الهستدروت: نظام داخلي تقادم عليه الزمن


اساف اديب
الحوار المتمدن - العدد: 2109 - 2007 / 11 / 24 - 11:36
المحور: الحركة العمالية والنقابية     

داني بن سمحون, اساف اديب


في ظل هجمة الحكومة وارباب العمل على الطبقة العاملة في اسرائيل، والسعي للقضاء على العمل المنظم، تظهر الهستدروت بكل ضعفها. السبب الاساسي يكمن في احتكار الاحزاب لنظامها الداخلي على حساب اللجان العمالية، مما أبعدها عن العمال وشلّ الحياة الديمقراطية فيها؛ هذا المقال مؤسس على المحاضرة التي القيت في المؤتمر الفكري الرابع لحزب دعم العمالي (اكتوبر 2007).

تشهد السنوات الاخيرة نقاشات ساخنة في الساحة النقابية في العالم الصناعي الغربي، تتمحور حول السؤال: كيف يمكننا تجنيد العمال للنقابات؟ يأتي النقاش على خلفية ازمة انخفاض عدد العمال المنخرطين في النقابات، خاصة بعد اغلاق المصانع ونقل العمل لبلدان اخرى من جهة، وانتشار شركات القوى البشرية التي تشغل العمال بشكل مؤقت ودون حقوق من جهة اخرى. وقد استيقظت النقابات في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واسرائيل على هذا التحول الخطير، لتكتشف ان قوتها تراجعت بدرجة كبيرة جدا، مما منح رأس المال فرصة ذهبية لجني الارباح والقضاء على المنجزات الكبيرة التي حققتها الطبقة العاملة في الماضي.

في اسرائيل ايضا، لوحظ ان المواجهات بين الحكومة وارباب العمل من جهة وبين الهستدروت من جهة اخرى، انتهت مرة تلو اخرى بهزيمة الهستدروت، او بما هو اسوأ من ذلك، بصفقة وافقت فيها الهستدروت على تقزيم دورها، وقبلت بقوانين جديدة تلائم مصالح رأس المال. من تعبيرات ذلك، انتزاع وزير المالية الاسبق، بنيامين نتانياهو، صناديق التقاعد من الهستدروت عام 2004 دون رد فعل حاسم من جانبها؛ وقبولها باستيراد العمال الاجانب دون اية رقابة، وتوصلها عام 2005 الى صفقة مع الحكومة بشأن عمال الموانئ مهّدت الطريق لخصخصة الموانئ.

تراجع دور الهستدروت في اسرائيل ليس ظاهرة استثنائية بل عالمية، وهو تعبير عن التحول الذي لحق بسوق العمل الغربي بشكل عام في العقدين الاخيرين من سيطرة العولمة الرأسمالية. ولكن خلافا للنقابات في بريطانيا والولايات المتحدة، تبدو الهستدروت عاجزة تماما عن مواجهة هذه الازمة، وهي مستمرة في انتهاج خطها التنظيمي القديم دون احداث اي تغيير ودون الاعتراف بالازمة او مناقشة اسبابها.

في رأينا، يكمن الخلل في الهستدروت في نقطتين: الاولى انحيازها التاريخي للمشروع الصهيوني، والثاني نظامها الداخلي غير الديمقراطي. في هذا المقال نركز على تفسير النقطة الثانية، الخاصة بالنظام الداخلي للهستدروت الذي يمنح مكانة مركزية للاحزاب، وخاصة لحزب العمل، على حساب اللجان العمالية المنتخبة، ويعيق بالتالي اية امكانية لاشراك القاعدة العمالية في حياة النقابة وادارة امورها وانتخاب قياداتها.

الاحزاب تهمّش القاعدة العمالية


مستخدمو التلفزيون التربوي يتنظمون، بعد ان امتنعت الهستدروت عن تمثيلهم. حزيران 2006
تبلور النظام الداخلي للهستدروت في السنوات الاولى من تأسيسها كوكيل لتنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني، عام 1920 (إبان الانتداب البريطاني). وكانت الهستدروت عبارة عن جسم تولى التنسيق بين الاحزاب العمالية الصهيونية المختلفة، والتي تنازعت فيما بينها على اقتسام اموال الصناديق الصهيونية وعلى استيعاب اكبر عدد من المهاجرين. عمليا، كانت الهستدروت اطارا لليهود فقط، لعبت فيه الاحزاب السياسية الدور المركزي على حساب مسألة تنظيم العمال في الميدان.

