زيارة شيطان

محمد شرينة

الحوار المتمدن-العدد: 2456 - 2008 / 11 / 5 - 04:43
المحور: الادب والفن
    

ليلتي الطويلة انقضى معظمها، عصرها ولى منذ زمن، نصف الليل الأخير انقضى نصفه وزاد، عقارب الساعة، خاصة السريع منها لا يفتأ يسير ويمشي، في خط مستقيم هو يتقدم بي نحو الفجر، نحو انقضاء الليلة الوحيدة التي مُنحتها وضاعت أو أضعتها، أتململ في الفراش ولا أقدر أن أنام مع أنني في الفراش من أجل هدف واحد هو أن أنام .
شق ظلام المهجع جسم أبيض منير، حياني بغير لغتي و لكنني فهمت تحيته، و جلس أو ت (جلست) ، و ياليت لغتي تعبر عنه وعنها بنفس الصيغة، جلس ت على البيرو ذو المرآة، القريب من سريري وأسند ت القدمين إلى طرف السرير، نظرت إليه ا فرأيت جمالا خلابا لدرجة أنه شيطاني، بدا كسيدة حقيقية قوية وجميلة لا هي بالعجوز و لا هي بالصغيرة، سيدة تعرف ماذا تريد وماذا يُراد منها، تعرف ماذا تأخذ وماذا تهب،امرأة حقيقية امتلأت بالجمال والرجولة الأنثوية.
حدقت فيه ا فبادرني قائلا: عندما تتحدث إلي استعمل الصيغة الأكثر استعمالا – صيغة أنت– بدون الكسرة.
أنت الشيطان أليس كذلك؟
تتعرفون أنتم البشر بسهولة على كل شيء و حتى لو لم يكن لديكم أدنى فكرة عنه؟ فأنت لست الأول.
لا أدري لدينا حس شيطاني لا يخطأ، أو ربما لأنكم معشر الشياطين وحدكم في هذا العالم تملكون جمالا يشع دون ثمن.
ما لك لا تنام أنت هنا من أجل أن تنام؟
قلقي شديد وحزني حالك، على الساعات التي ضاعت من هذه الليلة.
أحسنت يا انسي، دع الماضي يفسد عليك المستقبل، أ أنتم أغبياء يا أيها الإنس؟

