أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد شرينة - ما بعد الحكمة















المزيد.....

ما بعد الحكمة


محمد شرينة

الحوار المتمدن-العدد: 2482 - 2008 / 12 / 1 - 06:53
المحور: الادب والفن
    


1- الحيرة

رعدٌ و برق، مطرٌ كأفواه القرب من السماء ينسكب، النهار الذي لم يطل مقامه، آن أوان رحيله يلملم نفسه رويداً ملولا يدفعه ببطءٍ وقوة، الليل الذي حضَّر نفسه للبقاء طويلاً هذه الليلة الشتوية.
الشمس الصفراء الواهنة راحت تحتجب خلف ثلاثة حجب
و احدٌ مِن ماء و قتام(عتمة) آخر النهار الثاني والثالثُ أمواج السحب
العالم كله فارغ إلا من الماء و الغيم و العتمة القادمة إليه
الظلام يزحف على الكون من أطرافه و يسيطر عليه

في الطريق بين الشاهد و الجدث و هما قريتان، ونحن اعتدنا أن نقول عنهما ضيعتان، رجل ليس بالشاب الفتي و لا هو بالعجوز
يخب السير يحث حماره أو لعله جمله الذي دب إليه الوهن، أنهكه السير في الطين و الوحل، يقرعه في كل جزء من جسمه المطر، رفع أذناه لعله يقي بهما من قطعات المطر عيناه.
إلى جانب الطريق لاحت شجرةٌ ضخمةٌ كثيرةُ الأغصانِ وافرةُ الفروع، فحاز إليها دابته و احتمى من دفق الماء المنسكب من السماء
بالكاد تمر إليه من قُبةِ أغصانِ الشجرة الكثة قطراتُ مطرٍ قليلة.
فشعر بالأمان من الماء الغزير و بالخوف من الليل الذي يحتل العالم بظلامه و خفاياه.
إلى يسار الطريق إذ هو نظر رأى بقعةً من ارض ناهضة. ما ذا يكون هذا، أ هو قبر؟
فسمع صوتاً عميقا مِنْ تحت التراب يقول: لا تخف أكثر من ثلاثمائة سنة و أنا مستلقٍ هنا، فلا تخف.
نم الليلة هنا و واسيني ففي الصباح المسير أسلم، تكمل سفرك إلى حيث تقصد فلا تعجل، فإنني قبلك لما أمسيتُ في وسط الطريق في ليلة مرعدةٍ ماطرة، عجلتُ و لم أتمهل فلم أسر طويلاً حتى توسطت الوادي القريب، فغطني السيل أنا و دابتي فغالبته ساعاتٍ ثم لم أعي إلا هنيهاتٍ متقطعات. ثالثُ يومٍ في الصباح و قد ازّرقت السماء و ابتلعت الأرض الماء. وجدني المارة و إلى الشجرة التي خفت أن أبيت تحتها لليلة، أحضروني، ثم قبروني و ها أنا هنا نائمٌ منذ مئة ألف ليلة. تمهل و لا تعجل .

فَرَكن المسافرُ قليلاً ثم لم يلبث أن فزع، فوكز الدابة و قام ومشى. لم يمشِ إلا قليلاً حتى اشتد عليه المطر، الماء ينكب من السماء كنهر.
إلى يمين الطريق بدت له أجمةٌ فيها شجرةٌ كثةُ الأغصان ، فجنح إليها و احتمى من الهطل. ما كاد يتقي من الماء المنهمر من السماء حتى رأى رِجماً عالٍ من حجارة.
ما هذا إنه لا ريب جدث، نعم إنه قبر. فأوجس خيفةً ثم تماسك. من داخل القبر حدثه المقبور منذ دهور:
هيا يا صاحبي إنما يَفْصِلُك عن أهلك مسافة قصيرة، فاتمم طريقك فما هي إلا ساعتين أو ثلاث. الدرب آمن و صلب و دابتك جلدة تحتمل، و أنت قوي أيها الرجل.تأن وسر فعما قريب تحل عند أهلك و تنسى عناء السفر.
و لا تبت هنا أنت و الدابة، لا تبت هنا فمنذ سنين كثيرة عدتها هربت مني، أصابني قرٌ و ريح، مطرٌ سال من السحاب كالسيل. فحدثتُ نفسي و قلتُ أبيت هنا و الصبح عما قريب يطلع. سويعات قبيل الفجر فجئني وحشٌ كاسر.
و جاء المارة بعد أيام فواروني و تحت هذا الركام دفنوني.

