أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - أفحمتُه، أفحمناهم... النقاش كاستمرار للحرب بوسائل أخرى














المزيد.....

أفحمتُه، أفحمناهم... النقاش كاستمرار للحرب بوسائل أخرى


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 2310 - 2008 / 6 / 12 - 10:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الإفحام في نقاش مثل الضربة القاضية في لعبة الملاكمة، نهاية اللعبة بفوز أحد اللاعبين وسقوط
الآخر أو عجزه عن متابعة اللعب. في مناظرات القرون بين الثاني والرابع الهجري كانت كلمة "قطع" أوسع استخداما من أفحم. فإذا قيل إن الأشعري رد بكذا على أبي علي الجبائي فقطعه، أو فانقطع الجبائي، كان معنى ذلك أنه "أرتج عليه" فـ"لم يحر جوابا". أفحمه فأُفحِم.
فالإفحام بمثابة قطع مجازي للسان، والإرتاج بمثابة إقفال الفم كأنما وضعت عليه قفلا وأغلقته. وقد يكون أصل كلمة أفحم هو تسويد الوجه بحيث صار أسود كالفحم أو فاحما. وبسواد الوجه كان يكني العرب عن العار الشديد أو الخزي المتولد عن هزيمة أو فضيحة. ومقابلها تبييض الوجه حين يفعل المرء شيئا مشرفا، نصرا حربيا بالخصوص. ويُفترض أن السود من نسل حام بن نوح الذي، تقول الأسطورة، إنه نظر إلى عورة أبيه، فدعا هذا الله أن يسود وجهه. وكان أن ورث نسله هذه الصفة من بعده.
وإذا قلنا إن فلان رد على فلان ردا مفحما كان مقصدنا أنه أسكته، فأخزاه، فسود وجهه. والسكوت هو علامة الانهزام في النقاش، وما يتبعه من انقطاع اللسان وانقفال الفم وسواد الوجه. ما يعادل إعداما رمزيا، إعدام المناقش الخصم وأفكاره.
واضح أن النقاش الإفحامي نشاط تنافسي مثل الحرب، أو في اقل تقدير مثل الألعاب التي تنتهي بفائز وخاسر. ما يربحه أحد الطرفين يخسره الآخر، فلا مجال لأن يربحا معا أو يخسرا معا. هذا لأن الإفحام هو معيار صحة رأي أو فكرة المفحم وخطل الرأي أو خطأ الفكرة المقابلة. ما أقوله صحيح لأنه كانت لي الكلمة الأخيرة في النقاش. يشهد على ذلك سكوت خصمي أو "انقطاعه".
لكن ماذا لو اعتبرنا أن الفكرة الصحيحة هي التي تبقي النقاش مفتوحا، بل التي تفتح له آفاقا أوسع؟ في هذه الحالة يكون النقاش الجيد هو النقاش الذي لا ينتهي، أو الذي يضع بيد طرفيه أدوات متجددة للاستمرار فيه. وسيكون من صلب اللعبة الجديدة أن توسع السبل أمام شريكك ليداوم لا أن تضيقها ليكف. فأنت لا تربح إن لم يربح هو أيضا. فإن خسر فأنت خاسر معه لأنك أهدرت فرصة لمزيد من تبادل الأفكار، قد تعد بشيء جديد وغير مسبوق. مقياس صحة الفكرة هنا هو خصوبتها. فلا تكون فكرة صحيحة إن لم تكن ولودا، منتجة لأفكار جديدة. وعليه فالفكرة المفحمة خاطئة حتما، لأنها عقيمة وتخنق النقاش.
وأهم من ذلك أن النقاش المفتوح متعدد الأطراف وليس ثنائيا، وأطرافه شركاء وليسوا خصوما. وهو ما يجعله أمنع على الارتداد إلى حرب أو مباراة تنافسية، وتاليا على الانغلاق.
ومن وجه آخر، ستكون الفكرة الصحيحة هي الفكرة التي تقبل التصحيح، أي الفكرة المتوترة، غير المطابقة لذاتها والمفتوحة على المراجعة والتعديل دونما نهاية. ومن هذا الوجه، الفكرة غير القابلة للتصحيح هي الفكرة المكتملة. واكتمال الأفكار هو موتها. وربما يجد النقاش التنافسي، المفحم، أصوله في مذهب وحدانية الحقيقة، ومعادله السياسي في الحرب أو في النظم المذهبية والسياسية الواحدية. فالإفحام أو القطع في نقاش يقترن بالقطعية في التفكير وفي "قطع" المختلفين بالقوة، بما في ذلك قطع الرقاب. والنقاش التنافسي استمرار للحرب بوسائل اخرى. والفكرة الصحيحة فيه هي الفكرة التي ليس بعدها قول لقائل. لكن ما نفع فكرة ليس بعدها ما يقال؟ إن أفكارنا لا تعيش إلا بفضل أقوال الآخرين الناقدة والمعترضة، فإن أفحمتْهم وقطعت ألسنتهم، انتصرت، فاكتملت، فماتت. فكأنما ذروة حياة أفكارنا أن تعدم غيرها كي تموت هي ذاتها.
وفي النقاش التنافسي أو الحربي، الإفحامي، تعني عبارة أنا على حق أن كل الآخرين على باطل. تعني أيضا مطابقة فكري للحقيقة والعدالة والخير في آن معا، وأحقيته بأن يعمم على الجميع، وأن يطالب لنفسه بالسلطة العليا من أجل ذلك. أما من ليس على حق فهو في آن مخطئ وجائر وشرير، ويتعين القضاء عليه. ولما كانت الحقيقة واحدة فإن أصناف الأقوال المخالفة كلها تتوحد في تقابلها معها. فالكفر ملة واحدة كما كان يقول فقهاء مسلمون قدامى، ولا يزال يقول بعض الإسلاميين، ممن يطابقون أنفسهم مع الحق والحقيقة.
هذه هي النظرة التي سادت في اجتماعنا السياسي الحديث والقديم. وهي التي تصدر عنها التيارات الفكرية والسياسية المعاصرة، القومية منها والشيوعية والإسلامية، وباسمها تأمل يوما أن تحوز السلطة أيضا. ولا تسجل التيارات الديمقراطية والليبرالية والعلمانية فرقا ذا بال في هذا الشأن، لأنها قلما تهتم بتسجيل فرق اصلا. في كل الحالات يبدو منطق الإفحام والضربة القاضية مسيطرا. وبينما قد يعكس هذا المنطق حالة التنازع والصراع الكامن في مجتمعاتنا، إلا أنه يسهم أيضا في ترسيخها وإدامتها.
لذلك قد يكون مفيدا التفكير في نقاشنا، إثارة نقاش حول ممارسة النقاش في ثقافتنا، بهدف تجاوز منطق الإفحام، الحربي والعدمي. ونخمن أن ذلك ربما يقودنا إلى الخروج من تصور وحدانية الحقيقة أو ندرتها، وما يترتب عليه من صراع عنيف بغية امتلاكها ينتهي بفائزين يحصلون على كل شيء وخاسرين لا ينالون شيئا، إلى تصور وفرة الحقيقة أو تعدد الحقائق حيث يحوز الفائز أفضلية نسبية ويكون غرم الخاسر نسبيا أيضا. على أفق كهذا، وثني وكوسموبوليتي، معا ربما يتأسس التعايش والتفاهم بين المختلفين.





