أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - احمد معين - أزمة الآيديولوجيات المعاصرة - أريك هوبسباوم















المزيد.....



أزمة الآيديولوجيات المعاصرة - أريك هوبسباوم


احمد معين

الحوار المتمدن-العدد: 2139 - 2007 / 12 / 24 - 11:57
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ترجمة : أحمد معين
لقد قمت بتلبية الدعوة لهذه الندوة كي أدلو برأيي حول (( الأزمة الآيديولوجية ، الثقافة والحضارة )) والتي تعتبر موضوعاً شاملاً يصعب تعريفه بدقة. ويندر أن تجد أحداً لديه شك حول وجود تلك الأزمة وإن لم يتمكن من تحديد السبب الأساسي لها . لذا إسمحوا لي أولاً البدء بإجراء بمقارنة بين الوضع الراهن والمراحل الماضية أو المرحلة التي بدأت بالثورات التي شهدها القرن الثامن عشر أي المرحلة التي كان يعيش فيها الإنسان في ظل مجتمعات وعالم مادي متغير بإستمرار وبصورة لم يكن من الممكن التنبؤ بها قبل ذلك. وفي بعض المجالات كانت تلك المرحلة، بالنسبة لاولئك العاملين في حقول العلوم الإجتماعية على الأقل ، مليئة بالازمات حيث كان كل جيل يواجه تجارب وتحولات لم يسبق لها مثيل كما لم تكن التجارب السابقة لتلك العهود والنظريات المبنية عليها تلعب دوراً فاعلاً او لم تكن تلك التجارب والنظريات تمنح بوصلة ومخرجاً من تلك الأوضاع على أقل تقدير. إلا إن ذلك لا ينفي حقيقة مؤكدة ألا وهي إن التغيرات التاريخية كانت بدرجة من السرعة والشمول بشكل كانت تجعل من الصعب التلاؤم معها أو حتى السعي لفهمها فكيف بإدراك مغزاها بصورة عقلية.
إننا نمر بلحظات شبيهة بتلك المراحل التاريخية حيث مر الجيلين الماضيين بتجربة مماثلة. إنني لا أركز هنا على الأحداث البارزة في عالم السياسة التي مرت بنا خلال العامين أو الآعوام الثلاثة الماضية أو التي مرت أمام أنظارنا وأعني هنا بعبارة أمام أنظارنا المعنى الدقيق للعبارة لاننا بتنا بفضل شبكات التلفزة الحديثة قادرين من الناحية العملية على مشاهدة تلك الأحداث بصورة متزامنة تقريبياً مع حدوثها كما أصبحنا وبفضل تكنولوجيا الإتصالات الحديثة قادرين على المشاركة في تلك الأحداث إن شئنا. وأود الإشارة هنا إلى مثال المعلمة الإنجليزية من أحدى ولايات بريطانيا التي كانت على تواصل دائم مع نظيراتها عن طريق البريد الألكتروني أثناء إنقلاب آب 1991 في الإتحاد السوفياتي. كانت بإستطاعة السيدة الإنجليزية نقل الإخبار بالبريد الألكتروني إلى صديقاتها في العاصمة السوفياتية مثلما كانت تمر أمام أنظارها من على شاشات التلفزة وهي جالسة في منزلها في ستافوردشاير بينما لم تكن محطات التلفزة في موسكو تنقل تلك الإخبار لمواطنيها. كانت تلك، بلا شك ، المرة الأولى في التاريخ التي يزول فيها الزمن والمسافات بصورة عملية.

