أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد شرينة - تأملات في الماركسية















المزيد.....



تأملات في الماركسية


محمد شرينة

الحوار المتمدن-العدد: 2447 - 2008 / 10 / 27 - 07:30
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


المثالية و الواقعية
فيما يتعلق بالجماعات والأمم واعتناقها للأيديولوجيات والأفكار بما فيها الأديان فالبرهان اللازم والكافي ليس صياغات كلامية ولا أفكار بل النتيجة الايجابية التي تقود هذه الأفكار إليها عند تطبيقها .
إن القول إن المشكلة ليست في الفكرة وإنما في تطبيقها ليس له معنى فالفكرة الصالحة في وضع ما ، يجب أن تكون صالحة للتطبيق في هذا الوضع بل أن تتحول إلى تطبيق واقعي يقود إلى نتيجة ايجابية . والقول أن فكرة ما صالحة لكل وضع يستدعي بداهة أن تقود هذه الفكرة إلى نتائج ايجابية في كل هذه الأوضاع .هناك عدد قليل من الأفكار البسيطة تحقق ذلك كالحب والرحمة والقوة ولا أعرف أي من مجموعات الأفكار( الأيديولوجيات) تحقق هذا ، بل هذا مستحيل لأن القواعد البسيطة يمكن أن تظل صحيحة دائما وليست كذلك الأنظمة (الأيديولوجيات) المعقدة.
انه لا أهمية لأي فكرة ولا لطريقة تطبيقها إنما الأهمية هي للنتيجة الايجابية التي تولدها وعندما يقال إن هذه الفكرة جيدة كالشيوعية مثلا أو الإسلام وإنما الناس لا تطبقها بشكل مناسب ، فهذا يعني أنها غير مناسبة في ظروف التطبيق المواكبة ، ففي مجال معالجة مشكلة واسعة الانتشار كالسمنة (ازدياد الوزن) فالفكرة أن الامتناع عن الطعام هو الحل فكرة سليمة ، ولكن أكثر الناس يعجزون عن ذلك فهي غير جيدة مع التسليم بصحتها ، بمعنى أنها لا تأتي بجديد و عندما يأتي خبير تغذية و يدعي أنه حقق فتحا في مجال التغلب على مشكلة السمنة ، فان ما نتوقعه هو أنه خلق طريق تحقق الغاية و سهلة التطبيق ، و بتعبير أكثر وضوحا إن الأفكار التي تتناقض مع غرائز البشر و إن كانت تقود نظريا إلى نجاحات ، فهي لا تفعل ذلك عمليا ، و المثال الأفضل في هذا المجال هو محاولة الفكر الهندي حل مشاكل البشرية عن طريق التبتل ، مما يتناقض مع غريزة الجنس عند الإنسان و بعد آلاف السنين لم تُحل أي مشكلة .
هذا بالضبط ما أعتبره نقطة الضعف الأكبر في الماركسية اللينينية (كنظرية سياسية) ، لأننا إذا نظرنا إلى الماركسية كفكر فلسفي فهذه ليست مطلقا نقاط ضعف ، بل قد تكون نقاط قوة كبيرة . الواقع أن هذه مشكلة الأيديولوجية فالأفكار الفلسفية يستحيل تحويلها إلى تطبيق عملي على أرض الواقع ، و بالتالي واقعيا تنجح النظريات الفضفاضة و التي غالبا لا تملك نظرة محددة و واضحة للقضايا الأساسية في حياة البشر بل تكتفي بخطوط عريضة ، و حتى هذه الخطوط مترهلة لدرجة تبدو غير واضحة المعالم مما يجعلها قابلة للقولبة حسب الحاجة. بالتالي فالماركسية السياسية كما طرحت و طبقت تتعارض مع اثنتين من أهم الغرائز البشرية :