#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في نقد الأهل وأهل النقد
- لبنان: السهل والصعب والغريب!
- لبنان، سورية، إسرائيل وفلسطين: -نماذج مثالية- لدول استثنائية
- في شأن الإصلاح السياسي والهوية الوطنية في سورية
- -التفاصلية- والعلمانية ونقد الشأن الإسلامي
- حزب الله مقاوماً في .. بيروت
- شتاينماير ضد كانط
- جيل عربي ثالث أمام الواقعة الإسرائيلية
- خبز شعير.. عربي
- الأولوية، عربيا، للتقدم أم لمواجهة إسرائيل؟
- الدين كحق من حقوق الإنسان
- سلام في سورية من أجل سلام لسورية...
- من أجل نقد عقلاني للسياسة الأميركية
- أميركا الشرق أوسطية ونحن.. الأميركيون!
- الشرق أوسطية: الإيديولوجية والنظام
- سورية والأزمة الوطنية الدورية
- ما العمل حين يستحيل العمل؟
- نقد متأخر لنظرية -قوى التغيير-
- في أصل امتناع السلام العربي الإسرائيلي
- من أجل ماذا سلام سوري إسرائيلي؟


المزيد.....




- تناول حفنة من التراب باكيًا.. شاهد ما فعله طفل فلسطيني أمام ...
- الإعصار -إيريك- يضرب سواحل المكسيك برياح قد تصل سرعتها إلى 2 ...
- إسرائيل - إيران: أسبوع من المواجهة.. وحرب استنزاف في الأفق! ...
- الحرب بين إيران وإسرائيل: تهز أسعار النفط.. وضربة قاسية للسي ...
- علي شمخاني: من هو مستشار خامنئي الذي أُعلِن مقتله، ثم أرسل ل ...
- الحرب مع إسرائيل والداخل الإيراني: هل تكرّس سيطرة النظام أم ...
- إسرائيل تغتال قائدًا ميدانيًا لحزب الله في جنوب لبنان.. من ه ...
- الحياد المستحيل.. الأردن والسعودية في صراع إيران وإسرائيل
- ألمانيا - ارتفاع طفيف في عدد السكان وتزايد عدد الأجانب مقابل ...
- إيمانويل ماكرون يعلن تقديم فرنسا مع ألمانيا وبريطانيا -عرض ت ...


المزيد.....

- كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف / اكرم طربوش
- كذبة الناسخ والمنسوخ / اكرم طربوش
- الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر ... / عبدو اللهبي
- في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك / عبد الرحمان النوضة
- الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول / رسلان جادالله عامر
- أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب ... / بشير الحامدي
- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - أفحمتُه، أفحمناهم... النقاش كاستمرار للحرب بوسائل أخرى