أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحى سيد فرج - الليبرالية الجديدة : هل يمكن المصالحة بين الوضعية المنطقية والماركسية ؟!















المزيد.....


الليبرالية الجديدة : هل يمكن المصالحة بين الوضعية المنطقية والماركسية ؟!


فتحى سيد فرج

الحوار المتمدن-العدد: 2272 - 2008 / 5 / 5 - 11:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في باكورة إصداراتها لعام 2008 نشرت دار رؤية للنشر والتوزيع واحدا من الكتب المتميزة في مستوى الإخراج الفني، وفي تخير الموضوع المناسب فالليبرالية الجديدة أصبحت فلسفة العصر ومحور اهتمام المنظرين والساسة ورجال الإعلام، لما تمثله كأساس للنظم الاقتصادية والأفكار الاجتماعية في أغلب بلدان العالم .
وقد استطاع المؤلف د. أشرف منصور المتخصص في الدراسات الفلسفية أن يعرض بقدرة فائقة اعقد المفاهيم الاقتصادية والنظريات الاجتماعية ووجهات النظر الفلسفية بيسر وسهولة تتيح للقاري العادي قبل القاري المتخصص استيعاب وتفهم هذا المزيج المعرفي .
في مقدمة الكتاب يشير د. أشرف إلى أنه منذ السبعينات انتهى عصر رأسمالية الدولة والديمقراطية والاشتراكية وذلك بإعادة وإحياء الأفكار الليبرالية التقليدية في صورة ما يعرف بالليبرالية الجديدة، التي بدأ ظهورها في الغرب ثم انتقلت إلى بلدان العالم الثالث، وكانت بداية لشكل جديد من الايديولوجيا المدعمة والمبررة للتوسع العالمي للرأسمالية وهي العولمة . فما أسباب هذا التحول ؟ .
يرى أن هذا التحول يعود إلى سبب رئيسي - وإن كان غير مباشر- يتمثل في القانون الذي استنتجه ماركس وصاغه بدقة عن ميل معدل الربح نحو الهبوط كلما تقدمت وسائل الإنتاج والتكنولوجيا، وكلما توسع الاستثمار الرأسمالي، لذا فإن نجاح الرأسمالية كان يتزامن دائما مع أوقات الحروب، وهذا يؤكد الأسباب الأخرى - وإن كانت ثانوية - والتي أخذت تظهر على سطح الحياة الاقتصادية والسياسية في العقود الأخيرة، والتي تتمثل في الأزمات العديدة التي تعرضت لها دولة الرفاهية في الغرب وبرامج الديمقراطية الاشتراكية بعجزها عن تحقيق التوظف الكامل والقضاء على مشكلة البطالة وازدياد معدلات الكساد وتعقد آلة الدولة البيروقراطية، من هنا ظهر خطاب الليبرالية الجديدة الذي رأى أن علاج هذه الأزمات يتمثل في عودة اقتصاد السوق، وتخلي الدولة عن التزاماتها، وعودة فكرة التوازن التلقائي للمصالح بفعل سيادة قوانين السوق .
في سبيل شرحه لذلك يعرض في فصول كتابه المتعددة، الأسس الفلسفية لليبرالية وجذورها الفكرية من آدم سميث إلى المدارس النيوكلاسيكية، مع تركيزه على نظريات النقد السوسيولوجية عند دوركايم وتفنيده لعناصر الرؤية الليبرالية مثل مفاهيم الملكية والفردية والعقد الاجتماعي، وكذلك النقد الاقتصادي عند ثورشتاين فبلن، ليصل في النهاية إلى توضيح ما تتسم به السوق ذاتي التنظيم من خرافة .
وهو يقصد بالليبرالية تلك الأفكار والمبادئ التي ظهرت مصاحبة للنظام الرأسمالي في الغرب، منذ القرن السابع عشر على يد مجموعة من فقهاء القانون والسياسة، وكانت موضوعة في صورة فلسفية عامة ونظرة تقوم على تصور خاص لنشأت وتطور المجتمع مستمدة من مفهوم الطبيعة الإنسانية .
فقبل ظهور علم الاجتماع كانت أفكار هوبز ولوك ورسو حول حالة الطبيعة الأولى، وكيفية نشأة الدولة والنظم السياسية فيما يعرف بنظرية العقد الاجتماعي، والحقوق الطبيعية للأفراد، هي السائدة وتقوم على مجموعة من المسلمات يمكن تلخيصها في الآتي :
1. ينشأ المجتمع نتيجة اتفاق إرادي وطوعي بين الأفراد .
