|
أسمهان : أيقونة وأسطورة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2325 - 2008 / 6 / 27 - 10:51
المحور:
الادب والفن
1 صوتٌ شجنٌ ، فيه رنينُ ذهَبٍ ثمين . سحنة ٌ ساحرة ، مثل لمعة الماس ، تنطق فيها لحاظ من مخمل ، مخضوضر . وقامة ٌ رشيقة ، تترسّمها قسماتٌ دقيقة ، منحوتة بعناية خالق ٍ متولّه ؛ خالق ، شاءَ هذه المرة أن تكون رسالته للبشر ، الفانين ، كلماتٌ منغومة ، خالدة ، وَحْيُها شفاهٌ رقيقة ، مُحمرّة ـ كالشقائق . أيقونة الفنّ هذه ، الموشاة بإسم " أسمهان " ، ما فتأتْ مُقدّسة ً من لدن مريديها وبالرغم من مرور ما يزيد على عقود ستة من أعوام فقدان صاحبتها ، المُبكر ، إثرَ حادث مفجع . في وقت الحادث ذاكَ ، ( عام 1944 ) ، كانت أمّي ما تزال بعد طفلة ، على أعتاب عقد سنواتها الأول ؛ هذه الأمّ ، نفسها ، من دأبتْ إلى الآن على التأثر حدّ سفح الدموع ، في كلّ مرة يبث فيها التلفاز تسجيلاً لإحدى أغنيات تلك المغنية ، التي أضحتْ بالأسطورة أشبه . ولم يقتصرَ الحالُ هذا ، الموصوف ، على " الشوام " ـ الذين نسِبَتْ أيقونتنا إلى جماعتهم المصرية ، المهاجرة ـ بل أنّ ذلكَ إنسحبَ على شعوب منطقتنا ، المترامية بين بلاد الرافدين وموطن الأطلس . من هذا الأخير ، على سبيل المثال ، كتاب كبار ـ كمحمد شكري والطاهر بن جلون ـ نستقريءُ عياناً من قراءاتنا لأعمالهم ، الأدبية ، مدى شعبيّة أسمهان ، الغامرة . فما كان إتفاقا ، إذاً ، أن تنتمي لذلك الموطن أكثرُ المطربات شبهاً بأيقونتنا صورة ً وصوتاً ؛ وأعني بها عزيزة جلال ، التي خسرها أيضاً الفنّ ، مبكراً ، إنما بسبب " موضة " التحجّب والإعتزال ، المُصممَة على مواصفات الفحولة الخليجية . لا بل إنّ الشغفَ بالمطربة السورية ، الساحرة ، قد شغلَ على ما يبدو قوماً آخر من الجيران : ثمة أسطورة ، يتداولها الأكرادُ بحماسة ، تعيد جذر سلالة آل " الأطرش " ، التي تنتمي إليها أسمهان ، إلى عشيرة جبلية كبيرة ؛ هيَ " الأتروشي " ، متوزعة في إقليم كردستان ، العراقيّ . هذه الأسطورة ، على كلّ حال ، ما كانت إلا لتذكرنا بحقيقة تاريخية ، مثبتة ؛ أنّ آل " جنبلاط " ، وهم أهمّ العائلات الدرزية مقاماً ، إنما يعودون بأصلهم إلى سلالة أمراء كرد ، أيوبيين .
2 " كان قلبي عليلْ / وما لوهش خليل " هكذا تقول كلمات مطلع الدور ، الشهير ، المُختلج به الدهرُ ؛ الدور الرائع ، الذي كان حاضراً في تلك الليلة الحارّة ، الشاهدة على أول لقاء بين أم كلثوم وأسمهان . هذه الأخيرة ، كانت وقتذاك في ميعة مراهقتها ؛ فتاة فاتنة ، نضرة الملامح ، تبث المضاضة والحسرة في فؤاد كلّ صبّ يقع بهوى صورتها وصوتها ، على السواء . كوكب الشرق ، المُحتفلة ليلتئذٍ بعيد ميلادها ، كانت ولا غرو مفتتنة بضيفتها الصغيرة ، الساحرة ، تشجعها بين الفينة والاخرى على إنشاد المزيد من روائع عبقريتها . في تلك الأمسية ، بحسب شهادة الشاعر أحمد رامي ، بدَتْ أسمهان في غاية التحفظ والخجل ، حدّ أنها تواضعاً وتأدباً كانت تؤدي أغنياتها وهيَ مقتعدة عند قدمَيْ الكرسيّ الوثير ، المنذور لملكة زمنها . ما كان تزلفاً وتماحكاً شعورُ مغنيتنا ، الصغيرة السنّ ، بحضرة أم كلثوم ، الناضجة ؛ بما أنها كانت تعدّها فعلاً بمثابة المثال ، المُلهم ، فضلاً عن إعجابٍ لا يُحد بفنها وأدائها وشخصيتها . لندع جانباً تلك الأقاويل ، عن مَيْل كوكب الشرق الأنثويّ ، فمما لا ريبَ فيه أنها شملتْ أسمهان بعطفها ورعايتها ، على الأقل في باديء الأمر . تشديدنا على مبتدأ العلاقة تلك ، مبعثه ما صار الآن معروفاً عن الجفاء الذي دبّ بين المطربتين ، العظيمتين . وهوَ الجفاء ، المُستهلّ بتحيّز أسمهان للأسلوب التجديديّ في الموسيقى والغناء ، المشتدّ العود وقتئذٍ بفضل محمد عبد الوهاب ؛ خصم أم كلثوم ، التقليديّ . حتى بعد حادث رحيل فنانتنا ، الغامض ، فإنّ كوكب الشرق ، ولسببٍ لا يقلّ إبهاماً ، دأبتْ على مقتِ فريد الأطرش وكانت تكيدُ له في كلّ مناسبة سانحة ، وبقيت على ذلك المسلك ، العدائيّ ، حتى رحيلها هيَ الأخرى عن عالمنا . في ذلك العيّ من الأقاويل ، المُدبّج في حينه على صفحات الصحف ، ما كان بالغريب أن يبرزَ إسمُ كوكب الشرق بصيغة المشتبه ، فيما زعِمَ أنه تدبيرُ حادث موت أسمهان . ولكن قبل بحث معميات رحيل فنانتنا هذه ، الأبديّ ، يجدر بنا أن نعودَ لبدايات رحلتها في الحياة .
