أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله تركماني - الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (2)















المزيد.....


الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (2)


عبدالله تركماني

الحوار المتمدن-العدد: 2604 - 2009 / 4 / 2 - 09:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(2) - أولوية الفكري والسياسي
كان ذلك ثمرة تطور وعي ياسين الحافظ باتجاه امتلاك قانون " حكم الواقع "، كبديل عن قانون " حكم القيمة "، مما أتاح له إنتاج وعي مطابق لواقع المجتمعات المتأخرة التي يسبق فيها الأيديولوجي مجمل العناصر التكوينية لوجودها، وهو بذلك إذ يتفق مع عبد الله العروي وسمير أمين وماكس فيبر، بأولوية الأيديولوجي في مجتمعات التأخر، مما أتاح له تفكيك المنظومات الساكنة، الإيمانية، التقليدية للماركسيات العربية في صورتها الحزبية المؤسساتية. ومن جهة أخرى، في صدد حديثه عن مظاهر التأخر في المجتمع العربي، ومقارنته بين التأخر السياسي والأيديولوجي والعسكري، رأى " أنّ البنية السياسية أشد تأخرا من سائر بنى المجتمع الأخرى، رغم أنّ التأخر الأيديولوجي يكمن في أساس تأخر السياسي ...".
(3) - توصيف المجتمع العربي
خلافا للمنطق القومي العربي التقليدي وللمنطق الماركساوي العربي المسفيت، ينطلق الحافظ من أنّ الأقطار العربية متفاوتة، لا من حيث حجمها ومستوى تطورها الاجتماعي والاقتصادي والحضاري فحسب، بل متباينة أيضا من حيث مكوناتها التاريخية، ومن حيث بنية المجتمع ومدى تلاحمه، ومن حيث عمق الترضيض والحضور الإمبرياليين، وبالتالي من حيث إمكانات التقدم ومدى نضوج النزوع الوحدوي. فالعالم العربي فيه ما يمايز وما يماثل، ما ينبذ وما يحفّز، فيه المتأخر جدا والمتأخر والأقل تأخرا (ولكن ليس فيه ما هو متقدم البتة، فالعالم العربي كله عالم مفوّت) وفيه الفقر الذي يقترب من التسول والغنى الذي يذكّر بالأسطورة القارونية " إنّ هذا الوطن ـ العالم سيجد في الوحدة العربية، لا طرق الحفاظ على وجوده فحسب، بل الأرضية الملائمة لتقدمه ".
ومن جهة أخرى، فإننا عندما نتحدث عن طبقات في المجتمع العربي إنما نفعل ذلك على سبيل التقريب، فلم " يشهد مجتمعنا لا الإقطاعية ولا الرأسمالية في صيغتيهما الأوروبية، والبنى التقليدية ما قبل البورجوازية والتطور الرأسمالي المحدود والمشوَّه مازالت تحجز الاستقطاب الطبقي. لذا فإنّ ما نسميه طبقات هو، في الواقع، بالأحرى فئات اجتماعية متشابكة ومتفاوتة في السُلَّمِ الاجتماعي، تتصارع فيما بينها وتمارس الواحدة إزاء الأخرى اضطهادا ما أو استغلالا ما ".
ومن الخصوصيات العربية التي ركّز عليها الحافظ هي السياق التاريخي الذي تشكلت فيه الهوية العربية، إذ قال: إنّ العنصر الحاسم كان ثقافيا " دور الإسلام كحاضنٍ ورحَمٍ لتكون الأمة ". إضافة إلى خصوصية أخرى هي نمط " الاستبداد الشرقي " الذي يشكل امتدادا للمخزون الثقافي الجمعي، الذي يحكم اللاشعور المعرفي للمجتمعات التي تحكم الأيديولوجيا سيرورة تَشَكُّلِها وتطورها، وحيث أنّ الأيديولوجي والسياسي في المجتمعات المحيطية كالمجتمع العربي، ما يزال يلعب دورا وازنا تارة وحاسما تارة أخرى. ولم يكن الحافظ يهدف إلى تأييد هذه الخصوصيات، بوصفها خاصيات لاصقة بهوية الأمة، بل بوصفها ظواهر لابد من استقرائها، ليكون من الممكن بناء تصوّر قادر على استنباط البدائل الضرورية التي تفرضها حاجات الواقع العربي إلى التقدم.