الأولى غريزة التملك : إن حب التملك لدى البشر ينطلق من حب التميز ، من الأنا ، إنها إطلاقا ليست غريزة ثانوية برجوازية بل هي أكثر الغرائز البشرية أصالة و هي موجودة بقوة لدى الطفل و الحيوان ، و القول أن التمدن هو مخالف للحالة الطفولية و الحيوانية ، قول مضلل ، إن التمدن هو التحكم و تنظيم هذه الغرائز و لكن بالحد الأدنى الضروري حيث إن إبداع البشر هو الناتج المباشر لغرائزهم الطليقة و نحن هنا أمام مشكلة مماثلة تماما لمشكلة البيئة : حيث إن زيادة الإنتاج لها حتما منتجات ثانوية تضر بالبيئة و خفض الإنتاج مناقض لأهداف البشر ، و الحل دائما هو الكبح في الحد الأدنى الضروري لأن هذا يقابله خسارة حتمية و لكن في الحد الأدنى الضروري ، و مهما وجد مجتمعان متصلان ( كل العالم اليوم متصل بينما منذ 1000 سنة لم تكن مجتمعات أوربا متصلة بالصين و منذ 5000 سنة كانت مجتمعات الشرق الأوسط غير متصلة بأوربا ) فهما في حالة تنافس و المجتمع الذي يفرض القيود في الحد الأدنى هو الذي يكسب التنافس ، انه لا بد من فرض القيود فبدونها يتفكك المجتمع و هذه هي حالة المجتمعات البدوية قبل التحضر( البدوية هنا هي حالة عامة يقصد بها نمو الروح الفردية و انعدام شبه كامل للروح الجماعية و بالتالي فالمجتمع الأميركي الأول هو مجتمع بدوي بهذا المعنى) . و ما أن تبدأ هذه المجتمعات في التحضر و في اللحظة التي تصل القيود التي تتقبلها هذه المجتمعات إلى الحد الكافي لتجمعها (تشكلها كمجتمعات ) فان هذه المجتمعات تشع بطريق مذهلة ، و بما أن عملية التقييد لأسباب كثيرة تستمر ذاتيا فان إشعاع هذه المجتمعات يبدأ بالتناقص، بقدر ما تستطيع هذه المجتمعات المحافظة على فطريتها و على القيود في حدها الأدنى بقدر ما تطول فترة إشعاعها .
الإنسان أبدا لا يُعطي من دون مقابل ، من يُعطي من دون مقابل ليس بشرا ،لأنه مهما امتلك فان حاجات غيره من البشر تظل أكثر من هذا الذي يملكه و بالتالي هو سيعطي كل شيء يملكه و يفقد أي ميزة له ، طبعا الحصول على مقابل معنوي لا يعني أبدا أننا نعطي من دون مقابل و حتى الحصول على وعد بالجزاء في الدنيا أو الآخرة هو مقابل ، و حتى الراحة النفسية التي نحصل عليها . أن أحدا لا يُعطي إلا و هو يتوقع أن يحصل على أكثر مما يُعطي ، و المشكلة الفعلية في الفكر المثالي و أفضل مثال له المسيحية و الشيوعية فالإسلام كما وُلد فكر عملي فرداني و لكن سرعان ما ذاب في الفكر المسيحي للبلاد المفتوحة ، إن مشكلة هذه الأفكار أنها تنطلق من فكر نظري مثالي لا يمكن تطبيقه واقعيا ، بالطبع يمكن تحقيق الأفكار المثالية جزئيا في حالة النشوة الفردية أو الجماعية ، إن غريزة الحياة أهم الغرائز البشرية و في حالة النشوة يتخلى الإنسان عنها، و لكن لا يمكن المراهنة على هذه الحالة دائما، أقصد حالة النشوة ، فهي استثنائية و عارضة ، فالأمم المحاربة هي أمم تعرف كيف تضحي بحياتها و لو كانت تخسر أرواحها دون مقابل لانقرضت و هذا فرض خاطئ تماما ، أعني افتراض أن هناك شعوب لا تأبه بالحياة ، نعم هناك شعوب في مراحل من تاريخها تتحلى بإقدام باهر ، و لكنها تفقد من الأرواح أقل بكثير من خصومها ، لنأخذ مثل العرب و المغول و الأتراك و النورمنديون ، كل هذه الشعوب في مراحل توسعها الحربي تجنبت إلى أبعد حد ممكن المعارك المكلفة بشريا و هذا السبب الرئيسي الذي جعل العرب يتوسعون شرقا و غربا إلى آخر العالم و يتركون هدفهم المباشر الذي هو القسطنطينية دون أن يسيطروا عليه ، الشعوب في مرحلة البداوة ، مرحلة تشكلها الأولى تتمتع بإقدام هائل و لكنها تتمتع بقدر أكبر بكثير من الذكاء الفطري الوهاج .
