أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض حسن محرم - الموتى يعلمون الأحياء














المزيد.....

الموتى يعلمون الأحياء


رياض حسن محرم

الحوار المتمدن-العدد: 2330 - 2008 / 7 / 2 - 06:01
المحور: الادب والفن
    


كان يومها الأول فى الدراسة الأكاديمية بالكلية, ترددت قليلا قبل أن تدخل القاعة الكبيرة التى كتب أعلى بابها بالعربية وحروف أخرى لم تتبينها"المشرحة التعليمية", صدمتها رائحة حادة نفاّذة بالداخل, جعلت عيناها تدمعان, لا تذكر أنها إشتمت مثل هذه الرائحة من قبل, البياض يغلب على المكان, الحوائط بيضاء, معاطف الطلبة, الأغطية, الطاولات الرخامية.
القاعة ممتلئة, الضجة شديدة, عشرات الرؤوس تتزاحم حول الطاولات الموزعة بالقاعة, حاولت تبين وجه أى من زملاء الدفعة, شعرت بالدوار من الرائحة والضجة, قررت الإنسحاب من القاعة, كادت تصطدم به على الباب, بوسامته التقليدية, ومعطفه الأبيض على كتفه, حيته فإستوقفها, إنتحى بها جانبا وبدأ يتكلم بصوت خفيض لا تكاد تسمعه, كانت ذهنها مشتتا, لم تستطع متابعته, إلتقطت كلمات عن بريخت والمسرح الجامعى والمسابقة, إعتذرت منه بصداع مفاجيء, وسارت مسرعة الى البيت.
فى اليوم التالى إستيقظت معتلة المزاج, تناولت كوبا من القهوة, وإرتدت ملابسها على عجل, فى الطريق الى الجامعة لفحتها نسائم خريفية رقيقة, أعادت لها بعض الإنتعاش, أصرّت أن تكون أقوى من الأمس, قررت بين نفسها عدم حضور المحاضرات النظرية, دلفت مسرعة الى باب المشرحة, كان الزحام أقل من الأمس, لكن نفس الرائحة تستفز خياشيمها, قاومت تلك الرائحة, تعمدت عدم التطلع حولها كثيرا, لمحته مع زميل آخر وطالبتين حول إحدى الطاولات الرخامية, إنضمت اليهم فى صمت, وفتحت كتابها فى هدوء.
بدأ أحدهم القراءة, بينما الآخر يحرك المشرط على الجثة ببطأ, شردت وهى تنظر الى الرأس بعمق, العينان الغائرتين,لون الجلد المائل الى السمرة, الشعر المجدول بعناية خلف الرأس, والأسنان التى تبدو خلف الشفتين المفتوحتين, أليست تشبه المرحومة, بالرغم من جفاف الجلد, والعينين, وعظام الوجنتين والفك البارز, سبحان الله, نعم إنها صورة مطابقة لها, كل هذا الشبه.
شعرت بجفاف فى حلقها, إنتابتها غصّة, أحست بوخزات حادة عندما إقترب المشرط من الجلد, لم تشعر الاّ بعينيها تدوران فى حدقتيهما, وروحها تنسحب منها, أمسكت بيديها بشدة فى الطاولة الرخامية الا تسقط , رويدا بدأت تستعيد توازنها.
تفقدت بعينيها المكان, دارت بهما على الإضاءة القوية بالسقف, تحركتا الى الحوائط, ثبتت عينيها على لوحة رخامية كبيرة بألوان صفراء باهتة محفورعليها بضع كلمات بالعربية واللاتينية" الموتى يعلمون الأحياء".
شردت بذهنها بعيدا, إلى أيام طفولتها الأولى, عندما كانت تفرد ذراعيها لتحتضنها فتنغرس فى كتلة هائلة من الشحم الناعم الملمس, وتفتح صندوقها السحرى ببضع قطع من "سكر البنات", تحكى لها حكايات الشاطر حسن وشمس البدور, ملقية بها فى بحر الخيال السحرى الجميل, وفجأة ها هى صورة مطابقة لها على الطاولة الرخامية الملساء.
فى الطريق راجعة لم تستطع أن تنزع عنها هذه الصورة, لقد شغلت ملامحها بؤرة التفكير, كادت سيارة مسرعة أن تدهمها لولا لطف الله, طرقت الباب خفيفا, متوقعة أن تكون من تفتح, خاب ظنها, ما إن دخلت غرفتها حتى إستلقت بملابسها على السرير, وإنتابتها نوبة عميقة من البكاء.
