أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فاطمة ناعوت - بالطباشير: آخرُ مُعتزلةِ هذا الزمان














المزيد.....

بالطباشير: آخرُ مُعتزلةِ هذا الزمان


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2194 - 2008 / 2 / 17 - 09:17
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أيها الرجلُ كيف حوّلت المحنةَ إلى منحة؟
"الأيام" كان من أوائل ما قرأتُ، من كتب ذات شأن، في طفولتي وصباي المبكّر. وأذكر أنني كدتُ أرى ذلك الصغيرَ المكفوف البصر بعيني، وألمس وجهه الأسمر بيدي، وأمسّد بأناملي عينيه المقروحتين فيما أمّه تدسّ فيهما بقايا زيت القنديل المقدّس الذي ينير صحن المسجد، علّه ينير حدقتيْ صغيرها المطفأتين. كنتُ أنام إلى جواره في الليل، وألتصق جدا بالحائط وأحكم الغطاء فوق جسدي النحيل وجسده حين أخاف، معه، من عواء الذئب وهزيم الرياح وحفيف الشجر. حيثُ عماؤه يضخم الخوف في قلبه الصغير. وفي قلبي. ويحدثني طه، همسًا، أن هذه الأصواتَ لعفاريتَ تسعى في الحقول تخطف الأطفال. أصدقه وأرتجف. ثم نقرأ سويًّا المعوذتيْن لنحرق العفريت، وسورة يس: "يس، والقرآن الحكيم، إنكَ لمن المرسلين، على صراط مستقيم، تنزيلُ العزيز الرحيم، لتُنذر قوما ما أُنذِر آباؤهم فهم غافلون، لقد حقَّ القولُ على أكثرهم فهم لا يؤمنون، إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مُقمحون...". حتى إذا ما وصلنا إلى قوله تعالى: "فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه تُرجعون."، يكون العفريتُ قد اندحر وذهب صوته. يطمئن قلبانا. نهدأ وننام. بكيتُ مع كل حزن ألمّ به، وغضبتُ من قسوة عَريّف الكُتّاب الذي حفظّنا القرآن. أجمعُ أقماع السكّر لأرشو بها الشيخ المستّبد كيلا يضربه بالفَلَكَة حين يلْحَن في الترتيل أو يخونه الحفظ. فرحت بكل سورة أتقن حفظها ورددتها معه. وعند المساء، أقف خلف باب المندرة أتلصّصُ وأصفّقُ حين أبوه يدعو أصدقاءه ليستمعوا معه إلى معجزته الصغيرة، الشيخ طه، وقد أتقن تلاوة جزئيْ "عمّ يتساءلون" و"تبارك". رأيتُ بعيني السياج المعشوشب يتحسسه في طريقه للبيت بيديه اللتين حلّتا محلّ عينيه المغدورتين. رأيتُ السياج ليس بعيني المبصرتين، بل عبر عينيه العمياوين اللتين لم تكتبا هذه الرواية المذهلة، بل أمْلَتْ على كاتب، صحيح النظر، فكتب ما كتب.
ورغم أن مصر قدّمت للحياة رموزًا بشريةً وحضاريةً فريدة على مر عصورها، يظلُّ طه حسين عندي النموذجَ الأهمَّ والأكثر إثارة للعجب والإعجاب. فرغم عاهته البصرية (أم ترى بسببها؟) كان الأقدرَ على كشف تخوم الحقيقة منذ صباه الأول. ليس صحيحًا أن مدينة النور التي احتضنتْ شبابَه هي التي بذرت فيه نواة النور والشك في المسلّمات الميتافيزيقة التي كثّفت- وتكثّف- حُجُب الظلام فوق مجتمعنا العربيّ. وليس صحيحًا أن أولى تجليّات حسّه النقديّ الرفيع الرافض التغييب ظهرت العام 1926 وحسب في كتابه المثير "في الشعر الجاهلي"، لكن الشاهدَ أن تمرّده على الظلامية والنقلية كان جزءًا من بنيته الفكرية ومكوّنه الفلسفيّ. تجلّى ذلك مبكرًا جدا وهو بعدُ صبيٌّ صغير في الرابعة عشرة من عمره حين تبرّم بمحاضرات شيوخ الأزهر الاتباعيين الدوجمائيين. كان ذلك في بدايات عهده بالقاهرة التي جاءها أوائل