3 لكأنما قدَر الهجرة ، العَسِر ، كان مُتلبّساً مصير أسرة أسمهان . والدها ؛ الوجيه النبيل ، المنتمي لآل " الأطرش " ، المُتمتعين بالحظوة كسلالة أمراء ؛ هذا الوالد ، وجدَ نفسه يشدّ الرحال من " جبل الدروز " ، الواقع إلى الجنوب من دمشق ، كيما يلتحق بوظيفة قائمقام إحدى البلدات المركونة بدورها في جنوب الأناضول : من هذه المنطقة ، ذاتها ( كردستان التركية ، حالياً ) كان أجدادُ المخرج أحمد بدرخان ، الأمراء ، قد إرتحلوا أيضاً منفيين إلى الشام ومصر ؛ وهوَ المخرجُ الرائد ، الذي تزوجته فيما بعد أسمهان . ففي مستهل القرن الجديد ، العشرين ، المؤذن بتحوّلات كبيرة ، سيهتزّ ويتداعي رويداً العرشُ العثمانيّ ، الهمايونيّ . إبتدِهَ الأمرُ بخلع الخليفة عبد الحميد وإقرار الدستور . بيْدَ أنّ الأمير الدرزيّ ، وإثرَ خلافٍ مع الإتحاديين الطورانيين ، المغرقين بالشوفينية والتعصّب ، كان عليه شدّ الرحال مجدداً والإبحار إلى جبل لبنان ؛ أينَ موطن زوجته . هذه الأخيرة ، كانت إمرأة حسناء ، رخيمة الصوت ، تنتمي لعائلة وجهاء دروز لبنانيين ، معروفة . ها هيَ بعيدَ أعوام اخرى قليلة ، وقد أضحتْ مهجورة من لدن الزوج ، ستركب البحر ثانية ً ، متوجّهة ً هذه المرة إلى مصر . عندئذٍ عليها كان الفرار بأسرتها ، الصغيرة ، بعدما فشلتْ الثورة السورية ، التي قادها كبير آلهم ؛ سلطان باشا الأطرش . ما كان مصادفة إختيارُ موطن النيل ، الجميل . إذ وبفضل أسرة " محمد علي باشا " ، الحاكمة ، كانت مصر قد صارت زمناً وجهة ً لكلّ لاجيء ، هاربٍ بروحه ، أو حريته ، من إستبداد الأتراك وبطشهم ؛ كاتباً كان أم صحافياً أم فناناً . هنا في القاهرة ، ومنذ مبتدأ العشرينات من القرن المنصرم ، كان على أيقونة " آمال " ( الإسم الحقيقي لأسمهان ) أن تخطط خلودها بعنايةٍ ، وشياً وألواناً وتكويناً . أسرتها السوريّة ، الكريمة المحتدّ ، ستجدُ مرتعاً لها في حيّ " الفجالة " ؛ أكثر محلات المدينة بؤساً ، ليعتاد أفرادها من ثمّ على التأقلم مع الفقر والثورة عليه ، في آن . بالرحيل عن الوطن ، فقدَتْ الأمّ إذاً الغنى والوجاهة . على أنها كانت من الذكاء والنباهة ، لتدركَ الثروة ، الحقيقية ، الممنوحة لأسرتها الصغيرة : الفنّ .
