أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 5















المزيد.....



حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 5


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1984 - 2007 / 7 / 22 - 08:29
المحور: الادب والفن
    



سابعاً ـ الهرطقة والجريمة

1 ـ المجرم والفكر المجدّف
" خيّم الصمت على النقش خانة التي يتواجد في غرفها الضيقة في الطابق السفلي حوالي ثمانين تلميذاً ومتدرباً ونقاشاً .. قال لي المعلم العجوز شبه الأعمى الذي بلغ الثانية والتسعين من عمره أمراً أعجبني وأشعرني بأن الحروب الناشبة هنا كلها وإنقلاب الأمور رأساً على عقب تبين أن كل شيء في البعيد ينتهي ، وأن صمتاً كهذا سيخيم قبل قيام القيامة . النقش هو صمت العقل وموسيقى العين " ( إسمي أحمر ، ص 88 ) . هذه الكلمات ، يسوقها " قرة " في مناجاته الخاصة ، فيما هوَ يعاين التغيّر الحاصل في " اسطنبول " ؛ مسقط رأسه ومدينته الحبيبة . ثمة إشارة ، في مختتم تلك المناجاة ، عن قرب " قيام القيامة " ، محالة إلى حالة الصمت ، المريب ، المخيّم على المدينة . لكأنما إستدراك بطلنا بأنّ " النقش هوَ صمتٌ " ، يوحي بأنّ تلك النقش خانة ما هيَ إلا صورة مصغرة عن عالم المدينة تلك ، وفي آن عن العالم كله ، المنتظر لحظة القيامة ، الوشيكة .

" قاعة الكتابة ، مصنع للمعرفة تعمه البهجة . عدد نوافذها أربعين ( وهو رقم كامل حقاً ، ناتج عن ضرب المربّع في عشرة ، كما لو عظمت الوصايا العشر في الفضائل الأساسية الأربع .. ما أن إنبعث المرح والضحك في القاعة ، على أثر تداول لوحات " ادالمو " ، حتى دخل الأعمى العجوز مردداً كلام المسيح : " لم أتفوه قط بكلمة تافهة أو بقول يبعث على الضحك " ( إسم الوردة ، ص 94 ـ 101 ) . هكذا يأتي قلم الراوي على وصف تلك القاعة ، المخصصة للنمنمة والرسم ، والتي يعمل فيها المزخرفون والمفهرسون والناسخون . لقد سبق أن نوهنا ، أكثر من مرة ، بكون ذلك الدير المخصص لطائفة الفرنسيسكان ، كصورة مصغرة عن العالم . وها هيَ هنا قاعة الكتابة في الدير ، مبنية وفق مقاييس تستدعي مجازَ قران المعرفة والإنجيل . العجوز الأعمى ، " يورغ " ، حاضرٌ هناك إذاً ، بصفته نذيراً للفتيان النساخين أولئك ، حيث يطالبهم بأن ينحّوا جانباً " تفاهات " الكلمة والرسمة ، المخالفة لأصول العقيدة ، متنبئاً في موعظته تلك بقرب حلول القيامة : " لا تهدروا الأيام السبعة الأخيرة ! " ( ص 106 )

" فكرَ بعدم إفادة كل هذا العدد من الكتب التي كتبها بخط جميل في إيقاف هذه المجزرة الفظيعة والتخريب ، وأقسم ألا يكتب مرة اخرى . والأكثر من هذا انه وجد في نفسه دافعاً للتعبير عن ألمه والكارثة التي رآها تحلّ بفن الرسم الذي كان يستهين به ، ويعتبره تمرداً على الله حتى ذلك اليوم . وعلى الورق الذي كان لا يخرج دونه أبداً رسم ما رآه من المئذنة . ونحن مدينون لهذه المعجزة بإستمرار قوة الرسم الإسلامي على مدى ثلاثة قرون وتميزه عن رسم الوثنيين والمسيحيين برسم العالم من حيث يراه الله من الأعلى ، أي وضع خط أفق والرسم بأسى " ( إسمي أحمر ، ص 103 ) . هذه الحكاية التاريخية ، المفترضة ، ، قصّها على " قرة " زميله النقاش " لقلق " ؛ بهدف شرح أسلوب الفن الإسلامي وما يحول دونه والتأثر بأسلوب الفنون الاخرى ، والمسيحية منها بشكل خاص . على أنّ مما له مغزاه هنا ، أن يَردَ في الحكاية تلك مصيرُ مكتبة بغداد ، العظمى ، التي كانت مشهورة بنفائسها من المخطوطات النادرة ، والمندثرة جميعاً تقريباً . هكذا مصيرٌ ، يُحيلنا إلى رواية كاتبنا الإيطالي ، القرينة ، والتي كانت حكايتها متمحورة على مكتبة الدير ، تحديداً .

" حكايات غريبة تروى ، حول راهب أراد أن يجازف أثناء الليل ويدخل إلى المكتبة ، للبحث عن شيء لم يرد " ملاخي " أن يعطيه إياه ، فرأى ثعابين ، وبشراً بدون رأس ، وبشراً برأسين . كاد أن يخرج مجنوناً من المتاهة " ( إسم الوردة ، ص 113 ) . هذا ما يقصه على الراوي الراهبُ الزجّاج ، مباشرة بعد مقتل زميله النسّاخ " ادالمو " . فمهنة أولئك الرسامين ، والمتماسّة بشدّة بالمخطوطات ، كان لابدّ أن يجعلهم على فضول جامح لمعرفة خبيئتها ، ومن ثمّ المغامرة في الوصول إلى المكتبة ؛ ثمة أينَ المخطوطات الاخرى ، النادرة ، المرسومة في أزمان قديمة سابقة ، والمضروب عليها نطاق من الحظر والتكتم . لكأنما أبطال روايتيْ إيكو وباموك هاتيْن ، يلتقون في طريق كلّ منهم ، المعاكس ، إلى المعرفة الكليّة : الخطاط البغدادي ذاكَ ، يترك مهنة الكتب ويحترف صنعة الرسم ، إثر يأسه المصاقب لكارثة تدمير المغول مكتبة مدينته ، الكبرى . في المقابل ، يدعُ كلّ من " ادالمو " وزملائه الرسامين عمله في قاعة النمنمة ، ويروح باحثاً بشكل محموم عن الكتب المحرّمة ، السريّة . وفي " إسم الوردة " ، تلفتنا إشارة مما سبق ، بأنّ المكتبة عبارة عن " متاهة " ، وأنّ المجازفة بالدخول إليها ليلاً قد تعرّض مرتكبها إلى الجنون ، بما يتوهمه من وجود الوحوش والمخلوقات الهجينة .