تحولات شاملة

كانت أحداث السنوات الأخيرة، وبحق، مثيرة للدهشة حيث أحدثت تغييرات جوهرية على عالمنا_ كما كانت مفاجئة ويصعب التنبؤ بها أيضاً. وعلى الرغم من ذلك فإم المضمون الجوهري للتغيرات التي نشهدها في المرحلة الراهنة هي أشمل من تغيرات طرأت على السياسة الدولية. وقد أدى ذلك إلى إيجاد صعوبة بالغة للمراكز المختصة بإصدار موسوعات الأطلس بإعداد نسخ تكون صالحة لأشهر معدودة. ولم يحدث في التاريخ أن شهدت الحياة الطبيعية والمجتمع البشري في فترة قصيرة، وليس خلال عمر جيل بأكمله بل خلال جزء من عمر جيل بشري، تغييرات هائلة كتلك التي نشهدها الآن. إسمحوا لي هنا بتقييم نماذج ثلاثة من تلك التحولات.
كان البشر يقتاتون بأغلبهم، في أكثر مراحل التاريخ المدون، من الحيوانات وثمار الأرض . وقد إستمر الوضع على ذلك المنوال حتى الحرب العالمية الثانية إذ كان ربع السكان ، وحتى في أكثر الدول تصنيعاً مثل الولايات المتحدة وألمانيا، يعملون في ميدان العمل الزراعي. إلا إن الأوضاع إنقلبت في الفترة الممتدة بين 1950 – 1975 . ففي اوربا والقارة الأمريكية وفي غرب العالم الإسلامي – وفي الواقع في سائر المعمورة بإستثناء جنوب وشرق آسيا وجنوب الصحراء الأفريقية _ بات الفلاحين يشكلون أقلية السكان. وقد حدث ذلك التحول بسرعة فائقة. فقد إنخفضت نسبة الفلاحين في اسبانيا والبرتغال وكولومبيا والمكسيك خلال 20 عاماً إلى النصف . وفي جمهورية الدومينيكان والجزائر وجامايكا والعراق إنخفضت النسبة في الفترة ذاتها إلى النصف أيضاً. ( لقد ذكرت بصورة مقصودة نماذج من العالم الأقل نمواً ).
أما التحول الثاني فيتمثل في ظهور فئة المثقفين بصورة لا سابق لها بوصفهم ظاهرة جمعية.
فقبل الحرب العالمية الثانية كانت نسبة الأشخاص الذين نالوا التعليم العالي أو حتى المتوسط يشكل جزءً ضئيلاً من السكان. ولم تتجاوز عدد طلاب الجامعات في ثلاثة من أكثر الدول تطوراً وأكثرها تعليماً ، أي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ، والتي كان سكانها مجتمعة يقدر ب 150 مليوناً ، سوى 150 ألفاً. بينما بلغ عدد طلاب الجامعات في الأكوادور لوحدها في 1980 ضعف ذلك. وقد وصلت نسبة السكان المنهمكين بالتعليم العالي منذ ذلك الوقت في الدول المهتمة بهذا الميدان 5 / 2 من إجمالي السكان. لقد كان التطور في هذا الميدان مذهلاً أيضاً. وحينما ننظر إلى أوربا، حيث تتمتع بمستوى تعليمي أرقى ، نرى بأن أعداد طلاب الجامعات قد زادت خلال 20 عاماً تسعة مرات ( اسبانيا والنرويج).
أما التحول الثالث فيتمثل في مكانة المرأة. فلنرجع إلى الإحصائيات الموجودة في متناولنا.
كان 14% من الأمريكيات المتزوجات اللاتي يعشن مع أزواجهن حاصلات على فرص العمل في 1940. وقد وصل الرقم في 1980 إلى 50% من تلك الفئة من النساء. كما تضاعفت تلك النسبة تقريباً خلال أعوام 1950 – 1970 . ولا أراني هنا بحاجة إلى التأكيد على إن إنتخاب النساء لتبوء مناصب مهمة كرئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية بات شأناً عادياً حيث كان من الصعب تصور ذلك قبل 1950.
أظن إننا لسنا بحاجة للحديث بشكل أكثر إسهاباً في هذا الشأن. لقد تحدثت بما يكفي للتدليل بأن المجتمعات البشرية وعلاقات الناس في ظل تلك المجتمعات طرأت عليها تحولات إقتصادية وتكنولوجية ومجتمعية خلال عمر جيل لم ينقضي سوى نصفه بالكاد. ولا نرى في المراحل السابقة من التاريخ شبيهاً لذلك إذ وكما أسلفت فإن هذه التحولات ، وإن تركت آثاراً متفاوتة على الدول المختلفة، فإنها لم تكن ذات سمة محلية أو إقليمية. كما كان مدهشاً لنا إن لم يترك تلك التحولات العميقة في الحياة المادية أزمات في تلك الميادين التي أطلق عليها ماركس ب (( البنية التحتية )) للأفكار أي في مجالات الثقافة والحضارة.
وعلى كل حال فقد أحدثت التحولات التي جرت في النصف الثاني من القرن العشرين أيضاً، وبصورة لا مناص منها، معضلات مادية جديدة أرغمت سائر المجتمعات _ وبحسب تأثيرها على تلك المجتمعات _ وسائر الناس ،على التفاعل معها. وهنا أود التطرق لمعضلات ثلاثة.
الأولى هي الإنفجار السكاني المذهل حيث إزدادت نسبة السكان على الصعيد العالمي بنسبة ضعفين ونصف وفي أمريكا اللاتينية كانت النسبة أربعة أضعاف. إننا نعيش لاول مرة في عالم يقطنه 6 بلايين نسمة.
أما المشكلة الثانية فتتمثل في إزدياد اللامساواة بين الدول الغنية والفقيرة حيث يلعب التزايد السكاني الهائل في الدول الفقيرة دورها في تزايد حدة الهوة المذكورة. لنتكلم ببساطة _ بصورة بسيطة جداً _ . لقد كان سكان الدول المتطورة في مرحلة ما بعد الحرب، أي أعضاء منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية، يشكلون في النصف الأول من القرن العشرين، ثلث سكان العالم. إلا إن النسبة المذكورة لا تتجاوز 15 – 20% في الوقت الراهن. كما إتسعت الفجوة في مجال المعدل الفردي للناتج القومي الإجمالي في الدول الغنية والفقيرة منذ 1950 بسرعة قياسية. وفي الوقت الراهن تبلغ نسبة الدخل الفردي من الناتج القومي الإجمالي 18000 دولاراً في 26 دولة لا يشكل مجموع سكانها سوى 15 % من مجمل سكان العالم. وتبلغ تلك النسبة من الناتج القومي الإجمالي خمسة أضعاف معدل الناتج القومي الإجمالي العالمي و 15 ضعفاً للناتج القومي الإجمالي لثلاثة بليون من سكان العالم ( أي حوالي نصف مجموع سكان العالم ) حيث يبلغ معدل دخلهم الفردي 230 دولاراً فقط. وليس من الغريب أن ينتج عن هذه الفجوة الهائلة في الدخل والتي لا نظير لها في عالمنا، سيلاً هائلاً من الهجرة المتجهة من الدول الفقيرة نحو الدول الغنية وإستمرارها طالما لم تقف العنصرية وكره الأجانب حائلاً دونها. إلا إن السؤال هو : إلى متى تستمرهذه الحالة ؟ ليس بوسع العالم تحمل وزر هذه الدرجة المذهلة من اللامساواة المتنامية بإضطراد، لمدة طويلة.
والنقطة الثالثة هي المشاكل المعروفة بصدد البيئة. لقد بتنا وبسبب المنجزات المذهلة في ميادين العلم وتكنولوجيا الإنتاج، وللمرة الأولى في التاريخ، أمام مخاطر تهدد كوكبنا بصورة لا يمكن العيش فيها. فخلافاً لمرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية، فإنه لمن الواضح في يومنا بأن النمو الإقتصادي المطلق التي إنطلقت من عقالها، وفي ظل تداعيات تلك العملية على البيئة ( بما فيها الإنسان ) وفي خضم إلادارة العشوائية للمصادر الطبيعية، فإننا نتجه أكثر فأكثر نحو عصر مليء بالكوارث المفجعة. والمسألة الجوهرية هنا هو كيفية الوصول إلى حل شامل لهذه المشكلة.

