَم الموت وتَنْظُر إليه حتى أقُلْ لكَ كيف تعيش، واقعاً وفكراً وشعوراً.

يسمُّونها "غريزة حُبِّ البقاء"، أو "غريزة البقاء"، التي هي في الإنسان (الحي) دافعا ذاتيا في منتهى القوَّة، يَدْفعه إلى الصراع ضد كل ما يمكن أن يَجْعَل حياته عُرْضة للخطر، الذي أعْظَمَه خطر الموت.

لقد ظلَّ خوف الإنسان من الموت، الذي هو العاقبة الطبيعية الحتمية لحياته، وممَّا قد يتسبَّب في حدوثه، أو في تعجيل حدوثه، مَصْدرا مهمِّا لتطوُّره الثقافي والحضاري؛ وطالما رأيْنا الخوف من الموت، مع بقائه، أي الموت، لغزا محيِّرا للألباب، لجهة ماهيِّته ووقت حدوثه، مَصْدَر قوَّة وتغذية لبعضٍ من الثقافة الإنسانية، فالحاجة إلى الحرب دَفَعَت إلى إنتاج وتطوير (ونشر) ثقافة للتغلُّب على الخوف من الموت في نفوس المحاربين، ولإظهار الموت في أثناء القتال على أنَّه انتقال حتمي إلى حياة لا تَعْدلها أبداً "الحياة الواقعية"، جمالاً وجاذبيةً وإيجابيةً.

وفي لُغْز "ما بَعْد (أو ما بُعَيْد) حدوث الموت"، بُذِلَ كثير من الجهد الفكري لإنشاء وتطوير ثقافة موت متناقضة، فتلك اللحظة، أي لحظة حدوث الموت، وذاك الموضع، أي القبر، صُوِّرا، في "ثقافة الموت"، تصويراً متناقضاً، تلبيةً لحاجة متناقضة، فإمَّا عذاب لا مثيل له يذوقه الميِّت، وإمَّا عذوبة لا مثيل لها.

إنني أرى في خفض منسوف الخوف من الموت في نفوس البشر مقياساً من أهم المقاييس التي بها يمكن قياس تطوُّرنا الحضاري والثقافي، على أن يُتَّخَذ تطوُّرنا الحضاري والثقافي (والعلمي) ذاته وسيلة لتحقيق ذلك، فمنسوب الحياة، بأوجهها ومعانيها كافة، في الإنسان يعلو مع كل هبوط في منسوب الخوف من الموت في نفسه.

ونرى ضررا مشابها يصيب حياة الإنسان الذي يعاني عُقْدَة "الخوف من الفشل"، فهذا الإنسان يُحْجِم عن القيام بكثير من الأعمال، التي يحتاج إلى القيام بها، مخافة أن يفشل. لقد أقعده الخوف من الفشل فأَقْعِدَ، أي أصيب بالقُعاد، وهو داء يمنع من المشي.

وليس للخوف من الفشل من سبب سوى الفشل الثقافي والتربوي في إنشاء وتطوير موقف واقعي وعقلاني من الفشل، الذي هو تجربة يمكن ويجب أن نتعلَّم منها كيفية جَعْلِه سبباً للنجاح.

ولا شكَّ في أنَّ استبداد الخوف من الموت بنفوسنا هو مصيبة أدهى وأمر؛ لأنَّه يُحَوِّلنا إلى أموات ونحن على قيد الحياة، ويَحْول بيننا وبين أن نكون أبناء للحياة بكل أوجهها ومعانيها.

"ثقافة الموت" عندنا يجب أن تتغيَّر بما يجعلها مَصْدَر قوَّة وتغذية لـ "ثقافة الحياة". وهذا التغيير لا يمكن أن يَظْهَر ويتأكَّد إلا بخوض صراع ضد كل تلك الجوانب من "ثقافة الموت" التي تَرْفَع في النفوس منسوب الخوف من الموت، والتي نراها واضحة جلية في كثير من طقوس، وعادات، وتقاليد، الموت السائدة في مجتمعنا؛ ونراها في منتهى الوضوح والجلاء في "خُطَب الرعب"، التي يلقيها "متخصِّصون"، في المقابر، في أثناء دفن موتى، وكأنَّهم يعلمون عِلْم اليقين كل ما سيتعرَّض له الميِّت في قبره.

