مسرحية ترويض قيادة الهستدروت


اساف اديب
الحوار المتمدن - العدد: 1873 - 2007 / 4 / 2 - 12:20
المحور: الحركة العمالية والنقابية     

الغاء الهستدروت للانتخابات الداخلية فيها يشكل اعترافا منها بانها لم تعد نقابة حيّة تمثل العمال، بل جهازا بيروقراطيا ميتا ذا حسابات سياسية ضيقة؛ رئيس الهستدروت، عوفر عيني، ونهجه الجديد سيؤولان الى مصير حزب كاديما، الذي ظهر بقوة قبل عام وحظي بشعبية واسعة، وفقد اليوم اي مضمون وتحول الى سفينة غارقة يفر منها ركابها.


الاضراب الخفيف الذي اعلنته الهستدروت الجديدة بقيادة عوفر عيني يوم الاربعاء 21/3 واستمر ثماني ساعات، لم يكن معركة عمالية حقيقية. بدل قيادة مواجهة شاملة بين النقابات العمالية وبين الحكومة وارباب العمل، شهدنا اتفاقا شبه كامل مع وزارة المالية على كل النقاط حتى قبل بدء الاضراب، الامر الذي يطرح السؤال - لماذا أصر عيني على الاضراب؟

اكثر ما أثار الدهشة كان وقوف رئيس اتحاد ارباب العمل، شراغا بروش، على نحو مفاجئ الى جانب عيني في الاضراب ودعمه له بشكل مطلق. فمنذ متى يقف ارباب العمل مع نقابة عمالية اثناء معركة؟ المدهش ايضا ان الاضراب انتهى بعد ثماني ساعات فقط، دون ان يحقق اكثر مما اقترح اصلا قبل اعلانه.

كل هذا يدل على ان الاضراب كان نوعا من المسرحية، تمت بالتنسيق مع ارباب الاعمال والحكومة، وهدفها ان يثبت عوفر عيني، المقرب من حزب كاديما، انه قائد عمالي حقيقي، علما انه لم ينتخب ابدا، وتعرض مؤخرا للانتقادات بعد الغائه الاضراب قبل عدة اسابيع دون سبب مقنع. وبعد تحسين سمعته، يأمل عيني ان يحافظ على ائتلافه الواسع في الهستدروت، ويساهم في انقاذ الحكومة من الاضطرابات العمالية التي من شأنها ان تزعزع الاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلاد.

نحن اذن امام نوع جديد من "القيادة العمالية" التي قامت الحكومة وارباب العمل بترويضها. وهي بعيدة كل البعد عن القضايا الساخنة التي تواجهها الاغلبية الساحقة من العمال والعاملات في اسرائيل، العرب واليهود على حد سواء، ولا تناضل دفاعا عن مصالحهم. التراجع الذي تشهده السنوات الاخيرة في مكانة الهستدروت السياسية والاجتماعية، سيدخل منعطفا خطيرا جديدا بعد تسلم عوفر عيني قيادتها.



زعيم غير منتخب

تسلم عوفر عيني منصب سكرتير الهستدروت في كانون ثان (يناير) 2006، بعد استقالة عمير بيرتس من الهستدروت. تعيينه لهذا المنصب جاء بايعاز من بيرتس ودون عملية انتخاب. بعد انضمام حزب عمير بيرتس (عام احاد) الى حزب العمل في عام 2005، كان من المقرر ان يترشح عيني كرئيس لقائمة حزب العمل، للانتخابات العامة للهستدروت التي كانت محددة في ايار 2007، وذلك حتى يحظى بثقة اعضاء الهستدروت كقائدها الجديد. ولكن عشية الانتخابات للهستدروت توصل عيني في اواخر شباط الماضي الى اتفاقات ائتلافية مع كافة الكتل في الهستدروت، بما فيها الليكود وشاس وكاديما والعمل وحزب "عوز" التابع لمنافسه حاييم كاتس، وحتى مع الجبهة التي تشغل مناصب رفيعة في ائتلافه.

وادى الاجماع بين كافة الكتل في الهستدروت على الغاء الانتخابات والاستعاضة عنها بتقاسم الغنيمة فيما بينها حسب نسبة قوة كل قائمة. ويعني ذلك ان عوفر عيني سيكون قائد الهستدروت للسنوات الخمس القادمة (بعد ان شغل هذا المنصب سنة ونصف) دون ان يكون احد قد انتخبه لهذا المنصب. والواقع ان الغاء الانتخابات يعني ان الهستدروت تعترف بانها لم تعد تشكل نقابة حية تمثل العمال، بل اصبحت جهازا بيروقراطيا ميتا ذا حسابات سياسية ضيقة.