الأزمة العامة

بالإضافة إلى المشهد الإقتصادي والسياسي التي يمر أمامنا في الوقت الراهن، والتي لا نلعب دوراً يذكر فيها، فإن التحولات الآنفة الذكر يكفي لبيان الأبعاد المختلفة ل( ازمة الأيديولوجيا والثقافة والحضارة) التي نواجهها في يومنا هذا. والسبب واضح: ليست التجارب السابقة ولا الأيديولوجيات والنظريات الموروثة من المرحلة السابقة للعصر الصناعي، أو المدونة منذ القرن الثامن عشر وما بعدها ، على الأقل في مضمار الحضارة والتطور الإقتصادي الغربي، صالحة لمرحلة الربع الأخير من القرن العشرين.
والنقطة التي أود أن ألفت نظركم إليها هي إن الأزمة الراهنة لا تخص هذه المنظومة الإقتصادية أو السياسية أو الآيديولوجية أو تلك، بل هي أزمة عامة. إذ من الممكن أن تعد أزمة للأديان الغربية التقليدية القديمة والحديثة وكذلك أزمة ضمن الآيديولوجيات الموروثة من عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، كالليبرالية والإشتراكية بمختلف أشكالها. دعوني أذكر مثالاً بارزاً آخراً: تواجه الكنيسة الكاثوليكية في روما مشكلة حادة في مجال جذب ما يكفي من القساوسة وحشد الأنصار لها، ( في أوربا على الأقل ) حيث يتهرب حتى غلاة أنصارها في المراكز الدينية من تنفيذ التعاليم الدينية. وتمنح النساء في إيطاليا تأييدهم الكامل لقوانين الطلاق والسيطرة على الإنجاب، بينما يمثل أزواجهم من أشد الباحثين عن العازل المطاطي الواقي في السوق الأوربية وفقاً للفاينشال تايمز التي تنقل الخبر كمراقب محايد. وهنا لا أود الحديث عن الأزمة التي تواجه الكنائس التقليدية ونمو الأصوليات والزمر الساخطة الموجودة في أمريكا اللاتينية مثلاً. لقد تطرقت إلى هذه النقطة فقط لكي لأبين بأنه وفي نهاية القرن العشرين ، وفي مناطق عديدة من أنحاء العالم، ومنها أمريكا اللاتينية، يشعر الجميع، بأشكال مختلفة، بنوع من اللاأستقرار. ولا ينحصر حديثي هنا في إطار النقاشات الجارية بين الآيديولوجيات الغربية للقرن التاسع عشر. ويجري عرض المشهد الذي نتحدث عنه ( بغض النظر عن الدور الذي نلعبه فيه ) في مسرح غير مألوف لنا كم وتجري في مرحلة لا نعرف كنهها مثلما يجري في خضم تغيرات مفاجئة ولا يمكن التنبؤ بها و مسرح غير معروف لنا نسبياَ .
وهناك مفهوم آخر، ذو طابع أخص نوعاً ما، يتسم فيها الأزمة الراهنة بطابع عالمي وشامل: وأعني بها المفهوم الإقتصادي والسياسي الأكثر دقة. لقد تلاشت الشيوعية الغربية بصورة مفاجئة وكلية ( وليست الشيوعية الآسيوية المتواصلة حتى المرحلة الراهنة ). وقد وجد الصحفيين والساسة والمفكرين أنفسهم مرغمين على تحليل هذه القضية في إطار نظرية اللعبة المعروفة المجموع = صفر. 1 .
فإذا كانت الشيوعية هي الجهة الخاسرة فالجهة الثانية أي الرأسمالية هي الرابحة وفقاً لذلك. وإذا كانت الإقتصاديات الإشتراكية خرجت خاسرة من اللعبة فلا بد أن تكون القطب النقيض لها أي ليبرالية السوق الحرة هي الرابحة. من البديهي أن تعجز هذا التحليل عن طرح صورة شاملة عن الإقتصاد العالمي في مستهل عقد 1990. لست متيقناً بأن يرى المؤرخين حينما يتأملون في القرن المقبل ( وهو ليس ببعيد ) ماضيهم لسبر أغوار نصف القرن الجاري، وهم يرون الأنظمة الشيوعية التي افرزتها ثورة أكتوبر ، تثبت عدم قدرتها المتزايدة أمام الإقتصاديات الغربية المبنية على السوق. لقد أزاحت تلك الأنظمة منذ 1970 وما بعدها الستار عن مكامن إضمحلالها. إلا إن المؤرخين يرون بأعينهم أيضاً الرأسمالية العالمية وهي تدخل بعد ربع قرن من نموها المدهش والمفاجيء مرحلة أزمة جديدة في سبعينيات القرن العشرين ولم تتمكن من الإفلات من براثن تلك الأزمة حتى يومنا هذا. وهكذا يبدو وكأن الرأسمالية أحرزت في مرحلة قصيرة ( أي في عصرها الذهبي ) في 1950-1973 ما لم يكن ممكناً. لقد تمكنت الرأسمالية بصورة فعلية من القضاء على البطالة والركود الإقتصادي والفقر المدقع ( في الدول المتقدمة ). كما تمكن النظام من تسجيل أرقام قياسية في مجال النمو الإقتصادي المتواصل والسريع حتى في بعض الدول الأقل نمواً ، وخلق آمال في صفوف الطبقة العاملة فيها بتحسن ظروفها المادية وتحقيق تلك الآمال بصورة فعلية. ومع كل ذلك طرأت ومنذ اوائل سبعينيات القرن العشرين تغيرات هائلة. لقد واجهت الرأسمالية موجة جديدة من البطالة على نطاق واسع والفقر بل وحتى المجاعة والتشرد جنباً مع الغنى الفاحش حتى في أكثر الدول ثراءً. لقد واجهت الرأسمالية مرحلة ثبات الدخل بل وحتى تدنيها وركوداً حاداً. ولا شك بأن هذه الظواهر تشكل في الإقتصاديات الثرية والمتقدمة المبنية على السوق موانع ضعيفة نسبياً إلا إنها حين تقارن بالخراب الحاصل في الإقتصاديات الإشتراكية الشرقية، حينها يبدو جلياً بأن الرأسمالية ليست بمنتصرة بل تولد الرأسمالية العالمية أزماتها وهي مدركة بها. بل وهناك تلميحات بالأزمة التي حدثت في 1930. تمعنوا قليلاً في إستطلاع جديد للرأي أجري في جنوب فلوريدا في الولايات المتحدة : 29% من المستطلعين لديهم أقارب تم فصلهم من أعمالهم، 34% منهم لهم أقارب عاطلين عن العمل، وبحدود 73% تنبؤوا بحدوث إنخفاض في مستوى معيشة الجيل القادم 2. وكان الوضع على المنوال ذاته في الدول النامية حيث كانت الأوضاع مزرية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين بإستثناء آسيا الشرقية. كما كانت تداعيات أزمة 1980، في البرازيل وبيرو، في واقع الأمر، أكثر وخامة من النتائج التي ترتبت على أزمة 1930.
