أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبدالله تركماني - الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (1)















المزيد.....


الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (1)


عبدالله تركماني

الحوار المتمدن-العدد: 2603 - 2009 / 4 / 1 - 09:15
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


إنّ أفضل ما كُتب في توصيف وتحليل ونقد تجربة حركة التحرر الوطني العربية، جاء على يد مثقفين ومفكرين أعلنوا صراحة الوقوف في خندقها. ويمثل المفكرون الذين سنتاول إنتاجهم الفكري، حول المسألة القومية العربية، الجيل الرابع من روّاد النهضة العربية الحديثة، وهم ينتمون، باجتهاداتهم المختلفة، إلى الماركسية العربية (ياسين الحافظ، الياس مرقص، سمير أمين). أما المساهمات المغاربية فسوف تكون لمفكرين قوميين وليبراليين وماركسيين.
لقد كان هؤلاء المفكرون على تواصل وتقاطع في كتاباتهم، فمنهم مَنْ توافق وتناغم مع الآخرين أو بعضهم، ومنهم من اختلف مع بعضهم، ولكنهم جميعا ساهموا في الفكر العربي النهضوي المعاصر في مرحلته الرابعة. ففي تقديمه لكتاب ياسين الحافظ " في المسألة القومية الديمقراطية " كتب الياس مرقص " على امتداد حياتي، قلما فكرت أو كتبت إلا في تعاون معه، في استجابة وتجاوب، في مضاربة فكرية وروحية معه، ومع البيت وأهله. ذكراه حية، مسائله تتواصل وتتفاعل في دائرة تتخطى حياة الأفراد .. قضيته الوطن والإنسان ومصائرهما ".
بينما اقتطع محمد عابد الجابري، ناقد الخطاب العربي المعاصر، فقرة من كتاب الحافظ " الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة " ليحكم على خطاب الحافظ بالبحث عن واقع آخر أوروبي، ومن ثم يحكم عليه بـ " الضحالة ". في حين أنّ سمير أمين في كتابه " نحو نظرية للثقافة " وجّه نقدا شديدا لأحد مستويات النسق النظري لمنهج كتاب الجابري " نقد العقل العربي "، حول مفهومه للاستمرارية التاريخية بين العقل اليوناني والعقل الأوروبي، بوصفها أساس مفهوم " التمركز الأوروبي ".
في حين أنّ الحافظ وأمين التقيا حول " أنّ القومية العربية لم تولَد في السوق "، حيث أنّ الأول استنتج، في قراءته الواقع الاجتماعي العربي ما قبل الرأسمالي، عدم وجود أية صلة سببية بين المستويين الثقافي والاقتصادي، وأنّ الوعي القومي العربي سبق التطور الاقتصادي العربي. أما الثاني، فقد بلور هذه الرؤية في أطروحاته حول " نمط الإنتاج الجماعي " و " نمط الإنتاج الخراجي " و "علاقة البناء التحتي بالبناء الفوقي "، حيث " يحتل البعد الفكري - السياسي مكان الصدارة، وحيث شفافية آليات الاقتصاد في النظم السابقة على الرأسمالية وانعدامها في الرأسمالية ". وقد ساعد الاثنان،الحافظ وأمين، على تجاوز التبسيطات المبتذلة لنظرية الانعكاس، وما ينتج عنها من نزعة اقتصادوية تُكيّف كل جوانب المجتمع ومستوياته السياسية والثقافية حول محورها، لتستقطب هذه المستويات حوله.