نظام الهستدروت الداخلي يمنح مكانة مركزية لحزب العمل ومندوبي الاحزاب عامةً، ويستثني بالتالي ممثلي اللجان العمالية المنتخبة من المواقع القيادية فيها ومن امكانية التأثير على صنع القرار. ويختلف هذا النظام جوهريا عن النظام الداخلي للنقابات البريطانية التي حافظت على استقلالية فروعها المختلفة، وبقي "الاتحاد العام للنقابات" اطارا فضفاضا لا يمكنه فرض قراراته على النقابات العمالية وقياداتها.

الطبيعة المشوّهة للنظام الداخلي في الهستدروت بدت واضحة في الانتخابات الاخيرة لقيادة الهستدروت، والتي جرت في شهر ايار (مايو) 2007. فقد فاز في الانتخابات بالاغلبية الساحقة حزب جديد باسم "عوجانيم"، والذي شكّله رئيس الهستدروت، عوفر عيني، عشية الانتخابات. يعتبر الحزب تحالفا بين حزب العمل وكتلة "عوز" (التابعة لليكود) و"شاس" بالاضافة لحزبي كديما والمتقاعدين اللذين لم يكونا ممثلين في الهستدروت سابقا.

احد القياديين في الهستدروت وصف الصفقة بين عوفر عيني والاحزاب المشاركة في التحالف الجديد بالقول: "انها صفقة اشترى فيها امين عام الهستدروت الاحزاب الاخرى مقابل رشوة مالية. اذ يحصل كل حزب مشارك في الائتلاف على حصة من ميزانية الاحزاب في الهستدروت والتي تبلغ عشرة ملايين شيكل شهريا، وذلك دون ان يكلف نفسه عناء النضال لصالح العمال او الاهتمام بمصيرهم".

ليس صدفة اذن ان نسبة التصويت بين العمال الاعضاء في الهستدروت لم تتعد ال32%، فقد شارك 148 الف عضو في الهستدروت من اصل 460 الف عضو صاحب حق اقتراع. واذا اخذنا بالحسبان ان قوة العمل في اسرائيل تصل الى 2.6 مليون عامل، نجد ان 6% فقط هم الذين شاركوا في انتخاب قيادة الجسم النقابي الاكبر في البلاد، وعمليا يمكن القول ان العمال لم يشاركوا ابدا في اختيار قيادة النقابة.

نظام غير ديمقراطي
يمنح نظام الهستدروت الداخلي صلاحيات مطلقة للقيادة المركزية، والتي يتم انتخابها في انتخابات عامة سياسية كل اربع سنوات. حسب نتائج الانتخابات التي تجري على نطاق قطري وتتنافس فيها الاحزاب السياسية، يتم تشكيل هيئات الهستدروت القيادية: مؤتمر الهستدروت، اللجنة التنفيذية، اللجنة المركزية والامين العام، وتهيمن القيادة بشكل شبه مطلق على عملية صنع القرار.

الامين العام للهستدروت كان دائما الرجل الاول في الهرم القيادي، وحظي بصلاحيات ومكانة مرموقة تسمح له باتخاذ القرارات الخاصة بميزانية الهستدروت، المفاوضات مع ارباب العمل والحكومة، نزاعات العمل، الاضرابات، تعيين الموظفين الكبار في النقابة وغيرها، كل هذا دون حاجة للعودة للهيئات القيادية المنتخبة. وقد افرغ هذا الامر الحياة الديمقراطية الداخلية من اي مضمون.

وامعانا في زيادة قوة الامين العام، تم إبّان تولي عمير بيرتس رئاسة الهستدروت تغيير الدستور ليصبح انتخاب الامين العام جزءا من الانتخابات العامة، ويتم بشكل مباشر، الامر الذي زاد ثقله في الهرم القيادي.

علامة اخرى على انعدام الديمقراطية هو شلل النقابات المهنية الفرعية خلال العقدين الاخيرين. وبدل اجراء الانتخابات الداخلية لهذه النقابات كل اربع او خمس سنوات لاختيار هيئاتها، اصبح امين عام الهستدروت يعين قيادييها دون اي اعتبار لرغبة اعضاء النقابة. في ملاحظة حول هذا الموضوع كتب النشيط النقابي المستقل عامي فيتوري: "النقابات المهنية في الهستدروت تحولت الى اجسام وهمية غير موجودة في الواقع. وقد تم تعيين بعض قياداتها من قبل قيادة الهستدروت، وتم تعيين البعض الآخر من قبل لجان العمال التي لم تُنتخب بشكل ديمقراطي. لا احد يذكر متى اجريت الانتخابات في هذه النقابات".