القرن الماضي طالبا للدرس في الأزهر، بوصفه الكفيف الذي لن يستطيع شيئًا إلا حفظ القرآن، وتلاوته على المقابر لقاء بعض القروش وثمرات البلح من المحسنين، على عادة من يختبرهم اللهُ بمحنة كفِّ البصر. لكنه، عوضا عن ذلك، سيدخل الجامعة ويكتب رسالة عن أبي العلاء وينال أول درجة دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية لأحد طلابها عام 1914، ثم يسافر باريس ويكتب رسالته الثانية عن بن خلدون فينال درجة الدكتوراه الثانية بعد خمس سنوات فقط.
ويراودني سؤال طفوليّ: لو أن طه حسين ، وهو مَن هو في عالم الأدب والفلسفة واللغة، كان وافق على إجراء عملية ترقيع قرنية وصار مبصرا، ثم أمسك ورقة وقلما ليكتب، هل كان سيكتب؟ أم كان سيكتشف فجأة أنه أميٌّ لا يعرف الأبجدية؟ وهو الذي علمنا كيف نكتب وكيف نقرأ وكيف نفكر.
تقول النظرية العلمية إن بداخل الإنسان طاقة تساوي طاقة ثلاثين قنبلة هيدروجينية. نعطلها بداخلنا ولا نُفعّل إلا أقل القليل منها. فهل فَعّل الرجلُ طاقاتِه كاملةً ليحوّل المحنة إلى منحة، والبلوى إلى نجاح؟ مَنْ مثله حورب ورُمي بالكفر والإلحاد ولم يُكسر؟ مَن مثله تناولته الأحجارُ والأحقاد أينما حطَّ وحيثما ولّى شطرَه فلم يزدد إلا سموقًا وعلوًّا وجَدَّا؟ ومن سواه كتب تصديرا لأحد كتبه: أُهدي كتابي هذا إلى الذين لا يعملون، ويسوءُهم أن يعملَ الآخرون." طه حسين آخر معتزلة هذا الزمان كان المبصرَ بين أرتال من العميان.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بالطباشير:يا باب الورد، حِصَّة وين؟
- الشَّحّاذ
- بالطباشير: -سُرَّ مَنْ رآكِ- أيتها الغيوم
- بالطباشير: يحدثُ هذا، وشكرا لفلسفة المصادفة
- بالطباشير: أنا الأديبُ الألْمَعيُّ مِنْ حَيِّ أَرْضِ المُوصِ ...
- بالطباشير: اِسفكسيا الجمال
- قطعة من الفراغ-قصائد إيميلي ديكينسون
- صقيعٌ لم يَحُلْ دونه أحد
- الدينُ لله، فهل الوطنُ للجميع؟
- بالطباشير: لفرط حضورِكَ، لا أراك!
- بالطباشير: عِقابُ المرايا
- بالطباشير: يا قمر على دارتنا
- بالطباشير: عمتِ صباحًا يا استاطيقا القبح
- بالطباشير: أنا أندهش إذًا أنا إنسان
- بالطباشير: شاعرةُ الأشياء الصغيرة
- أيُّ مسلمين وأيُّ شعراءَ يا شيخ يوسف؟
- مهرجان الشعر العالمي 2007
- الشعر والطبقية - نعم للبستاني ولا للقروي!
- صعوبةُ أن تُختَصرَ في حذاء أو حقيبة
- -طنجة الأدبية- الآن في مصر والبحرين


المزيد.....




- أضاءت عتمة الليل.. لحظة تفجير جسر لاستبداله بآخر في أمريكا
- إطلاق سراح محسن مهداوي.. كل ما قد تود معرفته عن قضية الناشط ...
- بسبب جملة -دمروا أرض المسلمين- والدعوة لـ-جحيم مستعر-.. القب ...
- من النكبة ثم الولاء للدولة إلى الاختبار -الأكبر-... ماذا نعر ...
- كلمة محمد نبيل بنعبد الله خلال اللقاء الوطني تحت عنوان: “ال ...
- سلطات تركيا تنفى صحة التقارير عن عمليات تنصت على أعضاء البرل ...
- بلدان الشرق الأوسط بحاجة إلى حلول
- تزايد معاناة عمال فلسطين بعد 7 أكتوبر
- إسرائيل تطلب مساعدة دولية جراء حرائق ضخمة قرب القدس وبن غفير ...
- المرصد السوري: 73 قتيلا غالبيتهم دروز في اشتباكات طائفية وار ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فاطمة ناعوت - بالطباشير: آخرُ مُعتزلةِ هذا الزمان