2. ما يدفع الأفراد للدخول في المجتمع رغبتهم في الحفاظ على حقوقهم الطبيعية .
3. يتحقق النظام في المجتمع بطريقة تلقائية، حيث إن إفراده يسعون لتحقيق الخير العام من خلال المصلحة الخاصة، فالمصلحة العامة هي مجموع مصالح الأفراد .
4. القيم يمتلكها الأفراد، أما المجتمع فهو شيء مصطنع موقفه محايد تجاه القيم .
من هنا فإن النزعة الليبرالية تتأسس على أن الفرد هو الوحدة الأولى المكونة للجماعة، والنظر إلى الجماعة على أنها ليست إلا مجموع أفرادها، ويذهب دوركايم إلى أن ما أعاق ظهور علم الاجتماع هو نظرة أغلب علماء السياسة منذ أفلاطون إلى المجتمع باعتباره شيئا مصنوعا من قبل الأفراد، والحقيقة أن علماء السياسة هؤلاء كانوا يخلطون بين المجتمع والجسد السياسي، فمن الممكن أن يكون التنظيم السياسي نتيجة تخطيط من قبل الأفراد، إلا أن هذا لا ينطبق على المجتمع، فهو يرى أن المجتمع شيء طبيعي يظهر نتيجة لتواجد البشر معا، وأن الوعي بالمجتمع يرجع لشعور جمعي ولا يرجع إلى أفكار فردية .
هذا وقد تعامل دوركايم مع مدخل الاقتصاد السياسي وانحيازه للفردية، ورغم اعترافه بما قدمه هذا المدخل من اكتشاف قوانين موضوعية، وتوضيحه لقضية حرية الفرد، إلا أنه نظر للإنسان من جانب واحد فقط بكونه إنسانا اقتصاديا ولم يتمكن مفكريه من معرفة الجوانب السيكولوجية والأخلاقية والثقافية للظاهرة الاجتماعية، لأنهم كانوا في الأساس رجال أعمال أو محامين أو رجال سياسة، بينما يرى هو أن الظواهر الإنسانية مركبة ومتشابكة وتحتاج لدراسات متعمقة في أغلب فروع المعرفة، وهذا ما توفر لأوجست كونت مؤسس علم الاجتماع .
في مقابل النزعة الفردية طرح دوركايم ضرورة دراسة الظاهرة الاجتماعية باعتبارها واقعا ماديا متجسدا خارج وعى وإرادة الأفراد، وحدد طبيعة اختلافه مع النزعة الليبرالية من خلال تحليل وتفنيد مرتكزاتها الأساسية وهى : الملكية، والعقد، والفردية .
الملكية والفردية : أوضح دوركايم أن الملكية الخاصة والفردية تطورتا من خلال النظام الأبوي patriarchy ففي المجتمع البدائي كان الأب ممثلا لقبيلته يحوز الأشياء الصغيرة المتحركة القابلة للانتقال من يد إلى يد، وباتساع رقعة الأرض نشأت الملكية الخاصة من رحم الملكية الجماعية وأصبحت أساس لظهور الفردية، وبالتالي ليست الملكية الخاصة نزعة طبيعية، ولا الفردية طبيعة إنسانية، هذا وقد ميز دوركايم بين ثلاثة أنواع من حقوق الملكية : حق الاستخدام، حق الانتفاع، وحق الاستهلاك، وفي حين كانت المجتمعات البدائية تسحب الملكية من الفرد إذا لم يستطع الانتفاع بها، فإن المجتمع الحديث يعترف بالحق المطلق لملكية الفرد حتى لو لم ينتفع بها، بل حتى لو دمرها، إن هذا الحق أضحى بمثابة دكتاتورية للفرد على الأشياء .
وبهذا أصبحت الملكية بالمعنى البورجوازي الليبرالي تتأسس في جوهرها على عزل الأشياء عن الاستعمال العام، كما أنها تعني في الأساس القانوني منع الآخرين من استخدام هذه الأشياء، فحق الملكية بهذا المعني يمكن تعريفه بالسلب أفضل من تعريفه بالإيجاب، بالاستبعاد الذي ينظمه القانون لا بالالتزامات التي يفرضها المنطق .