وأحسب أنَّ الخوف من الموت هو الخوف الوحيد الذي لا مبرِّر له، والذي ينبغي للإنسان، بالتالي، أن يَجْتَثَّه من نفسه؛ لأنَّ الموت ذاته هو الحدث الذي عنده ينتهي الخوف من الموت. إنَّ هذا الخوف لا يعرفه إلا الأحياء.

إنَّ الموت الذي ينبغي للإنسان أن يخشاه حقَّاً هو أن يصبح ابناً للموت وهو على قيد الحياة، وأن يموت، بَعْد موته، ذِكْراً، واسماً، وعملاً.

لقد رضعنا من "ثقافة الموت"، التي توفَّر الجهل على إنشائها وتطويرها ونشرها، ما أصابنا بـ "الإعاقة عن الحياة"، بكل أوجهها وصورها؛ وقديماً سعى بعض فلاسفة الإغريق لإجابة "سؤال الموت" بما يسمح بإنتاج مزيدٍ من أبناء الحياة، الذين قال فيه الشاعر إيليا أو ماضي: أحْكَمُ الناس في الحياة أُناس علَّلوها فأحسنوا التعليل.

لقد قالوا، في فَهْمٍ للموت لا يُفْسِد معنى ومنطق الحياة، إنَّ الحيَّ (الإنسان الحي) هو وحده الذي يُدْرِك الموت ويَشْعُر به، فليس من ميِّت يُنْزِلونه إلى القبر وهو مُمْتَلِك الوعي والشعور والإحساس، فالموت لا معنى له، ولا منطق، إذا لم يكن نفياً كاملاً للوعي والشعور والإحساس.. لا مكان للموت فينا (شعوراً وإحساساً) ما دمنا أحياء؛ ولا مكان للوعي والشعور والإحساس فينا عندما نموت، فَلِمَ الخوف والذعر والهلع من شيء لن نحس به أبداً؟!

والآن، يأتينا العلم بما يقوِّي ويُعزِّز وجهة النظر الفلسفية القديمة تلك، فالأبحاث العلمية في ظاهرة الموت تَذْهَب في اتِّجاه تأكيد فكرة أنَّ الموت هو الظاهرة التي لا مكان فيها لأيِّ نوعٍ، أو مستوى، من أنواع ومستويات الإدراك والشعور والإحساس، فإذا كان الشخص المغمى عليه يعجز عن أن يُحدِّثكَ عن أي شيء حصل له عندما كان في حالة الإغماء فكيف للميِّت، الذي مات فيه كل وعي وشعور وإحساس..؟!

وعند دراسة "فكرة الموت"، في تطوُّرها التاريخي، نقف على كثيرٍ من أوجه العلاقة القوية والوطيدة بين "ثقافة الموت" و"ثقافة الحرب"، فالحرب، في أنماطها القديمة، شدَّدت الحاجة لدى كثير من الأمم إلى إنشاء وتطوير ثقافة للموت تَحْمِل المحارِب على استرخاص روحه، والسيطرة على قواه النفسية بما يَشْحَن دافعه القتالي بمزيدٍ من الشجاعة والجرأة والإقدام والبسالة.

لقد كان كرمويل يؤمن بأنَّ نتيجة كل حرب يخوضها هي من صنع مشيئة الله، فاندفع، بالتالي، في حروبه كافة غير مكترث للعواقب والنتائج، حاشداً للحرب من القوى المعنوية ما يفوق أضعافاً مضاعفة القوى المادية والعسكرية.

وأحسب أنَّ الإسلام قد أحرز تفوُّقا لا مثيل له في التغلُّب على شعور الإنسان (الذي أسلم) بالخوف من الموت في أثناء القتال على وجه الخصوص إذ جعل هذا الإنسان يؤمن إيماناً لا يتزعزع بأنَّ الموت هو شيء يعلمه ويريده ويقرره الله وحده، وبأنَّ الإنسان لا يقدر، بالتالي، أنْ يفعل أي شيء من أجل اجتناب الموت، الذي يدرك البشر ولو كانوا في أبراج مشيَّدة.

