أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فاطمة ناعوت - بالطباشير: يحدثُ هذا، وشكرا لفلسفة المصادفة














المزيد.....

بالطباشير: يحدثُ هذا، وشكرا لفلسفة المصادفة


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2158 - 2008 / 1 / 12 - 08:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


طفلٌ صغير اسمه محمود. من أسرة رقيقة الحال تسكن أحد الأحياء الشعبية القديمة بالقاهرة هو "الدرب الأحمر". يُفصل الصبيُّ من مدرسته لأنه لم يسدّد المصروفات. التعليمُ في مصر الملكية لم يكن مجانيًّا في عشرينيات القرن الماضي قبل ثورة يوليو. الأمُّ أطبقت كفَّها حول كفّ صغيرها ومشت به إلى مطبعة في الحي ليعمل في صفّ الحروف وتجميع الكلمات. سرعان ما يتعلّم الصبيُّ الحرفةَ وتبدأ ملامح مستقبله ترتسم. لكن اعتباطيةَ المصادفات، أو عبثَ الأقدار، حسب نجيب محفوظ، وربما ذكاءَها وانتقائيتها وتفوقها الحدْسيّ، كان لها رأيٌ مخالفٌ بشأن محمود إذ رسمت لمستقبله خطّةً أخرى.
يمرض فؤاد الأول، ملك مصر آنذاك، بمرض خطير. ثم يُشفى منه بمعجزة ما، أو بمصادفة ما. فيقرر، ذات لحظة كرم مباغتة، أن يدفع مصروفات التعليم لكل فقراء مصر هذا العام. ويعود الصبيّ محمود إلى مقعد المدرسة ويكمل تعليمه الذي كاد يُحرم منه. ويدرج في سني الدراسة حتى ينال ليسانس الفلسفة من جامعة فؤاد الأول. تحدثُ مثل هذه المصادفات لكي تحظى مصر بمفكر كبير ومناضل سياسي رفيع الطراز اسمه "محمود أمين العالم".
وهنا، ليس من قبيل المصادفة أن تكون رسالة الماجستير التي قدّمها بعد تخرجه بعنوان "فلسفة المصادفة". وفيها يحاول أن يربط بين المصادفة الموضوعية من حيث مُدخلاتها الفيزيائية وقانونها الرياضيّ تبعا لنظرية الاحتمالات، وبين دلالاتها الفلسفية والسوسيولوجية. لنعيد التفكير، على نحو مغاير، في كل مشهد يحدث أمامنا. ماذا لو أن رجلا ما، يسير في شارعٍ ما، وتسقط على رأسه شرفةٌ ما، فيموت؟ هل هذه سلسلة مصادفات؟ أم أن المصادفة هي ألا يسيرَ في الشارع هذا عينه، وألا تسقط الشرفةُ عليه عينُها، في اللحظة تلك بعينها؟
حياتنا سلسالٌ من المصادفات. أو ما نحسبه مصادفات. لنقل إنها ترتيبات عُلوية مُحكمة تأتينا في ثوب المصادفة، تغيّر من مصائرنا وتعيد ترتيب الأوراق في شجرة الأقدار البديلة التي ترسم مستقبلنا. مصادفة فانتازية غيّرت مسار حياتي. كانت أمي تعدّني لدخول كلية الطب مثل شقيقي الوحيد الذي يكبرني. وفي عطلاتي المدرسية، كان يصحبني معه إلى الكلية لأتعود على جو الطب والمحاضرات. وذات يوم قال سندخل المشرحة لدراسة "الكُلى البشرية". قلتُ لا أخاف مرأى الدم فقال اطمئني لا دم هناك. لا دم!؟ كيف؟ حُكمًا سأرى جثثا ودماءً. سأرى الموت. لكن المفزعَ أنني لم أر جثة ولا دما. لم أر الموت. رأيت ما هو أبشع. هو أخي يفتح صندوقا. يمد شوكة معدنية كبيرة ويخرج شيئا لم أتبينه أول الأمر. ثم قال إنه "جزع" امرأة. دون رأس ودون ساقين. وبدأ في فتح الجسد بالمشرط. لدقائق، كأنها الدهر، أحاول أن أربط بين ما أراه وبين تصوري عن الجسد البشري فلا أقدر. السيدة نامت في حامض الفورمالين سنوات حتى غابت عنها معالم البشرية. البشرة متجعدة متغضنة رمادية اللون زرقاء. واكتشفتُ لأول مرة أن ثمة ما هو أبشع من مرأى الموت. الموتُ القديم. الضارب في الوقت. وكرهتُ الطبَّ والأطباء. وما شعرت إلا والعالم يدور والأرض تميد تحت قدمي ولم أفق إلا وأنا في سريري أصرخ في وجه أمي: حوّلي أوراقي من قسم العلوم إلى الرياضيااااات! سأدخل الهندسة. وكانت المرة الأولى التي أقول فيها "لا". وكتبت قصيدة حول رأس هذه المرأة الذي لم أره أبدا. ولن أراه. الرأس المنزوع الغائب. الرأس الذي رسم مستقبلي وقرّر لي نوع دراستي. رأسٌ غائبٌ غير موجود نسخَ ونسفَ قرارات رأس أمي العنيد الصعب!
وفي اسكتلندا، جسرٌ يقطع عرض نهر تاي ويصل بين مدينتيْ فايف وداندي. في 28 ديسمبر العام 1879 ضرب الجسرَ إعصارٌ عنيف وحطمه. وسقط القطار من فوقه ليغوص إلى الأبد في قاع النهر ويغرق المسافرون جميعهم. إلا واحدا. ظلَّ محتفظا بتذكرته من إدنبره إلى داندي بعدما فاته القطار لسبب ميتافيزيقيّ غامض! كارل ماركس.
يحدثُ هذا. نعم. يحدث كل يوم. ويحدث أيضا أن تتعطل حواسيبُ سفينةٍ ما في عرض البحر. ويحدث أن يستدعي طاقمُ المِلاحة مهندسًا خبيرا في إصلاح هذه الأعطاب. ويحدثُ أن تكون حبيبةُ الخبير من سكان هذه البلدة. هو لم يرها منذ سنين لأن الوشاة والعازلين والشُّطّار نجحوا في تعكير حبهما. يحدثُ! ويحدث أن تشعرَ الحبيبةُ بوجود حبيبها في الجوار. هاتفٌ غامض يخبرها. فتركض إلى الميناء وتلتقي عيونهما. والباقي يخمّنه القارئُ. هذا المشهد، هل رأيتُه في فيلم؟ أم قرأته في رواية؟ أم في حلم؟ أم حدث بالفعل ورأيته رأي العين؟ ليس مُهّما. المهم أنه حدث. إنها فلسفة المصادفات.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بالطباشير: أنا الأديبُ الألْمَعيُّ مِنْ حَيِّ أَرْضِ المُوصِ ...
- بالطباشير: اِسفكسيا الجمال
- قطعة من الفراغ-قصائد إيميلي ديكينسون
- صقيعٌ لم يَحُلْ دونه أحد
- الدينُ لله، فهل الوطنُ للجميع؟
- بالطباشير: لفرط حضورِكَ، لا أراك!
- بالطباشير: عِقابُ المرايا
- بالطباشير: يا قمر على دارتنا
- بالطباشير: عمتِ صباحًا يا استاطيقا القبح
- بالطباشير: أنا أندهش إذًا أنا إنسان
- بالطباشير: شاعرةُ الأشياء الصغيرة
- أيُّ مسلمين وأيُّ شعراءَ يا شيخ يوسف؟
- مهرجان الشعر العالمي 2007
- الشعر والطبقية - نعم للبستاني ولا للقروي!
- صعوبةُ أن تُختَصرَ في حذاء أو حقيبة
- -طنجة الأدبية- الآن في مصر والبحرين
- الأخبارُ القديمةُ ذاتُها تتكررُ مثل تبغٍ رخيص
- الفتنة في مصر- أين تنامُ؟ ومن الذي يوقظُها؟
- الحجاب، وصعوبة أن تُختصَرَ في حذاء
- عادل السيوي يقدم مرثية للعمر الجميل


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فاطمة ناعوت - بالطباشير: يحدثُ هذا، وشكرا لفلسفة المصادفة