اضراب المعلمين يفضح الوجه الرأسمالي للدولة


اساف اديب
الحوار المتمدن - العدد: 2151 - 2008 / 1 / 5 - 10:55
المحور: الحركة العمالية والنقابية     

اضراب المعلمين التي انتهى باتفاق مع الحكومة ليس اكثر من هدنة حيث بقيت الامور الاساسية رهن المفاوضات التي ستجري خلال 6 شهور. استعداد المعلمين لتحدي اوامر المحكمة يدل على روح نضالية جديدة وعدم ثقة بالمؤسسة الحاكمة ويعزز امكانيات طرح اجندة اجتماعية بديلة.



سر قوة الاضراب مشاركة قاعدة من 40 الف معلم. تصوير: اكتيف ستيلز
انتهى اضراب المعلمين في 12/12 باتفاق وقعته منظمة المعلمين والحكومة، عاد بموجبه الطلاب الى المدارس الثانوية (انظر "مبادئ الاتفاق" ادناه). وكما هو الحال في نهاية كل اضراب، يعتبر الاتفاق مع المعلمين ايضا نوعا من الحل الوسط بين الطرفين. وقد اثار هذا الامر ارباكا بالنسبة لنتائج الاضراب وحول ما اذا كان هناك انجاز حقيقي للمعلمين.
بعض الآراء ذهبت للاستنتاج بان الاتفاق الذي وقعه سكرتير نقابة المعلمين، ران ايرز، مع وزيري المالية والتربية، كان هزيمة للمعلمين وقبولا منهم بشروط الحكومة. اصوات اخرى قيّمت بان الارباك ليس في موضعه، من هؤلاء د. يعقوب تفلر* الذي كتب ان: "منظمة المعلمين خاضت معركة ضد قوى كبيرة، فقد وقفت امام حكومة صمّاء كل همها خصخصة الاقتصاد والتخلي عن اية مسؤولية وطنية تجاه الامور الحيوية. هذه الحكومة استخفت بقوة المعلمين لكنها فوجئت بموقف غيّر قوانين اللعبة".
سر قوة الاضراب كان في مشاركة قاعدة من 40 الف معلم ومعلمة بادروا لاعتصامات متكررة وكانوا على استعداد لتحدي اوامر المحكمة وعدم تنفيذها، مما كان سيعتبر نوعا من العصيان المدني. اصرار المعلمين على مواصلة النضال بكل القوة بعد 60 يوما من الاضراب، هو الذي منح الطاقم المفاوض من قبل منظمة المعلمين قوة كبيرة ومنع الهزيمة.
غير ان الاتفاق الذي توصل اليه المعلمون لم يحسم المعركة، بل كان نوعا من "الهدنة" المؤقتة بين الطرفين أجلت لمدة 6 اشهر القرار في القضية الاهم، والمتعلقة بطبيعة الاصلاحات التي تنوي الحكومة ادخالها في المدارس فوق الابتدائية. حول هذا الموضوع ستجرى مفاوضات في الاشهر القريبة بين الحكومة ومنظمة المعلمين، وستشكل من جديد امتحان القوى بين الطرفين.
عدم حسم المعركة يثير اسئلة حول الابعاد الواسعة للاضراب. وتزداد الحاجة لاستخلاص العبر من الاضراب، نظرا لتأثيره الكبير على العمال والموظفين في المرافق العامة والخاصة، اذ انه كشف ان الحكومة لا تخدم الجمهور بل فئة صغيرة جدا من اصحاب رؤوس الاموال.