كما أنّ ياسين الحافظ الذي أدرك أهمية دور العامل الثقافي في إنتاج وعي الأمة العربية بذاتها، بوصفه وعي مجتمع وليس وعي طبقة، وبالتالي " الخصوصية " الثقافية المتمثلة بدور الإسلام الإيجابي في التاريخ العربي، من حيث كونه أمّن سياجا أيديولوجيا للأمة حماها من التبعثر، وأنّ هذه " الخصوصية "غدت، في منظور الحافظ ، الجذر الأساسي لـ " الفوات التاريخي "، بصفتها تعبيرا عن وعي سكوني لمجتمع تقليدي. وهنا وجد الحافظ نفسه متفقا مع الأطروحة المركزية للمفكر عبدالله العروي، بل مستمدا منها وعيا نوعيا جديدا.
(1) - ياسين الحافظ
لم يكن اختيارنا لياسين الحافظ عشوائيا، وإنما تكمن مشروعية التفكير فيما كتب من كون فكره راهن ومعاصر لنا من جهة، وقابل لأن يكون أحد مكوّنات الفكر القومي الديمقراطي العربي في المستقبل من جهة ثانية. فهو يدعونا إلى الارتفاع من مستوى المشاعر القومية العربية إلى بناء الأمة، بما ينطوي عليه ذلك من أساس ديمقراطي لهذا البناء.
لقد أمسك الحافظ بمفهوم التأخر التاريخي للمجتمع العربي، الذي يتجلى سياسيا بغياب الرأي العام وبكونه صاغرا وعزوفا، ويتجلى اقتصاديا بكون الاقتصاد العربي مندلقا نحو الخارج وتابعا، ويتجلى اجتماعيا بسيطرة بنى اجتماعية ما قبل قومية ( طائفية، عشائرية، عائلية، محلية... )، ويتجلى فكريا بسيطرة فكر تقليدي تمتد جذوره إلى العصر الوسيط. لذلك فهو ينتقل من نقد " السطح السياسي " إلى نقد " العمق الاجتماعي " الذي يصوغ الحيّز السياسي ويفرزه.
وكانت تجربة الحافظ الفكرية والسياسية استمرارا لأرقى التقاليد الوطنية والقومية الراديكالية لأبرز المفكرين اليساريين السوريين ( خاصة سليم خيّاطة ورئيف خوري ) وتتويجا لها، بعد أن قام بأكبر عملية نقدية مع أشكال الوعي التحرري العربي الحديث، بتياراته الثلاثة: الليبرالية والقومية والماركسية، من خلال أداته النظرية الناجعة " الوعي المطابق " التي عنت إنتاج وعي عقلاني بالواقع العربي، ومن ثم إنتاج وعي مناسب بحاجات هذا الواقع للتقدم.
ولهذا كان الحافظ رجلا مرفوضا " لأنه كلما لامس تجربة لغمها بأسئلة عقله الطليق، ولأنّ ساحة السياسة كانت تجربة قدر الرجل، فكانت مأساته في مجتمع لا يعرف من تقاليد السياسة سوى السلطة، سلطة الدولة، الحاكم والزعيم والقائد، ولا تملك مفردة السياسة في بنيته اللاشعورية سوى دلالة فعل (ساسَ) الذي يصبح للبشر والبهائم لغويا (ساسَ القوم، وساسَ الحصان)، بعد اختزال المجتمع وألوانه في صورة الرعية ". ( ترك ياسين الحافظ كتابات عديدة من أهمها: دراستان نقديتان " حول تجربة حزب البعث " و " نظام عبد الناصر " نشرهما في كتاب " في الفكر السياسي " في العام 1963، والذي صدر بجزئين مع جمال الأتاسي وعبد الكريم زهور والياس مرقص، وكتابه الأول " حول بعض قضايا الثورة العربية " في العام 1965، وكتابه الثاني " اللاعقلانية في السياسة العربية/ نقد السياسة العربية في المرحلة ما بعد الناصرية " في العام 1975، وكتابه الثالث " التجربة التاريخية الفيتنامية/ تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية " ثم كتابه الرابع " الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة " في العام 1976، وأخيرا كتابه الخامس " في المسألة القومية الديمقراطية " بعد وفاته في العام 1978 ).