" هل ستأخذين الأولاد وتذهبين تاركة والدك العجوز وحيداً ؟ تعرفين أنني أخاف القتل بسبب كتابنا ـ نعم ، قال : كتابنا ـ ولكنك إذا أخذت الأولاد وذهبت فأنا سأطلب الموت " ( إسمي أحمر ، ص 130 ) . ذلك ما تتذكره " شكورة " ، في مناجاتها ، من آخر حديث لها مع الوالد ، قبيل مقتله . إنها تشدد في تلك الجملة ، الواردة على لسان أبيها ، على كلمة " كتابنا " ؛ وكما لو أنها على معرفة مسبقة به وبالأخطار المحتملة ، المحيطة بأمره . بطبيعة الحال ، فالمقصود لم يكن سوى كتاب " سَرْنامة " ، السلطانيّ ، المتعيّن على " زوج الخالة " وصحبه من النقاشين العمل عليه بسرية مطلقة . لا يلبث هذا بما يتاحَ لمناجاته ، الخاصة به ، أن يخبرنا بأنه وزملائه أولئك ، النقاشين ، قد دخلوا في نزاع شديد ، خفيّ ، حول شرعيّة العمل في كتاب سريّ يقلد إسلوب الأساتذة الإفرنج " الكفار " ، حتى مع علمهم بتأييد السلطان للعمل . ها هوَ " ظريف افندي " ، يسقط قتيلاً على درب ذلك الكتاب ، المدميّ ، وزميله " زوج الخالة " يفكر أثناء تشييعه مهموماً ، قلقاً : " في تلك اللحظة وثقت أن القاتل سيستمر بأعمال الشيطان والفساد وهو معاد للكتاب الذي أعمله ، ومن المحتمل أنه جاءني إلى البيت وأخذ شغلَ نقش من أجل كتابي " . ( ص 137 )

" لا ينبغي أن تصل دائماً أسرار العلم إلى أيدي الجميع ، إذ قد يستعملها البعض لأغراض سيئة .. ولذا فمن الصالح في مكان كهذا أن لا تكون بعض الكتب في متناول الجميع " ( إسم الوردة ، ص 111 ) ، يقول المحقق " غوليامو " لصاحب المختبر ، مشيداً بإكتشافات المسلمين ( " الكفار " بلفظ ذلك الزمن ) . إنه في محاورته تلك مع رجل المختبر ، كان يحاول إختباره وما إذا كانت له صلة بسمّ قاتل ، صار محققنا هذا يشك في كونه وسيلة القاتل للإيقاع بضحاياه . إن تشديد " غوليامو " على ما دعاه " بعض الكتب " ، إن هوَ إلا تلميح لذلك الكتاب السريّ " الضحك " لأرسطو ، والذي يحاول سدَنة الدير كل ما بوسعهم من أجل ألا يطلع أحد عليه ؛ وخصوصاً أولئك النقاشين ، الفضوليين . ها هنا يدخل " يورغ " ، العجوز الأعمى ، في قلب المسألة ؛ هوَ الذي سبق له أن جادل " فينانسيو " ، القتيل الثاني ، في موضوع ذلك الكتاب الإغريقي ، واصفاً إياه بأنه عملٌ من الشيطان : " ظل مجهولاً ألف عام بإرادة الربّ حتى وصل إلينا عن طريق العرب الكافرين " . ( ص 133 )

" ولكن بعد أن قتلت ذلك السافل قبل سبعة أيام لم أعد أستطع ضبط جان وشياطين داخلي عند المساء . إنهم يرفسون في داخلي حتى يجعلونني أقول لنفسي : إذا خرجت قليلاً لعلهم يهدؤون " ( إسمي أحمر ، ص 176 ) . من مناجاة القاتل هذه ، ندركُ حالته النفسية ، الصعبة ، بعيد إيقاعه بضحيته الاولى ؛ النقاش ظريف أفندي . هذا الأخير ، موصوف من لدن قاتله بـ " السافل " . وهنا ، نلتفت مجدداً لأسلوب الروائي باموك ، والذي سبق أن نوهنا به بخصوص دمجه لأكثر من حكاية في نصه الروائي : فالصفة نفسها ، " السافل " ، كان قد سبق للنقاش القتيل أن محضَ بها القاتل ، وفي الفقرة الأولى من مناجاته " أنا ميت " ، المفتتح بها الرواية . لكأننا أمام مجموعة من الرواة ، المفترضين ، وهم يواصلون الحكاية نفسها ، بتسلسل يبدو كما لو أنه مدبّر من لدنهم ! وعلى كل حال ، فإنّ للقاتل تبريره لوصم ضحيته بالسفالة ، لما كان من تشكيكه بالمهمة المطلوبة من جمهرة النقاشين ؛ ألا وهيَ رسم ذلك الكتاب السريّ : " تطاول هذا الرجل على العاملين في الكتاب الذي طلبه سلطاننا . ولولا أنني أخفيت صوته لأعلن أن الأفندي زوج الخالة والنقاشين كلهم حتى الأستاذ عثمان زناديق ويرمي بنا أمام رجال الشيخ الأرضرومي الذين لا يرون أمامهم " ( ص 177 ) . إنّ القاتل هنا ، يبرر جريمته على أنها مجرد دفاع عن النفس ، وعن بقية زملائه من العاملين في مشروع الكتاب . إلا أنه ما يلبث أن يجد خطاه التائهة ، الهاربة من شياطين النفس ، وقد راوحت أمام منزل زوج الخالة ؛ معلمه في ذلك المشروع . ها هو ينقل شكوك القتيل ، " ظريف أفندي " ، لمعلمه العجوز راجياً إياه أن يوضح له ما إذا كان عملهم مخالفاً للعقيدة : " وثمة من يقول ، أن كتابنا يظهر الشيطان بشكل محبب ، واننا ننظر إلى العالم بعين الكلاب الشاردة القذرة منظورياً ، فإذا رسمنا ذبابة حمار وجامع نرسم الذبابة بحجم الجامع بحجة أن الجامع في الخلف ، وهذا كفر بديننا ، وسخرية من المؤمنين الذاهبين إلى الجامع . ولا أستطيع النوم ليلاً لكثرة ما أفكر به " ( ص 231 ) .