إنّ هذه الخصوصيات الثقافية التي كانت امتيازا تاريخيا ساعد الأمة في الحفاظ على كينونة وجودها رغم كل التحديات التي واجهتها، فإنها غدت، من منظور تاريخي، عقبة أمام انتقال المجتمع من مرحلة " الملّة الدينية " إلى مرحلة " القومية الحديثة ".
(4) - التأخر و" الفوات " التاريخي
استخدم الحافظ مصطلح " التأخر " بديلا عن مصطلح " التخلف "، لما ينطوي عليه التأخر من معنى نهضوي أبعد من التخلف كمصطلح تقني - اقتصادي ، وقد استخدم مصطلح التأخر كمدخل مفهومي أساسي لتوصيف الواقع العربي، فضلا عن إغناء القاموس النظري والسياسي العربي بمصطلحات ذات دلالات عميقة.
وقد ترتب على مفهومه للتأخر العربي صياغة أخرى رائدة لمصطلح " الفوات " الذي يشرح معناه بأنه " خارج تسلسل وتاريخ الأحداث "، ويدفع به ليتمفصل في السياق الثقافي والاجتماعي التاريخي العربي، وذلك بأنّ " الشعوب التي تعيش حالة الفوات هي التي يشكل وجودها في عصر معين ضربا من غلطة تاريخية أو مفارقة تاريخية، باعتبار أنها تعيش في مرحلة تخطتها شعوب أخرى ... الشعوب المفوتة هي الماضي ملقى على هامش الراهن أو الحاضر، هي التي تعيش في غير عصرها ".
لقد اعتبر الحافظ التأخر هو المسألة المركزية في الواقع العربي المعاصر، لذلك انتقد " المنظور التنموي " الذي توهم بإمكانية دخول العصر و " تَجَنُّبِ الثورة القومية الديمقراطية "، التي دشنت العصر الحديث من خلال قلبها وتصفيتها المجتمع التقليدي القديم، وعبر هذه التصفية أمكنها أن ترسي بنى المجتمع الحديث المجتمعية والأيديولوجية والسياسية وإطلاق قواه الإنتاجية. وقد استنتج من تجارب الشعوب المتقدمة أنه " ما من شعب حقق تقدما اقتصاديا دون أن يكون قد حقق تقدما مجتمعيا وثقافيا وسياسيا ".
واستنادا إلى استقرائه لتاريخ الفكر السياسي العربي الحديث وجد أنّ جماع السياسة العربية متأخر، فالتأخر كامن في البنية السياسية العربية، ليس في المنطق اليميني فحسب، ولا يقتصر على الأقليات العربية الحاكمة " لسنا إزاء أخطاء فحسب بل إزاء تأخر، لسنا إزاء سياسات يمينية فقط بل سياسات لا عقلانية، لسنا إزاء تأخر الأقليات المهيمنة فقط، بل إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها. وبكلمة: إنها سياسات قرية في عالم المدن ". إنّ التأخر العربي العام جعل العقل العربي، حسب ياسين الحافظ، وكأنه " برميل بلا قعر، لا يجمع ولا يراكم، مع كل صباح نبدأ تجربة جديدة، وننسى تجربة البارحة، كما لا نفكر باحتمالات الغد. على الدوام نبدأ من جديد وكأننا ولدنا اليوم، أشبه بفئران عاجزة عن اكتشاف أنّ المصيدة تصيد ".
(5) - الوعي المطابق
أي تَمَلُّك السياسات العربية الوعي المناسب لحاجات تقدم الأمة العربية وتحررها ووحدتها، وهو لا يمكن أن يتكون إلا على أرضية الحقيقة الواقعية، وليس الحقيقة التي تنطوي عليها النصوص في اكتمالها المنهجي الداخلي الذاتي. وهو ذو ثلاثة مستويات: أولها، هو وعي كوني. وثانيها، هو وعي حديث. وثالثها، هو وعي تاريخي. ولم يجد الحافظ حرجا في القول بـ " أنّ عبد الله العروي، من خلال منهجه التاريخاني، هو الذي أضاء رؤيته للواقع العربي في بعديه الكوني والتاريخي، وبأنه هو صاحب القول من منظور تاريخاني بتكامل الليبيرالية مع الماركسية في سياق تاريخية واقع التأخر العربي، رغم تناقضهما في السياق التاريخـي العربي ".