والحق أنّ خطاب الحافظ قد اكتسب أقصى نضجه وطلاقة تفكيره في سبعينيات القرن الماضي، بعد أن أكملت التجربة الناصرية دورتها على نفسها، وآلت إلى مصيرها المعروف بعد وفاة جمال عبد الناصر من جهة. وبعد تجربته في باريس التي عمّقت لديه الوعي بمسألة التأخر، والوعي بأهمية النهضة من جهة ثانية. فراح ينتقد السياسة، بوصفها تكثيفا للبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولو أنه بدأ - بالممارسة - يستخدم أداته النظرية " الوعي المطابق " منذ أواخر الخمسينيات. ففي سنة 1958 كتب عدة مقالات تحت عنوان " خصائص الحركة القومية العربية "، حيث بدأ تحليله لهذه الخصائص من خلال تناولها في المستوى الكوني، انطلاقا من " أنّ الإنسانية تسير في خط تطوري صاعد ومتوازٍ "، وفي المستوى التاريخي" أنّ مجرى تطور الأمم ليست متماثلة ".
لقد أنتج الحافظ خطابا نابضا بالحياة مُشْبَعاً بالدلالات السوسيولوجية والثقافية والسياسية والنظرية، فمنح الخطاب السياسي العربي بعدا نهضويا ذا طابع شمولي. وبذلك، حرر الخطاب القومي من البلاغية المترهلة، وأنقذ الماركسية العربية من ضيق العبارة والأفق وتكلّس الصيغ، حين استعاد روحها النقدية، بوصفها سؤالا مُشرَعاً ضد الثبات والسكون والامتثال والعقائدية المنغلقة على نفسها. فمع ياسين الحافظ اكتسب الخطاب العربي مفهوما يتجاوز التبسيطات اليمينية واليسارية حول المسألة القومية، يتجاوز المفهوم اليميني الذي يقوم بعملية تدليس بين الوعي القومي الحديث والوعي التقليدي المفوَّت، والذي أنتج مفهوما فيزيقيا عن " الروح الأزلي الخالد "، والذي بدوره غدا أيديولوجيا للتمايز ومعاداة الآخر. ويتجاوز المفهوم الامتثالي الاقتصادوي الذي يغيّب الخصوصية التاريخية لأشكال الانتقال إلى القومية الحديثة. ومن خلال نقده المزدوج هذا، قدم وعيا جديدا بالمسألة القومية، بوصفها عملية تاريخية تخترق الفرد والمجتمع والثقافة، وليست تجميعا كميا لوحدات مجزأة.
وعلى أساس هذا الوعي فـ " القومية هي الحركة التاريخية التي ترفع سديما بشريا إلى كتلة متجانسة، متلاحمة، مندمجة، تستحق اسم الأمة ". ولعل مصدر إشعاع خطاب الحافظ أنه لم يقارب السياسة والمجتمع في العالم العربي إلا من خلال إشكاليته المركزية " التأخر " وبالتالي وعي " النهضة في وجه التأخر ". وفي هذا السياق انتقد الأيديولوجيا المهزومة " التقليدوية الجديدة " التي توهمت إمكانية دخول العصر بتجنب الثورة القومية الديمقراطية " المنظورالنهضوي " والقفز إلى تبنّي " المنظور التنموي "، فقال " ما من شعب حقق تقدما اقتصاديا دون أن يكون قد حقق تقدما مجتمعيا وثقافيا وسياسيا ".
