|
الطلسَم السابع 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2350 - 2008 / 7 / 22 - 11:02
المحور:
الادب والفن
أطلقَ المرشدُ بوقا مديداً ، مزعجاً ، أجفلَ وداعة الليل . من ذاكَ المنزل ، المطلوب ، لبّت النداءَ إمرأة ٌ ممتلئة الجثة ، مكتسيَة روب نوم خلِق . حينما أضحتْ بمحاذاة باب السيارة ، الأماميّ ، وفيما كانت تقبّل بإحتفاء اليد الممتدة إليها ، تسنى لي أن ألحظ على قسماتها أثرَ جمال ، غابر ، يمتّ لريفٍ بعيد . قال لها " زكرَوَيه " بصرامة : " يا حاجّة ، هذا أخي ! " . ثمّ أتبع ذلك بإشارةٍ من يده ، آمرة ، جعلتْ المرأة تمضي على الفور نحو مدخل منزلها ، المضاء بمصباح خافت ، ورديّ . إلتفتَ الرجلُ إليّ قائلاً بلهجة اخرى ، وديّة : " ملامحُ شخصيْن ، أليفيْن وغريبيْن في آن ، قد إجتمعا في ملامحكَ ؛ فقلتُ ، هذا أخي ! لن يكون طريقنا بالورد ، مفروشاً . فلا يتنكرنّ أحدنا لأخيه ، ولا تبتئس من يدٍ ، صديقة ، ممدودة بالرؤيا . تمسّك إذاً بالدعوة ، فإنها حبلُ الربّ " . كانت أعماقي تهزأ بمشهد حبل المشنقة ، عندما شدّ المرشدُ على يدي بقوّة . إرتخى على الأثر ، فإستطردَ القول : " لا تغفل عن الحيّة ؛ إنها مريضة .. " . غادرته دونما نأمة ، تاركاً إياه وهوَ يُسلّم للرقاد رأسه ، الأخرق ، المثقل بحلم إنتظار أبديّ . وما لبث هتافه أن طرق سمعي ، لحظة غيّبني باب المنزل : " طهرّها !! " .
*** في فجر يقظتي ، الطاريء ، المتأثر تطلّب ظمأي ، كنتُ أتساءلُ ما إذا عرفت التعسة نوماً . أتأملها في حركاتها ، المألوفة ، والتي فاقمها الإستسلام رثاثة . كأنما أدركتْ ، والحالة كذلك ، ألا أملَ لها سوى بالولوغ في مسارب النفس ، الأكثرَ عمقا وعزلة . من جهتي ، فما عدتُ لأحسّني أشتهيها كما من قبل . وما فاقمَ سأمي ، كان إتصال تدخينها وصمتها . بيْدَ أنها ، إذ تلحظ أنني أرغبُ عنها ، تؤوب للفور إلى خصلة الطبيعة الأنثوية ، الأزليّة ؛ عندئذٍ تزحف نحو الفراش ، لتطوّقني بيديها القويتين ، معتصرة ً جسدي بلهفة جسدها ونداءه المجهول ، الضارع . إذ أحسني عاجزاً ، حقا ، عن إكتناه مغامضها ، لا أملكُ إلا التسليم ـ كمحارب مهزوم ؛ متفكراً أحياناً بأولئك المحاربين ، المهتدين بعلامة المصباح الخارجيّ ، المُنار دوماً . بدوره ، كان المرشدُ لا يقلّ ضجراً ربما ، لما قررَ ذاتَ ليلةٍ ، ورديّة ، ألا يغادر حجرة المتعة نفسها ، الممتلئة بالزبائن . ولا ريبَ أنّ " فريدة " كانت فزعة وقتئذٍ من فكرة ، أنّ المعسكر المجاور قد خلا من فرسانه . صاروا يطأونها ، الواحد بإثر الاخر ، قدّام عين رجلها الوحيدة ، البرّاقة . فقدَ مرشدنا صبره ، إذ أضحتْ أرضية إنتظاره ، السماويّ ، مشتعلة برمتها ؛ فأخذ يصرخ بالحاضرين ، منتشياً بمشهد الوليمة ، الشهيّة ، اللافظة أبخرتها الأخيرة : " أحرقوها ، عن آخرها ؛ هذه القريَة ، الما عرفتْ غيرَ شيوعيين وقوميين سوريين ! " .