كلما أحكم المسافر رأيه و قال: الوادي غزيرٌ مخيف و لا أدري لعلي لا أكاد أتوسطه حتى يسيل و يجرفني إلى الهلاك.
تحول فكره و قال: لقد سلكتُ هذه الوديان دهوراً و ما سالت بالماء إلا مراتٍ معدودات، المسافةُ قريبةٌ و الطريق غير بعيد صبر هنيهة و أبيت عند أهلي بأمان.
فما يكاد يخطو حتى يجول الفكر في رأسه و يقول: ما عيبُ المبيتِ تحت هذه الشجرة دابتك ترعى حولها بعض القش و الكلأ و الماء وفير في كل مكان و معك بقيةُ زاد يقيتك. الجو ماطرٍ ما هو بشديد البرودة، توقد نارا أو تتدثر بعباءتك .
ساعات و تنقضي و إذا بالضوء يزيح الظلام و الشمس تأتي دافعةً أمامها الصباح. هذا أسلم.
فما يتم حتى يقرع في رأسه خاطر آخر.
الليل طويل، مظلم و ثقيل و الدار قريب غير بعيد.

2-النصيحة

ساكنا القبرين نصحاه نصيحتين متناقضتين و متعاكستين و عقله حار في كل ساعةٍ يُصَوِِّبُ له أمراً للتو خَطَأَهُ. أما قلبه فكأنه ليس في جوفه قلب، طار به الفزع.
لا الناصحين و لا عقله، لم يسعفه أحد.
ساعتئذ هز قصفُ الرعدِ الشجرةَ و أشعلت لمعةُ برق ٍ السماء فإذا هي مضيئة وأضاءت لُمة الشجرة كنبتة َرغلٍ جافةٍ ملتهبة، كأن البرق شعلةُ لهبٍ تنقذف من الأرض الممتدة بين قدميه وبين ساق الشجرة و تمتد عالياً عملاقة ً تملأُُ السماء، فصادفت عيناه في أعلى الشجرة إذ هو يقلب ناظريه حيران فَزعاً طائراً، قد لملم جناحيه و جمع ريشه. أسلم للنوم جفنيه هانئاً غير وجل.
نظر كالمتوسل إلى الطائر، و لما صمت الرعد وخبا البرق، سح الماء من السحاب سحاً و صار الماء يقطر قليلاً هنا و هنا متغلغلاً من فروع الشجرة الكثة و يسيل منسكباً عن جوانبها ، و كأنه يقف في وسط صحنٍ من أرضٍ قليلةِ البلل تحت مظلةٍ فيها ثقوب صغيرة: أخرج الطائر رأسه بتأنِ من تحت جناحه و رمى بنظرة كسولة يميناً و يساراً ثم استقر نظره على الواقف تحت الشجرة.
لم يدر المسافر أ هو الطائر الذي حدثه أم هو هاتف من الفضاء أم هل كان الحديث حديثُ روحه لم يدر من أين أتاه القول:

أي صاحبي مهما اجتهدتَ و مهما حاولتَ و فكرتَ و قدرتَ، مهما حسبتَ ثم أَعَدتَ الحساب فإن هذا العالم لا يمكن أن يخلو من الخطر فكل ما يمكن أن يقود إلى السلامة قد يقود إلى الهلاك، ما أخبراك به كليهما صحيح و مع ذلك فكل ما قالاه خاطئ، الحادثتان صحيحتان و لكن ليس بالضرورة تصح النصيحتان.
ما من أحد في هذا العالم يدري ما الصحيح و ما الخاطئ حتى تنقضي هذه الليلة و يأتي الصباحُ يتهادى محلقا فوق الأرض و تكونَ قد هلكتَ أو نجوت. فراكبُ البحرِ لا يأمن من الغرق قبل بلوغه الشاطئ. و مع أنه يدري ذلك ويعيه، لكنه إذ قرر الإبحار نسي الخطر و أقبل على سفره.