العقد : يذهب دوركايم إلى أن العمل لا يأتي بحق الملكية الخاصة من نفسه بل بفضل التبادل، فإذا كان حق الملكية يقتصر على حق الفرد فيما ينتجه فقط لاستمرت الملكيات صغيرة للغاية، التبادل هو الوسيلة الأخرى بجانب العمل الذي ساهم في توسيع الملكية، وحيث أن التبادل يتم عبر عقود والعقود تفترض وجود ملكية أي أشخاص يمتلكون ويمكنهم الدخول في علاقات قانونية ملزمة فقد أخذت المفاهيم الليبرالية نموذج العقد لوصف الحياة الاجتماعية ووضع نظريات العقد الاجتماعي وتفسير نشأة النظم السياسية، لكنها بذلك تصادر على المطلوب، ذلك لأنها تفترض وجود الأفراد باعتبارهم شخصيات قانونية قبل الدخول في نظام اجتماعي .
في مقابل هذه الاتجاهات الليبرالية التي تذهب إلى أن ظهور الفردية ونموها يأتي من قبل الأفراد أنفسهم وفي مواجهة مجتمعاتهم، قام دوركايم بتحليل العلاقات التعاقدية بشكل آخر وعلى أساس سوسيولوجي من خلال مدخل تقسيم العمل، ذلك لأن الفرد يظهر باعتباره كيانا مستقلا عندما يحدث التمايز بين الأعمال ويزداد التخصص، وعندما يشترك الأفراد في العملية الإنتاجية يحدث التساند العضوي الذي قد يبدو متشابها مع النظام التلقائي في المذاهب الليبرالية، ولكن دوركايم يفرق بين التساند التعاقدي عند آدم سميث والذي يصدر عنه النظام الاجتماعي بطريقة تلقائية بفعل اليد الخفية، وبين التساند العضوي في المجتمع الصناعي الناتج عن تقسيم العمل وهو كاف وحده ليربط أفراد المجتمع بسياق المصلحة المشتركة .
والشيء الغريب هنا أن د. أشرف يشير إلى أن فكرة دوركايم شبيهة بفكرة ماركس في هذا الشأن، إذ يذهب ماركس إلى أن تطور أسلوب الإنتاج ينزع نحو الاشتراكية، أي نحو أشكال أكثر جماعية، ونحو السيطرة الاجتماعية على الإنتاج ونهاية السيطرة الفردية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، إذ تصبح العملية الإنتاجية عملية اجتماعية ينخرط فيها المجتمع كله، والنشاط الممارس اجتماعيا يجب السيطرة عليه وإدارته اجتماعيا، فمفهوم التساند العضوي الدوركايمي هو التعبير السوسيولوجي عن مفهوم ماركس للاشتراكية .
هذا وقد وضع دوركايم برنامجا للإصلاح ينطلق من أن علم الاجتماع يعطي للمجتمع استقلالا عن الاقتصاد على المستوي المنهجي، إذ يجعل المجتمع مقولة تفسيرية لا يمكن ردها إلى خصائص سيكولوجية للأفراد أو إلى قوانين اقتصادية، لم يكن دافعه لذلك مجرد طموح اكاديمي، بل هدف اجتماعي وسياسي يتمثل في جعل المجتمع مسيطرا على الاقتصاد بدلا من أن تتحكم في المجتمع الضرورة الاقتصادية العمياء ! ، كما يطالب دوركايم بتغير شكل التمثيل الديمقراطي من النظام الجغرافي الذي يجعل ممثلي الشعب مجرد ممثلي للأقاليم، وبذلك يتحول البرلمان إلى الانشغال بالمشاكل المحلية، إلى نظام التمثيل المهني بحيث يكون ممثلي الشعب هم أعضاء النقابات وبهذا تنتهي سيطرة رأس المال الخاص على المجتمع، بل سيصبح المجتمع هو المتحكم في اقتصاده ومصيره، ويؤكد د. أشرف أن هذه الرؤية للإصلاح ليست إلا الاشتراكية النقابية.
في إطار النقد الاقتصادي لليبرالية يعرض المؤلف لأفكار عالم الاقتصاد الأمريكي ثورشتاين فبلن Thorstein Veblen باعتباره من أهم نقاد النظريات الكلاسيكية والنيوكلاسكية والتي تقوم استنادا على الفعل الفردي في صورة المستهلك داخل السوق الحرة، في مقابل ذلك يطرح مفهوما جديدا هو الاقتصاد المؤسسي حيث يرى إن علاقة الاقتصاد بالإطار الثقافي والاجتماعي هي علاقة تفاعل متبادل، وقد ابتعد عن التركيز على السوق وآلياته باعتباره المحدد الأساسي للسلوك الاقتصادي، والمؤسسة لديه هي نظام اجتماعي يضع للفرد الإطار المنظم لأفعاله، وبالتالي فإن اختيارات الأفراد ليست إرادية ولا يمكن أن تكون متغيرا مستقلا يقام على أساسها نظرية اقتصادية .