الشيء الوحيد الذي يدفع الإنسان للعمل و الجد و الكدح هو رغبته في امتلاك الأشياء ، بشكل أدق رغبته في التميز ، فإذا فقد هذه الرغبة لم يعمل و لم يكدح و هذا هو السبب المباشر في تدني الإنتاجية في النظم الاشتراكية ، إن من يفقد رغبته في التميز في تحقيق ذاته ، و أنا أسميها الرغبة البشرية في التأله ( في أن يصبح الإنسان إلاها) و اعتبرها الغريزة الأهم في البشر ، إن من يفقد هذه الرغبة لا يعود بشرا ، لماذا لا تزال الحيوانات ترتع لاهية و صنع البشر ما صنعوا ؟ المساواة ما المساواة إنها تماما كالخلود أجمل شيء و أكثره استحالة ، فلو كان الناس يخلدون في هذا العالم لصار أدهى من الجحيم ، من الذي يقبل في أعمق أعماقه أن يكون تماما كغيره و إذا قبل بذلك فأي دافع يبقى لديه؟
هل علمت أن مشكلة الأفكار المثالية أنها تسعى دائما للخلط أو التوحيد بين الجمال و المنفعة أو بين الجمال و الحق ؟ إن هذه هي معضلة البشرية جمعاء و لكن الأفكار العملية و حتى لو لم تقول ذلك ، فهي تعلم أن هذا هدفا مستحيلا و بالتالي فهي تسعى إلى حلول جزئية تتقبل فيها البعد المستمر عن الكمال ،و تستبدله بالقرب البطيء نحوه الذي لا يسعى أبدا لبلوغه .
المشكلة البنيوية الثانية في الماركسية تنطلق من الأولى ، إلا وهي محاولة تبني الإلحاد(و أذكر أن الكلام هو حول الماركسية كنظرية سياسية و ليس كفكر فلسفي ) ، إن الإلحاد يناقض هو الآخر غريزة التأله لدى البشر ،و هذه كما أسلفت غريزة أصيلة تماما لدى البشر ، تفكير الإنسان بالله المطلق القدرة ، له أهداف كثيرة معروفة ؛ و لكن أكثرها أهمية هو حاجة الإنسان الذي ينزع للمطلق ، للحب المطلق ، للأخذ المطلق ، للعطاء المطلق ، للتملك المطلق ، للقوة المطلقة ، حاجته إلى مثال يقلده و يسعى ليصبح مثله .
العالم غير مصمم للبشر ليكونوا سعداء فيه و هذا ما تفترضه الأفكار المثالية من أفلاطونية و مسيحية و ماركسية و حتى الإسلام بعد انقضاء عصره الأول ، و لكن الإنسان يحاول جهده لجعل هذا العالم أفضل ، و المشكلة الأساسية في ذلك: أن العالم غير قابل للتغيير إلا جزئيا و شكليا، بمعنى أنك عندما تتقدم على مسار تتأخر على مسار آخر حتما ، عندما تصنع الخير فأنت تصنع الشر بنفس الوقت ، تحسين حياة الناس أدى إلى تلوث البيئة ، الرعاية الصحية و التقدم الطبي أدى إلى نشوء طبقة واسعة من المسنين تثقل كاهل المجتمعات الأكثر تقدما ، كما أدى إلى خلق معاناة لم يكن يعرفها الناس ، أقصد الأشخاص الذين ينتظرون نهايتهم المعروفة لهم ، الخير و الشر وجهان لعملة واحدة و هذا ما مكن المجتمعات الفردانية من تغيير العالم فهي تركز على ناحية واحدة و تهمل الباقي ، ذلك أن التقدم على جميع المسارات في نفس الوقت مستحيل ، فبطاقة محددة نمتلكها نستطيع تحريك جسم كبير بسرعة صغيرة أو جسم صغير بسرعة كبيرة ، و نحن دائما نملك طاقة محدودة ، النظم الفكرية المثالية التي تريد كل شيء تقريبا في الحد الأمثل ، تحتاج إلى قدر لا نهائي من الطاقة لتطبيقها و هذا ما لا يمكن الحصول عليه ، عندما يوجه نقد عميق و لاذع للإسلام أو للبراغماتية الأميركية فان كلا النقدين صحيح و مردهما إلى هذه النقطة بالذات.