" لقد لاحظتُ أن الأحداث الأكثر أهمية تقع أثناء الليل : هناك من يموت ، هناك من يطوف بقاعة الكتابة ، نساء يدخلن " ( إسم الوردة ، ص 296 ) ، هذا ما يقوله محققنا ، " غوليامو " ، بعدما شهد الدير وقوع الجريمة الثالثة ، المودية أيضاً بحياة أحد الرهبان الرسامين . القاتل إذاً ، هنا أيضاً يخرج ليلاً مطوفاً في أنحاء الدير ، وخصوصاً في قاعة الكتابة ، المغلقة منذ حلول المساء . إن " يورغ " ، العجوز الأعمى ، وبصفة عاهته هذه ، كان معروفاً بكثرة تجواله ليلاً . إنه يظهر غالباً في أوقات الأزمة ، السابقة أو اللاحقة لوقوع جريمة قتل ؛ كما في مروره أمام المحقق والعشاب ، حينما كان هذا الأخير يتكلم عن وجود " كتاب غريب " في مختبره . ما كان ذلك الكتاب ، طبعاً ، سوى مؤلف أرسطو ، والذي أثار فضول الرهبان لمعرفة محتواه . وإذ يعتبر العجوز الأعمى أنّ هذا الكتاب وثنيّ ومخالفٌ للعقيدة المسيحية ، فإنّ " غوليامو " يخالفه الرأي : " لقد وضعوا بين الوحوش والأكاذيب كتب علم تفيد المسيحيين " ( ص 346 ) . من جهته ، فإنّ " يورغ " الأعمى كان يخشى تمادي الرهبان في فضولهم المعرفي ، مما يضع حجة بيد أعداء جماعة الأخوة الفرنسيسكان ؛ هي المتهمة أصلاً بالهرطقة بسبب تبنيها فكرة " فقر المسيح " ، التي أدانها البابا وحرّمها . فالقاتل والحالة تلك ، كان يعتقد أنّ سلوكه هذا ، في التعامل مع قضية الكتاب السريّ ، منطقيّ ومبررٌ ما دام في صالح الرهبنة ، إلى حدّ إرتكابه الجريمة تلو الاخرى .

" يشاع أن المسكين ظريف أفندي رأى الرسم الأخير مكتملاً ، وأننا قتلناه لإدراكه أنه كفرٌ بديننا " ( إسمي أحمر ، ص 233 ) ، يقولُ القاتل لمعلمه العجوز ، " زوج الخالة ". فأن يشدد الرجل على كلمة " قتلناه " ، جامعاً الفعل ليشمل معلمه ذاكَ وزملاءه النقاشين العاملين في الكتاب ، كان له مغزاه هنا : فهوَ أولاً يريد تبرير الجريمة ، والأهم أنه يحاول إختبار ردة فعل المعلم قبل أن يبوح له بإعترافه أنه القاتل . الفقرة التالية ، المنذورة لمناجاة " زوج الخالة " وقد أضحى ميتاً ، تنبينا بكون الأخير في ساعته الأخيرة حياً قد تيقن من أنّ ذلك النقاش الزائر ليلاً ليسَ إلا قاتل " ظريف أفندي " . هوذا يجهد في طمأنة الزائر ، لكسب الوقت ومحاولة النجاة من براثنه ، ماضياً معه في مجادلة طويلة عن أصول الفن الإسلامي وتطابقها أو تنافيها مع أصول العقيدة الدينية : " أنا اعرف أنّ خيال طأطأة رؤوسنا سلفاً أمام هجوم الفقهاء والوعاظ والقضاة والشيوخ بتهمة الإلحاد وشعور الذنب اللا متناهي ، يقتل خيال النقاش من جهة ويؤججه من جهة اخرى " ( ص 244 ) . ولكن القاتل يدرك لعبة معلمه ، وما عتمت المناقشة أن تحولت إلى إتهامات متبادلة ، خصوصاً في تحدبد المسؤول عن تبني الأسلوب الجديد ، الإفرنجي ، المنعوت بالتجديف على أصول العقيدة . إن القاتل ، وقد بدا مصمماً على الإيقاع بضحيته الجديدة ، يوائم بين مفردتيْ " الأثر والأسلوب " مستلهماً مجاز الجريمة والرسمة : " لم أترك أي أثر أبداً . قل ما هو أصل ما يدعى الأسلوب . الآن يتحدث الرسامون الأفرنج والصينيون عن اللون والأسلوب في المهارة . هل من المفروض ان يختلف النقاش الجيد عن الاخرين بأسلوب أم لا ؟ " . ( ص 246 )