مصدر قوتها مصدر ضعفها
ان ما يفسر مركزية الحكم في الهستدروت وبُعدها عن الديمقراطية وقلة مشاركة العمال فيها، هو انها، خلافا للنقابات الغربية، لم تبنِ قوتها على اساس دور نضالي في الدفاع عن حقوق العمال. بل استمدت الهستدروت قوتها واحتكارها للساحة النقابية بفضل مكانتها السياسية المركزية في تأسيس الدولة وبناء المشروع القومي الصهيوني وخاصة الاقتصادي.

ضمن جهودها للبناء الاقتصادي اقامت الهستدروت "شركة العمال" والمستوطنات الزراعية، وتحولت بعد قيام الدولة الى المشغِّل الثاني الاكبر بعد الحكومة. في عام 1983 كان يعمل في الشركات التابعة للهستدروت 277 الف عامل، الامر الذي جعل هذه المؤسسة مشغّلاً للعمال قبل ان تكون نقابة تمثلهم. وكان احد الاسباب الرئيسية الاخرى لاحتكار الهستدروت الساحة النقابية، هو سيطرتها على مجال التأمين الصحي ل90% من السكان.

وبسبب علاقتها التاريخية مع الحكومة، كونهما شريكتين في بناء الدولة، فقد حصلت الهستدروت على صلاحية لجباية رسوم العضوية من العمال بواسطة الاتفاق مع ارباب العمل على اقتطاعها من اجورهم وتبيان ذلك في قسيمة الاجر الشهرية. كل هذا دون حاجة للتوجه المباشر للعمال لاقناعهم بالانضمام للنقابة ودفع الرسوم. وقد ساهمت هذه الطريقة في تحويل العمال الى عنصر سلبي. وعمليا يمكن الاستنتاج ان الهستدروت لم تكتسب ابدا تجربة في عملية تجنيد العمال وتأطيرهم واقناعهم بضرورة الانتظام في النقابة.

وعلى اساس العلاقة مع الحكومة تمكنت الهستدروت من الوصول الى اتفاقات عمل جماعية حسّنت بشكل ملموس ظروف عمل اغلبية العمال في اسرائيل. ولكن هذا كان ممكنا طالما تبنت الدولة سياسة الرفاه التي سعت لتنظيم الحياة الاقتصادية والتوازن بين رأس المال والعمال، وطالما كانت الحكومة نفسها المشغِّل الاساسي قبل الخوض في برنامج الخصخصة.

وقد بدأ تغيير السياسة في اواسط الثمانينات باتجاه التخلي عن الرفاه وتبني سياسة العولمة الرأسمالية العنيفة وخصخصة القطاع العام خدمة لرأس المال على حساب الطبقة العاملة. ولان الهستدروت بنت قوتها على الحكومة وليس على العمال، فقد تزعزعت مكانتها وضعفت عن التأثير ومواجهة التدهور في ظروف عمل العمال الناجم عن تبني السياسة الاقتصادية الجديدة.

والادهى من كل ذلك ان الهستدروت نفسها انخرطت في سياسة الخصخصة، وباعت اهم شركاتها وبنوكها وبينها سوليل بونيه وبنك "هبوعليم". وليس هذا فحسب بل وافقت ضمن برنامج اصلاحها الداخلي الذي قاده حاييم رامون وعمير بيرتس عام 1994 على فصل العضوية فيها عن التأمين الصحي، مما قلص بنحو كبير عدد اعضائها، ليهبط من 1،5 مليون عضو عام 1995 الى نصف مليون اليوم.

ومن اهم تبعات هذا الوضع كان توقف الهستدروت عن تجديد الاتفاقات الجماعية. فقد جمدت في السنوات الاخيرة التعامل بالاتفاقات الجماعية في فروع الاقتصاد المختلفة، علما ان هذه الاتفاقات، وما تمنحه من امتيازات وزيادة اجور للعمال، هي اساس وجود النقابة العمالية. وباستثناء فرع البناء والفنادق، لم يتم التفاوض او التوقيع على اتفاقات جماعية في الصناعات المختلفة، الامر الذي ترك العمال في هذه الصناعات عرضة للاستغلال، وقلل كثيرا من قيمة العضوية في الهستدروت.

