سنان أحمد حقّي
الحوار المتمدن-العدد: 2329 - 2008 / 7 / 1 - 08:33
المحور:
الادب والفن
منذُ أربعينيات القرن الماضي والشّعرُ العربيُّ في مخاضٍ متواصل ..أشكالٌ جديدةٌ تتولّد على هياكل إيقاعيّة وعروضيّةٍ لم يسبقْ لها وجود.
ففي نفسِ الوقتِ الذي تفجَّرت فيهِ أوّلُ قنبلةٍ نوويّةٍ تقريبا في التاريخ،فقد تفجّر عروضُ الخليلِ وظهرتْ قوالبُ وأنماطُ لم يسبق لها وجودٌ كما ذكرنا..والحقيقةُ هي أن الأنماطَ الجديدةَ وجدت ترحيباً واسعاً في أوساطِ الأدباء والشعراءِ الشّباب ؛لفرطِ ما كانوا يُعانونهُ من الرتابةِ والتكرارِ في الأشكالِ المالوفةِ ..رُغمَ محاولاتِ التجديدِ والتطويرِ التي لها روّادٌ لهم أهميَّتُهم وأسبقيّتهم في الريادة وفي ميدان الشّعر على وجه الخصوص.لكن تلك المحاولات انصبّت على مضمون الشّعرِ والأغراض الجديدة التي املاها العصر وبسبب جوهري مهم وهو اطّلاع الجيل الجديد على الاداب العالمية الأخرى التي تعرفوا من خلالها على عمالقة جددٍ وشعراء لا يُجارَون وبالرغم من ان الادب والشعر المترجم لم يُوفر لنا ولم يقدم ما هيّة الموسيقى الخارجية والداخلية للشعر الأجنبي ولكنه مع هذا جنح بالجيل الجديد الى محاكاة لم يتسر تجنب النثرية فيها وكأنها هي الموسيقى التي تربط كل هذا التراث العالمي المتباين فكنا نقرا شعر لوركا المترجم عن الاسبانية وربما عبر اكثر من لغة لعدة مرات ونقرا شعر ماياكوفسكي وشعر إيلوار وشعر إيليوت وناظم حكمت ونيرودا وعزراباوند بنفس السمات الشبحية أو الضبابيّة للموسيقى الخفية التي لا نكاد نميز من خلالها بين النصوص المترجمة وبدأ عدد غير قليل يحاكي تلك الموسيقى الخفيه التي تستدعي قدرا من النثرية لاستيعاب اسلوب الحكاية والاسترسال احيانا وبهدف محاكاة الموسيقار المستتر وراء النصوص المترجمة.. وعلى كل حال, فقد استطاع رواد حركة الشعر الحر وهكذا كانو يلقبون ان يجدو لهم ملامح نظرية نقدية في الادب وطرحوا مفاهيم جديدة جدا في الشكل والمضمون لاقت ضجة واسعة النطاق بين متحمس ومحتج.
ومضت حركة الشعر الحر بعيدا في ترسيخ عروض جديد حطم بحور الخليل وخرج عليها باعتماده على التفعيلة دون البحر واطلاق مدى تكرار التفعيلة الواحدة الى الذي يجده الشاعر مناسبا لمضمون قصيدته..
وراح عروض الشعر الجديد عند هذه الانطلاقات التي لم توفر للشاعر الا اختزالا للايقاعات التي قدمها الخليل فبدلا من ان الشاعر كان يستطيع ان يكتب في ستة عشر بحرا تقليديا خلا البحور الفرعية من مجزوء وسواه من فنون ينطوي عليها علم العروض فقد اقتصرت الحال في الشعر الحر على خمسة او ستة بحور فقط مما كان يتضمن تكرار التفعيلة الواحدة اساسا..