كانت ليلتي في هذا العالم قد بدأت صاخبة ومنعزلة في نفس الوقت، مما أعطاها جمالا فريدا خلابا بلون كامد، بدأت السهرة في قصر ريفي بعيد جدا، ومعزول عن العالم كله. قصر فريد في كل شيء، بستة أو ثمانية ساهرين مع معلمهم وبضعة نسوة على الهامش وقليل من الصبية؛ على هامش الهامش، أنا أحدهم. السُكر كان متاحا معظم الوقت، والكدر كان موجودا أيضا أكثر الوقت. و بدأت السهرة التي خُلقت وصُممت بشكل خاص لهدف معين وغاية محددة، بدأت تنفض، عندما توقفت ساعة المعلم فقد بلغ عقرباها فجرهما فغادر إلى لا أين. ثم سريعا غادر معظم الرجال والنسوة قصر السهر إلى أين آخر.
بقيت مع عدد قليل في القصر السجن وراح الليل يغذ السير نحو الفجر، وأول ما ضاع كان هو الهدف، و ضياع الهدف يعطيك حرية ممزوجة بضلال.
أبحرت مرارا ورسوت تكرارا، قاتلت مرات كثيرة وانسحبت مرات عديدة، انتصرت كثيرا وهزمت أكثر، وبعد أن دقت الساعة دقتين بعد أن انتصف الليل، فقدت تمما قدرتي على النوم المتقطع الذي كان يأخذني حينا ويجفوني أحيانا، فإذا الجفاء يصير الحالة الوحيدة بيني و بينه. فلماذا ذهبت ليلتي سدى، وما هو الذي يجب أن أفعله في السويعات وربما الدقائق الباقية منها؟
قلت لزائري الليلي: لعله حتى الله يعجز عن جعلي سعيدا؟
فرد علي من هذا؟ عن من تتحدث؟ من هو الذي تريده أن يهبك السعادة و لكنه لا يقدر على ذلك؟
قلت له: الله
قال: من؟
ألا تعلم من هو الله، ساعة دخلت مضجعي أدهشني جمال كل شيء فيك، ولكن حقا انك الشيطان، ألا تعلم الله؟
لا، لا أعلم أحدا بهذا الاسم
ألم ترفض أمره فأخرجك من الجنة، لتسهر مثلنا ليلة شديدة الطول؟ ثم تؤول إلى جحيم
ألم تفسد جدنا، الذي خرج معك واشترى بساعات ليلته المغفرة، فلم يترك لنا إلا ليالي شديدة القصر، مع أمل بأن لا نصير إلى مآلك؟
ضحك ضحكة لم أدر ما كنهها، وقال: آ تتحدث عن ما هو مكتوب في الكتاب، أ ليس كذلك؟
قلت: إذن أنت تعلم
لا، أنا أعرف ولا أعلم
ما الفرق، يبدو أنك شيطان من الطراز الأول
ليس عندنا طرازات، كلنا واحد
دعني من ذلك هل تعلم أم لا تعلم؟ وما الفرق بين أن تعرف و أن تعلم ؟
أخبرني الآن أنك عشت هنا منذ عشرة آلاف سنة وأن هذه المدينة كانت عدة بيوت مبنية من حجر وأغصان شجر على ضفة نهر، فأعرفه، ولكن لا أعلم ذلك.
هذا لأنك تعتقد أنني كاذب
لا، ليس لأنك كاذب، قد تخبرني أنك مليونير، و قد تكون فعلا كذلك و مع ذلك فأنا أعرف ذلك و لا أعلمه، رغم أنك في هذه لست كاذبا
إذن أنت لا تعلم شيء بل تعرف الأشياء، أ ليس كذلك؟
لا، ليس كذلك، أنا أعلم أشياء وأعرف أشياء أكثر.
ماذا تعلم مثلا؟
أعلمك
إذن أنت تعلم الشيء الذي تراه فقط، وتعرف الشيء الذي تسمع به؟
انسي ! ما أكثر ما تجادلون وما أقل ما تسمعون!
لا ليس كذلك، أنا أعلمك لأنني أراك و أسمعك و أشم رائحتك و ألمسك، أحدثك فترد علي وفق حديثي، بيننا وجود مشترك، في هذه اللحظات تساهم في كوني موجودا و أساهم في كونك مخلوقا، فإذا غادر إحدانا المكان، لم يكن عالما بأن وجود الآخر مستمرا؛ قد يموت أحدنا وبالتالي يفقد أهم صفات الوجود التي يملكها حي، رغم أن أجسادكم أنتم الإنس تبقى كما هي لفترة بعد الموت. عندما يخبرني كل الناس أنك كنتَ هنا منذ عشرة آلاف سنة،
تعلم أن ذلك صحيح، قلت مقاطعا
لا تعلمون شيئا، ولا تصبرون لتتعلموا، الوقت الذي ينفق لتعليمكم كله ضائع، و لكن أحب شيء إلينا هو الوقت الضائع.
عفوا، أكمل
لا تعتذر سأكمل حديثي، رغما عنك، شئت أم أبيت .
لا ليس صحيحا، فبعد أن يخبرني الناس ذلك يجب أن أصدقه، لا يوجد طريقة لبرهان هكذا حدث و بالتالي فأنا إما أصدق أو لا أصدق، و في حال تصديقي أكون عارفا بذلك و لست عالما.
كيف السبيل لأن تعلم ذلك إذن .
المسألة عويصة ، فلو كان الفرض أنك كنت هنا منذ عشرة أو حتى مائة سنة لربما كان هناك وسيلة لتحويل المعرفة إلى علم، حالتك هذه ربما تحتاج لأربعة آلاف سنة قادمة من الجهد الدءوب و المتواصل حتى يمكن التحقق منها و تحويلها من معرفة إلى علم، و المرجح أن مائة ألف سنة لن تكون كافية.
إذن، هل أنت تعرف أن الأرض تتخذ مدارا يبعد تقريبا ثمانية دقائق ضوئية عن الشمس، أم تعلم ذلك ؟
أنا أعلم ذلك.