والمحارب المسلم كان يُظْهِر في ساحات القتال ما قلَّ نظيره من الشجاعة والجرأة والإقدام والاستبسال، فصورة الموت، في معتقده الديني، كانت تمنحه قوة معنوية هائلة. الموت، في معتقده الديني الراسخ فيه عقلاً وشعوراً ووجداناً وسلوكاً، إنَّما هو من صنع الإرادة الإلهية فحسب، فالإنسان، ولو أحدقت به قوى الموت من كل حدب وصوب، يمكن أن ينجو ويظل على قيد الحياة ما دام الله لم يُرِدْ له أن يموت في هذا المكان وفي هذا الزمان. ويكفي أن يتمكن هذا المعتقد الديني من عقل الإنسان حتى يذهب إلى القتال ويقاتل وكأنَّه ذاهب إلى مباراة رياضية، متفرجاً أو لاعباً.

على أنَّ هذا لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ الفهم القدري للموت يمكن أن يُتَرْجَم دائماً (في كل زمان ومكان) بنصرٍ عسكري، أو بما يمنع ويدرأ الهزيمة العسكرية، فـ "الحرب عن بُعْد" هي الآن النمط الأهم من أنماط الحرب الحديثة؛ وهي تقوم على "علمٍ أكثر وشجاعةٍ أقل".

العِلْم، ومهما تطوَّر، لن يتوصل، أبداً، إلى "منع الموت"، فكل ما يستطيعه، حاضراً ومستقبلاً، لا يتعدى تأخير الموت، أي إطالة عمر الكائن الحي؛ ولكنَّ العِلْم كشف لنا من الحقائق ما يسمح لنا بتطوير فَهْمنا لماهية الحياة ذاتها، فالإنسان مُذْ وعى وجوده وهو يحاوِل معرفة وإدراك كنه هذا الوجود وماهيته.

"المعلوم" من الإنسان إنَّما هو قطرة في بحر "المجهول" منه، فسؤال "مَنْ أنتَ؟" ما زال بلا جواب. قد أسألكَ عن عُمْر، أو متوسط عُمْر، الإنسان (الفرد) فتجيب على البديهة قائلاً: "سبعون عاماً (مثلاً)". ولكن، هل تَعْلَم أنَّ بعضاً منكَ، أي من جسمكَ، عُمْره نحو 15000 مليون سنة؟!

أجَلْ، إنَّ في جسمكَ الآن من المواد ما يزيد عُمْره عن 15000 مليون سنة، فكل مادة جسمكَ تتألَّف ( في مكوِّناتها الأساسية) من ذرَّات، تتألَّف من جسيمات (بروتونات، ونيوترونات، وإلكترونات) تكوَّنت عندما كان الكون طفلاً، أو طفلاً رضيعاً، أي بُعَيْد "الانفجار العظيم" Big Bang الذي منه وُلِد الكون، فهذا "البروتون" الذي في خلية جلدكَ هذه، أي الذي في تلك الذرَّة من ذرَّات خلية جلدكَ هذه، يزيد عُمْره الآن عن 15000 مليون سنة، فهل عَرَفْتَ بعضاً من جواب سؤال "كم عُمْركَ؟"؟!

مِنْ أين أتيتَ؟

قد تَفْهَم هذا السؤال بما يَحْملكَ على أن تجيب قائلاً: "من بطن، أو رحم، أُمِّي"؛ وقد تَفْهَمَهُ بما يَحْملكَ على أن تجيب قائلاً: "جِئْتُ من تراب هذه الأرض، أي من الكوكب الأرضي". ولكن، مَهْلاً، فالإجابة ليست بهذه السهولة، فـ "أُمُّكَ الحقيقية" إنَّما هي "أُمُّكَ الكونية"، فأنتَ إنَّما جِئْتَ من "رماد النجوم".