" إن وجدَ الأثر فيجب أن يكون هناك الشيء الذي هو منه أثر ، كما أنّ الصورة دلالة على الفكرة " ( إسم الوردة ، ص 318 ) ، يقول " غوليامو " لتلميذه في محاورة بينهما عن علاقة " الأثر والأسلوب " فنياً بموضوع الجرائم المستجدة ، التي تهز الدير . وبما أنّ جميع الجرائم تلك ، كما إستقر في ذهن محققنا ، كانت ترتكب من أجل الكتاب السريّ ، فكل أثر كان يُعثر عليه لا بد أن يؤدي إلى تلك المعرفة المحرّمة . لا غروَ إذاً ، أنّ المعلم وتلميذه راحا يحاولان كل ليلة إختراق حجب المتاهة ، سعياً لولوج أسرار مكتبة الدير ؛ أين من المفترض أن يكون ذلك الكتاب محفوظاً ، شأنه في ذلك شأن بقية الكتب الممنوعة : " الكتاب مصنوع من دلالات تتكلم عن دلالات اخرى تتكلم بدورها عن الأشياء . أسست المكتبة لحماية الكتب التي تحويها ، ولكنها أصبحت تعيش لكي تدفنها " ( ص 428 ) . وها هو " يورغ " ، بدوره ، يبدي رأيه علانية في مهمة المكتبة والقيمين عليها ، وذلك في كلمة له على جثمان أحد الضحايا : " المعرفة الإنسانية والإلهية ثابتة كأنها قلعة لا تنهار .. علينا أن نتأمل ، أن نشرح وأن نحفظ . كانت هذه وكان ينبغي أن تبقى هذه مهمة ديرنا بمكتبته الرائعة " ( ص 432 ) . إنّ العجوز الأعمى هذا ، في مداخلته نفسها ، يَعتبرُ أنّ القاتلَ ـ المجهول حتى ذلك الوقت ـ كان الواسطة التي تمت بها إرادة الربّ ، مشبهاً إياه بـ " يهوذا الاسخريوطي " الذي خان المسيح ، حتى يكتمل سرّ الخلاص .

2 ـ المجرم والعمى
" حسب رأي الأستاذ النقاش ميراك ، فإن العمى ليس بلاء بل هو السعادة الأخيرة التي يمنحها الله للنقاش الذي وهب حياته كلها للجمال . لأن النقش هو بحث النقاش عن الرؤية الإلهية للعالم ، ويتحقق المنظر الفريد بالتذكر بعد إنهيار النقاش تماماً ووصوله إلى العمى . هذا يعني عدم فهم الرؤية الإلهية إلا من خلال ذاكرة النقاش الأعمى " ( إسمي أحمر ، ص 116 ) : هذا ما يعتقده النقاش المدعو " زيتون " ، في مناجاته الأولى ، الممنوحة لصوته في السرد . إذ سبق لنا أن نوهنا ، بكون الرواية مبنية من أصواتٍ عدّة ، تحقق بنية السرد وحكايته على السواء . الملفت هنا ، أنّ هذا النقاش هوَ الوحيد من بين شخصيات الرواية ، الذي يتفرّد بصوتيْن فيها : " ينادونني زيتوناً " و " سيقولون عني قاتل " ؛ وكان بذلك الشاغل الأكثر لمساحة السرد ، بعدَ البطل " قرة " . لكأنما نقاشنا هذا ، في مناجاته الأولى تلك ، كان يتنبأ بمصيره اللاحق ، حينما يتمّ كشف شخصيته السريّة بوصفه قاتلاً ، فيصار إلى العمى جزاءً لما إرتكبه من جرائم . وكأني به ، في نبوءته تلك ، يظهر لامبالاته بالعمى ، ما دامت ذاكرته ـ كفنان نقاش ، تتيح له تنمية حاسة الحدس لديه وتعينه بالتالي على مواصلة رسالته " الإلهية " حتى في متاهة العمى . ها هوَ نقاشنا في خاتمة رحلته ، هناك في " النقش خانة " ، السلطانية ، رفقة زميليه النقاشيْن " لقلق " و " فراشة ، الذيْن كوّنا وإياه ثلاثياً ، تتابَعَ صوته في السرد . كان زميلهم الآخر ، المستجدّ ، " قرة " ، هناك أيضاً ؛ هوَ من تعيّن عليه القيام بمهمة المحقق ، سعياً لكشف حقيقة الجرائم المبلبلة حياته الخاصة ـ كنقاش مساهم في إنجاز الكتاب السري ، فضلاً عن كونه حبيباً لـ " شكورة " ، التي فقدت أباها بضربات القاتل والذي ما كان سوى " زيتوناً " النقاش . هذا الأخير ، في مناجاته " سيقولون عني قاتل " ، المفترض أنه إختتم بها حياته ، يضعنا في فكرة الجريمة وبواعثها ـ المشكلة محتوى الحكاية ـ حينما يخاطب زميله " قرة " المتناهض فوقه لإيقاع العقاب به : " إن أعميتني أم لم تعمني فإننا في النهاية لن نستطيع إيجاد موقع لأنفسنا . إن عَمِيَ الأستاذ عثمان أو مات ، وإذا نقشنا بعيوبنا كلها وشخصيتنا وبدافع دواخلنا نحو التأثر بالأفرنج سنشبه أنفسنا ، ولكن لن نكون أنفسنا . وإذا قلنا أنه علينا أن ننقش مثل الأساتذة القدماء ، ولا يمكن أن نكون أنفسنا إلا إذا نقشنا مثلهم ، سيجد غيرنا السلطانُ الذي أدار ظهره حتى للأستاذ عثمان . ولن ينظر إلينا أحد ، وسيشفقون علينا فقط . ومداهمة المقهى بمثابة ملح وبهار الطعام ، لأننا سنحَمّل نحن النقاشين مسؤولية تلك المداهمة لأننا نمد لساننا للواعظ الأفندي " . ( ص 572 )