نعم انك شيطان، هل قست هذه المسافة؟ هل أصبحت جزءا من وجودك؟ أم تعتمد على ما أخبرك به غيرك، لقد وقعت في التناقض بسرعة أيها الشيطان، وكشفت أنك لا تصدق أنني كنت هنا منذ عشرة آلاف سنة لأنك لا تصدقني، بينما تصدق وتعلم أن الأرض تبعد عن الشمس ثمانية دقائق ضوئية لأنه قد أخبرك به من تصدقه، ولو أخبروك أن القمر من كتان لصدقتهم.
عندما يقرنونكم أنتم الإنس بنا، يتعللون بأنكم أذكياء، وهذا شيء مشكوك فيه، بعضكم يمكنه أن يتعلم ، عساك تكون منهم.
أظن ذلك، ولكن لا تتهرب من مسألتي، هيا أوضح
لا يا انسي لو أن الذي أخبرني أن الشمس تتكون من الهيدروجين أخبرني أن القمر يتكون من الكتان، لما صدقته ولما علمت ذلك، أنا أعلم أن الشمس تبعد عن الأرض المسافة التي ذكرتها، لأنني اُخبرت بذلك، و لأنني أستطيع ببساطة قياس الزمن بين ظهور قرص الشمس الأحمر و بين و صول أشعتها إلي، ولأن حجم وسرعة لأرض الذي يسهل العلم بهما وطول السنة التي هي مدة دورة الأرض حول الشمس كلها تمكنني من حساب هذه المسافة، وهي دائما تكون بحدود ثمانية دقائق ضوئية.
هل تستطيع إجراء جميع هذه القياسات بنفسك، وحساب كل هذه الحسابات؟ أم أنت تصدق من يقيس ومن يحسب، ألم أقل لك أنك شيطان رجيم؟
بإمكانك أن تسميني ما شئت،ولكنا إذا أعدت كلمة رجيم ثانية فسأ
استولى علي الرعب وأنا أقول آسف لا تؤاخذني أيها المحترم
قاطعني، سمني ما شئت فهذا شيء لا يزعجني و لكن لا تلقبني بخير ولا بشر، ثم مالك أصابك الفزع؟ فأنا سأ تركك بجهلك لو أعدت تلك الكلمة و ليس سأ قتلك، نحن لا نقتل .
ما أحسن التعامل معك أيها الشيطان.
أنا لم أجر القياسات و لم أحسب الحسابات، نعم بعضها يمكنني عمله وبعضها لا يمكنني عمله، ومع ذلك أصدقها وأعلمها، ليس لأن الكثير من الناس فعلوا ووجدوها صحيحة، فقد ظن معظم البشر إن لم يكن كلهم، أن الشمس تدور حول الأرض ولفترة طويلة جدا، مع أن ذلك كان خاطئ، ببساطة أنا أعلم ذلك لأن من يقوله:
يبين برهانه، وما أكثر البراهين وأقل الحقائق وبالتالي لا بد من أن:
يتمكن أي أحد من تعلم برهانه وتطبيقه والحصول على نفس نتيجته.
في كل الأمكنة وفي جميع الأزمنة يظل أي أحد قادر على تعلم البرهان وتطبيق القياس والحصول على نفس النتيجة.
كل الناس مهما اختلفت مشاربهم و آراءهم، يقبلون هذه النتيجة. و كل دائما تعني معظم فكل الناس لا يتفقون على شيء أصلا.
والأهم من كل ذلك هو أنه عندما يثبت الناس بشكل مضطرد، بمعنى عندما يقول كل الناس أو معظمهم أن هذا البرهان خاطئ فإن واضع هذا القياس يتراجع معهم عن علمه.
يا أنسي المعرفة لا تحتاج لدليل و لا هي تقبل النفي وبالتالي يمكن أن تكون خالدة، وهي سالبة مثل أن تعتقد أن الأرض محمولة على قرن الثور، أو ايجابية كاعتقاد أن الناس متساوون، لن أقبل أي دليل مهما ادعوا أنه متين يقودني إلى أن الناس غير متساوين، المعرفة خالدة لأنها ذاتية وشخصية وكاملة للذات العارفة؛ وليست موضوعية وبالتالي لا تحتاج إلى برهان، كما أنه لا يمكن دحضها ببرهان، وهي لا تصلح للمواضيع الجزئية لأن الجزئيات يجب أن تظل موضوعية لا ذاتية، لأن المواضيع الجزئية تحتاج إلى التطور و بالتالي إلى العلم، حتى تقترب من الكمال،فالعلم بالتعلم.
المعرفة تصلح لمعرفة الله و العلم لا يصلح لذلك، ولكن المعرفة لا تصلح لتحديد الشجرة السيئة التي يجب أن لا نأكل منها، بل العلم هو الذي يصلح لذلك، وعندما خلط جدكم بين المعرفة والعلم افترقنا نحن و إياه، فقال عنا قولا كثيرا ونحن كما أسلفت لك لا يهمنا ذلك، انه أبدا لا يزعجنا، ولكننا نحن الملاك نحُن إلى الأيام التي قضيناها مع جدكم، و أضاعها باحثا عن وهم، لذلك أنا هنا أيها المأرق العاجز عن النوم، و أنتم ورثتم هذه الصفة عنه، فكلما جاءكم حكيم بمعرفة وعلم جعلتم جميع ما يقوله الحكيم معرفة و بذلك قتلتم المعرفة والعلم كليهما .
حتى أنكم تضعون الإيمان بوجود الله وعدم أكل لحم حيوان ما، و طريقة معاشرة أنثى لذكر، في مستوى واحد وتقولون من أنكر وجود الله فهو كافر ومن أحل هذا الطعام أو أباح هذه العلاقة، فهو أيضا كافر. الضرر والنفع يتغيران، بسرعة يتبدلان، بل هما يتبادلان المواقع، أنفع شيء للنبات هو الري وري النبات المروي حديثا يضره.
أيها الملاك، قلت
فقاطعني قائلا: ما تسميني لا يهمني، شيطان أم ملاك عندي سيان، أنا لست الشيطان و لكنك قلت لي ذلك وأنا لا أهتم للمسميات.