وواضح أنه يدعو إلى حداثة مطابقة قادرة على التمفصل في بنية المجتمع العربي للاستجابة إلى حاجات تقدمه، وهي تتجسد في ثلاثة أحداث تاريخية: عصر الأنوار والثورة الفرنسية، والمجتمع الصناعي، والحركة الاشتراكية المسنودة بجملة من المناهج والقيم التي أهمها " الأمّوية/القومية أي سيادة الأمة، والمواطنوية، والإنسانوية، الواقع أو ربط الكلمة بالواقع، السيطرة على الوقت، والقانون، والفكر العقلاني التحليلي - التركيبي، والنفعوية، والدنيوية أو العلمانية ".
وهكذا فإنّ الوعي المطابق لدى ياسين الحافظ هو أولا، عقل وإعقال للواقع، لا يتم الوصول إليه بداهة بل بالتحليل الدقيق للعناصر والمكونات، في حركتها الجدلية الدائمة. وفي التحليل الأخير هو ليس سوى التقاط الواقع في سيرورته التاريخية، في خط تطورها العام. وهو ثانيا، وعي عقلاني ، يعتمد العقل منطلقا ووسيلة، ويستبعد الرؤى المثالية أو الإشراقية. وهو ثالثا، وعي نسبي، لا يدّعي الحيازة على الحقيقة المطلقة، إنه وعي يقترب من الواقع يلتقط ظاهراته ويحللها، ومن ثم ينقدها ليصل إلى تكوين تصور مفهومي يعاد اختباره في الممارسة، ويتم تصويبه على أساسها، والمفاهيم لدى الحافظ هي " توسطات ضرورية تجعل الواقع المتنوع والمعقد جاهزا للوصف والتحليل، وليست أقانيم للعبادة والتقديس، توسطات ضرورية، لكنها ليست الواقع ".
(6) - الاشتراكية والمنظور التنموي ونقد التجربة الناصرية
لقد كانت قراءة الحافظ للناصرية في كل مراحل نجاحاتها وإخفاقاتها، وهذا ما يفسر حديثه في سيرته الذاتية " موقفي من الناصرية: دعم ونقد، تَرَجٍّ ويأس ". فمن جهة، اعتبر النظام الناصري يلعب دورا تقدميا أساسيا في الكفاح العربي العام، حين فتح أمام تطور العرب آفاقا واسعة جديدة، وحوّل القومية العربية إلى قوة تاريخية، وفتح إمكانية عملية لتحقيق الوحدة العربية. ومن جهة ثانية، فإنّ التجربة الناصرية ليست رائدة، فالنظام الناصري ليس النظام الثوري النموذجي، بسبب فقره الأيديولوجي، وافتقاد أهدافه الاشتراكية لدقة الوضوح والتحديد، وبسبب إغراقه في البيروقراطية، وانعدام النفحة الشعبية في أساليب نضاله وأدواته.
ومن خلال واقعيته الثورية، التي تذهب من الواقع إلى الهدف، كان الحافظ سبّاقا في إدراك رغبة الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل أن تقضيا على الناصرية، رغم ما كان يراه من قصورها.
(7) - هزيمة يونيو/حزيران 1967
يُعتبر كتاب الحافظ " الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة " من أهم المقاربات العربية للهزيمة، حيث رأى فيها تتويجا لهزائم أجيال الأنتلجنسيا العربية الثلاث، فالجيل الثالث رغم نزوعه الراديكالي لكنه " كان محافظا على الأصعدة الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية، كانت قدرته على تحديث المجتمع العربي، بما في ذلك الاقتصادية، محدودة جدا تارة ومعدومة جدا تارة أخرى، وهذا ما جعل راديكاليته السياسية المستندة إلى بنى مهترئة ومُفَوَّتة، في تصديها للهيمنة الإمبريالية وإسرائيل، تأخذ طابع رومانسية ثورية، كانت تتحول مع تأكد العجز والتآكل، كما تجلى في هزيمة حزيران وعقابيلها، إلى تفنيص ثوري. ومن طبيعة الأشياء أن يتحول التفنيص الثوري، بعد ارتطامه بالواقع، إلى استسلام ". وفي محاولة منه لوضع اليد على مكمن الخلل، بعيدا عن نظرية المؤامرة التي راجت في العالم العربي، وجد الحافظ أنّ التكنولوجيا الحديثة بدون قاعها التاريخي المعرفي، العقلاني، الثقافي، وتمازج سيرورات هذه العناصر، ليست إلا حديد "خُردة " في اليد الجاهلة. فمشكلة العرب هي القطيعة بين تكنولوجيا الأسلحة الحديثة وقاعها الثقافي العقلاني الحديث.