كلما كانت الجزيئة أصغر كلما كانت حركتها أيسر ، لذلك أنجح ما يكون الفرد عندما يكون فرداني ، و قوة أنظمة كالإسلام في عصره الأول و الليبرالية و خاصة الطريقة الأميركية هي أنها عرفت كيف تنظم هذه الجزيئات بالقدر الأقل من إعاقة حركتها ، و بالتالي كما أسلفت من السهل ملاحظة أن الأمم القبلية الفردانية إلى حد الهمجية تنجز معجزات في الطور الأول لتنظيمها قبل أن يستنفذ التنظيم الزائد طاقة الفرد ، و ما أن تستنفذ الروح الفردية و تطغى الجمعية حتى يبدأ المجتمع بالتدهور ، قد يبدو الطرح لا إنسانيا و لكن هذه خطيئة لطالما ارتُكبت ، إنسانية و دماثة فكرة ما مهمة للغاية و لكن ليس للحد الذي يجعل الفكرة عديمة النفع ، الموت كريه دون شك و لكن الأفكار التي تحاول التحايل المثالي عليه بوعد الناس بحيوات ، أفكار فاشلة في تقديري ، حيث يستنفذ الاستثمار القادم الاستثمار الحالي ، و هذا موضوع آخر . الفكر الشجاع يتعامل مع هذه الحياة على أنها منتهية يوما .
لا يوجد ايجابي في هذا العالم و سلبي ، المصاعب تولد لدى كثير من الناس شعورا إيجابيا ، خاصة النوع المغامر من الناس الذي يطلب المجد ، و الرفاهية كثيرا ما تولد شعورا بالضجر ، المشكلة في النهاية أن الإنسان لا يريد شيئا ، فهو لا يعرف ماذا يريد . و هو يريد كل شيء مما يجعل إشباع رغبته مستحيلا ، كما أن إشباع رغبته مدمر ، فلا يمكن استمرار عجلة الحياة بدون تحدي جديد .
الناس بشكل عام و حسب ميولهم يمكن أن ينتموا إلى أحد مجموعتين : الأولى هدفها الأعلى هو السعادة و أفكار كالمسيحية و الماركسية تناسب هذه المجموعة التي تشكل غالبية البشر و لكنها الأقل رغبة و قدرة على التغيير بينهم ، و المشكلة أن هذه الأفكار تتناقض مع روح المجموعة الثانية من البشر ، المجموعة المغامرة و الأكثر رغبة و قدرة على التغيير و التي القيمة العليا لدى أفرادها هي المجد ، و لهذا في مرحلة التوازن التي توافق المرحلة الأولى لتشكل الأمم ، تكون انجازات الأمم مدهشة .
كيف يعتنق الناس فكرة ما ؟
الأفكار تعمل عمل المشعل أو المبدئ وهي لاشك شديدة الأهمية ولا يمكن البدء إلا منها والأفكار الأكثر أهمية هنا ليست مبادئ فلسفية أو علمية وإنما الأفكار ذات القدرة الأكبر في التأثير على الناس ، وهي الأفكار التي تحرك الشعور، عند قراءة القرآن فان كثير من الناس بل معظمهم لا يفهمون بشكل جيد ما يقرؤون ولكنهم يتأثرون بشدة لأن له سلطان قوي على الشعور لذلك تظل كتابات مثل كتابات سوفوكليس وشكسبير مؤثرة وخالدة .
معظم الأيديولوجيات تتوجه إلى الشعور وتخاطب نفوس الناس ووجدانهم فتأثر بهم بشدة تجعلهم في مرحلة نشوة وفي مرحلة النشوة يكون الإنسان قابل للتغير بشكل شديد كالشَبِق يصنع ما لا يمكن أن يصنع في معتاد أوقاته. هذه النشوة تقود إلى أفعال في اتجاه تطبيق المبادئ التي سببت هذه النشوة وهنا تكمن الفترة الحرجة في نجاح أو فشل أي فكر.