إنَّ معظم "العناصر الكيميائية"، التي تتألَّف منها مادة جسمكَ ليست من إنتاج كوكب الأرض، ولا حتى من إنتاج الشمس، فعناصر كيميائية كالكربون والأوكسجين والفسفور.. وكالحديد على وجه الخصوص، إنَّما أُنْتِجت وتكوَّنت في رحم، أو باطن، نجم، ليس هو الشمس، وكتلته تفوق كتلة الشمس، وقد تفوقها أضعافاً مضاعفة. إنَّ نجماً ضخم الكتلة (ومثله آلاف الملايين من النجوم) قد انفجر، فنَثَر في أرجاء الفضاء ما أُنْتِج في باطنه من تلك العناصر الكيميائية، التي منها تتألَّف المادة الحيَّة، فوصل بعضها إلى كوكب الأرض، واستقرَّ فيه، حتى تهيَّأت له أسباب التحوُّل إلى "مادة حيَّة". ولقد اكْتُشِفَت "مُركَّبات عضوية" في سُحُب الغاز الضخمة المنتشرة بين النجوم في المجرَّات. وهذا إنَّما يعني أنَّ التحوُّل من "مادة غير عضوية" إلى "مادة عضوية" ليس بالظاهرة الأرضية الصرف. إنَّه ظاهرة كونية عامَّة. إنَّنا في الأصل "أبناء السماء".. "أبناء النجوم".. "أبناء بواطنها"، وقد تَبَنَّتْنا الأرض تَبَنِّياً!

والآن، أُنْظُر مليَّاً في تلك "المادة الحيَّة" التي تكوَّنت في رحم أُمِّكَ، والتي منها أتيْت. إنَّكَ لم تأتِ من "البويضة" وحدها، ولا من "الحيوان المنوي" وحده، فـ "البويضة" وحدها (كما "الحيوان المنوي") لا تتحوَّل إلى كائن حي، أي إلى إنسان. إنَّ اندماجهما، أو اندغامهما، هو الذي يؤدِّي إلى نشوء "الخلية البشرية الأولى"، التي تشرع تنقسم، وتتكاثر، وصولاً إلى جنينٍ اكتمل نموَّاً، فخرج من رحم أُمِّه.

أُنْظُر إليها، أي إلى تلك "الخلية البشرية الأولى"، ولكن من خلال عَيْن قانون فيزيائي شهير هو قانون "حِفْظ المادة". هذه الخلية إنَّما هي مادة، حجمها صغير جداً، وكتلتها ضئيلة جداً. كتلتها الضئيلة هذه تُصْبِح بعد نحو تسعة أشهر كتلة عظيمة (المقدار) نسبياً. لقد أصبحت في مقدار كتلة جنين مكتمل النمو، فَمِنْ أين جاءت هذه "الكتلة الإضافية"، أي نحو 99.999 في المئة من كتلة هذا الجنين، الذي ما أن يُوْلَد حتى يشرع ينمو، فيغدو أعظم كتلةً (تَعْدِل في الميزان 70 كيلو غرام مثلاً)؟

مادة، أو كتلة، "الخلية البشرية الأولى الحيَّة" لا تتكاثر ولا تنمو، فقانون "حِفْظ المادة" يَحْظُر حَظْراً مُطْلَقاً تكاثر، أو نمو، أيِّ مادة، أو كتلة. إنَّ "مادة غير حيَّة" كالماء وثاني أوكسيد الكربون، تأتي إلى تلك "الخلية البشرية الأولى الحيَّة" من الخارج، أي من "مَصْدَر غذائي"، هي التي تتسبَّب في نموِّ "الكتلة" هناك، أي في تلك "الخلية"، وفي "الجنين"، من ثمَّ. وهذه "الكتلة" المضافة إلى كتلة "الخلية البشرية الأولى الحيَّة" لا تَلْبَث أن "تتشكَّل" بما يُوافِق "نوع" تلك المادة، أي "الخلية البشرية الأولى".