4 آمال ؛ هيَ الفتاة الشقراء ، الفائقة الحسن ، المقدّر لإسمها أن يكون مَرقوماً ، أبداً ، في سجل الخالدين بنعت " أسمهان " ، منذ ذلك النهار القاهريّ ، الجميل ، الذي جمعها بالملحن داوود حسني . إنه المبدعُ الأصيل ، ذو الجذور اليهودية ، من كان في زيارة للشاب الموهوب ، فريد ، حينما تناهى لأذنه المُرهفة صوتُ أخته الساحر ، المُنطلقَ بغتة من حجرة المنزل ، الاخرى . كانت الأمّ ، راعية الأسرة الوحيدة ، قد سبق لها ورمَتْ جانباً بتقاليد الأمراء ، المُحافظة ، مُنطلقة ً في طريق الفنّ سعياً لتحسين حال عائلتها مادياً . صوتها العذب وإجادتها للعزف على العود ، جعلاها محط إعجاب الكثيرين من هواة الطرب الأصيل . وإذاً ما كان على الإبنة ، بدورها ، إلا السير على درب الإبداع نفسه تأثراً لخطى والدتها وشقيقها . من جهته ، فإنّ محمد عبد الوهاب ، الموسيقار المتأثر بشدّة بالثقافة الأوروبية ، كان أول من تنبّه إلى إمكانيات أسمهان ، الهائلة ؛ إن كان لخامة صوتها العظيم ، المُعجّز ، المنتمي لطبقتيْ " سوبرانو " و " ميتسو سوبرانو " ـ بحسب المعايير الغربية ـ أم كان لناحية ملامح وجهها ، المُفعمة بتعابير غاية في الشفافية والحزن والرقة والرفعة ، تتغيّر مع كلّ إنتقال في مساحة الصوت أو في مفردات النغم ، المؤدى . وبالرغم من قلة الألحان ، التي جمعتْ بين أسمهان وعبد الوهاب ، إلا أنه أثرَ فيها بقوّة ، وخصوصاً في تثقيفها بالموسيقى الغربية . فضلاً عن أنّ " موسيقار الجيل " هذا ، قد منحها فرصة العمر حينما أوقفها نداً أمامه في أوبريت " مجنون ليلى " ؛ رائعة الشاعر أحمد شوقي ، التي قام بتلحينها وبطولتها . لن نغمط هنا ، طبعاً ، دورَ الشقيق الأثير ، فريد ، في صقل موهبة فنانتنا ؛ هوَ الملتزم بدوره التجديدَ في اللحن والطرب ، كما نستنفضه في تعقب آثاره الفنية ، الخالدة . إنّ تبَنّي الشقيقيْن هذيْن ، الصاعدَيْن ، للحداثة في الموسيقى والغناء ، نحيله على بساطة رأينا إلى منبتهما الأصليّ ، الأول : لقد نوهنا ، فيما مضى ، إلى حقيقة هروب الفنانين السوريين ، المتواتر ، إلى أرض الكنانة ، تخلصاً من جور الحكم العثمانيّ المُستبدّ وتخلفه وظلاميته . لا غروَ ، والحالة هكذا ، أن ينجذب هؤلاء ، في موطنهم الجديد ، إلى كلّ تجديدٍ في الإبداع ، وأن يشيحوا بوجوههم للمحافظة والجمود والتزمّت : كذلك كان الحالُ بالنسبة لهذه الأسرة من شوام مصر ، على الأقل ، والتي قدّمتْ إثنيْن من أهمّ عباقرة الفنّ في القرن العشرين ؛ أسمهان وفريد الأطرش .
للحديث صلة ..
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حَواريّو الحارَة 6
-
النصّ والسينما : بداية ونهاية لصلاح أبو سيف
-
حَواريّو الحارَة 5
-
حَواريّو الحارَة 4
-
حَواريّو الحارَة 3
-
حَواريّو الحارَة 2
-
النصّ والسينما : السمّان والخريف لحسام الدين مصطفى
-
حَواريّو الحارَة *
-
مَسْرىً آخر لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 10
-
أقاليمٌ مُنجّمة 9
-
غربُ المَوت ، للشاعر الكردي دانا صوفي
-
أقاليمٌ مُنجّمة 8
-
عزلة المبدع ، قدَر أم إختيار ؟
-
مسْرىً لمَغاورها
-
أقاليمٌ مُنجّمة 7
-
قراصنة في بحر الإنترنيت
-
أقاليمٌ مُنجّمة 6
-
النصّ والسينما : - كرنك - علي بدرخان
-
أقاليمٌ مُنجّمة 5
المزيد.....
-
بعد تعرضها للهجوم .. نجوم الفن المصري يدعمون هند صبري بأزمة
...
-
تكريما لمسيرته... الممثل الأمريكي توم كروز سيتلقى جائزة أوسك
...
-
جو بايدن يقتحم موقع تصوير مسلسل شهير أثناء مطاردة الشرطة (صو
...
-
باللغة العربية.. موسكو وسان بطرسبورغ ترحبان بالوفد البحريني
...
-
انهيار منزل الفنان نور الشريف في السيدة زينب.. وابنة تعلق! (
...
-
كيف أعاد شفيق البيطار بادية بني سعد إلى البيوت بلغة عربية فص
...
-
قتلى أو شهداء أو ضحايا؟ عن مفهوم التضحية ما بين اللغة والفلس
...
-
الرواية بين المحلية والعالمية.. علامات من الرواية الأردنية
-
خامنئي يبث رسالة باللغة العربية: لن نساوم الصهاينة أبدا ويجب
...
-
خامنئي يبث رسالة باللغة العربية: لن نساوم الصهاينة أبدا ويجب
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|