لقد كان الحافظ رائدا في التقاط عوامل هزيمة المشروع القومي العربي، حين استعاد الإشكالية المركزية للنهضة عبر سؤال " التأخر "، باعتباره ليس تخلفا اقتصاديا يمكن تجاوزه عبر التنمية، وليس مسألة فقدان أصالة الذات التاريخية التي زُلْزِلَتْ موضوعيا أمام التوسع الكولونيالي، بل المسألة تكمن في التأخر كفوات حضاري يشمل كل بنى المجتمع العربي. وبسبب هذه الريادة، التي لم تكن مقصورة عليه وحده بالتأكيد، سوف نتوسع في تناول توصيفاته ومقولاته وتحليلاته حول المسألة القومية العربية: نقد التيار الماركسي (الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي) وتعريب الماركسية، أولوية الفكري والسياسي، توصيف المجتمع العربي، التأخر العربي، الفوات التاريخي، الوعي المطابق (التاريخية، الكونية، الحداثة)، الاشتراكية والمنظور التنموي، نقد الحركة الناصرية، الأيديولوجيا المهزومة، نقد التيار القومي، الأُمَّويّة والقومية، التجزئة والوحدة، الدولة الحديثة، العلمانية، الديمقراطية.
(1) - نقده للتيار الماركسي (الأحزاب الشيوعية في المشرق العربي ) ودعوته إلى " تعريب " الماركسية
ميّز ياسين الحافظ بين الأيديولوجيا والمعرفة العلمية حين أدخل أفكار المفكر الفرنسي التوسير (Althusser) المجال التداولي للفكر العربي، الأمر الذي ساهم في منح خطابه تفردا وخصوصية منهجية علمية متماسكة، فضحت مدى امتلاء الوعي الماركسي العربي السائد بأوهام الأيديولوجيا. وقد قدم لوحة أولية تقريبية عن سمات وخصائص كل من النظرتين الأيديولوجية والمادية التحليلية، وأدت المقابلة بين المنهجين إلى أن يكتشف الحافظ السمات الأساسية للسياسات الصائبة تجاه قضايا المسألة القومية العربية، فحددها بثلاث: الأمّويّة/ القومية، وبناء الديمقراطية، والوعي المطابق بمستوياته الثلاثة ( وعي كوني، وعي حديث، وعي تاريخي). ومن الواضح أنه التزم المنهج الماركسي في التحليل، إلا أنه دعا إلى استخلاص تركيبة ماركسية عربية، التي بدونها " ستبقى الماركسية شيئا برّانيا بالنسبة للعرب لا يتغلغل في ثنايا الذهن العربي ". ومن ثم دعا إلى ضرورة صياغة أبحاث ماركسية ملموسة عن الواقع العربي، بما يكفل: " تحوّل الماركسية في المجتمع العربي من شيء برّاني إلى شيء جوّاني " ، أي " من الماركسية إلى الماركسية العربية، الأمر الذي يعطي هذه النهاجية كل فعاليتها في تحديث الفكر العربي ثم الأيديولوجيا العربية، بوصفه أحد الأهداف الأكثر أهمية للثورة العربية ".
ومن المنظور الماركسي الديمقراطي أدان الشيوعية العربية التي خاضت معركة الماركسية السوفياتية ـ الستالينية ضد الليبيرالية ، دون أن تستوعب أنّ نقد الليبيرالية من موقع متخلف عنها، من موقع المجتمع الذي لم يحقق منجزاتها، لن يكون نقدا اشتراكيا بل " تأخراكيًا "، وتلك سمة ميزت خطابه الماركسي العربي عن الخطاب الماركسي التقليدي. خاصة وأنّ هذا الخطاب، بعد الحرب العالمية الثانية والانتصار العظيم للاتحاد السوفياتي على النازية، هاله هذا الانتصار ودفعه إلى مزيد من التأقلم مع الخطاب الستاليني، إن لم نقل " أصبح أكثر إذعانا وتماهيا مع خطاب المركز، الذي كان يخوض معركة الستالينية ضد الديمقراطية الغربية البورجوازية واشتقاقاتها ومعادلاتها الليبيرالية. وإذا كانت الستالينية ذات مصلحة في حربها الأيديولوجية ضد الديمقراطية بصيغتها البورجوازية والاشتراكية لأنها تخدم وثنيتها السلطوية البيروقراطية، ولكن أين هي مصلحة الأحزاب الشيوعية في البلدان المتخلفة ذات الأيديولوجيا القروسطية، الغارقة في سحر الرؤية المُعجبة بعالم لا يزال مكبّلاً بهالة الذاكرة الجماعية.