بإيجاز، يمكن تسمية آواخر القرن العشرين بفترة الأزمة المتواصلة في نمو الإقتصاد العالمي التي تركت آثاراً عميقة، وإن بدرجات متفاوتة، على سائر أنحاء العالم وأحدثت فيها هزة قوية. وتسمى هذه المراحل لدى المؤرخين ب (( موجات كوندراتيف الممتدة)) وإن يكن من الصعب إتفاق الباحثين حول ماهية بل وحتى وجود تلك الظاهرة أحياناً.وقد تزامن تلكت المراحل في السابق، أو نظيراتها من الموجات النازلة (( الموجات الممتدة))، مع تغيرات وتحولات في الإقتصاد العالمي وهنا من الضروري أن أضيف إليها (( أزمة الآيديولوجيا والثقافة والحضارة)). ويمكنني التأكيد بأن (( موجات كوندراتيف الممتدة)) ظهرت قبل قرن تحديداً حيث ظهرت الموجات الصاعدة في 1851 تقريباً بينما ظهرت الموجات النازلة بين 1873 – 1896. وإذا أخذنا التذبذبات المذكورة كوحدة رمزية، فقد كان من المتوقع أن يشهد النصف الثاني من 1990 فترة نمو مستقرة بدون العودة إلى (( العصر الذهبي )) لعقدي 1950- 1960 مطلقاً. ويقيناً كان أبرز ثمار هذه المرحلة من الأزمة هو إنهيار الإقتصاد والنظام السياسي الشيوعي في أوربا الشرقية إلا أنه من المتعذر فصل ذلك عن التحولات الشاملة للإقتصاد العالمي لمرحلة ما بعد (( العصر الذهبي )) لأن الإنهيار الإقتصادي للشيوعية في أوربا الشرقية كان ناجماً إلى حد بعيد عن الإندماج المتواصل لتلك الأنظمة في الإقتصاد العالمي بدون أن تملك ما يكفي من القدرة على مواجهة تذبذباتها والفوضى المصاحبة لها.
إن حصر التحليل في النطاق الضيق للصراع بين القطبين في الحيز السياسي هي عملية تثير كثيراً من الغموض. فمن السهل وضع الإستبداد إزاء الحرية أو المقارنة بين الأنظمة المستبدة والديمقراطية و ربط أحداها بالشيوعية ( المهزومة) والآخر بالسوق الحرة ( الظافرة). إن هذه المعادلة يتم طرحها من قبل ممثلي واشنطن بصورة دائمة وهم يقيسون مدى شيوع الديمقراطية في الإتحاد السوفياتي السابق بمدى تطبيق آليات إقتصاد السوق. وبمواجهة تلك الآراء يمكن الآن حتى الإستدلال بآراء السيد فرانسيس فوكوياما منظر تلك التوجهات والذي بيدو عليه علائم التراجع كأخطبوط تائه. وطبقاً لآراء فوكوياما فإن نهاية الشيوعية تمثل (( نهاية التاريخ)) لأنها تمخضت عن إنتصار الديمقراطية الليبرالية. وقد أستنتج فوكوياما في كتابه الأخير، وبشيء من الخجل، بأن مستوى النمو الإقتصادي في العديد من الدول المستبدة التي تميل نحو إقتصاد السوق، هي اعلى مقارنةً بالعديد من الدول الديمقراطية لأن ((الأنظمة المستبدة بوسعها أن تتبع بشكل أفضل السياسات الليبرالية الحقيقية بدون أن يلعب الأهداف المرتبطة بإعادة توزيع الدخل دوراً في عرقلة التنمية الفعالة)). إلا إن ذلك ليس سوى موضوع هامشي لذا دعنا نعود إلى السؤال الأساسي. ليس هناك أدنى شك بوجود فرق جوهري بين الدول التي تمنع مواطنيها من السفر وتلك التي تمنح الحرية في السفر أو بين الدول التي تمنح حرية النشر فقط للحقائق والأحداث والكتابات التي تتمع بتأييد رسمي من قبل الأجهزة الرسمية المختصة وتلك الدول التي لا تتبع تلك الممارسات. إلا إن الليبرالية التي تضمن تلك الحريات الفردية تختلف عن الديمقراطية وإن كنا نحبذ الديمقراطيات التي تمنح تلك الحريات. وكان من المدهش أن يكون النظام الملكي في هابسبورغ – النمسا وهو يمنح حق تبوأ منصب الأستاذ الجامعي للإشتراكيين ( بعكس الآمبراطورية الألمانية) ، ليبرالياً وليس ديمقراطياً. كما كانت جمهورية ايرلندا منذ 1922 وبعدها، أي قبل العديد من دول العالم الديمقراطي، ذو جذور ديموقراطية أكثر ثباتاً ورسوخاً إلا إنها لم تكن دولة ليبرالية لمرحلة طويلة في تاريخها ولربما كا ذلك بسبب تبعيتها للكنيسة الكاثوليكية في روما حسب دستورها. وعلاوة على ذلك فإن مصطلح (( الديمقراطية)) بحد ذاتها لا تحدد ماهية الدول فقد كانت الولايات المتحدة والأنظمة المعروفة بالديمقراطيات بالشعبية بل وحتى كوريا الديمقراطية الشعبية ( الشمالية)، تؤكد جميعها خلال الحرب الباردة، على كونها أنظمة ديمقراطية. إنه لمن الصواب بأن جمهورية ألمانيا الديمقراطية لم تكن نظاماً ديمقراطياً بالمرة، إلا إننا لن نصل إلى نتيجة تذكر إذا قمنا بتعريف الديمقراطية بالمفهوم الليبرالي _ الديمقراطي كما هو شائع في يومنا. فالدول التي تنتخب حكامها عن طريق الإنتخابات العامة ضمن قائمة من مرشحي الأحزاب المتنافسة تشمل في يومنا، كما أظن، الولايات المتحدة الأمريكية وسائر دول الإتحاد السوفيتي السابق وألبانيا وإسرائيل وبابوا نيو غينيا وباراغواي وحتى المكسيك. إن وجود مجلس النواب وحكومة منتخبة و رئيس للجمهورية منتخب بصورة فعلية من قبل الشعب أحياناً، لها أهمية لا شك فيها، إلا إن ذلك لا يضع جمهورية آذربايجان ( بعد مرحلة الشيوعية) في مصاف بريطانيا العظمى، أو اليابان في مرتبة مساوية للسويد. وعلاوة على ذلك فإن هذه المقارنة لا يرينا شيئاً حول آفاق بقاء هذه الأنظمة الديمقراطية. لقد كانت جميع الحكومات التي خلفت الإمبراطورية الألمانية، ودولة النمسا _ المجر وكذلك روسيا، في 1919، عدا روسيا السوفيتية، حكومات ديمقراطية ليبرالية. إلا إنه وبعد 15 عاماً، لم يتبقى أثر لذلك سوى في جيكوسلوفاكيا وفنلندة.
ليس من الصواب رؤية صورة العالم وكأننا أمام خيار سهل بين بديلين سياسيين.