فالجماهير العريضة تندفع باتجاه فكرة ما بعد أن تكون هذه الفكرة قد تمكنت من تعبئة مشاعر جزء كبير من الناس، فلا يوجد فكرة تعبئ كل الناس بل ولا معظمهم، وعندما يستطيع الجمهور المتشيع للفكرة تحقيق نجاحات محسوسة يبدأ المتردون بالانضمام إلى الركب شيئا فشيئا وإذا استمر النجاح بقوة، يبدأ حتى المناوءون اللحاق بالركب وهذا ما حصل أثناء انتشار الإسلام تماما(إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا).
وفي حال تعثر النجاح في هذه الفترة الحرجة، تحدث حركة عكسية إذ يبدأ الناس بالانفضاض وهذا ما حدث أثناء انتشار الشيوعية.
هذه الفترة في الواقع شديدة الحرج وقصيرة تماما لا اعتقد إنها تمتد لأكثر من عشرة إلى خمس وعشرون سنة والأمر ليس بهذه الدقة، فنجاحات صغيرة متتالية قد تطيل هذه الفترة وإخفاقات صغيرة تقصرها.
ولكن حتى مع النجاحات الصغيرة فان الفكرة الأيديولوجية الثورية تماما والجديدة كالإسلام أو الشيوعية لديها فترة محدودة جدا أما أن تنجح تماما أو أن تفشل تماما وليس هناك حلول وسط أبدا.
ما اعنيه بان تفشل فكرة تماما ليس إن لا تصبح موجودة ولكن إن تفقد فرصتها لتغيير العالم أو جزء كبير منه فكثير من الأفكار بل يمكن القول جميع الأفكار ولو فشلت تظل موجودة ومؤثرة بشكل جزئي، ولكن إذا فهمنا تماما غاية الأفكار الأيديولوجية الكبيرة والثورية فإننا نفهم أن هذا البقاء الجزئي والتأثير الضيق هو فشل كامل بالنسبة إلى غاياتها وأهدافها.
عندما تنجح أيديولوجيات تماما وتستقر لمدة طويلة تصبح مسيطرة تماما وتتحول إلى طريقة حياة للإنسان العادي ومهما حصل بعد ذلك فان هذه الأفكار لا يمكن أن تدفع إلى الوراء ولا أن تختفي مهما بلغت الخسائر أو الإخفاقات. إن دحر وإلغاء أيديولوجيات بعد أن اجتازت الفترة الحرجة بنجاح واستقرت لفترة من الزمن يحتاج إلى ما لا يمكن وصفه من الخسائر وهو تقريبا غير ممكن.
إن تصرف الجماهير وفق هذه الطريقة هو ولا شك دليل على الذكاء الجمعي الفطري للناس فلا مصلحة للناس بالقفز من فكر وطريقة حياة إلى فكر آخر وطريقة حياة أخرى كل فينة من الزمن وهم فعلا بحاجة إلى أن يلمسوا نتيجة ايجابية للطريقة الجديدة بشكل متيقن قبل إن يتحولوا إليها.
إن ما أريد أن اخلص إليه أن الأمر الأكثر أهمية لفكر ما هو قدرته على إحداث تغيرات ايجابية يحبها الناس في فترة قصيرة وهذا بدون ريب يحتاج إلى ظروف موضوعية خارجة عن الفكر ذاته ، لذلك فان مرونة أي فكر وإدراكه الدقيق والعميق للظروف المحيطة به وللظروف التي يريد الوصول إليها وطرق هذا الوصول(وهذا يحتاج إلى مرونة) هو مفتاح النجاح وهذا ما توفر تماما في فكر محمد ومن معه في صدر الإسلام.
إن قوة الإقناع في فكر ما وعمقه الفلسفي وصحته العلمية وغير ذلك من المقاييس المنطقية هي أمور ثانوية تماما ، فمن احبك يقتنع برأيك ولو خاطئا ومن كرهك يرفض رأيك المصيب ولا يوجد طريقة للحصول على حب الناس مثل إعطائهم ما يريدون بمعنى أن تدلهم على طريق يحقق لهم النجاح.