يعلن سكرتير الهستدروت الجديد انه سيقود خطا "غير سياسي"، ليسمح للجميع بالالتفاف حوله. ويتفق المراقبون انه عيني يتبنى مواقف شبيهة بموقف حزب كاديما الحاكم. موافقته على منح حزب كاديما نسبة 10% من المقاعد في كافة مؤسسات الهستدروت، على حساب بقية الاحزاب، كانت اشارة الى هذا التوجه.

موقف عيني من القضايا العمالية المصيرية، وخاصة تلك المتعلقة بقرار الحكومة خصخصة شركة الكهرباء (اواخر شباط الماضي)، هو موقف معاد لمصالح العمال. في هذا كتبت صحيفة "هآرتس" (2/3):

"ان النموذج البارز الذي يطرحه معارضو عوفر عيني هو موقفه ازاء تفكيك شركة الكهرباء الى عدة شركات، والذي يعتبر خطوة اولى نحو خصخصة الشركة. الهستدروت تدرك ان تفكيك شركة الكهرباء وضرب لجنتها العمالية القوية من شأنه ان يُفقد حركة العمال المنظمة في اسرائيل معقلا هاما. لكن رغم قرار الحكومة الاخير القاضي بتفكيك الشركة، يبدو ان لجنة العمال تقف بمفردها، وان الهستدروت لم ترفع صوتها ضد تفكيك الشركة".



فلسفة الهزيمة

مع تسلمه منصب سكرتير الهستدروت، أعلن عيني نيته زيادة عدد اعضاء الهستدروت الى مليون، علما ان عدد الاعضاء يصل اليوم الى 600 الف عضو من اصل 2.7 مليون عامل ومستخدم في سوق العمل الاسرائيلي. كما أعلن عيني انه لن يسمح بمواصلة حالة الاستغلال البشعة التي يعاني منها مئات آلاف عمال شركات القوى البشرية.

تصريح من هذا النوع اذا صدر عن النقابات الغربية يعني ان النقابة تنوي الخروج بحملة واسعة لتجنيد اعضاء جدد للنقابة، ونشر آلاف النشيطين على ابواب المصانع واثارة الحماس لدى العمال المستغلين بان لهم عنوان، لاقناعهم بالتجند للنقابة. ولكن يبدو ان هذه الطريقة "القديمة" لا تحلو لعيني، وهو يفضل اسلوبا جديدا لا حاجة فيه للتوجه الى العمال. حسب فلسفة عيني الجديدة يكمن سر النجاح في العلاقات الطيبة مع ارباب العمل. الاضراب حسب تعبيره ليس هدفا بحد ذاته، وهو يفضل المفاوضات والتوصل الى اتفاقات دون الدخول في مواجهات، مستغلا بذلك علاقاته الجيدة مع رئيس اتحاد ارباب الصناعة، شراغا بروش.

عندما سأله احد الصحافيين حول ماهية هذه العلاقة بين طرفين متناقضين من ناحية المصالح، قال عيني: "شراغا بروش يضع مصلحة ارباب العمل نصب عينيه، وانا اضع مصلحة العامل اولا، لكننا اتفقنا ان طريق التفاهم يمكن ان تفيد العمال والمشغّلين اكثر. في عام 1984 أدى التعاون بين الحكومة والمشغلين والهستدروت الى انقاذ الاقتصاد من الانهيار. هذا ما يجب ان يحدث الآن. على الحكومة ان تنضم الينا، لنبني مثلثا يعمل لصالح الاقتصاد". (هآرتس، 2/3)

في الواقع خطة الاستقرار الاقتصادي التي طبقت عام 1985 تعتبر نقطة التحول لانخراط اسرائيل في العولمة الاقتصادية، وتضمن الامر كسر قوة العمل المنظم وتفكيك الهستدروت والنقابات. الاقتباس الاخير في هآرتس يكشف موقف رئيس الهستدروت من السياسة الاقتصادية النيوليبرالية المفرطة التي انتهجتها الحكومات الاسرائيلية منذ اكثر من 20 عاما.

عملية التدمير المنهجي للعمل المنظم التي تعكف عليها وزارة المالية والحكومات المتعاقبة منذ عام 1985، شملت مصادرة السيطرة على صندوق المرضى العام، وصناديق التقاعد، وخصخصة مرافق اساسية في الاقتصاد، وتغيير طريقة تشغيل عشرات آلاف العمال من التشغيل المباشر الى التشغيل من خلال شركات القوى البشرية والمقاولين الفرعيين. الى هذا يُضاف تطبيق سياسة استيراد العمال الاجانب الذين يتم تشغيلهم بظروف شبيهة بالعبودية وباجور زهيدة، والذي خلق بطالة عالية واضعف قوة التفاوض للعامل المحلي، وضرب بعرض الحائط كل علاقات العمل في اسرائيل.