" كان المتكلم راهباً قد تقوّس ظهره تحت وطأة السنين ، أبيض كالثلج ، ولا أعني شعره فحسب ، بل وجهه أيضاً وكذلك حدقتا العينين . ولاحظت أنه أعمى .. وكان يحدق فينا كأنه يبصرنا ورأيته دائماً ، بعد ذلك ، يتحرك ويتكلم كمن لا يزال ينعم بالبصر ، أما نبرة الصوت فقد كانت لمن يملك فقط موهبة التنبؤ " ( إسم الوردة ، ص 101 ) : هكذا يصف الراوي الكاهنَ الأعمى ، " يورغ " ، مشدداً على صفتيْن فيه ؛ وهما إمتلاكه لموهبتيْ الحدس والنبوءة . موهبته الأولى ، أتاحت له مماهاة شخصيته الحقيقية ، الإجرامية ـ كقاتل بارد الأعصاب . والثانية ، كانت في الواقع سبباً للأولى ؛ بمعنى إعتماد هذا الكاهن ، الشديد التزمت ، على " سفر الرؤيا " الإنجيلي ، بوصفه نبوءة لما سيدهم الدير وساكنيه من نكبات . وكاهننا هذا ، يظهر اًيضاً ومنذ البداية لا مبالاة خاصة بمصيره الشخصي ، بما أنه كان يعتقد بالقوة الماحقة لذلك " السفر " وقدرته الكلية ، الإلهية ، على لجم المعرفة المحرّمة : " الإله أراد معاقبة ذلك المغرور الذي يسعى إلى فك أختام الكتب التي لا تعنيه " ( ص 432 ) . لا غروَ إذاً ، أنّ يبدي " يورغ " في الأخير إستسلاماً مدهشاً أمام المحقق " غوليامو " ، إثر ملاحقته في متاهة المكتبة ، ليعترف من ثمّ ببساطة بكل ما إرتكبه من جرائم . إنه هنا ، كان يبغي إثبات صحة " رؤيا يوحنا " تلك ، حتى لو كان الأمر يودي بحياته نفسها . وما كان ذلك ، على كل حال ، معزولاً عن الحالة النفسية لعموم أفراد الفرقة الفرنسيسكانية ، المتبنية نهجاً مداناً من لدن البابا ؛ ونقصد به مقولة " فقر المسيح " ، علاوة على إتهامهم من قبل المصدر نفسه بموالاة الإمبراطور المنافس للسلطة الدينية . على أنّ " يورغ " ، وفق ذهنيته المتزمتة ، الموصوفة ، كان يفسّر تلك الأمور من منطلق رؤيويّ ، مزعوم ، محال كما نوهنا لسفر " يوحنا " الإنجيلي ، داعياً من حوله إلى التهيؤ لنهاية العالم ، الوشيكة ، حينما يأتي ذلك النذير : " من سعى ولا يزال بين هذه الأسوار ليعلمنا أن الساعة قريبة ، وأن الدورة الكبرى لهذا الكون أوشكت أن تكتمل ؟ إنه الوحش الرجس ، إنه المسيح الدجّال ! " . ( ص 434 )

" وخلال عدة أيام مزق جنود هولاكو هذه الكتب الأسطورية الجمال ، والتي لا نعرف عنها شيئاً اليوم ، وأحرقوها ورموها في نهر دجلة . وفي هذه الأثناء كان إبن شاكر ينهي آخر كتاب عاملاً طوال الليل بطوله في ضوء الشمعدان المرتجف . ولأن الوقوف عكسَ الشمس في الشروق والنظر إلى الأفق غرباً مرتبط بالتقاليد وفكر الخلود ، فهذه الطريقة هي الأسلوب الذي إتبعه الخطاطون العرب على مدى خمسة قرون من أجل إراحة العين ومقاومة العمى " ( إسمي أحمر ، ص 102 ) . هذه الحكاية ، المروية في مناجاة " لقلق " النقاش ، ربما تضافر ما أثرناه آنفاً ، عن علاقة العمى بفكرة الجريمة ؛ من حيث كون الأخيرة ، بحسب خطة المؤلف باموك ، بمثابة ردّ فعل القاتل ( " زيتون " النقاش ) على خوفه الدائب من عواقب العمل بمشروع الكتاب السريّ . لكأنما العمى هنا تطهيرٌ للخطيئة : وبما أنّ المقطع السابق ، المقتطف من روايتنا ، قد أحالَ الأمر إلى حكاية أسطورية ، فلنقل إذاً أنّ إحالة اخرى لأسطورة " أوديب الملك " ، المعروفة ، تقوّي من تلك النظرية عن تطهير الخطيئة بوساطة العمى . كذلك الحال ، فيما يخصّ بكون حريق الكتب ، الوارد في الحكاية ، كما لو أنه نذيرٌ بالأحداث المتعيّن على جماعة النقاشين مواجهتها لاحقاً ، حينما يجتاح المقهى الرعاعُ المتعصبون من أتباع الواعظ الأرضرومي ، فيشعلون فيه النار ويقتلون الحكواتي . كل من أولئك النقاشين ، وحتى معلمهم " زوج الخالة " ، كان يحيا في قلق مقيم دافعه ذلك المشروع السريّ ، المُدان سلفاً سواءً بسواء من جانب ضميره نفسه أم من جانب أولئك المتزمتين ؛ هنا وهناك ، بسبب ما كان من تبني أسلوب الأفرنج ( الكفار ) المعدّ تجديفاً على العقيدة . إنّ " زوج الخالة " ، سعياً منه لتهدئة قلق تلميذه " زيتون " يروي له حكاية شبه أسطورية ، عن معلم نقاش إرتدّ إلى حالة من الإحباط واليأس ، بعدما صار مريداً لشيخ صوفيّ أقنعه بأنّ رسومه منافية للدين ؛ فما كان من ذلك المعلم إلا إحراق المكتبة العظيمة في " قزوين " ، الحاوية منمنماته وقضى موتاً وسط لهيب النيران . وفي مكان آخر ، نستدعي مجازَ الحريق بهذه المساءلة من لدن " زوج الخالة " : " في العشرين سنة الخيرة هل بقي حيّ لم تبتلعه الحرائق في اسطنبول كي يبقى كتاب ؟ أية رائعة نقاش يمكن ان تعيش مائة سنة في هذه المدينة التي يُحرق فيها كتب ومكتبات كل ثلاث سنوات أكثر من تلك التي احرقها المغول في بغداد ؟ " . ( ص 252 )