وقد اشتهر فبلن بكتابه "نظرية الطبقة المترفة" والذي ينتقد فيه هذه الفئة وإنفاقها الترفي الإهلاكي، ورجال الأعمال ومصالحهم الربحية، ورحال السياسة الذين يعملون في خدمة رجال الأعمال وفي ظل وهم الديمقراطية، كما لا يستثني نقد علماء الاقتصاد الذين يكيفون علمهم ليناسب المصالح الربحية .
كما يرى أن اقتصار عناصر الإنتاج على الأرض والعمل ورأس المال في الاقتصاد النيوكلاسيكي تعبير من منهج أيديولوجي، حيث يتم تحديدها على أساس مصادر الدخل الثلاثة : الإيجار، والأجر، والربح، هذا التقسيم لا يشمل العلم والتكنولوجيا رغم تأثيريهما الحاسم الذي يفوق أي عنصر آخر، لأن النيوكلاسيك لم يلمسوا لهما ربحا مباشرا، هذا بالإضافة إلي أنهما ليسا خاضعين للملكية الخاصة .
هذا ويعرض الكتاب لوجهات نظر أخري لفبلن في نقد النظريات النيوكلاسيكية مثل نظرية سيادة المستهلك، حيث يرى أن سيادة المستهلك خرافة، لأن السيادة الحقيقية للمؤسسة الاحتكارية وما تنتجه من سلع، ليس المستهلك سوى نتاج الممارسات التسويقية للشركات من دعاية وإعلان وما يصاحبها من دراسات في علم النفس وعلوم التسوق .
وتوضيحه لخطورة ظاهرة الملكية الغيابية باعتبارها ملكية خاصة تعني استبعاد المجتمع من الاستفادة من كم هائل من الثروات والموارد الطبيعية من قبل أناس لا يحوزونها مباشرة ولا ينشغلون في العمل بها أو إدارتها، وكذلك التناقض الكامن في الشركات المساهمة فهي لا تستطيع تحقيق أرباح إلا مع عوائد مالية كبيرة، وهذا لا يتحقق بصفة مستمرة، وتنهار الشركة في لمح البصر إذا هبطت الأسعار، وهذا ما يجعل مصالحها تتناقض مع مصلحة المجتمع، لأن مصلحته في أن تتوفر السلع بسعر رخيص في حين أن نفس هذا الهدف يؤدي إلى انهيار الشركة، كما أن الشركة مهددة دائما بفقدان رؤوس أموالها، لا لخسارتها أو فشلها في العملية الإنتاجية، بل لمطالبة المساهمين باسترداد أموالهم أو تسييل أسهمهم في البورصة إذا قل العائد الذي تقدمه الشركة، وبذلك ينهار المشروع الرأسمالي لا لفشله في الإنتاج أو التوزيع بل لنقص في كفاءته المالية .
ويرى د . أشرف أن كثير من أفكار فبلن تقدم حلول للمجتمع مثل إلغاء عالم رجال الأعمال، وأن تكون ملكية الموارد الطبيعية للمجتمع كله لا ملكية خاصة أو غيابية، ويؤكد أنه يقدم ثورة اشتراكية ليست على شاكلة اشتراكية ماركس، بل هي نوع مختلف لا تتمثل في سيطرة العمال على وسائل الإنتاج بل في سيطرة التقنيين، لا تطالب بإلغاء الملكية الخاصة بل إلغاء الملكية الغيابية، إن هذا الحل الثوري مختلف عن ذلك الذي يقدمه ماركس، فهو ليس ثورة العمال بل ثورة التقنيين .
في الفصل السابع والأخير من هذا الكتاب يتناول المؤلف قضية على جانب كبير من الأهمية وهي "خرافة السوق ذاتي التنظيم" ففي بداية القرن التاسع عشر قامت في أوروبا السوق ذاتية التسيير على أكتاف مجموعة من النظم، فنظام الدولة القومية الليبرالية والذي كانت مهمته الرئيسية سن التشريعات من أجل حماية حرية السوق، ونظام التوازن الدولي بين القوى الذي ضمن لأوروبا سلاما امتد لقرن كامل من نهاية حرب نابليون 1814 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولي 1914، ونظام التبادل الذي كان مقياسا عاما لكل السلع فوق العملات القومية على أساس استقرار قاعدة الذهب، كل ذلك ساعد على سيادة نظام السوق ذاتية التنظيم .