جبهة عريضة ضد المعلمين



تصوير: اكتيف ستيلز
وقف المعلمون وحدهم امام ائتلاف واسع من القوى السياسية والمؤسساتية التي سعت الى كسر اضرابهم، ومنع تطور معركتهم الى معركة اجتماعية حقيقية. على رأس هذه القوى وقفت الحكومة برأسيها: حزب كاديما ممثَّل بوزير المالية روني بار-اون وحزب العمل ممثَّل بوزيرة التربية والتعليم، يولي تمير. وقد اتخذت الحكومة موقفا عنيدا رغم ان مطالب المعلمين عبرت عن مصلحة عامة باعتراف موظفي المالية انفسهم، ورغم تعاطف الرأي العام معهم.
يأتي تعنت الحكومة بسبب التزامها بالنهج الاقتصادي المتبع في السنوات الاخيرة، والذي يفرض الانضباط في ميزانية الدولة وعدم خرق الحدود التي رسمتها مؤسسات المال الامريكية. حسب هذا النهج لا يمكن زيادة شيكل واحد على ميزانية المجالات غير الربحية، بما فيها التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية. اي زيادة في الميزانية في هذه المجالات يجب ان تأتي ضمن خطة شاملة لخصخصتها، اي تخليص الدولة من المسؤولية عنها مستقبلا. وتسمى هذه الخطط عادة "برامج اصلاحية" لتسهيل تسويقها.
فرّق تسد: وفي مجال التعليم أعدّت الحكومة برنامجا اصلاحيا كهذا يسمى "افق جديد"، يشترط زيادة الاجور ب26% بزيادة عدد ساعات العمل، وفتح المجال لتغييرات بنيوية بينها زيادة صلاحيات مدراء المدارس بالنسبة لفصل المعلمين. كما ينص الاتفاق على ضرورة توقيع كل معلم بشكل شخصي على استعداده للدخول في البرنامج الاصلاحي، مما يشكل ضربة قاضية لمبدأ الاتفاق الجماعي الذي هو اساس وجود أي نقابة.
توقيع يوسف فسرمان رئيس "هستدروت المعلمين" التي تؤطر المعلمين الابتدائيين، على اتفاق افق جديد، مكّن الحكومة من التفريق بين النقابتين مما أضعف الاضراب. بذلك بقيت منظمة المعلمين فوق الابتدائيين التي تعارض الاتفاق، دون شريك؛ ومن جهة اخرى، استعملت الحكومة الاتفاق كوسيلة ضغط قوية لاجبار المعلمين فوق الابتدائيين على الانضمام اليه ايضا.
الهستدورت: بين القوى التي وقفت ضد المعلمين كان رئيس الهستدروت، عوفر عيني. فقد سعى بشكل متواصل لضرب المعلمين ومنظمتهم المستقلة عنه. قيام عيني باقتراح نفسه وسيطا بين المعلمين والحكومة كان من البداية قرارا غير سليم. فهو بوصفه زعيم اكبر اطار نقابي في البلاد، كان المفروض ان يدعم المعلمين. ولكنه فعل العكس، اذ سرعان ما تبين ان عيني لم يلعب دور الوساطة بقدر ما كان رسول الحكومة الى المعلمين، في محاولة لاقناعهم بقبول موقف الحكومة من البرنامج الاصلاحي "افق جديد".
وليس هذا فحسب، بل بادر عيني بالتدخل لدى رئيس الحكومة، ايهود اولمرت، ونصحه بعدم تليين موقفه تجاه المعلمين، الامر الذي يعتبر خيانة حقيقية لمعركتهم. صحيفة "هآرتس" نشرت في 12/12 اقتباسات من مقربي عيني يؤكدون فيها معارضته لتنازلات الحكومة للمعلمين وللاتفاق الذي اعتبر افضل من الاتفاق مع هستدروت المعلمين الذي كان هو راعيه، والذي يشترط الزيادة في الاجور لكل معلم بانضمامه للبرنامج الاصلاحي.
محكمة العمل القطرية: في هذه المعركة لعبت المحكمة دورا منحازا تماما لجانب الحكومة، وذلك حين أصدرت اوامر احترازية تلزم المعلمين بالعودة للعمل في 13/12. ومع ان الاضراب كان قانونيا، الا ان المحكمة اقرت موقف الحكومة الذي اعتبر الاضراب "شبه سياسي"، وان موقف الحكومة كان "ليّنا" وعليه أُلزم المعلمون بوقف الاضراب والعودة للمدارس.
بشكل عام ينص القانون على امكانية اصدار اوامر احترازية تلزم العمال المضربين بالعودة للعمل، فقط في حالتين: اذا كان الاضراب غير قانوني، او اذا كان يهدد حياة المواطنين (مثل اضراب الاطباء). ورغم ان اضراب المعلمين كان شرعيا ولم يهدد حياة احد، قررت المحكمة اللجوء للاوامر. بقرارها لم تضرب المحكمة نضال المعلمين فحسب، بل تهدد حق الاضراب كحق ديمقراطي اساسي.
على ضوء ما تقدم يمكننا ان نسأل: لماذا وافقت منظمة المعلمين على وساطة رئيس الهستدروت، ولماذا لم يكن هناك تضامن من قبل اطر ونقابات اخرى مع منظمة المعلمين؟ على هذا يمكن الرد بسؤال عكسي: هل شاركت منظمة المعلمين نفسها في نضالات اجتماعية اخرى قبل اضرابها، وهل بنت لنفسها ائتلافا اجتماعيا واسعا يقف الى جانبها اثناء الاضراب؟