إن الغنائم المرافقة للجهاد صدر الإسلام كانت وقودا لا ينطفئ، لا يفتأ يدفع الناس للحرب والهجرة ، طبعا إضافة إلى الشعور الديني الطاغي، فأنا لا أريد هنا أن أتفه الشعور الوجداني بل تماما أريد أن أقول أن النجاح طائر يحتاج إلى جناحين :
الشعور الوجداني والنجاح المادي والثاني أهم لأن الشعور الوجداني يؤثر في بعض الناس والنجاح المادي يؤثر فيهم كلهم.
وبالتالي فان من المسلم به أن الطريق إلى إقناع الناس هو من خلال قلوبهم لا من خلال عقولهم فهو لا يمر بطرق فلسفية وكلامية طالت أو قصرت.
إن أي فكر يفشل في دفع حياة الناس نحو الأفضل في فترة محدودة يفشل حتما وأي فكر ينجح في ذلك ينجح حتما.
من المهم هنا تعريف ما هو الأفضل ، فالأفضل هو أفضل ما يمكن للإنسان التطلع إليه ، و بالتالي فان القول أن الشيوعية كان يمكن أن تنجح لولا المجتمعات الغربية ، هو قول معقول لأنها ربما كانت قدمت أفضل المتوفر . و أعود هنا إلى فكرة التنافس فقد شكل الإسلام في حينه النظام الأكفأ تنافسيا ، بينما لم تفعل الشيوعية .

و كخلاصة مبسطة يمكن لفكر مثالي كالمسيحية أن ينتشر في عالم مل الحروب و الاضطرابات ، مل التغيير السريع و يريد أن يركن إلى بعض السلام ، و لكن لا يمكن نشر أفكار مثالية في مجتمعات مرت عليها فترات سبات طويلة ، هذه المجتمعات بحاجة إلى شيء آخر ، لم تكن المسيحية تغييرا بل تكريسا للفكر الأفلاطوني الذي كان موجودا و متغلغلا في العالم الروماني منذ فترة طويلة قبل المسيحية ، التغيير يحتاج دائما إلى فكر فرداني ، و هذا ما تفتقده الماركسية .
إن العمل المخلص الجاد لليسار العالمي المعاصر لا يجب أن يكون الاستمرار في محاولة بعث الماركسية بالشكل الذي عرفناها به ، و لما كانت الماركسية دون أدنى ريب تحوي مجموعة من أفضل الأفكار التي عرفتها البشرية بشكل أكثر تطورا من أي فكر سبقها ، فإن المهمة الأكثر إلحاحا أمام الفكر اليساري العالمي المعاصر هي : إبداع فكر يساري تقدمي عملي و واقعي ، لا يتنكر للفردانية و لغرائز الأساسية للبشر ، مستلهما كل الأفكار التقدمية السابقة بما فيها الماركسية اللينينية ، و على هذا الفكر أن يتجنب محاولة تغيير أنماط حياة الناس بشكل متطرف و سريع ، لأن هذا بتقديري قد يكون أهم أسباب تعثر التجربة الشيوعية ، نحن يمكن أن نفكر بمجتمع لا تسوده الملكية الفردية التي نعرفها الآن و لكن ليس الآن و لا في العقود الخمسة و لا العشرة القادمة ، إن طرق حياة الناس تحتاج في تغييرها إلى وقت طويل .
ما أكثر الأفكار وطرق النجاح للشجعان فان الحر الجسور هو أب التغيير وأمه يهدم ثم يبني مرارا حتى يبلغ همة نفسه العالية والرعديد لا يزال يرقع بناءه البالي حتى ينهار عليه ويدفن تحته، ولذلك ففي كل الحالات التي ترد في ذهني تنجح الأمم الفتية التي تشكلت حديثا وتفشل الأمم العريقة لتمسكها بأفكار سابقة وجاهزة فقدت مرونتها ولم يعد بالإمكان دفعها إلى النجاح بينما تكون أفكار الأمم الفتية فتية ومرنة مما يمكنها اجتياز الفترة الحرجة بنجاح هذا طبعا إضافة إلى أن نسبة طلاب المجد تكون في أوجها في تلك المرحلة . يكون الإنسان الوحش لم يترك مكانه للإنسان الشاة .