وهذا إنَّما يعني أنَّ نحو 99.999 في المئة من كتلة الإنسان الحي قد جاء من هذه الطريق، فجسم الإنسان الحي يشبه مَعْملاً، تتحوَّل فيه "المادة غير الحيَّة" الآتية من الخارج إلى "مادة حيَّة" في داخل هذا الجسم، ثمَّ تتحوَّل هذه "المادة الحيَّة" إلى "مادة غير حيَّة"، تُلْقى في خارجه، أي في خارج هذا الجسم، فالإنسان في حياته يأكل أطناناً من المادة الغذائية، مُلْقِياً في خارجه أطناناً من المادة؛ ولولا ذلك لَمَا ظلَّ وزنه 70 كيلو غرام مثلاً.

أيُّها الإنسان، اعْرَف نفسك.. ولكن تَذَكَّر أنَّكَ كلَّما عرفتها أكثر جهلتها أكثر، فَمِن رحم كل "جواب" تُوْلَد عشرات الأسئلة والتساؤلات، وكأنَّ طريق المعرفة لها بداية، ولكن ليس من نهاية لها.. وإنَّني لم أقُلْ كل هذا الذي قُلْت في أمر الموت وثقافته إلاَّ لأُظْهِر الحاجة إلى ثقافة جديدة للموت، تَزيد أكثر فأكثر منسوب الحياة في حياتنا بأوجهها كافة، وتُحرِّرنا، عقلاً وفكراً وشعوراً.. وسلوكاً، من سلطان سلاطين الموت، الذين لا يعيشون إلاَّ في الموت، وبالموت!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -الوسيط- ليبرمان يجب ألاَّ يفشل!
- كفاكم استئساداً على -المبادرة-!
- جيفرسون وأوباما.. وشيطان -الجزيرة-!
- غساسنة ومناذرة جاءوا إلى الدوحة!
- ما وراء أكمة -الدعوة الفاتيكانية-!
- -الاحترام-.. حلال على حكومة نتنياهو وحرام على الحكومة الفلسط ...
- أوباما ينفخ في -وول ستريت- ما يشبه -روحاً إسلامية-!
- التَّحدِّي اللغوي!
- -الخطاب النيروزي-.. معنىً ومبنىً!
- في الأردن.. يجادلون في -الأقاليم- وكأنَّها -أقانيم-!
- -أُمُّ اللجان- يجب ألاَّ تكون ل -الحكومة-!
- شيء من -الأيديولوجيا الإعلامية-!
- على هذا فَلْيَتَّفِق -المتحاورون-!
- وخلقناكم -فصائل- لتحاوروا..!
- -الغلاء الأردني-.. مات -سبباً- وبقي -نتيجةً-!
- أزمة -مقالة الرأي-!
- -العدالة الدولية- بين إقليمي غزة ودارفور!
- حلٌّ تتوفَّر على إبداعه -حكومة نتنياهو ليبرمان-!
- رواتب الوزراء والنواب في الأردن تعلو ولا يُعلى عليها!
- أزمة العلاقة بين -السياسة- و-المبادئ-.. فلسطينياً!


المزيد.....




- مبنى قديم تجمّد بالزمن خلال ترميمه يكشف عن تقنية البناء الرو ...
- خبير يشرح كيف حدثت كارثة جسر بالتيمور بجهاز محاكاة من داخل س ...
- بيان من الخارجية السعودية ردا على تدابير محكمة العدل الدولية ...
- شاهد: الاحتفال بخميس العهد بموكب -الفيلق الإسباني- في ملقة ...
- فيديو: مقتل شخص على الأقل في أول قصف روسي لخاركيف منذ 2022
- شريحة بلاكويل الإلكترونية -ثورة- في الذكاء الاصطناعي
- بايدن يرد على سخرية ترامب بفيديو
- بعد أكثر من 10 سنوات من الغياب.. -سباق المقاهي- يعود إلى بار ...
- بافل دوروف يعلن حظر -تلغرام- آلاف الحسابات الداعية للإرهاب و ...
- مصر.. أنباء عن تعيين نائب أو أكثر للسيسي بعد أداء اليمين الد ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جواد البشيتي - الموت والحياة!