حدود الرأسمالية

تسود مفهوم القطبين المناظرة الجارية بين الليبرالية والإشتراكية، أو بعبارة أخرى: لقد ساد خلال العقدين المنصرمين، التراجع المتواصل للمثقفين وساسة اليسار أمام شيوع ورواج ايديولوجيا الرأسمالية الليبرالية في ميادين السياسة والإقتصاد.إنها من طراز المناظرات التي أطلق عليها برناردشو ((الحقائق المبدئية العظمى)) من أجل الحرية والمساواة والأخاء، أي (( الحقائق المبدئية العظمى)) الساعية نحو الحياة الحرة والرفاهية. إنها مناظرة بنيت من قبل الطرفين على أسس خاطئة إلا إنه يمكن القول بإن الأسس التي ينطلق منها أحد الطرفين أكثر خطئاً من الثاني. لقد تخلت سائر التيارات الإشتراكية عن مبدأ البناء الإقتصادي عن طريق نفي آليات السوق وتطبيق نماذج إقتصادية مبنية على التخطيط كما جرى في الإتحاد السوفيتي. وهناك من بين هذه الفئة من لم يؤمن بذلك أبداً أما من كان يؤمن بها فقد تخلى عنها. كما سعت سائر الدول الشيوعية ومنذ 1950 إلى إجراء إنعطافة على إقتصادها المخطط ولم يكن من الممكن القيام بذلك من دون اللجوء إلى عوامل السوق. ولم تكن تلك المساعي تجري لأجل تطبيق الستالينية الإقتصادية بل كانوا لا يتمكنون الفكاك من ذلك النهج. وهنا لا أنفي بأن الإشتراكيين ومن ضمنهم ماركس كانوا يحلمون بمجتمع شيوعي لا أثر فيه للسوق بتاتاً بل ولربما ينعدم فيها النقد. تلك حقيقة لا مراء فيها، إلا إنه لمن الصعب الإعتقاد بتلك الأحلام الآن. لقد ولى زمن ذلك.
وفي الجبهة المقابلة، أو فيما يخص مباديء الجهة المناقضة، ( أي الإيمان بأن السوق الحرة لا ينبغي أن تحدها أية قيود والتي ينبغي تركها على حالها من أجل تأمين الرساميل اللازمة لها، والتي بوسعها تأمين تلك الرساميل بصورة وافرة )، فقد تم تطبيق ذلك كنظام سياسي جار في شتى بقاع العالم إلا إنها ورغم جذابيتها من الناحية ( النظرية )، تمثل تحدياً للحقائق الجارية على أرض الواقع من الناحية العملية. أن ما يجري في روسيا والدول الشيوعية السابقة، ما هي إلا عملية فرض قسرية مفاجئة وذهنية لا تقل فقدانها للواقعية عما جرى سابقاً من خلال ما سمي ببناء الإشتراكية من قبل قيادة موحدة في بلد واحد. ولم تجلب تلك العملية في السابق سوى الكوارث مثلما لا يجلب ما يجري الآن سواه. لا شك في إن إقتصاديات أوربا الشرقية كانت بحاجة لإصلاحات جوهرية إلا إن إغراقها المباغت في السوق الحرة لاينجم سوى عن دفعها من الكارثة نحو الهلاك. علاوة على ذلك فقد كان من الممكن التنبؤ بما يجري الآن. إن ما يجعل من السياسات الإقتصادية الليبرالية الجديدة موضع شك، فيما بخص أبناء جيلنا على الأقل، هو عقم تلك السياسات خلال أعوام 1930 في مواجهة الأزمة العالمية الكبرى والتي لم تكن كما يعتقد الكثيرين سوى حصيلة لمثل هكذا سياسات. لقد بنيت عملية إصلاح العالم الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والتي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية من خلال نفي نفس النهج الفئوي بصدد السوق الحرة، إذ شكلت القبول بواقع الإقتصاد المختلط _العام _ الخاص والإقتصاد الموجه للسوق والتخطيط لها، جوهر تلك الإصلاحات. ومثلما يقول كارلوس فوينتز: (( كانت الرأسمالية فيما مضى جبهة مفتوحة أمام النقد الإشتراكي كما كانت تتعلم منها)). إن مفكري الريغانية والتاتشرية لا ينفون ماركس فقط بل وكذلك جون كينز وفرانكلين روزفلت، الذين شيدوا بسياساتهم صروح العصر الذهبي الحقيقي للرأسمالية الغربية.
إنني أتفق مع القائلين بأنه كان من الضروري مقاومة هذه السياسة منذ الشروع فيها في سبعينيات القرن العشرين إذ لم يكن بوسع أكثر الدول الرأسمالية تطوراً التخفيف من تناقضات هذه النظام. وكان من الطبيعي أن يتم القيام بوضع قيود أكثر صرامة على النفقات في الدول الأكثر رفاهاً وفي مجالات أخرى كالبيروقراطية والإدارة غير اللائقة للمؤسسات الإقتصادية الحكومية ومجالات أخرى للإنفاق في المراحل الأخيرة من عملية الإزدهار العالمي. إلا إن وضع تلك القيود لا يبرر، وفق المنطق، العودة إلى الليبرالية المتهافتة والمنفلتة من عقالها كآيديولوجيا ( وكنهج سياسي في الولايات المتحدة وبريطانيا). وتمر هذه الآيديولوجية ،في واقع الأمر، بمرحلة الضمور في الوقت الراهن في الدول الرأسمالية الرئيسية وإن يكن يتم التوصية بها للدول النامية والإشتراكية السابقة.
وما عدا النقاشات والدعاية اللاعلمية فإننا لا نشهد في الوقت الراهم نقاشاً يدور بين أنصار الليبرالية والإشتراكية حول وضع السوق المنفلتة من عقالها أو تقييد السوق بصورة كاملة كنهج مغاير للصيغة الأولى. كما لا يدور النقاش حول نفي أو قبول التخطيط الإقتصادي سواء في ظل الإقتصاد الرأسمالي أو الإشتراكي ( حيث لا تستطيع أية مؤسسة كبرى العمل بدون خطة)، كما إن الجدل لا يدور حول ملكية الدولة للمؤسسات الإقتصادية وإدارتها والتي تعتبر مقبولة مبدئياً حتى من قبل الليبراليين المناصرين للسوق، بل يدور الجدل أساساً حول حدود الرأسمالية والسوق التي لا يتم تقييدها من قبل الدولة. إن الجدل الدائر يتعلق بأهداف السياسة العامة، أو إذا شئتم، بالأولويات اللازمة للخطوات التي ينبغي على الدولة إتخاذها. إن الإشتراكيين لا يقبلون أراء آدم سميث وتأكيده بأن البحث عن المصالح الشخصية من قبل الفرد سيعود بالضرورة بالفائدة على المجتمع أيضاً، وإن كانوا يتفقون مع الرأي القائل بإمكانية إزدياد الثروة المادية لأمة ما إثر ذلك وفي ظل ظروف خاصة. ليس بوسع الإشتراكيين القبول بالرأي القائل بأن تراكم الرأسمال وعمل السوق سيفضيان إلى تحقيق العدالة الإجتماعية بكل بساطة حيث يتفقون مع ويلفردو بارتو 5 القائل بأن: أي مجتمع لن يبقى خالداً إن لم يتبوأ فيها العدالة الإجتماعية والأخلاق بمكانة رفيعة. وليس الإشتراكيين بالتأكيد على خلاف مع سائر الليبراليين بهذا الصدد بل مع الليبراليين المتطرفين من أمثال فون هايك والأنصار المتطرفين للسوق الحرة المهيمنين الآن. إنهم يتفقون في الرأي في هذه المجال مع أنصار الإشتراكية المسيحية (( أنصار السوق الإجتماعية)) ذوي النفوذ الهائل في المجتمع الأوربي.