ببساطة الأمم التي تخطر ببالي والتي نجحت نجاحا باهرا استمر طويلا خلال التاريخ المعروف للثلاثة آلاف سنة الماضية هي: الاغربق، الرومان، العرب، الأتراك، الأسبان، الإنكليز والأميركيون. وكلها حققت نجاحها وهي فتية بل لقد رافق نجاح هذه الأمم تشكلها كأمم .الناس في مرحلة البداوة يملكون فطرة صافية وفي هذه المرحلة أنجزت الأمم أفضل أشعارها وأفكارها وانتصاراتها.
قد يبدو أن الأسبان أمة قديمة ولكن الوجود العربي في أسبانيا ثم خروج العرب منها جعل الأسبان الذين سيطروا في القرنين الخامس والسادس عشر أمة جديدة بمعنى الكلمة. إن الشعوب أحيانا تعجز عن تجديد فكرها وإعادة الانطلاق من جديد في أوطانها ولقد لعبت الهجرة دورا رائدا في تجدد الأمم .
لا تبحث عن الفكر بل عن النظام ، لا يوجد فكر كامل بل يوجد نظام حي قادر على تطوير الأفكار.

ما ذا لو انتصرت النازية و هذا وارد ، فلولا وجود الولايات المتحدة فان روسيا التي سيطر الألمان على جزء واسع منها كانت ستكون محاصرة بينهم و بين اليابانيين الذين حققوا منفردين نصرا على روسيا عام 1905 ، و بانهيار روسيا فان بريطانيا كانت ستلاقي على الأغلب نفس المصير ، و لكن بفرض أن النازية هُزمت و بفرض أن الولايات المتحدة لم تكن موجودة ، و هو فرض يكاد يكون مستحيلا واقعيا ، و لكن دعنا نتصور أنه حصل فانه من المعقول إن يسيطر الاتحاد السوفييتي على أوربا و العالم في هذه الحالة ، و بالتالي تدخل أوربا حالة مسيحية جديدة .
للأسف أجدني مضطرا للتسليم بان الحياة القاسية التي فيها كثيرا من العدل؛ ليس بسبب القوانين بل بسبب الروح الحرة للناس ( القوانين لا تحمي البشر بل هم الذين يحمونها و لطالما تعجبت من محاولة سن القوانين في مجتمعاتنا ، ألا نعلم أنه لا قيمة لقانون لا يوجد بشر أحرار لحمايته ؟ القانون هو كعهد الزواج لا يفعل شيئا إذا لم يصنه المتعاقدين بكل قواهم) ، لأن من يسود هذه المجتمعات هم طلاب مجد ؛ و هم ميالون للقسوة و العدل ، هي الحياة المناسبة لنهوض الأمم ، و هنا تكون الأفكار الكلية مرفوضة ، بينما المجتمعات المتحضرة التي يمكن التأثير أيديولوجيا عليها هي في الأصل مجتمعات مستهلكة ، يمكن بكثير من الدقة إن لم يكن بتطابق تشبيه الحالة بحالة مسار القذيفة في جو الأرض ، لا يمكنها إلا إن تكون صاعدة أو هابطة فلا مجال للسكون ، ففي اللحظة التي ينعدم التسارع تصبح السرعة صفر للحظة ، ثم ينعكس شعاع السرعة و يبدأ التسارع بالتزايد في الاتجاه المعاكس ، و يبدأ الجسم بالسقوط ، لا بد من قوة دفع هي التوتر و المعاناة و بدونها يتوقف المجتمع عن التقدم .