" أما المكتبة هذه ، فيجب أن تخفي الكتابات المعارضة ليتمّ دحضها في المواعيد التي يريدها الإله " ( إسم الوردة ، ص 432 ) : هذا ما كان يعتقده " يورغ " ، الكاهن الأعمى ، أنها مهمّة مكتبة الدير ، العظيمة : إنه إشارة لمصيرها لاحقاً ، حينما تندثر جميعاً في الحريق الهائل . لكأنما كاهننا هذا ، بإفضائه معتقده ذاك حول مهمة المكتبة ، كان يودّ القولَ بأنه من الخير لكتبها أن تبادَ على أن يتمّ الإطلاع عليها قبل أن نتمكنَ من " دحض " مضامينها المتعارضة مع أصول عقيدتنا . ويبدو أن " يورغ " قد تمّت معاقبته ، لسبب ما ، بسمل عينيه . إذ يُعلم أحدهم المحققَ " غوليامو " بأنّ ذلك الكاهن الأعمى كان في شبابه قد ذهب في مهمة إلى بلد آخر ، من أجل جلب المخطوطات لمكتبة الدير : " وعاد قبل الأوان إلى عالم الظلمات " ( ص 506 ) . نحن والحالة تلك ، بإزاء مجاز العمى كتطهير للخطيئة . لا غروَ إذاً ، أنّ " يورغ " سيكون الأكثرَ تزمتاً بين جماعة الرهبان ، ما دام دفع ثمناً باهظاً لفضوله في تلقي المعرفة المحرّمة . خوفه العصابيّ ، المبطن ، من سلطة محاكم التفتيش ( كان أصله إسبانياً ) ، كان منعكساً على مسلكه وخصوصاً لما تعيّن على الدير إستقبال محقق رسمي من قبل البابا : إذا وقف " يورغ " بقوة إلى جانب ذلك المحقق البابويّ ، القاسي الجلف ، وإقتراحه أن يُصار تعذيب فتاة المطبخ وإثنين من الرهبان ، المتهمين إعتباطاً بتلك الجرائم على أساس صلتهم بالشيطان وأدواته . ها هوَ الكاهن الأعمى يعتدّ بكونه " حامياً للمكتبة " ، خلال محاورته الأخيرة مع " غوليامو " ، قبيل وقوع الحريق الكبير . إنه يُدين كتابَ " الملهاة " لأرسطو ، بوصفه تجديفاً وثنياً خطر ٍ على معتقدات الرهبان ، وخصوصاً أولئك الرسامين ؛ مندداً بفكرته عن ( الضحك ) : " تسلوا بمماحكاتكم النجسة للنظام .. هنا ينقلب دور الضحك ويُرفع إلى مستوى الفن وتفتح له أبواب دنيا العلماء ويصبح موضوعاً فلسفياً ولاهوتية خادعة " . ( ص 510 )

3 ـ نهاية الحكاية
لدينا إذاً في رواية " إسمي احمر " شخصيّتان خارجيتان ، متنافستان على السلطة : السلطان العثماني والداعيَة الأرضرومي ، وجدَ كلّ منهما في جماعة النقاشين مؤيداً له بخصوص تبني أو رفض أسلوب الأساتذة الأفرنج ( الكفار ) في الفنّ . القاتل هنا ، وهوَ " زيتون " ، كان في مركز وسطيّ بين تلك السلطتين العاتيتين . لم يكن يشك لحظة بقدرة مولاه السلطان ، الهمايونية ؛ هوَ الذي يعمل في مشروع كتاب " سَرْنامة " بأمر عليّ منه . إلا أنّ كلمات المعلم ، " زوج الخالة " ، المذكورة آنفاً ، عن إمكانية إستسلام السلطان لضغوط المتزمتين فيما يتعلق برسوم ذلك الكتاب ، المشبّهة برسوم " الكفار " ؛ تلك الكلمات صدمتْ " زيتوناً " وجعلته أشبه بالضائع . إنّ رهابه الدائب من قوة أتباع الشيخ الأرضرومي ، المتنامية التأثير في مجتمع اسطنبول ، قد وضعه على حافة هوّة الإختيار ، الخطرة . إنه في شعوره بالإنهيار إلى مهاوي قدره البائس ، ما وجدَ من وسيلة غيرَ الجريمة محاولاً بذلك إنقاذ نفسه : بقتله زميله " ظريف أفندي " ، كان نقاشنا القاتلُ في موضع الدفاع عن النفس ـ بحسب زعمه ، على كل حال ؛ ما دامَ قد إستشفّ من حديثه معه مدى شكوكه بمشروع الكتاب السريّ ، لجهة تناقضه مع تعاليم الشريعة الإسلامية . أما وقد أجهز " زيتون " ، في جريمته التالية ، على حياة معلمه " زوج الخالة " ـ الذي كان يُعدّ العقل المدبّر لذلك المشروع ـ فلا يمكن النظر إليه إلا من زاوية توجّسه من كون ذلك المعلم قد فضح أمره وفي سبيله لتقديم رأسه إلى الجلاد . فإعتقاد نقاشنا هذا ، القاتل ، بأنّ عمله في ذلك المشروع إن هوَ إلا هرطقة شيطانية ، قد جعله يوغل في إستباحة دم زملائه المشتركين معه بذلك " الإثم " . وكان " زيتون " مأخوذاً بآية من القرآن الكريم ، جعل يرددها في مناجاته : " هل يستوي الأعمى والبصير " ( ص 558 ) ؛ وكأنما يتنبأ عبرها بحاله في الإنتقال من الهداية إلى الكفر ـ كذا . ألا يذكرنا ذلك بحكاية الملاك العاصي ، إبليس ، الذي تحوّل عن صفته الخيّرة ليمسي ملعوناً أبداً بوصفه قوة الشرّ ، الماحقة ؟ .. ليسَ إتفاقاً والحالة تلك ، أنّ " لقلقاً " كان قد تذكر كيفية إختيار زميله ذاك ، " زيتون " ، خلال لعبة طفولية ، لرسم الشيطان كيما ينقشه : " بهَوَس شديد " . ( ص 541 )

