1 من 2
انهارت دكتاتورية صدام الدموية تاركة العديد من المعضلات والمشاكل الأجتماعية والنفسية، السياسية والقومية، بعد ان اساء وحزبه، استخدام سلطة الدولة التي سخّرها لبناء دكتاتوريته الفردية، مستخدماً شتى الحيل والألاعيب السياسية والقانونية والقومية والعرقية، متسبباً بخسائر جمّة بكل فئات الشعب القومية والدينية والسياسية.
ولما كان صدام قد اتّبع سياساته الرعناء تلك بأسم القضية العربية النبيلة وبأسم استرداد حقوق العرب المغتصبة وبأسم نضال الشعب الفلسطيني البطل، فانه استغلّ مشاعر العرب في الزمن الردئ وجيّرها لخدمة احلامه الأنانية، بعد ان حاول كسب الشارع العربي، بالكذب والديماغوجيا السياسية، وبالعنف وشراء الذمم مسخراً عائدات العراق المالية الهائلة التي حرم العراقيين عرباً وكرداً واقليات من التنعّم بها خدمة لأحلامه المريضة، وسط تشجيع و صمت دولي وعربي .
لقد سخّر المجرم صدام ما حصل عليه من ( تضامن) عربي، وبالكذب والحيلة وباسم (الآيديولوجية العربية والرسالة الخالدة) لقمع انتفاضات الشعب العراقي وقوى طيفه وسط ديماغوجيا سياسية وكذب لم يكونا ليُصدّقان بسهولة . . لقد فشل المشروع القومي العروبي بصياغاته وآلياته في حل مشاكل العراق وتسبب بدمار الشعب العراقي منذ (عروس الثورات) في شباط 1963 و(فرض الجلوس تحت خيمة الثورة) و(يد الثورة الطويلة) و(قادسية صدام والعرب) و(حراس البوابة الشرقية) الى قطع رؤوس النساء العراقيات وقطع الألسن والآذان، الى الفساد الأداري والأجتماعي والأخلاقي الذي بدأ من قمة السلطة اساساً .
لقد استغلّ وحوّر الأحلام المشروعة بالنهضة والتحرر، الى محاولة بناء (بروسيا العرب) وقيادته لها من العراق ، مشوهّاً مفاهيم " العربي" و " العراقي " لصالحه، ضمن اطار ( ثقافة) شقي خريج الكراجات وسينما قدري المتقمص شخصية المثقف الكادح (الثوري) ، الذي دعمته اعلى الدوائر ونفخت به لغايات انانية واستغلالية مادامت تقبض وتربح، معتبرة ما كان يجري في العراق شأناً داخلياً ! !
الأمر الذي أدىّ الى تدمير الشعب العراقي بالحروب والحصار مادياً وبشرياً ومعرفياً وثقافياً وفكرياً، وترك تأثيرات متفاوتة من عدم الأستقرار والقلق في عموم المنطقة الأكثر حساسية في العالم، والى حالة اغتراب كبيرة بين العربي والعراقي، وبدرجات اقل ومن نوع آخر بين العراقي والعراقي، العربي والكردي والتركماني والكلدوآثوري و . . ، بعد ان ديست حقوق العراقيين كلّهم بطيفهم المتنوع وجرى التمثيل بها .
لقد صيغت الدولة العراقية بحدودها الجغرافية القائمة الحالية بعيداً عن ارادة العرب والأكراد والأقليات، كجزء من قرارات وصياغة الدول في المنطقة، اعتمد على اهداف ونتائج الحرب العالمية الأولى واقتسام الكبار اجزاء الدولة العثمانية الخاسرة كغنائم حرب، وكان النفط وبالتالي كركوك فولاية الموصل التي ضمّت كردستان العراق آنذاك، البند الهام في تحديد حدود العراق، بعد ان تمّت السيطرة العسكرية على ولايتي بغداد والبصرة في ذلك الوقت وتدميرالثورة هناك واقصاء وقتل ونفي قادتها، وتدمير الدولة الكردية الناشئة في السليمانية بزعامة الشيخ محمود الحفيد .