أضف إلى ما سبق أن الأفكار المثالية غالبا ما تقود إلى تطبيق قمعي بشكل آلي ، فمن السهل تفسير ظاهرة مدمرة تسود النظم الأيديولوجية (الشمولية) ألا و هي ظاهرة إسناد المهام المركزية في الحزب أو التنظيم أو الدولة للأشخاص حسب ولائهم للأيديولوجية أو الزعيم و ليس حسب كفاءتهم ، ذلك أنه في مثل هذه المجموعات يُنظر إلى من لا يعتنق الفكر الموحد على أنه شبه متخلف عقليا ، بدلالة أنه يعجز عن رؤية و فهم أدلة يعتبرها الأيديولوجيون أوضح من ضوء الشمس ، و لا يُنظر إليه على أنه مخالف في الرأي فهذا شيء غير موجود بمفاهيمهم ، و بالتالي فمهما كانت كفاءة من يعجز عن فهم ما يعتبرونه بديهيات أعني أسس أيديولوجيتهم ، فليست إلا كفاءة متوهمة و مزعومة [ في مجال الفيزياء كيف يمكنك أن تعتبر من يعجز عن التسليم بأساسيات الفيزياء البديهية فيزيائيا ، و إذا كنا في مجال إحداث مناصب لكلية لتدريس الفيزياء فمن المفهوم أن يحتل مثل هذا الشخص وظيفة ثانوية ، و لكن كيف يمكنه احتلال وظيفة مركزية ، علما أن الهدف الأساسي لكلية علوم فيزيائية هو تعليم الفيزياء( و هو نفسه هدف أي نظرية شمولية ، تعليم الناس و هدايتهم إلى رحابها ) ، من المهم التنبه إلى أن الفيزياء تقدمت في المرحلة التي أصبحت تتقبل أنه حتى أعمق أسس الفيزياء قابلة للنقد و التغيير ] ، وعلي أن اعترف أن هذا صحيح للغاية حسب طريقة تفكيرهم .

كيف عرفنا أن الماركسية صحيحة أو أنها على الأقل أفضل فكر متوفر ؟
المثاليين المؤمنين يقررون ذلك بناء على اتصال مع الله ؟ بينما الليبراليون يعتمدون على آراء أكثرية الناس و مع ذلك هم يعرفون أن هذه الأكثرية لا تمنح صك صحة دائم ، لقد اعتقد كل البشر أن الأرض مركز الكون ، و كانت هذه العقيدة مؤذية إلى درجة كبيرة ، و تبين أنها خاطئة ، المثاليون الماديون كالماركسيين من أين يستمدون ثقتهم بصحة نظرياتهم؟
ببساطة من مصدر فوق بشري و لكنه غير الله ، أنهم يخترعون من جديد اله مادي للعالم و يدعون تمثيله فما الفرق بينهم و بين من يمثلون إلاها ما ورائيا؟
هذه نقطة التناقض الفلسفي الوحيدة التي أعرفها في الماركسية و هي هائلة حقا ، حيث في الوقت ذاته تصر على الجدلية و التطور ؛ تقول أنها تقدم حلا مثاليا كاملا أو شبه كامل، السبب في ذلك ببساطة أن الماركسية وُلدت تقريبا في نهاية عصر الفيزياء التقليدية النيوتنية التي تضفي على الكون طابعا حتميا بسيطا ، و اعتمدت تماما على هذه النظرة إلى الكون ،( يعزو كثير من العلماء تأخر العلوم الفيزيائية في الاتحاد السوفييتي في النصف الأول للقرن العشرين إلى رفض العلماء الروس لميكانيك الكم كونه لا يتفق مع الحتمية العلمية ، لكن الحتمية العلمية اهتزت بقوة لاحقا ، البعض يعتقد أنها سقطت، و لكن حتى لو لم يكن الأمر كذلك ، فقد تبين أن الحتمية إذا كانت موجودة فهي موجودة بشكل معقد لدرجة لا يمكن التمييز بينها وبين الفوضى) ، إن الماركسية تنتمي للعصر الذي قال فيه الفيزيائيون أن الفيزياء قد اكتملت ، و ظن الكيميائيون أنهم بحاجة لحل مسائل بسيطة معدودة حتى تكتمل الكيمياء . و على كل حال فقد غيروا آراءهم و استأنفوا نشاطهم ،ضمن منظومات جديدة كليا ، لم يتوقعوها . و هذا ما على اليساريين عمله ، منطلقين من نقطة نجاح العلوم الأخرى ، تقديس الحرية الفكرية للفرد ، و بنفس الوقت منحه أكبر مساحة ممكنة لتحقيق ذاته فلا أحد يدري من أين تأتي الفكرة الصائبة .



#محمد_شرينة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحجاب الخارق
- ها قد ظلل العالم الحائر المساء
- النوم ليلة العطلة
- لماذا يتشبث الناس بالأيديولوجية؟
- مدينتي الغافية
- الحرية و المطر
- لماذا لم تحقق العلمانية العربية الحديثة أهدافها حتى الآن
- الأديان الشمولية و تأليه الإنسان – النبي
- أيديولوجيا و حتمية


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد شرينة - تأملات في الماركسية