كما وقفت الهستدروت مكتوفة الايدي ازاء سياسة استيراد العمال الاجانب، ودخول شركات القوى البشرية والمقاولين للسوق الاسرائيلية على حساب العمل المنظم في السنوات الاخيرة. وقد ادت هذه السياسة الى تراجع اضافي في مكانة العمال العرب، الذين امتنعت الهستدروت تقليديا ومبدئيا عن الاهتمام باوضاعهم.

لا بوادر للحل من الداخل


جمعية معًا في الاول من ايار. البناء من القاعدة العمالية
النظام الداخلي المركزي الذي سيطرت عليه الاحزاب السياسية، وسيما حزب العمل، كان ملائما لفترة اتسمت بعلاقات وطيدة بين الحكومة والهستدروت، في ظل اقتصاد مركزي تسيطر عليه الشركات الحكومية والقطاع العام. ولكن التحول في الاقتصاد وخصخصة مشاريع الحكومة والهستدروت ونمو طبقة رأسمالية قوية وسيطرة القطاع الخاص على الاقتصاد، لم يترك للهستدروت نفس الدور المركزي الذي لعبته في حياة الدولة.

ما يعتبر في النقابات العالمية اساس العمل النقابي، وهو تجنيد اكبر عدد من الاعضاء للنقابة لضمان رسوم العضوية والميزانية وزيادة امكانية التأثير على صنع القرارات الاقتصادية، تُرجم في قاموس الهستدروت الى سعي لتوثيق العلاقة مع ارباب العمل وبناء الثقة معهم. فما رأيناه في المدة الاخيرة من علاقات حميمة بين امين عام الهستدروت، عوفر عيني، وبين رئيس اتحاد الصناعيين، شراغا بروش، هو عبارة عن هذا التوجه الذي يتناقض تماما مع المساعي الحقيقية لتنظيم العمال من القاعدة.

ان بناء حركة عمالية نضالية في مواجهة هجمة رأس المال، وتنظيم العمال على اساس ديمقراطي غير عنصري، هو مهمة لا يمكن للهستدروت ان تقوم بها طالما تتمسك بنظامها الحالي. صحيح ان تراجع دورها هو جزء من ازمة الحركات النقابية في العالم عموما، ولكن ما نراه اليوم من بوادر جديدة لتيارات نضالية ويسارية في النقابات الغربية، لا يرافقه تحرك موازٍ في اطار الهستدروت. وطالما ان الهستدروت متمسكة بنظامها الداخلي المهترئ والمركزي، فهي لن تكون قادرة على الخروج من ازمتها وتوفير الحلول للطبقة العاملة والتصدي للسياسة الاقتصادية التي تضطهدها.

النقابات البريطانية اعتمدت على العمال

النقابات البريطانية تأسست بطريقة مختلفة تماما عن الهستدروت، وينعكس هذا في نظامها الداخلي حتى اليوم. انشئت نقابات العمال البريطانية ابتداء من القرن الثامن عشر، كرد فعل طبيعي من جانب عمال الورشات ومناجم الفحم والمصانع، على الاستغلال البشع الذي تعرضوا له، فشكلوا جسما يدافع عنهم وعن مصالحهم امام ارباب العمل. نتيجة هذه المبادرات تبلورت نقابات محلية حسب الفروع الاقتصادية، مثلا نقابة عمال القطارات، ثم تحالف النقابات المحلية التابعة لنفس الفرع ضمن نقابة اقليمية، ومن ثم بنت لنفسها نقابة قطرية.

فقط في عام 1870 قررت النقابات المهنية ان تشكل جسما واحدا، هو الاتحاد العام او اسمه الرسمي "مؤتمر النقابات العمالية" (TUC)، وهو ما يوازي الهستدروت بصفتها الاتحاد العام للنقابات. وقد اثّر التطور التاريخي للنقابات البريطانية على العلاقات بين النقابات الفرعية وبين الاتحاد العام، وحفظ لكل نقابة مهنية سيادتها وصلاحيتها في انتخاب قيادتها بشكل مستقل وبانتخابات شخصية من قبل الاعضاء، في حين بقي دور الاتحاد العام اطارا للتنسيق بين النقابات.