تحديات جديدة

يبدو ان الاضراب والتعاطف الشعبي الكبير معه، كان مفاجأة ليس فقط للحكومة التي استهترت به منذ البداية، بل لقيادة منظمة المعلمين نفسها.
احد المعلمين قال لصحيفة "هآرتس" (13/12) بشكل واضح: "منظمة المعلمين يجب ان تتغير بعد الاضراب. لا ادري اذا كان ران ايرز مستعدا للتغييرات المطلوبة، واذا كان هناك تغيير في رئاسة المنظمة فعلينا كمعلمين شباب الاستعداد للعب دور قيادي في المنظمة لنضمن ان يقف على رأسها شخص ذو رؤية تربوية واجتماعية واضحة، لا تخص الاجور فحسب بل تتعلق بكل ما يجري في المجتمع. المهمة هي خلق تنظيم عمالي اجتماعي".
هذه الدعوة جديرة بالاهتمام والتفكير. فما يتحدث عنه المعلم المذكور هو تحويل منظمة المعلمين، التي كانت حتى هذا الاضراب منظمة مهنية تهتم فقط بالقطاع الذي تنظمه، الى اطار نضالي اجتماعي يهتم بما يجري حوله ويقف على رأس النضال الاجتماعي بالبلاد.
الاستنتاج بالنسبة لضرورة بناء "منظمة عمالية اجتماعية"، صار مطروحا على جدول عمل شخصيات وقوى مختلفة منذ فترة. د. يتسحاق سبورطة، احد الباحثين البارزين في جامعة تل ابيب والذي يتخذ موقفا نقديا بالنسبة للسياسة الاقتصادية الاسرائيلية، تبنى هذه الدعوة ودعا الى توسيعها. جمعية معًا النقابية التي تهتم تحديدا بتنظيم العمال والعاملات العرب هي تجربة فريدة من نوعها تطرح نموذجا لمنظمة من هذا القبيل.
فكرة طرح بناء بديل اجتماعي تضع امام المعلمين تحديا ليس سهلا. فمثل غيرهم من العمال اليهود، يؤمن المعلمون ايضا بوحدة المصير مع الحكومة والشريحة الغنية في اسرائيل، كونهم جميعا منتمين للشعب اليهودي. وقد انكشف هذا الخلل المبدئي عندما تجاهلت منظمة المعلمين دور المعلمين العرب، ولم تشركهم على المنصة في المظاهرة الكبيرة في تل ابيب (17/11)، ولم تتطرق للوضع الخطير الذي يعانيه جهاز التعليم العربي والناجم بالذات عن سياسة التمييز العنصري.
غير ان سير الاضراب واصرار الحكومة على رفض مطالب المعلمين ارضاءً للنهج الاقتصادي الرأسمالي الذي يخدم مصالح 18 عائلة تحكم البلاد وتحدد سياستها، كشفا امام المعلمين ان الحكومة لم تعد ملتزمة بمصلحة الشعب اليهودي والمبادئ الصهونية، بل بمصلحة رأس المال ومبدأ الارباح. صار واضحا ان المؤسسة السياسية والامنية الاسرائيلية التي تبني "دولة اليهود الاغنياء" على انقاض "دولة اليهود"، ليست جاهزة لمحاربة العرب فقط، بل محاربة كل من يهدد مصالحها الرأسمالية، بمن فيهم اليهود ايضا.
على كل من يريد إحداث تغيير اجتماعي جذري، ان يتبنى توجها جديدا، ليس فقط على نطاق نقابي بل ايضا على نطاق سياسي يتعلق بمعاملة الدولة تجاه العرب. لن تكون هناك ثورة اجتماعية حقيقية دون رؤية جديدة تجتاز الحدود القومية والدينية، وتسعى للتضامن الانساني بين بني البشر دون تمييز على اساس عرقي، قومي او ديني.