وقد كشف كارل بولاني Karl Polanyi نتيجة تحليله تطورات أوضاع ما بعد الحرب العالمية الأولي عن آلية انهيار هذه النظم، فالتوازن الدولي تفكك بنشوب الحرب، والدولة الليبرالية انهارت بفضل الحركات الديمقراطية والاشتراكية، وكذلك انهارت قاعدة الذهب بعد أن صعدت قوة الدولار وحل محلها مع صعود أمريكا إلى مصاف الدولة العظمي، وهذا يؤكد تنبؤ ماركس بأن النظام الرأسمالي سوف يتفكك من داخله بفعل تناقضاته، لكن هذا التفكك أسفر عن نظام رأسمالي من نوع جديد لا نظام اشتراكي كما كان يتوقع ماركس، وهو نظام رأسمالية الدولة .
كان من أهم مؤسسات النظام الرأسمالي الجديد البنك الدولي الذي أصدر تقريرا عام 2002 تحت عنوان "بناء المؤسسات من أجل الأسواق" فالمؤسسات الفعالة هي التي تؤدي إلى نجاح السوق، وهكذا بعد سنوات طويلة من الاعتقاد في السوق ذاتية التسيير يعترف البنك بأن الفاعل الحقيقي هو المؤسسات وليس السوق .
يركز هذا التقرير على أن : المدخل الناشئ عن المشاركة في السوق هو المفتاح لتعزيز النمو الاقتصادي بالنسبة للأمم وتخفيض عدد الفقراء بالنسبة للأفراد، وبشير د. أشرف إلى أن ذلك يحمل مغالطة واضحة فهذه العبارة تربط بين شيئيين متناقضين، الربح، وتخفيض عدد الفقراء، وهو يرى أن علاج الفقر لا يتحقق من خلال الربح، لأن الربح متغير ويعتمد على المنافسة وتقلبات الأسعار وهي أشياء يفهم فيها البنك، لكن ليس لها علاقة بعلاج مشكلة الفقر، فالفقراء في حاجة إلى الأمن الغذائي أولا لا إلى الربح الذي يزيد الأغنياء غنى، ويزيد الفقراء فقرا .
يستند التقرير أيضا على عقيدة ليبرالية تقول أن تخلف الفقراء سياسيا يؤدي إلى تخلفهم اقتصاديا، وهذه مغالطة أخري، لأن التخلف الاقتصادي هو أساس كل الشرور السياسية وغيرها، ويعتقد التقرير إذن أن تغيير البناء الفوقي وهو النظام السياسي والقانوني للدولة يؤدي تلقائيا إلى علاج مشكلة التخلف الاقتصادي، في حين أن التغيير في البنية التحتية، أي تصنيع المجتمع وتحديثه وإدخال التكنولوجيا هو الأساس في أي تغيير سياسي .
وينهي د. أشرف الكتاب بخاتمة يشير فيها إلى أن النظام الرأسمالي يدعو إلى حرية المنافسة بين المنتجين بعضهم وبعض، لما تحققه لهم من مميزات في رفع الكفاءة الإنتاجية وتخفيض الأسعار، ولكن د. أشرف يطالب بأن تكون المنافسة كاملة وشاملة لكل أطراف العملية الاقتصادية، منتجين وعمال ومستهلكين .
كما يرى أن تولى القطاع الخاص لمهمة التنمية واعتباره الأقدر على خلق فرص عمل جديدة خلط بين مجالين : مجال الاستثمار الخاص، ومجال التوظيف ذو الطبيعة العامة، والحجة الليبرالية للدفاع عن ذلك تقول بأن السعي نحو المصلحة الخاصة سوف ينتج عنه المصلحة العامة تلقائيا، لكن تلك حجة مغلوطة، فالمجتمع يجب أن يكون هو المتحكم في مصيره، فإذا كان المجتمع هو صاحب المصلحة في توفير الوظائف والسلع، فلماذا يترك هذه المصلحة في يد فئة قليلة من رجال الأعمال تسعي لربحيتها الشخصية، لماذا نترك الخاص يتحكم فيا هو اجتماعي .