الإشتراكية أم البربرية

وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة بصدد المجتمع الحر والمزدهر فإن التمايز بين الإشتراكيين من جهة وأنصار الليبرالية الكينزية والديمقراطية المسيحية المدافعين عن السوق الإجتماعية من جهة أخرى يبدو واضحاً. فالإشتراكيين لا يؤمنون بالقدرة على التخفيف من النتائج الإجتماعية المهلكة لرأسمالية السوق الحرة غير المقيدة بواسطة جملة من الخطوات والسياسات الحكومية بل هم على إعتقاد جازم بأن النظام الرأسمالي ، وبناءً على طبيعته، يواصل إنتاج وإعادة إنتاج تناقضاته الذاتية ( كما هو مشروح لدى ماركس) والتي ليس بوسعهم السيطرة عليها. وهكذا ينبغي أن يكون الإدارة الإجتماعية ( إذا إستعرنا الصيغة الكينزية) ، قولاً وفعلاً، عملية أكبر من (( التنظيم الدقيق )) لعربة تعمل بقدر من الجودة بوسعها نقل الركاب إلى حيث ما يشاؤون. إن هذه العربة لا تعمل جيداً. وإذا إفترضنا بأن الرأسمالية العالمية ستفضي من خلال نموها إلى خلق مشاكل يستحيل حلها عن طريق تلك الإجراءات بسبب الطابع الجوهري والمستعصي لتلك المشكلات، حينها لا بد من إيجاد حلول أكثر صرامة وثباتاً للنزعة الأنانية والمصلحية الخاصة الكامنة الآن وراء عقائد الليبراليين الإصلاحيين وأنصار السوق ذو النزعة الإجتماعية. لقد توصل الإقتصاديين الليبراليين المعتدلين عن طريق مفهومهم المسمى ب (( الآثار الخارجية )) أي تأثير العالم الخارجي على الفرد، لذلك النقص الجوهري. لقد كان الإقتصاديين الكلاسيكيين الجدد ينظرون إلى (( الآثار الخارجية )) من زاوية الفرد ( الفرد الحقيقي أو الحقوقي ) أي بمعنى آثار الممارسات غير الخاضعة للسيطرة للفرد أو المؤسسة على الفرد أو المؤسسة. فعلى سبيل المثال، فإن شق طريق رئيسي بوسعه رفع قيمة الممتلكات المحيطة به حيث يرتفع أسعار المنازل القريبة بصورة ملموسة. إلا إنه من وجهة نظر الفرد غير الضليع بعلم الإقتصاد فإن ( الآثار الخارجية ) ليس شيئاً ينحصر ينحصر أثره على نفقات الفرد وطلبه بل تعتبر أمراً ناجماً عن الواقع الخارجي. إن مكسيكوسيتي التي يصعب التنفس فيها ليس إلا نتاجاً ل ( الأثر الخارجي) . وتعتبر مشكلة البيئة أبرز الأمثلة على التداعيات الضارة ل ( الأثر الخاجي ) مثلما تعتبر توفير ((السلع العامة )) من قبل الدولة كالتربية والتعليم والخدمات الإجتماعية والبنية التحتية نماذج حية إيجابية لعمل ( الأثر الخارجي ) .
وهنا عندما نواجه ( الآثار الخارجية )، وهي موجودة في كل مكان ، فإن تأثيرها يؤدي إلى " رفع القيود عن الأسعار وغض النظر عن الجودة حيث يوفر ذلك حيزاً ، في باديء الأمر، لتدخل الدولة " ( كما يعتقد بول سامويلسون ). وفي كل تلك النماذج، مرة أخرى نقلاً عن سامويلسون عميد الإقتصاد الليبرالي " نرى دليلاً قاطعاً على ضرورة تغيير النزعة الفردانية وإحلال نهج جماعي محله" 7 . وعلى الرغم من ذلك لنفترض بأن مشكلة البيئة الناجمة عن النمو غير المقيد للإقتصاد العالمي بعد 1950 تفاقمت بصورة تهدد الكرة الأرضية وسكان كوكبنا خلال عمر جيل واحد فقط فإنه لا بد من إتخاذ سلسلة من الإجراءات الحاسمة للحد من حرية المنتجين والمستهلكين للحيلولة دون وقوع كارثة مميتة. إن إتخاذ تلك التدابير لا يؤدي من الناحية السياسية في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية إلى خلق مشاكل بل بعكس ذلك يؤدي بالضرورة إلى تغيير نموذج ( النمو الإقتصادي الوافر ) ليحل محله نموذج ( النمو الراسخ ) حيث يبقى هناك شك بأن يسلك الإقتصاد الخاص والذي ليس له سوى هاجس النمو المفرط، نهجاً آخر.