لم تجرؤ أن تمسك المشرط بين أصابعها وتغمده فى الجلد اليابس, كانت تعمد الى إدارة وجهها بعيدا أثناء الشرح, لم تلتقط أذناها مما يقال الاّ القليل, كانت تخفى وجهها فى وجهه, لأول مرة ترى عينيه, كم هما صافيتين, عادت لتدس عينيها فى الكتاب, أحست كم هى مشوشة.
رأتها فى الحلم, فرحة متهللة, ضمتها الى صدرها فى طيبة وحنو, كعادتها فردت خدها لتتلقى منها قبلة, سكبت قبلتها رطبة, تلقتها بإرتياح وشوق, يدها الملساء البضة تربت عليها, قبل أن يفترقا همست لها: لا تترددى فالكل فى إنتظارك.
عاد إليها الهدوء, أقبلت على دروس التشريح بحماس, أحست كأنما تساعدها, كم كانت فى حاجة الى هذا الدعم المعنوى, حتى عصام بدا أكثر ألقا, أصبحت تحب ثرثرته, لم تعد تضايقها رائحته, عادت الى المكوث بجواره كثيرا, يقضيان أغلب الوقت فى الكافيتريا, أو فى مدخل المدرج الكبيرحيث كان ينصب مجلة الحائط الخاصة به.
بينما يسيران على الكورنيش, تسللت يده لتمسك يدها, بخجل أعطته أطراف أصابعها, أحست ببرودة أصابعه, رويدا إحتوت قبضته الكبيرة يدها, غمر يدها دفء, بينما لم تنقطع ثرثرته, عالم المسرح يتملكه, مجنون به هو, عندما يبدأ الحديث عن المسرح فإنه لا يستطيع أن يتوقف.
تعودت أن تراها فى اليوم مرتين, صباحا فى المشرحة, وليلا أثناء نومها, تعايشت مع الحدثين, أصبحت تنتظرها فى الموعد, لم تكن تستطيع تحديد سبب إنتعاشها كل صباح, هل لإنها ستراها؟, أم لأنها ستراه, تعودت عليهما معا.
بينما تخطو مسرعة فى الطريق الى الكلية, ما زال الصباح نديا , بعض الهواء البارد يلفح بشرتها, فجأة إستوقفتها يد مرتعشة تمتد إليها, نظرت إليها, لم تصدق, أغمضت عينيها وفتحتها عدة مرات, هزّت رأسها غير مصدقة .
تعمّدت التوقف , ببطأ تحركت يدها لتفتح الحقيبة, أخرجت جنيها, عينها عليها لم تسقطها, ياإلهى, , إنها هى, جدتها مرّة ثالثة, ما هذا الذى يحدث, إنها هى, وجهها, عينيها , شعرها, كل شيء , كيف تفسر ذلك, لا بد أن بها مس من جنون.
تغير مزاجها, إرتبكت خطواتها, دخلت من الباب, تمنت ألاّ تجد الجثة مكانها, تطلعت من بعيد إلى الطاولة الرخامية فى الركن, ها هى ممددة فى مكانها, أسرعت بالخروج.
فى الشارع أخذت نفسا عميقا, صاعدة فى الطريق فى إتجاه الشمال, نسائم الصباح تلفح وجهها, رائحة البحر المشبعة باليود تنعش خياشيمها, سارت على الكورنيش قليلا, أصوات النوارس تملأ المكان, على طاولة رخامية جلست, يمتد بصرها إلى الزرقة اللا متناهية.



#رياض_حسن_محرم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فى الذكرى الثانية لرحيل نبيل الهلالى
- سلطة بلدى....والمعادلة الصعبة
- حين ميسرة...........والأحلام المجهضة.
- الجماعات السلفية الجهادية ...وفقه التكفير(5)
- الجماعات السلفية الجهادية ...وفقه التكفير(4)
- الجماعات السلفية الجهادية ...وفقه التكفير(3)
- الجماعات السلفية الجهادية ...وفقه التكفير(2)
- الجماعات السلفية الجهادية..وفقه التكفير(1)
- المتعة.....بين الفقه والسياسة
- الآيات الشيطانية..وقصة الغرانيق
- الملك فاروق....والدراما التاريخية
- الهبات العمالية الأخيرة........إلى أين؟؟
- إلتباس
- الماشية فى طريق الآلأم...إلى المناضلة شاهندة مقلد
- مفاتحة
- مواوييل من الريف المصرى
- وظائف ليلية
- إليها..فى زمان القهر
- لآخر
- الرجل الذي نسى اسمه


المزيد.....




- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض حسن محرم - الموتى يعلمون الأحياء