وعلى مرّ تأريخ الدولة العراقية واجه الشعب العراقي بعربه وكرده واقلياته وبانواع طيفه، المخططات الدولية والحكومات المفروضة عليه سواءاً بانتخابات وبرلمان مزور او بانقلابات عسكرية . . من اجل الديمقراطية والتطور الأجتماعي والتغلب على الجهل والفقر والمرض في كلّ انحائه ومن اجل الحقوق القومية العادلة للشعب الكردي التي اوصت بها ونصّت عليها حتى الأتفاقات الدولية في سايكس بيكو، التي جرى تحويرها وتزييفها والتنكر لها . وقد اصبح شعار " على صخرة الأتحاد العربي الكردي تتحطم مؤامرات الأستعمار والرجعية " الشعار الأكثر فعالية المعبّر عن واقع واهمية الأخوة العربية الكردية للنضال من اجل تحقيق الديمقراطية .
واليوم وبعد بحار العذاب والدم والتزييف والخداع والحروب والحصار والحديد والنار التي طالت وحرقت كلّ العراقيين على اختلاف طيفهم، تستمر الصراعات باشكال جديدة ومعقدة، على ارضية من تركة ثقيلة للدكتاتورية وعلى صراعات اكثر حدة من اجل النفط في ظروف العولمة وحركة رأس المال الذي اخذ يتخطى الحدود المقامة التي بدأت تضيق به، واخذ يتخطى الحواجز الأجتماعية والقومية والدينية، محدثاً تغييرات وأهتزازات كبرى في العالم، تطرح المراجعة الجدية لكثير من المفاهيم والقراءات، في بلد مهدد بالأنقسام وبدوام الأحتلال بعد انهيار الدكتاتورية وفشل صدام في ركضه لكسب ثقة الأميركان والغرب بعد ان تهرّي نظامه وصار عاجزاً عن مواجهة حاجات الشعب بعربه وكرده وتركمانه ومتطلبات رأس المال والعصر الجديدة .
ولماّ كانت السياسة هي ابنة الواقع القائم على طريق الآمال المتجددة، فأن قراءة الواقع تشير للكثيرين، ان الأحتلال يسعى لأهدافه ومصالحه هو، وليس لما يريده وينشده العراقيون من كافة اطيافهم القومية والدينية والسياسية، الذي قد يتعارض بل ويصطدم مع الأحتلال ان استمر على وتيرته الراهنة . ويدلل الواقع على وجود مخاطر جدية على وحدة العراق، الوطن الأم الثري بأرضه بأبنائه المتعددين ان لم يوحدوا صفوفهم في مواجهة التقسيم الذي قد يؤدي اليه السياق العسكري لقوات الأحتلال، الأمر الذي سيضعف الجميع . . ان زيادة تغليب آيديولوجية الأنغلاق على متطلبات السياسة اليومية في الخبز والأمان سيشق وحدة الصف الشعبي ولن يربح احداً من ذلك، بل سيخسر الجميع .
ان ما أُرغم عليه العراقيون بما فسحت لهم معادلة توازن القوى العالمية والأقليمية مذ ذاك، وبجهودهم صار قطباً اقليمياً ذا وزن بنسيجه المتنوّع الذي اغنى كينونته رغم محاولات الصهر والأغراء والغدر سواءاً من حكوماته المتعاقبة المستبدة او من حكومات الجوار الأقليمي والجغرافي او من الأقطاب الدولية اوباتفاقهم عليه .
وقد جرى كلّ ذلك دون الأهتمام بأبنائه وطيفه وانما سعياً وراء ثرواته وكنوزه عن طريق دفع بعض الأجزاء الى المحرقة وسط صمت وتهليل لما يمكن ان يجنيه الكبار من نتيجة ذلك، مستغلّين مختلف الواجهات التي تحاول دغدغة انتماءات ابنائه القومية والدينية والطائفية والسياسية التي يعتزّون بانتمائهم اليها، بل وتشكّل الأمل نحو افق اسعد واكثر اشراقاً . وما يثير الفرح والأمل شعور ابنائه وقواه جميعاً بتلك المخاطر رغم الأختلاف والتوتر احيانا التي تأتي بسبب المرارات والألم والقلق من فقدان كلّ شئ بل والتخوّف من عودة الدكتاتورية بلباس جديد .