كما وجّه الحافظ نقدا للحركة الشيوعية العربية لأنها وضعت هدف " الوحدة العربية " على الرف حينا وناوأتها حينا آخر، فأحزاب هذه الحركة استلهمت نظرية ستالين عن نشوء القوميات والأمم، والتي قد تصح على تاريخ نشوء الأمم والقوميات الأوروبية، من خلال التعويل على أولوية السوق الوطنية الواحدة والاقتصاد المشترك، لكنها لا تصح على تاريخ الأمم الأخرى ما قبل الرأسمالية. وعلى هذا فالقومية العربية لم تُولَدْ في السوق البورجوازية، بل ولدت في " غمار الكفاح المشترك ضد الاستعمار ".
وأخذ الحافظ على الشيوعية العربية، التي كان من المفترض أن تمتلك وعيا كونيا يمثل الخلاصة الأرقى لتطور العقلانية، أنها كانت في السياق العربي " امتثالية ووثوقية "، لم تنقد الخصوصية التاريخية لواقعها، لتتمكن من التمفصل في إشكالاته المركزية، ولتنتج وعيا خلاقا لهذه الخصوصية، من أجل نقدها ومن ثم تجاوزها. ولهذا عجزت عن إنتاج ماركسية مبدعة خلاقة، ملتصقة بزمنها وتاريخها، مثلما فعلت الأنتلجنسيا الفيتنامية والصينية. بل حكمتها تجاه مسألة " الوحدة العربية " امتثاليتها الدوغمائية نحو النصوص الستالينية من جهة، وواقع تكوينها الأقلوي من جهة أخرى، فأنتجت مفاهيم تحولت إلى سياج فكري في يد أعداء الوحدة، لتبرير استمرارية التجزئة، تحت ستار وجود شعب متميز، تحتويه النظريات العلمية وتعترف بكيانه الإقليمي.
وفي محاولة منه لتحليل أسباب عزلة الأحزاب الشيوعية العربية وجد أنها " غير نقدية " و " سياسوية " غفلت تماما عن المسألة المركزية في الواقع العربي: التأخر، وإسقاط واقعة التأخر سيقود ضروريا إلى تشويه الديمقراطية، ومن ثم اختزالها إلى " إصلاح زراعي " لم يفعل في التجربة العربية ما ينبغي أن يفعله من حيث " تحرير الفلاحين من قيم وقيود المجتمع التقليدي القاهرة، مما أدى إلى أن يقف هذا الإصلاح عند حدود " كولكة الريف " ، لذلك نعتها بـ " الماركسية المتأخرة ".
وانطلاقا من ذلك تساءل الحافظ: لماذا أسقطت الماركسية العربية المؤسسية مقولة التأخر، ولماذا كرّست المنظومات التنموية ؟
(أ) ـ لأنها " كررت ببغائيا مقولات الماركسية السوفياتية "، التي تجهل بالطبع المشكلات العيانية العربية من جهة، ومن جهة أخرى لأنّ الماركسية السوفياتية فرضت عليها إشكاليات وهموما لا تمت بصلة إلى الواقع العربي، إضافة إلى الفهم السطحي للمنظور " التصنيعوي " السوفياتي الذي أسهم في دفعها لإسقاط واقعة التأخر العربي وتبنّي منظورات تنموية.
(ب) ـ لأنها أسقطت البعد التاريخي للواقع العربي، مما جعلها تضع جانبا مقولات " الاستبداد الشرقي " الماركسية، هذه المقولات التي تقدم أدوات وعي مناسب بجوانب الضعف والقصور، المكوَّنة عبر التاريخ في المجتمع العربي، وتدفع بالتالي إلى التأكيد على المكانة المركزية التي للثورة القومية الديمقراطية في تقدم المجتمع العربي.
(ج) ـ لأنها " اقتصادوية "، وهذا ما جعلها تنكر الأبعاد المجتمعية والأيديولوجية والسياسية التي للتأخر العربي، فعجزت عن التقاط تأثيراتها السلبية، بل الكابحة، على محاولات التنمية التي شهدها العالم العربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد وجد الحافظ أنّ قصور وتأخر الشيوعية العربية يكمن في أنها لم تتمكن من تجاوز إشكالية المثقف التقليدي والحديث، فكانت تفتقر إلى الحصافة والجذرية في رؤيتها ومواجهتها للواقع التقليدي العربي، كما أنها افتقرت إلى الجذرية في موقفها من الهيمنة الإمبريالية، وبذلك لم تكن أقل عجزا من النموذجين الآخرين (المغترب عن المجتمع، والمغترب عن العصر)، لأنها لم تتمكن من " تعريب " الماركسية، كما " فتنمها " الفيتناميون، و" صيّنها " الصينيون، فكانت في أيديهم سلاح انعتاق من أسر التأخر، وسلاح تحرر راديكالي من الاستعمار.
ولم يكتفِ الحافظ بتوجيه النقد إلى الشيوعية العربية، بل أبدى طموحه إلى امتلاك الماركسية امتلاكا وطنيا، وقوميا، وتاريخيا، وكونيا، فكانت ترسيمته النظرية عن " الوعي المطابق "، أي المطابق للواقع والمناسب للهدف المرسوم. لذلك اعتبر الماركسية هي الفكر الغربي الوحيد الذي يمكن للمثقف الوطني في " العالم الثالث " أن ينتظم في منهجيته النظرية والمعرفية، دون أن توضع هويته الوطنية أمام سؤال (الأنا والآخر) نظرا لما مثلته الماركسية من فكر نقدي انشقاقي على تراث الرأسمالية وأطماعها التوسعية. أي أنها الفكر الغربي الذي يتيح لمثقف البلدان المتأخرة أن يكون وطنيا بحق، بالدرجة ذاتها الذي يكون فيها كونيا. وفي سياق محاولته " تعريب الماركسية " أعلن انتظامه في منهجية عدد من المفكرين الماركسيين، خاصة غرامشي (Gramsci) ولوكاش (Lukacs)، إضافة إلى توظيفه عقلانية ماكس فيبر(Weber) الليبيرالية المضادة للماركسية، في خطابه النظري للانتقال من الوعي الامتثالي إلى الوعي النقدي، ومن الوعي الأيديولوجي إلى الوعي المطابق.
كما رأى الحافظ أنّ الماركسية، بعقلانيتها النقدية وميراثها التنويري، قادرة على تغطية الفجوة التاريخية المتمثلة بانعدام فرص تكوّن طبقة بورجوازية في بلداننا. ذلك أنّ المستوى التاريخي من " الوعي المطابق " يعلّم أنّ الاشتراكية لا يمكن أن تُبنى على أرضية ومفاهيم ومناهج تقليدية ووسطوية، بل فقط على أرضية ليبيرالية. وقد أسس هذا الموقف على الأطروحة الماركسية القائلة " إنّ الأمة يجب عليها أن تستخلص درسا من تاريخ أمة أخرى، لكن عندما يصل مجتمع إلى اكتشاف درب القانون الطبيعي الذي يحكم حركته ... لا يمكنه أن يتجاوزه بقفزة ولا أن يلغي بمراسيم مراحل تطوره الطبيعي، بل يمكنه أن يختصر فترة الحمل ويلطّف آلام الولادة ".
لقد كان طموح الحافظ لإدراج الماركسية في البنية التكوينية للثقافة العربية وطموحه إلى " تعريبها " سابقا لتطور منظومته المعرفية ونضجها النظري والمفاهيمي، بل هو نتاج سيرورة تجربته وممارسته الفكرية والسياسية مع حزب البعث، والحزب الشيوعي، ومن ثم اختلافه معهما والبحث عن بديل يتجاوز ممارسته السياسية والحزبية. لهذا بدت له الماركسية، في النصف الأول من الستينيات في العالم العربي عامة، وفي مشرقه خاصة " مُذَلَّةً، مُهَانَةً، مُطَارَدَةً، مَعْزُولَةً، وبكلمة : كانت الماركسية ضحية ". لذلك وضع لنفسه هدفا تمثل بكشف التضليل المتستر خلف محاربة الجمود العقائدي الستاليني بغية تحويل الماركسية إلى مجرد " مستشار أجنبي " من جهة، ومن جهة أخرى لابد من نقد الممارسة الستالينية للأحزاب الشيوعية. وهذه العملية المزدوجة كانت تقتضي فهما جديدا للماركسية، صاغه الحافظ بهدف التأسيس لممكنات نظرية ليسار عربي جديد منذ الستينيات، وبلور مفاهيمه ومعطياته في السبعينيات في نقطتين رئيسيتين هي:
(أ) ـ تعريب الماركسية، لأنّ إشكالات الواقع العربي لا تجد لها حلا في الموضوعات الماركسية الكلاسيكية، وذلك يعني " تحقيق اندماجها مع حركة الجماهير العربية خلال الممارسة الثورية ". بما يقتضيه ذلك من " نبذ الصيغ المحفوظة " والمرددة كما هي، و" النقل السطحي الميكانيكي والمقارنات التاريخية ". فلابد لعملية " تعريب الماركسية " من الانفتاح الدائم على الواقع العربي الملموس، حيث النظرية تُصَحِّحُ وتُطَوِّرُ نفسها على ضوء معطيات الممارسة، وهذا يعني " نفي وجود نظرية جاهزة ونهائية ".
(ب) ـ علمية وعلمانية الماركسية، إذ أنّ الانطلاق من الواقع، واعتبار الحقيقة دائما ثورية كامنة في بنية وعي الحافظ، ولذا فهو منذ الستينيات يتنبه إلى خصوصيات الواقع العربي (خاصة التخلف الثقافي)، وعليه فإنها تتطلب الجانب العلمي والعلماني من الماركسية للاستجابة لحاجاته للتقدم .. وقد شدد الحافظ على خصوصية المجتمع العربي، بوصفه أشد حاجة لهذه العلمية والعلمانية " لأنه لم يعش المرحلة الديمقراطية البورجوازية على الصعيد - الفكري والثقافي". وقد تعمق فهمه لهذه المسألة بعد خيبته بالمشروع القومي التقدمي، وبعد استفادته من تاريخانية المفكر المغربي عبد الله العروي، وبداية إلحاحه على مسألة التأخر، وتهافت التفسير الطبقوي للقوى التي صنعت الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، ليبدأ السؤال المرير: أي ثورات صنعنا، وأي اشتراكيات بنينا ؟



#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أي سلام مع حكومة نتنياهو ؟
- موسم المصالحات العربية
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (6)
- زمن المحاكمات الدولية
- آفاق التحول الديمقراطي في العالم العربي
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (5)
- القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (4)
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (3)
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (2)
- توجهات السياسة الخارجية التركية
- المفكرون الماركسيون والمسألة القومية (1)
- الاتحاد المغاربي .. إلى أين ؟
- الأسس النظرية لأهم قضايا المسألة القومية (4)
- الأسس النظرية لأهم قضايا المسألة القومية (3)
- مفاهيم ومصطلحات أهم قضايا المسألة القومية (2)
- محاولة تحديد أهم قضايا المسألة القومية (1)
- الانتخابات الإسرائيلية تشرعن التطرف والعنصرية
- مدلولات الانتخابات العراقية
- مجتمع المعرفة وتحدياته في العالم العربي (2)


المزيد.....




- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية
- الهجمة الإسرائيلية القادمة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- من اشتوكة آيت باها: التنظيم النقابي يقابله الطرد والشغل يقاب ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - عبدالله تركماني - الماركسيون العرب والمسألة القومية العربية (1)