(8) - نقد التيار القومي التقليدي وبلورة قضايا المسألة القومية العربية
رأى أنّ هذا التيار لا تاريخي، حين لم ير الجذور التاريخية، السابقة للاحتلال الاستعماري، لبعض الكيانات الإقليمية العربية المميزة، ولا مفاعيل الهيمنة الإمبريالية وقوانين عملها في العالم العربي. وقد وصّف رؤية هذا التيار على النحو التالي " نحن العرب نشكّل أمة واحدة، يجمعنا تاريخ طويل، تربطنا لغة واحدة، نعاني آلاما واحدة، تحرّكنا آمال واحدة، ينتظرنا مصير مشترك، وما التجزئة سوى صنيع الاستعمار. مادام الأمر كذلك، فمن الطبيعي، بل من الحتمي، مهما راوغ القدر، أن يؤطِّرنا، بعد زوال الاستعمار ورواسبه، كيان سياسي واحد ". وبعد أن أقر بصحة مقدمة هذه الأطروحة، قال " إنّ بناء دولة تؤطر أمة واحدة يتوقف، مع جملة عوامل أخرى، على وعي هذه الأمة ضرورة وحدتها. فالحتمية الوحدوية إنما تنبع، إذا لم تواجَه بعرقلات أخرى، من وعي أجزاء الأمة ضرورة وفائدة الوحدة، فضلا عن الإرادة ".
وبسبب قصور وعي التيار القومي التقليدي فقد انتقل العديد من أنصاره إلى " مواقع إقليمية "، لأنه عاجز عن تصور المسار الوحدوي كصعود شاق " يتواكب مع الوعي السياسي السائد ومع الأيديولوجيا السائدة، وبالتالي اعتبار الوعي الوحدوي خلاصة وزبدة الوعي العام لمجتمع يعاني شقاء قوميا من جهة، ويواجه ضغوطا ساحقة من قبل الإمبريالية من جهة أخرى ".
ومن منظور تنويري، انتقد الحافظ التيار القومي التقليدي، كما ظهر واضحا في كتابات ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، حيث " أدانت بلا تحفظ الثورة الفرنسية ورأت بذور التفكير الفرنسي، الدخيل على العرب والمشوِّه لتفكيرهم، قد سمم النهضة العربية الحديثة منذ ولادتها، بدخوله مصر مع حملة نابليون بونابرت ". كما أشار إلى أنّ هذه الأيديولوجيا القومية رفضت الماركسية وأدانتها، انطلاقا من النظر إليها بوصفها " ذات أصول أوروبية صرفة تمثل نزعة إنسانية ".
والقومية، بالنسبة لياسين الحافظ، ليست أيديولوجيا، كما حاول الفكر القومي التقليدي أن يصوغ أصالتها من خلال ترجمة هذه الأصالة عن الفكر الألماني " الروح الأزلي الخالد ". وهي ليست تجميعا كميا لوحدات وكيانات مجزأة، بل هي عملية تخترق الفرد لتجعل منه مواطنا، وتخترق المجتمع المُكسَّر عموديا في أنساق سوسيولوجية تعود به إلى نظام القرابة الدموية البدوية، لِتُنَضِّدَهُ في أنساق اجتماعية حديثة. والقومية، أخيرا، تحقيق لذات الأمة، بالدرجة نفسها كتحقيق لذاتية الفرد الحر المسؤول أمام القوانين، إنها تحقيق لمفهوم سيادة الفرد على مصيره، وسيادة الأمة على مصائرها. وعلى هذا فـ " الأمّويّة "، في فكر الحافظ، ليست شعورا متمحورا حول السيادة القومية إزاء الخارج فقط بل إنها " شعور ووعي متمحوران حول سيادة الأمة في الداخل، سيادتها على نفسها ".