في مواجهة الازمة الخطيرة الماثلة امام الهستدروت، يؤكد عوفر عيني ان النهج الذي ادى الى هذا التدهور كان صحيحا. وعلاوة على ذلك، يكرّس عيني الخط الانهزامي القائم، ويضيف اليه بعدا جديدا خطيرا ينص على تبني الهستدروت موقفا حياديا بين الاحزاب السلطوية، حتى يتمكن من التعاون مع اي رئيس حكومة دون الدخول في مواجهة سياسية حزبية.

ويسعى عيني الى الحفاظ على علاقات طيبة مع ارباب العمل وعدم اثارة غضبهم. الهدف من وراء ذلك جذب اكبر عدد من المشغلين الى هذا النوع من التحالف، ليتسنى لمؤسسته زيادة عدد اعضائها من خلال رسوم العضوية التي يقتطعها المشغلون من اجور عمالهم ويدفعونها مباشرة للهستدروت. وتتمكن الهستدروت بذلك من تثبيت موقعها كعنوان اساسي لادارة علاقات العمل في البلاد.

ليس صدفة ان الهستدروت لا تبدي استعدادا للوقوف ضد عملية الخصخصة او ضد طريقة التشغيل من خلال المقاولين وشركات القوى البشرية، بل تغض الطرف عما يحدث مع العمال الفقراء وبالذات العرب منهم. يمكننا ان نجزم ان مصير عوفر عيني ونهجه الجديد سيكون شبيها بما آل اليه حال حزب كاديما الذي ظهر بقوة قبل عام وحظي بشعبية واسعة وفرغ اليوم من اي مضمون وتحول الى سفينة غارقة يفر منها ركابها.



دعم الجبهة لعيني: الكراسي قبل المبادئ

موافقة الجبهة على الغاء عملية الانتخابات في الهستدروت ومشاركتها المستمرة في الائتلاف الشامل الذي يقوده عوفر عيني، تثيران اكثر من تساؤل. فأولا ليست هناك خطوط مشتركة بين الجبهة وبين عيني على المستوى السياسي. ثانيا، عيني يدعم سياسة الخضخصة والجبهة تعارضها. وثالثا، موافقة الجبهة على الغاء الانتخابات تعني التنازل عن نسبة التمثيل التي كانت لها لصالح حزب كاديما، بعد ان وافق عيني على تقديم نسبة 10% من المقاعد لكاديما على حساب كافة الاحزاب الاخرى. ويبدو ايضا ان الاتفاق على الغاء الانتخابات يعني ان التمثيل في مجالس العمال اللوائية، بما فيها المجالس العربية مثل الناصرة، سيتحدد بموجب النسب القطرية، ما يعني ان الجبهة ستفقد وزنها الكبير في المجالس العربية.

انخراط الجبهة في الائتلاف الحاكم في الهستدروت عام 1994، كان انعكاسا في تلك الفترة لدعمها حكومة رابين. وادّعت الجبهة آنذاك ان التوجه نحو السلام يبرر الائتلاف مع حزب العمل. ممثلو الجبهة في الهستدروت تولوا العلاقة مع النقابات الفلسطينية. التحالف مع عمير بيرتس، رئيس الهستدروت حينها، بدا لاول وهلة مؤسسا على نوع من الانسجام السياسي.

ولكن الامور اليوم مختلفة تماما: منذ انتفاضة عام 2000 تبين ان توجه حزب العمل نحو السلام كان محدودا جدا. وما جاء بعد ذلك من انضمام عمير بيرتس الى حكومة اولمارت وتوليه منصب وزير الامن ومسؤوليته عن حرب لبنان الثانية، اثبت فشل الرهان على بيرتس.

عوفر عيني المقرب من حزب كاديما، ليس بيرتس. من هنا فان دعم الجبهة له تقترب من الانتحار السياسي، علما ان الجبهة تعارض نهج الحكومة. ولكن في نفس الوقت تكيل صحيفة "الاتحاد" المديح للهستدروت ولعوفر عيني، وتثني على خطهما "الكفاحي"، وعلى نتائج الاضراب الاخير، وتخلق الانطباع باننا ازاء قيادة نقابية حقيقية.

الازدواجية في موقف الجبهة ازاء عيني ومواقفه، تقودنا للاستنتاج الوحيد الممكن لتفسير موقفها: الرغبة في الحفاظ على بعض مراكز القوة والكراسي والميزانيات، وخوفها من خسارة الانتخابات على خلفية عدم وجود قاعدة عمالية وعمل نقابي حقيقي، كل هذا دفع الجبهة الى هذا النوع من الانهيار المبدئي والاخلاقي.