هنا أيضاً ، في رواية " إسم الوردة " ، نحن أمامَ قطبيْ الصراع الخارجيين ـ الإمبراطور والبابا ـ الذين كانا يؤثران بشدة في العالم الداخلي لذلك الدير الفرنسيسكاني ، المعزول في بقعة ما من شبه الجزيرة الإيطالية . لقد وقف الأول ، الممثل للسلطة الزمنية ، مع من ينادي بفكرة " فقر المسيح " ، ما دامت مدانة من لدن منافسه البابا ، ممثل السلطة الدينية : " لذلك يولي الإمبراطور كل ذلك الإهتمام بأقوال الفرنسيسكانيين حول الفقر " ( ص 380 ) ، كما يقول " غوليامو " . بيدَ أن أولئك الأخوة ، وهم التابعون لزاماً للسلطة الدينية تلك ، ما كانوا ليجرأون بعدُ على إعلان إنشقاقهم العلنيّ عن البابا المرابض في قلعته بـ " افينيون " ، في جنوب فرنسة . الكاهن الأعمى ، " يورغ " ، كان يُدرك أبعاد ذلك الصراع وتأثيره على الرهبانية التي يعتبر نفسه أحد كبار مراجعها . إن شدة تزمته ، ربما تحال إلى أصوله الإسبانية . كذلك الأمر في شأن إهتمام كاهننا هذا بتحري عمل الرسامين الشبان خصوصاً ، وما إذا كانوا يسعون إلى نيل المعرفة المحرّمة بفعل تماسهم مع المخطوطات النادرة ، والتي كان يعتبرها دوماً ثنائيّة البعد ؛ وثنية / إغريقية ـ كافرة / إسلامية : إذ كنا قد أرجعنا ذلك الإهتمام ، الموصوف ، لعقدة الرهاب لديه ؛ هوَ المُعاقب على أرجح تقدير بسمل عينيه جزاءَ إهتمامه في شبابه بتجميع المخطوطات النادرة . فعل الجريمة إذاً ، كان بحسب تفكيره بمثابة الدفاع عن النفس ـ عن حياته وحيوات طائفة الأخوّة ، المُهَددة من قبل سلطة البابا بتهمة الهرطقة . بكلمة أوضح ، فإنّ " يورغ " بإرهابه جمهرة الرسامين ، من خلال قتل أحدهم في البداية ، كان يحاول تهدئة رهابه الداخليّ ، المبطن . على أنّ كاهننا ، في هوسه الموصوف بالنصوص المقدسة ، كان من ناحية اخرى قد إهتدى إلى آية في الإنجيل ( " سفر الرؤيا " ) ، معتقداً أنها تجلي ساعة القيامة ، وأيضاً تحدد مصير أولئك الرهبان العصاة . ما كان ليدور بخلد " يورغ " أنه هوَ بنفسه سيكون تجسيداً للعاصي المارق ، وأنه المتعيّن عليه تمثيل دور المسيح الدجال ، المنذر بقرب القيامة . لا غروَ أنّ " غوليامو " سيخاطب كاهننا الأعمى في حوارهما الأخير ، مديناً إياه بهذه الكلمات : " إنكَ أنتَ الشيطان ، وكالشيطان تعيش في الظلمات " . ( ص 515 )

إعتمدت نهاية كل من روايتينا القرينتين ، " إسمي أحمر " و" إسم الوردة " ، حبكة بوليسية ، محضة . ففي هذه الأخيرة ، يسقط القاتل في ذات الحبال التي نصب منها لغيره الشركَ تلو الآخر . ثمة ، في متاهة المكتبة ، يتمّ كشف حقيقة الكاهن الأعمى ، " يورغ " ، بعيد ملاحقة مثيرة إشتركَ فيها المعلم " غوليامو " ( القائم بمقام المحقق لحين وصول الوفد البابوي ) ، وتلميذه " إدسو " ، راوي الحكاية . ها هنا تجري محاورة مطولة ، مثيرة في الواقع ، بين القاتل والمحقق ؛ محاورة ، تذكرنا بخواتيم روايات أجاثا كريستي التي يعقد في كل منها المحقق " بوارو " الجلسة الأخيرة بحضرة جميع الأبطال ، وبما فيهم طبعاً مرتكب جريمة القتل . وكما المعنا آنفاً ، يُظهر الكاهن الأعمى إستسلاماً مدهشاً لمصيره المحتوم ، المنتظر ـ كمجرم : إنه الآن في " قاعة إسبانية " ، إحدى أقسام المكتبة ( لاحظ مغزى المكان وعلاقته بأصل الكاهن ، الأندلسي ) ، ينصت بهدوء لما يقصه المحقق عن تفصيلات الجرائم والكيفية التي تمّت بها ، خصوصاً تلك المتعلقة بسرّ السمّ الزعاف : كانت صفحات كتاب أرسطو ، السريّ ، " الملهاة " ـ المرتكبة في سبيله جميع الجرائم ـ تحتوي في قسمها اليوناني على تلك المادة السامّة ، والتي سبق للكاهن أن سرقها من مختبر العشاب ؛ حيث من المفترض أن يبلل القاريء أصابعه بلسانه فيما هوَ يقلب الصفحات . ثمّ لا يلبث القاتل ، بالهدوء نفسه ، أن يوافق على جميع تلك التفاصيل المعروضة ، فيما هوَ ممسك بالكتاب. وقبل أن يتمكن " غوليامو " من منعه ، يقوم " يورغ " هذا بإلتهام صفحات ذلك الكتاب ، مردداً كلمات البوق السابع في تلك الآية الإنجيلية ، المأخوذة من " سفر الرؤيا " ، والتي تقول : " إختم على ما تكلمت بالرعود السبعة ولا تكتبه ، خذه وكله " ( ص 518 ) . وفي غمرة الهرج المصاحب لحركات المعلم وتلميذه ، يهوي " يورغ " أرضاً متأثراً بسريان السمّ في جسده ، فيحطم مصباح الزيت ويسبب حريقاً ما عتم أن تعاظم حتى أتى على المكتبة برمتها ، ملتهماً من ثمّ باقي أبنية دير الفرنسيسكان . وقد بقيَ الدير يحترق لمدة ثلاثة أيام بلياليها : وهيَ المدة التي إستغرقها بناء سفينة الطوفان ؛ بما نحيله إلى كون ذلك المعمار الدينيّ ، الشامخ ، كان قد بنيَ على شكل تلك السفينة ، كما سبق أن شرحه الرئيس " أبوني " ( ص 479 ) . لكأنما هذه المحرقة الدنيوية ، هيَ إشارة للجحيم الرباني ؛ مما يُعاضد من رمز سفينة نوح ، المبنية أصلاً لمعاقبة غرور الإنسان وتشبهه بالآلهة جبروتاً وعتياً وجوراً .