يمكنني التأكيد بإيجاز بأن الخلاف في المرحلة الراهنة بين الليبراليين والإشتراكيين لا يدور حول الإشتراكية بل حول الرأسمالية. وفيما عدا إستثناءات قليلة يتفق الطرفان بأن الطراز الإشتراكي التي أنتجه الأنظمة الشيوعية كان مستبدأً وغير فاعلاً لذا ينبغي وضعه جانباً إلا إن تسميته ب ( الإشتراكية ) أو لا فهي قضية تدور حولها جدل حام بين الإشتراكيين لا أود التطرق إليها هنا. إن الإشتراكيين والليبراليين ( عدا فئات نيوليبرالية متعصبة) على وفاق في مجال المباديء العامة بصدد الإقتصاد المختلط. فالكثير من الإشتراكيين ( وخاصة في الدول الإشتراكية الديمقراطية التي تسعى – نظرياً – لبناء الإشتراكية ) يسألون أنفسهم : هل هناك حد فاصل بين اللإقتصاديات المختلطة الاإشتراكية و الإقتصاديات المختلطة الإشتراكية ؟ وإذا وجدت فما هو حدود ذلك الخط الفاصل وما هي المعايير التي تميز المجتمعات الإشتراكية عن غيرها من المجتمعات غير الإشتراكية ؟ ويشكل ذلك في الوقت الراهن على الأقل تساؤلاً اكاديمياً تماماً يمكننا وضعه جانباً إلا إن غالبية الليبراليين يعتقدون بأن القوة المحركة للتطور الرأسمالي لا يضيره شيء أساساً ولا يتطلب سوى درجة طفيفة من السيطرة والإدارة وإن كان الأمر يستلزم في بعض الفترات تطبيق إصلاحات شاملة ومبرمجة كما جرى في المرحلة التي تلت الكساد الكبير وبعد الحرب العالمية الثانية. لقد بات موضع قبول الآن بأن العالم بوسعها العيش في ظل مجتمعات تنعم بدرجة معقولة من الحرية والديمقراطية في الظروف التي خلقتها الرأسمالية.
إلا إن القضية تكمن بالضبط هنا . من العسير حل المشاكل التي تواجهها عالمنا المعاصر والتي جعلت كوكبنا تواجه خطر إستمرار الحياة فيها، بسبب رفع وتيرة الإنتاج والتلوث بصورة هائلة بهذه الطريقة. تلك المشاكل التي أدت إلى تقسيم العالم إلى شلة من البلدان الثرية و مجموعة هائلة من البلدان الفقيرة. لا يبدو في الأفق إمكانية لحل تلك المشاكل الهائلة في نهاية القرن العشرين بدون خطوات منظمة حكومية مبرمجة في مختلف الدول تتبناها سائر الحكومات على الصعيد العالمي وبدون شن حملة شعواء على القلاع الأصلية لإقتصاد السوق الإستهلاكية . كما يستحيل حل تلك المشكلات العويصة عن طريق حلول مبتورة. ويمثل ذلك نداءً يطلقه الإشتراكيين بوجه الليبراليين. وحينما لا يتصدى لهذه المهمة الشاملة والمبرمجة أناس يؤمنون بقيم الحرية والعقل والحضارة سيسقط لا محالة بيد من لا يؤمن بها إذ من الضروري التصدي لتلك المسؤولية الخطيرة. إن ما يؤسف له ومما هو قائم كإحتمال قوي هو التصدي لهذه المهمة الخطيرة لآواخر قرننا من قبل شلة من الأنظمة اليمينية المستهترة القومية والمعادية للأجانب و التي تعادي الإشتراكية مثلما تعارض الليبرالية لإنهما يمثلان كلاهما تجسيداً لأسس العقل والتطور وعصر الثورات العظيمة. ذلك هو مكمن الخطر. لقد حذرنا روزا لوكسمبرغ : ليس أمامنا في القرن العشرين سوى طريقين واقعيين، (( الإشتراكية أو البربرية )). وإذا كان من الصعب طرح الإشتراكية كبديل فوري فلا بد أن نكون حذرين من البربرية وخاصة حينما تترافق مع التكنولوجيا المتطورة.