أي شيء تقرره صائب لأنه قد يقودك إلى مرادك و كل ما يمكن أن يجلب المراد صائب، فليس هناك في هذا العالم من قرار حتماً يجلب السلامة و يقود إلى المراد، لأنه لو وجد لما كان اسمه قرار و لما احتوى أي خيار بل لكان شيئاً حادثاً بطبيعة الأمور و لما كان منه مفر.
لو كان في هذا العالم من قرارٍ صائبٍ بشكل حتمي لكان قانوناً و لما أمكن خرقه. كعجز المطر أن يصيبك طالما أنت محتمٍ تحت هذه الشجرة، هل فكرتَ لِمَ تَرْتع الدابةُ آمنةً بينما يكاد يقتلك الفكر، و لماذا لا يحدث العكس؟ لماذا أنت خائفٌ من أن يجرفك السيل إذا أنت استبطنتَ الوادي و ليس إذا أنت استظهرتَ الجبل؟
لأن هذه قوانين لا يمكن خرقها و لا تحتاج إلى فكرٍ أو قرارٍ فهي لا تقبل إلا صيرورةَ واحدة غير قابلة للخرق.
كل ما هو ليس كذلك يقبل أكثر من صيرورة و بالتالي يحتاج إلى قرار.
كل ما هو كذلك لا يقبل الحتمية قبل وقوعه و انقضائه و إلا لكان من النوع الأول و بالتالي ليس هناك من قرارٍ حتميُ الصواب.

3-القرار

أي صويحبي، فما دامت صحبتنا إلا زمناً قصيراً، تشجع و احزم فإنما هلاكك الساعة ترددك.
فبالشجاعة ينجو تسعة.
و بالحكمة يُتَمَّمُ العددُ إلى عشرة.
و لا تخف أن تكون متهوراً مغروراً، لأنه صحيحٌ أن أكثر الأشياء إهلاكاً و تدميراً شجاعةُ المتهور. لا تخشَ ذلك فالمغرور لا يصيبه ما أصابك و لا يمر بما مررتَ به فرأيه بالنسبة إليه قانون، دائما في اتجاه واحد.

و حتى من نقص الحكمة لا تَخف، فإنما ترددك وتدبرك و استقصائك الأخطار و الحلول هو الحكمة. بل لعلكً قد بلغتَ غاية الحكمة، فاحذر! أ تدري ما بعد الحكمة؟ إنه التردد والتنازع يتلوهما العجز و الشلل.

فاقبض على ما ينقصُكَ و الذي هو الشجاعة و تجلد. فإن ما لابد منه ليس منه بد، و لا يضمن السلامة أحد، فتجلد، فما يُنجيكَ الساعة إلا الشجاعةَ و الجلد.


بعد أن حزم الرجل رأيه و سار أكثر من ساعة و صل الوادي فإذا هو كالبحر تتلاطم أمواجه. قال لنفسه: لو أني بت تحت الشجرة فما من شيء هنا أتقي به المطر، وعلى كل حال فالوادي لا يمكن عبوره و هذا يريحني من عناء المخاطرة و يُبْقي عليَ عناء المبيت في العراء و الليل ذهبت منه ساعات و بقيت ساعات. ثُُم أوى إلى صخرة بعد أن حط حمل دابته إلى جذر الصخرة بحيث لا يصل إلي المتاع الماء و أسند سرج الدابة إلى الصخرة. الدابة أدارت وجهها إلى الجهة التي لا يأتي منها المطر و هجعت، الصخرة و السرج كأنهما خيمة يردان عنه المطر فلا يصل إليه منه إلا النزر. التف بعباءته و أضّجع، لم يدر كم من الوقت مر عليه و هو سائح في عالم الأحلام، حتى رده صوت قويٌ و هزةٌ إلى عالم الواقع. رفع رأسه ونظر: ريحٌ شديد قلب السرج و ألقاه أرضاً، الشمس توسطت الربع الشرقي الأدنى من السماء، سيل الماء الذي كان يملأ الوادي قد تابع طريقه إلى الأرض المنخفضة و بطن الوادي ما زال فيه بُرَيْكاتُ ماءٍ صغيرات يُجعِّدُ الريح سطحها تارةً ثم يبسطه وشعاع الشمس يغرق فيه مرةً و يعومُ اُخرى.



#محمد_شرينة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الله والبشر والفيزياء
- علاقة الخوف الديني و الجنسي بالعنف
- النار التي تنضج الطعام ولا تحرق، الثقافة غير قابلة للتجزيء
- هل المواطن العربي العادي غائب فعلا؟
- الحرية والعمل
- زيارة شيطان
- تأملات في الماركسية
- الحجاب الخارق
- ها قد ظلل العالم الحائر المساء
- النوم ليلة العطلة
- لماذا يتشبث الناس بالأيديولوجية؟
- مدينتي الغافية
- الحرية و المطر
- لماذا لم تحقق العلمانية العربية الحديثة أهدافها حتى الآن
- الأديان الشمولية و تأليه الإنسان – النبي
- أيديولوجيا و حتمية


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد شرينة - ما بعد الحكمة