وكما إستقرت نهاية رواية إيكو في المكتبة ـ كمجاز واضح للمعرفة الهرطيقية ؛ كذلك الأمر مع رواية باموك : إذ يجتمع في " النقش خانة " ، السلطانية ، ثلاثيّ النقش ( لقلق وفراشة وزيتون ) رفقة زميلهم " قرة " ـ كمكان مجاز ، أيضاً ، للفنّ الهرطيقي . يكاد الزميل هذا ، في التفاصيل التي يقدمها على مسمع الآخرين عن كيفية وقوع الجرائم ، أن يكرر ما فعله محقق " إسم الوردة " ! كذلك الأمر ، فيما يتعلق بمسلك القاتل ( " زيتون " ) ، الذي إتسمَ بالهدوء فيما هوَ ينصت للائحة إتهامه . كان هذا القاتل لحظتئذٍ ممسكاً بدفتره المفتوح على ذلك الرسم المحرّم ؛ رسم الحصان ، المشغول بأسلوب الأساتذة الأفرنج " الكفار ". وها هوَ زميله " لقلق " ، القابض عليه بقوة ، يتساءل بقلق : " وأنا أيضاً كنت أريد رسم يوم القيامة ، وبعث الموتى ، وفصل المذنبين عن الأبرياء . ولكن لماذا لا نستطيع رسم قرآننا الكريم ؟ " ( 559 ) . ولا يلبث الزملاء أن تجتاحهم عاطفة ذكريات هذا المكان ، الذي تتلمذوا وعملوا فيه على مدى ربع قرن . في غمرة العاطفة تلك ، يقترحُ " زيتون " عليهم مخرجاً للورطة ؛ وهوَ أن يعمدوا لقتل رئيسهم " عثمان " قبل أن يشي بهم للسلطات ويخلص رأسه على حساب حياتهم . ما كان الاخرون بهذا الحماس ، ماداموا بريئين من دم الضحايا . وإذاً يتناهض بعضهم على " زيتون " فيمسكوه جيداً ، ولا يكون من " قرة " إلا إخراج إبرة طويلة ( مسلة ) فيفقأ بها عينيه . نقاشنا البائس ، " زيتون " ، لا تحدد الحكاية مصيره بدقة ؛ مع أنّ الأرجح ، أنه قتل في الليلة ذاتها خلال المعركة التي أعقبت تسميل عينيه ، كما نفهمه من مناجاة " شكورة " ، الأخيرة . ومما له مغزاه حقا ، أنّ " زيتون " قبيل موته ينطق بهذه النبوءة ، محذراً من أنّ : " الرسم الشخصي سينهي الرسم الإسلامي " ( ص 575 ) . وإذا كانت " النقش خانة " ـ كمكان للفنّ المحرّم ـ لم يمسسها سوءٌ في تلك الليلة ، المشهودة ، فبالمقابل نجدُ المقهى ـ كمكان للفكر المجدّف ـ يندثر إثر إحراقه عمداً من لدن أتباع الواعظ الأرضرومي ، المتزمتين ، الذين هاجموه ليلتئذٍ وإعتدوا على الموجودين فيه ، ثم قتلوا الحكواتي ، المتهم بزعمهم بنشر الأراجيف والبدع ، المضلِلة والمُحرَّمة . المدهش هنا ، أنه في ليلة " النقش خانة " تلك ، الحافلة ، المنتهية فيها سِفر الحكاية ، يستعيدُ القاتل أسطورة نقاش معلم من إحدى الممالك المشرقية ، كان قد رسم كتاب فريد أهدى رسومه لملكها ، ولكنه عوقب بالعمى بأمر من هذا الأخير ، لكي لا يستفيد من موهبته عاهل المملكة الاخرى ، المنافسة ، على أنّ هذا المعلم ، وكان يدرك منذ البداية نوايا مليكه الشريرة تجاهه ، راح يمارس تمريناً قاسياً لذاكرته أتاح له لاحقا إستعادة الرسوم تلك ، ومن ثمّ إهدائها لذات الملك المنافس : إنها نفس مصدر الأسطورة ، عن تسميم صفحات الكتاب ، في رواية " إسم الوردة " ، والتي إستقاها أمبرتو إيكو من قراءاته في الآداب الإسلامية . لا غروَ إذاً ، أنّ " يورغ " سيقول متهكماً بالكتاب ذاك ( " الملهاة " لأرسطو ) ، أنّ كيميائياً مصرياً هوَ من وضع نسخته السريانية . ( ص 504 )

***

المراجع

1 ـ أورهان باموك ، إسمي أحمر ـ الطبعة العربية في دمشق عام 2000
2 ـ أمبرتو إيكو ، إسم الوردة ـ الطبعة العربية في ليبيا عام 1993



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ويحدثونك عن العدالة السويدية
- حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 4
- محاكمة الكاتب
- التنكيل بالكاتب
- رحلة إلى الجنة المؤنفلة / 2
- سندريلا السينما : فنها وعشقها الضائع
- كركوك ، قلبُ تركستان
- سندريلا السينما : حكاية ُ حياةٍ ورحيل
- في مديح الخالة السويدية
- رحلة إلى الجنة المؤنفلة
- أدبُ البيوت
- مناحة من أجل حكامنا
- حليم والسينما
- كنتُ رئيساً للكتاب العرب
- السينما المصريّة وصناعة الأوهام
- شاعر الملايين : ثلاثة مرشحين للجائزة
- كمال جنبلاط والتراجيديا الكردية
- من معالم السينما المصرية : نهر الحب
- نائبان ومجزرتان
- نائبان وجزرتان


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حكاية باموك : إسمٌ بينَ الوردةِ والأحمَر / 5