ساعة رأيتني نعتنني بأني الشيطان، ذلك لأنك تعتقد أنه لا يمكن أن يخترق خلوتك في الليل و أنت ساهد، غير شيطان، وأنا تركتك لمعرفتك تلك لأنها لا تضرني، ولا تنفعني، فأنا ببساطة لا أهتم لما تصفني به، فأنا أعرف من أكون. فالضعيف هو الذي يدافع عن نفسه، أما الذي يحتاج لأن يدافع عنه الناس فهو الوهم.

أيها ال.... المحترم و اعذرني أنت للتعبير، لقد أمضينا دهرا طويلا على هذه الحال، لا أظن أننا قادرين على تغيير هذا الوضع حتى لو رغبنا في ذلك، لا تتحول إلى واعظ و لا تنسى أن بقاؤك شيطان أحب إلي من تحولك إلى ملاك.
هذا شيء أتيقنه أيها الإنسي، و لكن هل تعلم أو تعرف، أن مصير الكوكب الذي يبحر فيكم في هذا الفلك أصبح للمرة الأولى متعلق بقراراتكم، طبعا انسي تهتم بالجنس الآخر و اللحم ما هو محرم منه و ما هو ليس كذلك، أما مصير عالمكم الذي حضن أسلافكم و يفترض أن يعيش عليه أحفادكم فثانوي بالنسبة إليك.
على أية حال مهم أن تعرف أنه لا يمكنك أن تعلم الله، بل يجب عليك أن تعرفه، لأن الحالة الأولى تعني أنك يمكن أن تجهله لاحقا، لذلك لا بد لك من أن تعرفه، كما أنه لا يمكنك أن تعرف أن هذا الطعام أو هذا النكاح محرم، فهذا شيء يجب أن تعلمه، و تذكر أن الكلمات بذاتها لا قيمة لها فيمكنك تبديلها بحيث تعني الأولى معنى الثانية و العكس.
أنت حقا ملاك
قال و الحنق باد عليه: لقد فسد كل شيء و ضاع عنائي الليلة، فأنتم الإنس تطربون لمقولات الملائكة، ولكنكم لا تنفذون إلا وصايا الشياطين، دون أن يفتح الباب انساب، اخترق باب غرفتي المغلق وباب الدار الخارجي الموصد وتمكنت حتى من رؤيته يخترق جدران غرفة نوم جارتي قبل أن يعجز نظري عن متابعته.

عندما فتحت عيني كان الضوء، ضوء شمس نهار ربيعي، يملأ المكان، والأرض والسماء وكذلك روحي، لقد طلع فجري على ما يبدو وانتهى، قضيت ساعات ليلتي خائفا أرتعد متحسبا من لحظة طلوعه،والآن قد طلع ،و لكنني لا أزال أحس أنني في مكان ما، ربما أنا الآن في كل أين، وعندما واجهت بابا من نور قاتم ترددت في فتحه؛ قبل أن أعلم أنه مفتوح ولا يمكن عبوره، وبجانبه آخر مغلق لا يمنع العبور.

#محمد_شرينة (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات