|
الزيدي وبوش والحذاء...سخرية في بطن سخرية!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2503 - 2008 / 12 / 22 - 09:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شيء واحد أسمجُ من تعليقات حماسية عربية محتفية بمبادرة صحفي عراقي بقذف الرئيس الأميركي بفردتي حذائه، هو تعليقات مترفعة، متعففة، متصنعة للصدمة، تستهجن الحدث. الأخيرة أسمج لأنها، في غير قليل من الحالات، تخفي انحيازا سياسيا أو إيديولوجيا لسياسات إدارة بوش أو للسياسة الأميركية بعامة، دون أن تعلن ذلك صراحة. وهي في معظم الحالات أيضا تجتر الطقوس والبلاغة البائتتين للتعريض بخيبة العرب. بحد ذاته، الحدث مسل وطريف. امتيازه الجوهري أنه ليس مأثرة بطولية ولا جريمة منكرة. ولأنه لم يتسبب بأذى مادي ولم يقصد منه أن يتسبب به فلا مطعن في شرعيته أيضا. بل إن استجابة حدث رمي السيد بوش بالحذاء لأقسى نيل من رمزه السلطوي دون تعريض حياته للخطر تلغي أي سبب للتشدد في إنكاره، إن لم تجعله موضع ترحيب مبدئي. ولعل التفاني في استهجان ما جرى للشخص الأقوى في العالم يصدر في آن عن عقدة نقص غائرة في أعماق كثيرين منا، العرب والأكراد..، كما عن "فضيلة" مشينة "يتحلى" بها كثيرون منا أيضا: التضامن مع الأقوى! ولأن المستهدف بالقصف بالحذاء هو رئيس أقوى دولة في العالم، فإن الحدث يمسي مرغوبا، يتمنى المرء مثله لـ200 من أمثال السيد بوش. وليس لمثقفين بالخصوص، يتمثل أحد أرفع التزاماتهم في هتك حرمة السلطات، جميع السلطات، أن يفتعلوا شعورا بالصدمة لإهانة الرجل الذي يمثل السلطة في العالم، وفي شكلها الأكثر رعونة وأنانية وحمقا. فإذا كان الرامي عراقيا والمستهدف صاحب قرار احتلال بلاده، حاز التصرف فوق ذلك كله شرعية سياسية وأخلاقية عالمية لا جدال فيها. وتنبع طرافة الحدث من ندرته وخلوه من الخطورة، كما من سعة المسافة والمقام بين الرامي والمرمي: شخص أعزل، يكاد يكون نكرة "يعتدي" بفردتي حذائه (والمرء لا يستغني عن حذاء) على الشخص الذي هو "المعرفة" و"القوة" مشخصتان. في الحدث انتقام رمزي من "الجبار"، أو "محاولة اغتيال رمزية" له، على قول سديد لصحيفة لو بوان الباريسية. لكنهما انتقام واغتيال بلا دماء، يفضحان السلطة المهيبة ويثيران السخرية منها ويفجران الضحك عليها، ويجعلان الحدث نفسه مناسبة للتنكيت والسخرية في طول العالم وعرضه. لم يتأخر عموم مشاهدي التلفزيون عن اختراع نكت الكلام تزري فعلا بثقل الدم المميت الذي وسم مقالات وكتابات "تتأمل فكريا" في حذاء الزيدي، وبيانات تسجل "موقفه البطولي الجسور" الذي "ينم عن أصالته وانتماءه للعراق العربي" على ما ورد في بيان لنائب في البرلمان الأردني. من بين ما أمكنني الاطلاع عليه في تعليقات القراء في مواقع إلكترونية كلام على اجتماع يعقد في "الرباط" لفك "الجزمة الحادة" التي نشأت عن ضرب بوش بالحذاء؛ وعن "جزمتين شبح" استهدفتا رأس "الواطي" فاضطر أن "يطاطي"؛ على قول كاتب أغان مصري، وعن عقد المؤتمرات الصحفية في المساجد لأن الأحذية تبقى فيها خارجا؛ وعن تعاقد نادي برشلونة مع رئيس الوزراء العراقي المالكي لحراسة مرماه لأنه أظهر براعة في محاولة صد الحذاء المسدد إلى رأس ضيفه. والسخرية لا تطلب رخصة أو شرعية من أحد، تحمل شرعيتها في ذاتها. وهي على أية حال لا توفر أحدا، أرباب السلطة والدين والثروة بخاصة، كل ما هو مكرس ومهيب وثقيل. وباقترانها بالسخرية والضحك لا بالدم والدمار والموت، تحوز أحدوثة الزيدي شرعية بديهية غير منقوصة، لا ينال منها أن تنكرها الأعراف السياسية والصحفية، ولا قواعد "السلوك المتحضر"، ولا أصول "الضيافة العربية" التي رفعها بعضهم في وجه الزيدي. فالواقعة لا تقترح نموذجا عاما للسلوك، ولا تتضمن ما يدعو إلى الاقتداء بها في كل مناسبة مماثلة، وهذا ما يجعلها نكتة وفلتة و.. شرعية. على أن شرعيتها لا تسمو على الشرعية القانونية للدولة العراقية التي يأمل المرء أن تمنح الزيدي محاكمة عادلة، وتمكنه من الانتصاف ممن كسروا له يدا وضلعا. إن محاولة إهانة الرئيس بوش، ولو في أيام إدارته الأخيرة، لا تحتاج إلى تبرير من أي نوع؛ أما إدانتها فمؤشر على ثقل الدم أو على النفاق، وإلا فعلى ما هو أسوأ. ومما يجعل الحدث أكثر ندرة وطرافة أن فاعله يدرك أنه يعرض نفسه لخطر يصعب تقديره. وفي هذا هو يختلف عن "أبو تحسين"، الكهل العراقي الذي اشتهر وقت انهال بحذائه على صورة لصدام وقت احتلال الأميركيين لبغداد. فهذا كان يستفيد من وضع مؤات، لا يحمل أي خطر عليه، بل لعله يعده ببعد صيت (وإن كان هذا لا ينتقص من شرعية فعله وصدق انفعاله المحتمل). لكن ينبغي القول، وهو ما لم يكد يفت أحد من منكري رمي بوش بالحذاء التذكير به، أن الزيدي لو فعل ما فعل ضد صدام أو ضد ضيف لصدام لكان مصيره "ورا الشمس". بلا شك. ينبغي القول أيضا إن فعلته تنطوي على تناقض عميق لا يريد رؤيته معظم ممجديه: من ناحية هو يمارس عنفا رمزيا ضد رمز السلطة العليا في بلده وفي العالم، ومن ناحية ثانية هو ربما يقدر أن العقاب الذي قد يطاله لن يكون ماحقا أو "صدّاميا" من النوع الذي يرجح أن يبيد أسرته وأقاربه جميعا. وهو من ناحية ثالثة يستفيد من نقل الحدث مباشرة عبر وسائل الإعلام العالمية، الأمر الذي يمنحه شهرة فورية عريضة (إن صح أنه كان تكلم قبل الواقعة على حدث سيدخله التاريخ.. فإنه يثبت أنه ابن عصره، عصر الميديا والشهرة والنجومية)، وفي الوقت نفسه يجعل من قضيته قضية عالمية، تمتحن ادعاءات الأميركيين الديمقراطية، وتضع السلطة العراقية تحت مراقبة واسعة بخصوص كيفية التعامل معه. وهذا ما يخفف من عنصر عدم يقين في حساباته القاضية بأن يقوم بفعل تاريخي دون أن يدفع حياته ثمنا. موضع التناقض أن الرجل ربما ما كان ليقدم على رمي الرئيس الأميركي بحذائه باسم "الأرامل واليتامى"، إلا لأنه يرجح ألا ينضم إلى قائمة الضحايا من مواطنيه. بعبارة أخرى، إن مقاله وفعله يكذبان بوش، بينما حاله يصدقه. وهو في ذلك كله يشهد لبوش قدر ما يشهد ضده.. يا لها سخرية!
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إصلاح النظام أم استعادة الجولان؟
-
في نقد تصور الوطنية القومي العربي
-
بصدد -الأخلاقوية- و-الحضاروية- و.. السياسة
-
ضد إدراج حقوق الإنسان في أجندة العلاقات بين الدول
-
وجهان لدينامية الصراع العربي الإسرائيلي
-
لا حل إسلاميا للمشكلة الطائفية
-
أي نقد للقومية العربية؟
-
في العروبة والوطنية السورية: المحصلة الصفرية ليست محتومة
-
القرضاوي وخصومه: من الأمة الدينية إلى الأمة السياسية
-
في الرأسمالية والأزمة.. والديمقراطية
-
رئيس أسود في البيت الأبيض..!
-
عن الممانعة والسلبية والعداء للغرب
-
فرصة لتوسيع الديمقراطية العالمية!
-
أغزوٌ شيعي لمجتمعات سُنيّة؟!
-
تغيير المعارضة أولا..
-
في العلمانية والديمقراطية والدولة
-
على هامش الأزمة الأميركية: النهايات والعودات
-
التمثيل القومي لسورية عائقا دون التمثيل الديمقراطي للسوريين
-
إرهاب بلا وجه وأمن بلا لسان!
-
الاستبداد كاغتراب سياسي
المزيد.....
-
البرتغال تخطط لطرد نحو 18 ألف مهاجر غير شرعي من البلاد
-
-التحالف الدولي- يجري تدريبات ومناورات في محيط أكبر قواعده ب
...
-
استطلاع: ثلثا الألمان يعتبرون حزب -البديل من أجل ألمانيا- مت
...
-
الاحتلال يعتدي على فلسطينيات بأريحا والمستوطنون يصعّدون عدوا
...
-
قطر ترفض تصريحات -تحريضية- لمكتب نتنياهو حول دورها في الوساط
...
-
موقع عبري يكذّب رواية مكتب نتنياهو بخصوص إلغاء الزيارة إلى أ
...
-
فرقة -زيفربلات- الأوكرانية تغادر إلى سويسرا لتمثيل بلادها في
...
-
-كيماوي وتشوه أجنة-.. اتهام فلسطيني لإسرائيل بتكرار ممارسات
...
-
قطر ترد بقوة على نتنياهو بعد هجومه العنيف والمفاجىء على حكوم
...
-
موسكو تؤكد.. زيلينسكي إرهابي دولي
المزيد.....
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
المزيد.....
|