*** منذ يومي ، الأول ، جازَ لي الإعتقاد بأنّ مدبّرة المنزل ، المنعوتة بلقب " الحاجّة " ، هيَ المتولية شأن الفتاة ؛ وخصوصاً ، الجانب الماليّ منه . وعلى ذلك ، فما كانت لتتهاون حيالَ قرش ، واحدٍ ، قدّام زبائن البنت ، وكثيراً ما دخلت لخاطر ذلك في مشاحنات مع هذا وذاك . قالت لي مرة ، وقد صارت معتادة على حضوري ، شبه اليوميّ : " يئستُ من شدّة إلحاحي بضرورة منع أولئك العسكريين ، الأجلاف ، من إرتياد منزلنا هذا ، المُبارك بحظوة الربّ ! " . تشديدها على المفردة الأخيرة ، المهيبة ، مبعثه إيمانها ولا ريب بأنّ مسلك " فريدة " ، المستسلم ، يُفسّر تصرفات رجلها ، المبارك ، التي تسمو عن أيّ إدراكٍ بشريّ . وأردتُ معرفة ما تعتقده هذه المدبّرة ، الطريفة ، بصاحب نعمتها ، فسألتها على الأثر : " أخبريني عن رأيكِ بـ " زين " ، صراحة ً ؟ " . ضيّقتْ إذ ذاك ما بين حاجبيْها ، المزوّقيْن ، قائلة بإستغراب : ـ " لا أعرفُ أحداً بهذا الأسم " ـ " أعني " زكرويه " ، ذاكَ ؟ " ـ " ما هذه الأسماء الغريبة ، بالله عليك ؟ " ـ " ولكنه رجلُ " فريدة " .. " ـ " أانتَ تسألني عن الربّ ؟ " ـ " آه ، نعم . هذا هوَ ! " .
*** لعلعَة صليَة ناريّة ، أقضّتْ مضجعَ رقادنا . كانت صادرة ، على الأرجح ، من الحاجز العسكريّ ، القريب . مذعورة ً ، إلتصقتْ الغريبة بي ، مما بعثَ شفقتي من أنها ما فتاتْ تحسبُ حساباً لأخطار حياتها ، التعسة . ما أسرعَ أن أقبلتِ الحاجّة بأطرافٍ مترجرجة ، شبه عارية ، مطلة عبرَغلالتها ، الشفيفة ، على ليل ما عادَ يَعِدُ سوى بمفاجآتٍ خائبة . طردتها ، على كلّ حال ، إشارة ُ ربيبتها . أجفاني النعاس من بعد ، فطفقتُ أرقب فتاتي ، المُسهدة بدورها والملوّحة بلفافةٍ خالدة الجذوة ـ كجحيم سَقر . في إنطفاء مفاتن جسدها وملامحها ، وحده بريق عينيها ما فتأ مشتعلاً . لحظتُ من ثمّ أنها متكتمة على أمر ما ، تودّ الإفضاء به . فما عتمت أن قالت ، وهيَ مطرقة ساهمة : " زارتني " تهاني " ، بالأمس " . لوهلةٍ ، إعتقدتُ أنها تتكلم عن حلم . على أنها أردفت مؤكدة ً : ـ " جاءت بصحبة الفاجر . كان قد سبقَ له ودارَ بها الجبل ، زاعماً أنها حفيدة السيّدة فاطمة " ـ " أيّ هراءٍ ، هذا ؟ " ـ " لقد أسكنها في شقة ما .. هناك ، في المدينة " ـ " ولكنها طفلة ، ما تزال ؟ " ـ " كنتُ أصغر منها سناً ، حينما تزوّجني الخصي " طفقتُ واجماً ، مُستعيداً هيئة البنت الحسناء ، ذات الشعر الأحمر والجلسة الأزلية خلف ماكنة الخياطة . وهي ذي " فريدة " ، ترفع رأسها عن بسمة غلّ ، غريبةٍ على تعاستها ، لتقول بنبرة قاسية : ـ " لنرَ الآن ما يمكن أن يكونه حالُها ، أمّي ؟ " ـ " نعم ؟ " ـ " كنتُ بنظرها ، دوماً ، عارَ العائلة " ـ " ألا تشعرين بمصائبها ؟ " ـ " أنتَ تقصد ما جرى لأولادها ، وكأنما أنا لستُ منهم ؟ " ـ " في كل الأحوال ، ليسَ من ذنب لها ... " ـ " بالطبع ؛ فجميعكم أبرياءٌ ، مطهّرون ! " ، بترت كلمتي بشظية من باطنها ، المنفجر . أصابعها ، الممسكة بالسيكارة ، راحت تهتزّ تأثراً ، فتناثرت فوق اللحاف شراراتٌ جمريّة ، دقيقة ، مخلفة فيه ندوباً مدخنة . ضجراً ، قمتُ أغادر الغرفة ، وفي نيّتي تنشق الهواء المنعش ، خارجاً . النجوم فوق ، في قبة الليل العميقة الزرقة ، كانت تختبيء أحياناً خلف السحب ، السميكة ، وكأنما تتلصص على مخلوقات الله ؛ على فضائحهم وتعاساتهم . سرتُ نحو الجهة الشمالية ، المنتهية بالجبل ، والمعاكسة للجهة الخطرة ، المحتبية ذلك المعسكر ، سيء الذكر . رأيتني أتأثر خطى أبينا ، إبراهيم الخليل ، التي سبقَ و قادته إلى سهل " برزة " ، المجاور ؛ أين تعيّن عليه محاربة الملوك الخمسة ، الذين سبوا لوطاً وأهله .
*** أسعدني رؤيتها وهيَ نائمة ، بعد عودتي للحجرة الكئيبة . كانت منكبّة على وجهها ، متبعثرة خصلات شعرها الفاحم ـ كأغراس في حديقة محترقة . مذ عثوري عليها ، مؤخراً ، لم أرَها راقدة في هكذا إستغراق عميق ؛ فأشفقت عليها ، ولا غرو ، متأملاً إياها لفترة مطوّلة . راودتني غواية الشراب ، فرغبتُ بقدح . الطريق إلى المطبخ لا بدّ منه ، ما دامت الثلاجة في رعاية حاجّة ، ضالة . ما أن إنسلّت زجاجة العرَق إلى حرّيتها ، الحارّة ، حتى فجأني تهويمُ المرأة : " أنا بغاية الظمأ " . ناولتها كأس ماءٍ . كانت قد تناهضت عندئذٍ ، فأرسلَ ضوءُ المصباح ، السهاريّ ، نوراً أكثرَ وقاراً على فضة شعرها . حينما دلقتْ نصف ماء الكأس على الأرض ، الإسمنتية ، أدركتُ أنها ترغب مني أن أصبّ فيه قليلاً من العرَق . إستلقت بعد ذلك على بطنها ، متناسية ً أنّ لفراشها غطاء . فما لبثتْ هضابٌ وممراتٌ ، لحميّة ، أن أضاءت العتمة بنصاعتها . عندئذٍ قالت عينا المومسة المتقاعدة ، السوداوان المكحولتان ، أننا أهلٌ . هممتُ بالتحرّك للذهاب ، ولكنها أوسعتْ لي مكاناً قربها : " النوم ممتنعٌ عليّ الليلة ، وأنتَ مثل أخي الصغير ! " ، توسلت إليّ بنعومة . كنتُ أجدها ـ كربيبتها ، جدرة بالشفقة . تمددتُ في الجهة الاخرى من الأريكة ، فراحت هيَ تعتني بغطائي كما لو أنها مؤمنة فعلاً بخرافة أخوّتنا . خيّل إليّ أنها كانت تشرقُ ، بين حين وآخر ، بعبرتها . وما أسرع أن بدأت تسرد عليّ شيئاً من ماضي حياتها ، المتأثل نصف قرن ونيّف . من تلك الصفحات ، المبللة ، لم أحتفظ سوى ببضع عبارات ؛ من قبيل فخر صاحبتها بلقب " أم إبراهيم " ، المحترم ، الذي كانت تحظى به حتى لحظة طردها من القرية : " إلى أن حرمتُ من أولادي ورميتُ في الدرب ، مثل كلبة . والآن ، بحقّ الربّ ، أيّ إحترام تجده إمرأة ، مثلي ، في لقب " حاجّة " .. ؟ " . سذاجتها أثارت ضحكتي ، فما تكدّرتْ . وإلى الأخير ، إستعادت مرحها وإقبالها على شراب السلوان ، الناجع . تبديداً للصمت ، المستأثر من ثمّ على صحبتنا ، ساءلتها عما يُشاع عن رجل " فريدة " وأنه يملك ثروة قارونية . تحديقتها ، البلهاء ، كانت لا تدع مجالاً للشكّ بجهلها أمور كهذه . مازحتها إذ ذاكَ بقولي ، أنني سأهرب بالبنت ولن تراها من بعد ، أبداً . أجابتني بثقة ، وعلى الرغم من نبرتها القلقة : ـ " إنكَ لا تجرؤ على ذلك ؛ فهيَ إمرأة الربّ .. " .
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زمن السّراب ، للشاعر الكردي هندرين
-
الطلسَم السابع 3
-
الطلسَم السابع 2
-
دمشق ، عاصمة للمقتلة الجماعية
-
الطلسَم السابع *
-
أسمهان : أيقونة وأسطورة 2 2
-
أسمهان : أيقونة وأسطورة
-
حَواريّو الحارَة 6
-
النصّ والسينما : بداية ونهاية لصلاح أبو سيف
-
حَواريّو الحارَة 5
-
حَواريّو الحارَة 4
-
حَواريّو الحارَة 3
-
حَواريّو الحارَة 2
-
النصّ والسينما : السمّان والخريف لحسام الدين مصطفى
-
حَواريّو الحارَة *
-
مَسْرىً آخر لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 10
-
أقاليمٌ مُنجّمة 9
-
غربُ المَوت ، للشاعر الكردي دانا صوفي
-
أقاليمٌ مُنجّمة 8
المزيد.....
-
عروض لأفلام سوفيتية وروسية في بوينس آيرس
-
-مصر القديمة.. فن الخلود-.. معرض لقطع أثرية مصرية في سيبيريا
...
-
آخر ما نشره -نعم.. الموت حلو يا أولاد-.. كتاب وفنانون ينعون
...
-
مطالبات واسعة في مصر لإلغاء حفل مطربة كندية شهيرة لهذا السبب
...
-
ناشرون تحت المقاطعة: سوق الترجمة الإسرائيلي في مهب الحرب على
...
-
سيلين ديون تتحدث عن معاناتها مع مرض نادر وتعد بالعودة إلى ال
...
-
الفرقة البريطانية -كولد بلاي- توقف حفلها بأثينا بسبب ممثل إس
...
-
فرنسا تحيي التراث عبر أولمبياد يجمع بين الرياضة والفنون
-
في أول ظهور إعلامي له.. ضحية صفعة الهضبة يكشف لماذا لم يرد ب
...
-
محمد سعيد المرتجي: هذه أسباب وفرة البحوث الفرنسية عن الفن ال
...
المزيد.....
-
تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً
/ عبدالستار عبد ثابت البيضاني
-
الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم
...
/ محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
-
سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان
/ ريتا عودة
-
أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة
/ ريتا عودة
-
صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس
...
/ شاهر أحمد نصر
-
حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا
/ السيد حافظ
-
غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا
...
/ مروة محمد أبواليزيد
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
المزيد.....
|