ترجمة
أحمد معين



1- تدور هذه النظرية حول لعبة بين شخصين فقط. لذا وكما يوضح الكاتب فإن فوز أحدهم يعني خسارة الثاني والجمع الرياضي للفوز و الخسارة تساوي الصفر دائماً.
2- Miami Herald, 9 Feb. 1992.
3- Konderative Long Waves مقتبسة من إسم نيكولاي كوندراتيف ( 1892-1931). إقتصادي روسي مبتكر وشارح نظرية الموجات الممتدة في المجال الإقتصادي.
4- Francis Fokoyama, The End of the History and the Last Man. London 1992, P.124.
5- ( 1848-1923) عالم إقتصادي إيطالي وأستاذ في جامعة لوزان.
6- Social Market Economy
7- Paul Samuelson, The Economist, New York 1976,pp. 47-48.

• تم نشر هذه المقالة ، والتي هي خلاصة لبحث تم تقديمه في ندوة فكرية في المكسيك في شباط 1992 للمرة الأولى بمجلة New Left Review بعنوان :" The Crisis of Today s Ideologies" No 192, March- April 1992.

• ملحوظة من المترجم :

لقد قمت بترجمة هذه المقالة ليس من منطلق الإعتقاد بكل ما ورد فيها من آراءأو إستنتاجات بل منطلقاً من مكانة الكاتب كأحد أعمدة الفكر اليساري والباحثين في هذه المضمار وخاصة في الشأن التاريخي عدا أهمية المسائل التي يثيرها الكاتب بالنسبة للحركة اليسارية العالمية وللفكر الماركسي.
وللكاتب مجموعة مهمة من الكتب مثل: الأمم والنزعة القومية ، وعصر الثورات ، وعصر التطرف ، وعصر الرأسمال، وعصر الأمبرطوريات والعديد غيرها من الأبحاث والكتب القيمة.





#احمد_معين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موجز عن الحزب الشيوعي والتنظيم العمالي
- هل بتنا في زمن الفتوى ؟
- العراق : مثلث الإحتلال وسلطة الطوائف وصولات الإرهاب
- العدالة أم الإنتقام في إعدام صدام !
- ذكّرني الريس !
- الحراك في صفوف الحركات الأسلامية
- الهولوكوست الكردي ، هل بات مادة للتندر ؟
- الانتخابات في العراق : بين الوهم والواقع
- المغزى الحقيقي لإعادة إنتخاب بوش
- بوش : حكومة إسلامية في العراق وإن على مضض !
- هل يصلح العطار ما أفسده الدهر ؟ بصدد عملية نقل الساطة في الع ...
- نص الافتتاحية التي القاه الرفيق -احمد معين- في الكنفرنس الرا ...
- عبدالعزيز الحكيم, لمن ولائه؟
- احتلال العراق: نتائج وافاق
- فتن العراق : من ايقظها ؟
- الحركة المطلبية وسبل الإرتقاء بها
- التنظيم هي القضية الجوهرية لعمال العراق
- مجلس الحكم الإنتقالي: من يحكم من؟
- حذار من بعض المتعاونين مع الشعب العراقي !!
- أزمة النظام السياسي في العراق


المزيد.....




- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...
- اعتقال عشرات المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في عدة جامعات أمريك ...
- كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في المهرجان التضامني مع ...
- ال FNE في سياق استمرار توقيف عدد من نساء ورجال التعليم من طر ...
- في يوم الأرض.. بايدن يعلن استثمار 7 مليارات دولار في الطاقة ...
- تنظيم وتوحيد نضال العمال الطبقي هو المهمة العاجلة
- -الكوكب مقابل البلاستيك-.. العالم يحتفل بـ-يوم الأرض-


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - احمد معين - أزمة الآيديولوجيات المعاصرة - أريك هوبسباوم