وإذا كان د. أشرف قد نجح في تفنيد بعض جوانب الليبرالية الجديدة، وأوضح عديد من المغالطات والمتناقضات في صلب بنيتها ومناهج تناولها للقضايا والمشكلات المجتمعية، إلا أنه وقع أيضا في مجموعة من المتناقضات الموضوعية، فقد قصر نقده على المنهج السوسيولوجي عند دوركايم والنقد الاقتصادي لثورشتاين فبلن وكلاهما لا يختلفان كثيرا عن منطلقات الليبرالية بمعني عدم التناقض الجذري مع دفاعها عن الملكية الخاصة، فدوركايم يقف عند حد أن الملكية ليست نزعة طبيعية لدي الأفراد، وثورشتاين يرى الخطورة في ظاهرة الملكية الغيابية وليس في الملكية ذاتها، بينما النقد الأساسي الذي يقوض أساس الليبرالية نجده في المنهج الماركسي الذي لم يعرضه المؤلف كأحد المناهج الجذرية في نقد الليبرالية .
ومن التناقضات الواضحة في هذا العرض أيضا محاولة المصالحة بين أفكار دوركايم المتأثر بالمدرسة الوضعية المنطقية وبين ماركس رغم أن كلا منهما ينطلق من تصور مخالف لطبيعية الوضع الاجتماعي، فدوركايم وإن كان متأثرا بالفكر الماركسي في طبيعية الوجود والوعي الاجتماعي، إلا أنه ينطلق في النظر إلى المجتمع من خلال التماسك والتضامن ويدعو إلى استمرارية استقرار الأوضاع الاجتماعية، وقد اغفل بشكل أساسي وجود صراع أو طبقات اجتماعية متناقضة في المجتمع، ٍكما أنه يصور الظواهر الاجتماعية في حالة من الجبرية ويسعى إلى إبعاد علم الاجتماع عن الفلسفة خاصة التي تدعو إلى الثورة أو التغيير ، وماركس في كل ذلك على العكس من هذه التوجهات .
فالليبرالية – على الأقل - تعترف بوجود الصراع الاجتماعي ولكنها تحاول أن تكون ممارسته بشكل سلمي، ومن خلال التعددية وحرية تكوين الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، ولكن الوضعية المنطقية تنفي وجود الصراع أساسا، وهو أمر يخالف المنطق وطبيعة تطور المجتمعات البشرية، ويوقف حركة التغيير والإصلاح التي بدونها يتوقف التاريخ .



#فتحى_سيد_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي
- العقد الاجتماعي الجديد
- البنات البنات ... أفضل الكائنات
- 3 - المؤتمر الخامس للإصلاح العربي
- 2 - المؤتمر الخامس للإصلاح العربي
- 1 - المؤتمر الخامس للإصلاح العربي
- الجزء الأخير من العقل السياسي العربي
- العقل السياسي العربي2
- العقل السياسي العربي 1
- بنية العقل العربي
- فانتازيا الواقع المرير
- اشكالية الديمقراطية في الواقع المصري 1
- نقد العقل العربي
- تعليق على مقالة اللغة والثقافة الشعبية المظلومة لمهدى بندق
- تمكين الفقراء من التنمية الاقتصادية
- كان ياما كان
- نسخة معدلة / الصراع الاجتماعي في العالم العربي بين الجموج وا ...
- ازدواجية اللغة وازدواجية الانتماء
- الصراع الاجتماعي في العالم العربي بين الجمود والتطور
- صحاري مصر.....أمل المستقبل


المزيد.....




- شاهد: تسليم شعلة دورة الألعاب الأولمبية رسميا إلى فرنسا
- مقتل عمّال يمنيين في قصف لأكبر حقل للغاز في كردستان العراق
- زيلينسكي: القوات الأوكرانية بصدد تشكيل ألوية جديدة
- هل أعلن عمدة ليفربول إسلامه؟ وما حقيقة الفيديو المتداول على ...
- رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية يتهرب من سؤال حول -عجز ...
- وسائل إعلام: الإدارة الأمريكية قررت عدم فرض عقوبات على وحدات ...
- مقتل -أربعة عمّال يمنيين- بقصف على حقل للغاز في كردستان العر ...
- البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة -باتريوت- متاحة الآن لتسليمها ...
- بايدن يعترف بأنه فكر في الانتحار بعد وفاة زوجته وابنته
- هل تنجح مصر بوقف الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لرفح؟


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فتحى سيد فرج - الليبرالية الجديدة : هل يمكن المصالحة بين الوضعية المنطقية والماركسية ؟!