لقد قام الحافظ بتقصّي سير تطور الأمة العربية، للتعرف على الخصوصية التاريخية التي ميّزت خط تطورها المميَّز في إطار المقارنة التاريخية بين خطوط السيرورة الكونية، فوجد أنّ العامل الذاتي الثقافي (الإسلام) هو عامل التفاعل والصهر. ففي ظله، كتراث حضاري وثقافة مشتركة وتكوين نفسي مشترك، تبلورت الثقافة المشتركة والتكوين النفسي الحضاري. لكنّ الحركة القومية العربية استيقظت تحت تأثير الفكر الأوروبي، ثم اكتسبت زخما أشد ضد محاولات التتريك أولا ثم ضد اضطهاد السيطرة الاستعمارية ثانيا . وعلى هذا، فإنّ الحركة القومية العربية لم تستيقظ في " غمار نضال طبقي حاد " كما جرى في أوروبا. والبرجوازية العربية لم تتطور إلى الحد الذي تجعل مقتضيات السوق الواحدة تتحول إلى أداة هدم بين الأقطار العربية، ليخلص من ذلك إلى مغايرة أخرى لسياق التطور الأوروبي هي " أن القومية العربية لم تولد في السوق "، وبالتالي فإنّ الوعي القومي العربي سبق التطور الاقتصادي العربي.
لقد ربط الحافظ صلة وثيقة بين التقدم والوحدة العربية، فـ " العالم يغذُّ الخُطى نحو تكوين كتل كبرى من الشعوب، وستبقى " الشعيبات "على هامش التاريخ ". فلا يمكن تصور تنمية ناجحة إلا في تجمعات كبرى " إنّ الأقطار العربية، الكبيرة منها بخاصة، قد تستطيع، في أحسن الأحوال، تطوير صناعتها القائمة إلى هذا المدى أو ذاك، إلا أنه سيصعب عليها، في ظل التجزئة، أن تتعدى حدود الصناعات التي قامت في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. أما الصناعة العصرية التي جاءت نتيجة الثورة الصناعية الثالثة، فمن الصعب جدا، إن لم أقل من المستحيل، أن تقوم في ظل التجزئة ".
إنّ المنظور الوحدوي لياسين الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، ويستشرف كل سبل الخلاص العربي، أي تلافي التأخر التاريخي المتراكم للشعوب العربية . وفي هذا السياق حدد الميول الجاذبة في السيرورة الوحدوية بثلاثة ميول: أولها، شعور هؤلاء البشر المنتشرين من الخليج إلى المحيط بأنهم ينتمون إلى أمة واحدة ويجمعهم مصير مشترك، ولا شك أنّ هذا الشعور يتفاوت من حيث عمقه ووضوحه بين قطر وآخر، أو إقليم عربي وآخر.
وثانيهما، يتمثل في العامل الخارجي، أي مفاعيل الهيمنة الإمبريالية وضغوطها ونهبها للشعوب العربية، بما يشحذ النوازع الوحدوية، ويوجه حدها ضد سائر أشكال نفوذها " إنّ الإمبريالية قد جزّأت الوطن العربي وولّدت وحدته من جديد ". وثالثها، يتمثل في النزوع العربي إلى التقدم، إلى دخول العصر، إلى تأكيد الذات.
أما الميول النابذة للسيرورة الوحدوية فقد حددها الحافظ بخمسة: أولها، التأخر العربي العام. وثانيها، الهيمنة الإمبريالية ومحاولتها ممارسة ضرب من التجميد للاحتمالات الوحدوية السياسية، فالعداء للوحدة لا يحرك سياسات الدول الإمبريالية وحدها، بل " يحرك أيضا، وبعداء أشد، سياسات الدول المجاورة للوطن العربي: إسرائيل، إيران، تركيا، الحبشة ... ولعل موقف إسرائيل يشكل الحالة القصوى ".