وفي الوقت الذي شكّل فيه نضال الشعب الكردي وكردستان العراق دعامة اساسية لقوى السلم والتقدّم والديمقراطية في العراق وعلى مرّ السنين، تطورت مطالبه القومية المشروعة وبتأييد القوى الوطنية فيه الى صيغة الحكم الذاتي ثم الى الحكم الذاتي الحقيقي بعد غدر دكتاتورية صدام، واليوم صيغة الفدرالية على اساس قومي التي ايدتها ولم تعارضها قوى المعارضة العراقية التي ناضلت ضد الدكتاتورية.
وفي الوقت الذي تلبي فيه صيغة الفدرالية القومية المطالب القومية المشروعة لأكراد
العراق في الظروف الراهنة، فأنها تضع الأساس في الوقت نفسه للتوجه صوب ديمقراطية المؤسسات لعرب العراق ولأنواع طيفه الأخرى، والتوجه صوب مؤسسات المجتمع المدني للعراق على اسس حقوق الأنسان وعلى اساس معاداة العنصرية والشوفينية والأنعزال القومي والديني والطائفي، على اساس الأخوة العربية الكردية .
وفي الوقت الذي لايمكن فيه نسيان او تبرير الجرائم العرقية واللاأنسانية وحرب الأبادة الوحشية التي تعرّضت لها كردستان العراق في حلبجة والأنفال وتتصاعد المطالبة بمعاقبة كبار مجرميها ، من الضروري التذكير بوضوح لايقلّ، بالخسارة الهائلة لأبناء عرب العراق وانواع طيفه الذين سيقوا بفرق الأعدام وحجز العوائل واغتصاب النساء ووشم الجباه وقطع الأذان الى جحيم قادسية العار وحرب الخليج الثانية والثلثة التي خلّفت مئات الاف القتلى والمعوّقين والأسرى، اضافة لعشرات الآلاف ممن قضوا بسبب ابادة وتهجير شعب الأهوار وشهيدات وشهداء انتفاضة ربيع 1991 والأنتفاضات والأعتصامات التي اجتاحت العراق من اقصاه الى اقصاه . . لقد دمّرت الدكتاتورية شعب العراق الطيّب بأجمعه عرباً وكرداً وتركماناً واقلياتٍ، اسلاماً ومسيحيين وطوائف، وسط اجراءات تعتيم متطوّرة ادّت الى جهل ابناء العراق انفسهم بحقيقة ماكان يجري في مناطق العراق الرافضة على اختلافها القومي والديني والسياسي . لقد عاش العراقيون جميعاً وخاصة الكادحين منهم كمواطنين درجة ثانية وثالثة، في الوقت الذي لم يتمتع بـ ( ميزة الدرجة الأولى ) وبشكل ابشع في زمن صدام البائد، سوى الدكتاتور ومن حاباه وعاش بظله مسبّحاً بحمده سارقاً اموال الشعب حصداً، مهما كانت قوميته واصله وفصله .
وفي الوقت الذي اجمعت فيه الغالبية الساحقة من قوى معارضة الدكتاتورية على شعار " البديل الديمقراطي الفيدرالي الموحد"، جاءت فكرة " الفيدرالية الأدارية " كصيغة لبناء الدولة الديمقراطية الجديدة بدون مسوّغات وتفاصيل، هل هي لامركزية المرحوم البزاز ام ماذا وكيف؟ الأمر الذي يلقي الكثير من الأسئلة المشروعة بل والشكوك التي لم تنبع الاّ مما تعرّض له العراقيون من غدر على امتداد تأريخ الدولة العراقية، وفي ظرف لم تتوفر فيه الشفافية حتى الضرورية منها الى الآن، الأمر الذي يجعل التصوّر بكونها محاولة لأنهاء فكرة "الدولة الديمقراطية الفيدرالية الموحدة" امراً مشروعاً . ( يتبع )
2 / 1 / 2004 ، مهند البراك