وبعد بضعة عقود من ظهور الشعر الحر يبدو ان بعض الشعراء والاجيال اللاحقة ارادت ان تستفيد من قوة الدفع التي احدثها الشعر الحر للتقدم نحو شوط ابعد.. ومرة اخرى وبسبب الاطلاع على الشعر العالمي ولاسيما الفرنسي منه بدأ جيل جديد بمحاولات اخرى في محاكاة شعر اراغون وبعض الشعراء الفرنسيين والاوربيين فيما بعد في نبذ الموسيقى الخارجية جملة وتفصيلا والاقتصار في كتابة الشعر بالاعتماد على الموسيقى الداخلية بمحاكاة قصيدة النثر وهكذا غاب العروض تماما ولم نعد نلمس اثرا لا للعروض الخليلي ولا لعروض الشعر الحر الذي يسمى بعروض التفعيلة ايضا واصبح القارئ والمتذوق ولاسيما الناقد والباحث لا يجد معايير ولا قواعد ولا اسس يتلقى بموجبها الموسيقى الداخلية للقصيدة والتي لم يعد لها اية علاقة بالايقاع والموسيقى الخارجيه ورغم مطالبة شعراء ونقاد كثيرين وبشكل مستمر لترسيخ وتوضيح نوع الايقاعات والموسيقى التي ينتمي لها كتاب الموسيقى الداخلية هذه وطرح قواعدها وضوابطها النقدية ولكن بدون جدوى..
ولسنا هنا لننكر قصيدة النثر جملة وتفصيلا ولكن لنطرح مفارقة وحجة تُدعّم موقف الذين مازالو يقفون موقفا سلبيا من هذه القصيدة رغم ان هناك كثير مما يثير الاعجاب احيانا ولكن يتحتم القول ان النصوص البارزه لهذه القصيدة كثيرا ما تأتي في كتابات شعراء التفعيلة اساسا اما الذين يجدون منذ البداية في قصيدة النثر منهجا لهم اساسيا فاننا قلما نجد لهم مقاطع نتلمس فيها روح الشعر, وكثيرا ما تسقط في النثرية الاعتيادية التي تفتقرُ الى الموسيقى والى شعرية القصيدة.
انا نجد الشكل المحكم الذي يمليه عروض الخليل او عروض التفعيلة على المضمون وقدرته الضاغطة على الوعي على الشاعر المبدع تؤدي فيما تؤدي اليه الى تنشيط اللاوعي الذي يغذي ويمد المضمون بالمادة الشعرية غير المباشرة وكلما خففنا الضغط الذي يتسبب به الوعي في الشكل الايقاعي والشروط الشكلية فان اللاوعي يسترخي لدى الشاعر ويكون المضمون اقرب منه الى الفراغ او الضحالة وهذه العلاقة معروفة في عملية الابداع متعددة الاوجه سواء في الأدب أو في الفن أو في سواها.. ولهذا فإن التحرر الشامل من قيود الشكل كالعروض والقافية بل وقواعد اللغة والبلاغة تماما لن ينشّط اللاوعي ولن يحفزّه للانبثاق من بودقة المجهول الذي ياتي منه الالهام والعكس صحيح اذ ان التقيد بقدر مناسب من قيود الشكل في البناء الفوقي للعمل الأدبي ولا سيما الشعري من شأنها أن تحفز اللاوعي والعقل الباطن للتفجر والانبثاق وان اتقان ممارسة فرض بنى فوقية متقدمة التراكيب والتشكيل لن يكون ممكنا مع الشعراء بصورةه عامة اذ ان اي غياب لتصميم شكلي محكم ومتقدم سوف يجعل المضمون تافها بل ربما غائبا وان التصميم المذكور ليس في متناول اي شاعر ولا في متناول حتى الشاعر المُجيد على الدوام ولهذا يصعب استخراج اللاوعي والالهام بشكل اكبر من الحال التي يكتب فيها الشاعر ملتزما قيود العروض أو التفعيلة او القافية.
إن اتخاذ قدر من القيود العروضية وقيود القوافي والقيم النقدية الأخرى, نجدها تساهم في تفعيل الالهام واعطاء فرصة لظهور اللاوعي كما اسلفنا ويكاد ان يكون هذا معيارا مناسبا لاننا لا نشك في ان نجد ان الشعر اوفر في القدرة على ادهاش المتلقي لقيم الابداع والالهام من باقي انواع الأدب النثري الأخرى فهو يتميز على القصة وعلى الرواية والمقالة وسواها في ادهاش المتلقي كما ذكرنا ولا يعود ذلك الا الى السبب المتقدم ذكره..
وهذا هو معيار الشاعرية المطلوب في الشعر ونرى انه يتألق في ظل وجود الأشكال والقيود ولو من قدر الى آخر حسب الموضوع وقدرة وشفافية الشاعر ويخبو قليلا في ظل التخفف من تلك الحوافز التي تعتصر اللاوعي وتستخرج منه عصارة الابداع والروح الشعرية لتبثها في مضمون القصيدة.
#سنان_أحمد_حقّي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