وثالثها، واقع التجزئة والمقاومة التي يبديها والذي " لا يتمثل فقط بمصالح الأشخاص والفئات الراكبة على بنية سياسية ما قائمة، بل يتمثل أيضا، وفي كيفية أوزن وأشد تأثيرا، في الأيديولوجيا الإقليمية ". ولأنّ الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، فقد قال " إنّ العمل في سبيل تصفية الواقع الموضوعي للتجزئة إنما يتطلب منّا أن نأخذ بعين الاعتبار الوزن والجذور التاريخية والجغرافية المتجزئة. وهذا يعني أنّ المشروع الوحدوي، فضلا عن ضرورة مرونته، لكي يمكنه استيعاب تضاريس التجزئة، لا ينبغي أن ينفي على المدى القريب والمتوسط، وبعد توفير الإطار السياسي لوحدة حقة، الأخذ بالاعتبار المصالح الإقليمية التي لا تعرقل سيرورة التذويب الوحدوية ... وأن تتوفر هذه السيرورة على ضمان توازن ما في مصالح الأقطار، بحيث تتدرج عملية التذويب مع نمو وعي الشعب بسلامة تخطّي ما هو إقليمي لصالح ما هو قومي، توازن يشكل التحقيق الأسلم والأبعد نظرا حتى للمصالح القطرية المفهومة فهما صحيحا ".
ورابعها، يتمثل في الأيديولوجيات الضمنية أو الصريحة للأقليات الدينية والقومية في العالم العربي، وهي مسألة غير ممتنعة، وبخاصة موقف المواطنين العرب المسيحيين أو موقف الفرق الإسلامية غير السنية " إنّ التأكيد على علمانية الحركة القومية العربية ودولة الوحدة العربية والنضال لتطبيقها سيفتح أرحب السبل لحلها بدون تأخير وبجدية ". أما مشكل الأقوام غير العربية " فينبغي أن يُحل على أساس مصلحة الوحدة العربية والاندماج القومي العربي. وهذه الحلول تصبح ممكنة بقدر ما يدمقرط المجتمع العربي ".
وخامسها، يتمثل في شخصنة السلطة، التي " أصبحت تظاهرة غالبة في الميدان السياسي العربي "، وهذه الشخصنة في البنية السياسية العربية عززت وتعزز إلى أقصى حد العوامل النابذة الأخرى للسيرورة الوحدوية، ذلك لأنّ السلطة المشخصنة " لا بد أن تستخدم سائر العوامل والعناصر المؤاتية للتجزئة في سبيل تدعيم مواقعها، بحيث يصبح الوضع أو البنيان الإقليمي مرتكزا وسياجا و" مجالا حيويا " لها ". وعليه، بدا لياسين الحافظ أنّ الديمقراطية، التي تشكل نقيضا مطلقا لشخصنة السلطة، تشكل الطريق الأكثر مواتاة وملاءمة إلى الوحدة العربية.
كما رصد الحافظ عاملين آخرين يشكلان نقطتي ضعف وثغرتين تجعلان السيرورة الوحدوية أكثر صعوبة: أولهما، افتقار العالم العربي إلى تطور بورجوازي حق. وثانيهما، ضعف دور القطر العربي - المركز، أو القائد للعملية الوحدوية.
(9) - الدولة الحديثة
وهي تندرج ضمن رؤية ياسين الحافظ للثورة القومية الديمقراطية، بما تنطوي عليه من إمكانية امتلاك وعي مناسب بالواقع، ووعي مطابق لحاجات التقدم العربي. وتبدو أهمية هذه الرؤية إذا عرفنا أنّ الدول العربية، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، استندت إلى تقليد سياسي ثيوقراطي، أتاح أوسع الفرص لممارسة أقلية ما هيمنة دائمة، كما أتاح المجال للصراع حول السلطة داخل هذه الأقلية. لهذه الأسباب فإنّ دعوته إلى الدولة الحديثة تمثل استجابة لحاجة الواقع العربي إلى تجاوز فواته التاريخي، حيث يبدأ ذلك بتحديث السياسة بـ " الديمقراطية " وتحديث الثقافة بـ " العلمانية " و" العقلانية ". وفي ذلك يقول " الديمقراطية لا يمكن أن تؤجل أو تقنّن، ولا توضع على الرف اليوم بزعم ممارستها غدا عند النضج، فالنضج السياسي وليد الممارسة الديمقراطية بالدرجة الأولى، فالديمقراطية اليوم هي أمر لا بد منه للديمقراطية غدا، لأنّ ممارسة الديمقراطية على نحو ناضج مسؤول ومنضبط، لا يمكن أن يتهيأ إلا بالممارسة الدائمة، فلكي نتعلم السباحة غدا، يجب أن نمارسها اليوم ".
وعلى ضوء تجربته في فرنسا، قارن الحافظ بين الفرد في المجتمعين الغربي والعربي " في الغرب، كنت أُذهَل عندما أرى قوة الفرد وجرأته وثقته بنفسه أو تحرره الكلي من مختلف أشكال الخوف ... لا شك أنّ عوامل عديدة، مجتمعية وأيديولوجية واقتصادية، مهدت لإسقاط الخوف من الغرب، بيد أنّ الإطار الذي صُفّيَ فيه الخوف كان الإطار السياسي، أي الديمقراطية ".
أما العلمانية، فهي تحضر لدى الحافظ بمثابتها منظومة متكاملة، تستدعي جميع حيّزات التجربة التاريخية للأمة: معرفيا، واجتماعيا، وسياسيا. فهي على المستوى المعرفي معادل للعقلانية، فهي " تؤمن بالاكتشاف التدريجي للحقيقة سواء في الطبيعة أم بالمجتمع، بواسطة العقل وحده تحت رقابة التجربة .. وبدون هذه العقلانية ما كان للعلوم أن تتقدم هذا التقدم المذهل، وبالتالي لا يمكن للعلم أن يتقدم في مجتمع يرفض هذه العقلانية ... فالعلمنة إذن إحدى التظاهرات الفرعية لعملية عقلنة المجتمع ". وهنا نلاحظ أنّ التلازم الذي طرحه بين القومية الحديثة والعلمانية، لم يتوقف عند حدود السطح السياسي، والترسيمات المحدودة عن " فصل الدين عن الدولة " بل استعاد المنظور المعرفي دوره، بوصفه أساسا جوهريا لبناء الدولة القومية الحديثة.





#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (1)
- أي سلام مع حكومة نتنياهو ؟
- موسم المصالحات العربية
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (6)
- زمن المحاكمات الدولية
- آفاق التحول الديمقراطي في العالم العربي
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (5)
- القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (4)
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (3)
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (2)
- توجهات السياسة الخارجية التركية
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (1)
- الاتحاد المغاربي .. إلى أين ؟
- الأسس النظرية لأهم قضايا المسألة القومية (4)
- الأسس النظرية لأهم قضايا المسألة القومية (3)
- مفاهيم ومصطلحات أهم قضايا المسألة القومية (2)
- محاولة تحديد أهم قضايا المسألة القومية (1)
- الانتخابات الإسرائيلية تشرعن التطرف والعنصرية
- مدلولات الانتخابات العراقية


المزيد.....




- سائق يلتقط مشهدًا مخيفًا لإعصار مدمر يتحرك بالقرب منه بأمريك ...
- شاب يبلغ من العمر 18 عامًا يحاول أن يصبح أصغر شخص يطير حول ا ...
- مصر.. أحمد موسى يكشف تفاصيل بمخطط اغتياله ومحاكمة متهمين.. و ...
- خبير يوضح سبب سحب الجيش الأوكراني دبابات أبرامز من خط المواج ...
- الجيش الإسرائيلي يقصف أهدافا لـ-حزب الله- في جنوب لبنان (فيد ...
- مسؤول قطري كبير يكشف كواليس مفاوضات حرب غزة والجهة التي تعطل ...
- حرب غزة| قصف مستمر على القطاع ومظاهرات في إسرائيل ضد حكومة ن ...
- كبح العطس: هل هو خطير حقا أم أنه مجرد قصة رعب من نسج الخيال؟ ...
- الرئيس يعد والحكومة تتهرب.. البرتغال ترفض دفع تعويضات العبود ...
- الجيش البريطاني يخطط للتسلح بصواريخ فرط صوتية محلية الصنع


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالله تركماني - الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (2)