اليسار الإسرائيلي: بين استحواذ فكرة التفوّق الإسرائيلي عليه والوقوف المبدئي مع الفلسطينيين


اساف اديب
الحوار المتمدن - العدد: 2552 - 2009 / 2 / 9 - 08:00
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     


بعد انتفاضتين وبعد حربين على لبنان، يبدو أنّ الحركات اليسارية المركزية في إسرائيل، المتمثّلة بحزب ميرتس وحركة السلام الآن، لم تستخلص أيّ عبرة من التاريخ، وذلك في عدم وقوفها ضدّ الحرب على غزّة، رغم مشاهد القتل الجماعي للمدنيين وهدم المنازل ودمار البنية التحتية والفوقية في غزّة. فما شاهدناه هو مرّة أخرى موقف مؤيّد للحرب وأهدافها، تحوّل تدريجيًا إلى دعوة هزيلة لوقف العدوان بادّعاءات مثل "ما قمنا به يكفي، والآن يجب أن نقطف الثمار كي لا تتورّط إسرائيل في وحل الحملة العسكرية بمدى أكبر".

الكاتب اليساري عموس عوز نشر في صحيفة يديعوت أحرونوت دعوة هي بمثابة ضوء أخضر لشنّ هجوم عسكري على غزّة، ومنح براك شرعية تامّة للمضيّ بالحملة العسكرية الشعواء على الشعب الفلسطيني. هذا الموقف عشية الحرب (26/12/08) جاء مناقضًا لتصريحه السابق، عند إقامة الحركة اليسارية الجديدة (التي انضمّت لاحقًا إلى ميرتس)، أنّه لا يمكن اعتبار براك يساريًا لأنّه امتنع خلال سنة ونصف السنة في منصب وزير الدفاع عن إزالة المستوطنات.

المرشّح الثالث في قائمة ميرتس، نيتسان هوروڤيتس، نشر مقالاً في صحيفة هآرتس بعد أسبوع من اندلاع الحرب (في 2/1/09)، تطرّق فيه إلى معاناة سكّان جنوبي البلاد، دون أن يذكر، ولو بتلميح، ذبح المدنيين الفلسطينيين العزَّل. وكتب هوروڤيتس "من المقرّر أن تخبو النار في النهاية حتّى لو استمرّت المواجهة مدّة طويلة. على كلّ حال، من حقّ سكّان الجنوب، كما من حقّ كلّ سكّان البلاد أن يكونوا جزءًا من الأجندة الحقيقية كسائر سكّان الدولة، التي هي في الواقع أكثر حيوية من قضية الأمن التي أصبحت اليوم القضية الأساسية".

إنّ القلق الذي يبديه هوروڤيتس لما قد يحدث في جنوب البلاد بعد الحرب ينمّ عن تجاهل وعدم حساسية لمأساة إنسانية خطيرة تحدث في غزّة نتيجة الهجوم الهمجي الإسرائيلي. فمن يدّعي بأنّه يهتمّ بمصير العمّال والفقراء في جنوب إسرائيل ويدبر ظهره للعمّال والفقراء من القومية الأخرى هو في الواقع قوميّ بغطاء يساري مزيّف.

موقف الطبقة الوسطى

في الواقع هذا الموقف الانتقائي والمتجاهل لمعاناة الفلسطينيين الذي يتّخذه متحدّثو اليسار الإسرائيلي لا يعود إلى أسباب أخلاقية فحسب، بل له جذور طبقية واضحة. فما يميّز في السنوات الأخيرة الطبقة الوسطى الأوروبية الأصل (الأشكناز)، التي تعتبر القاعدة الاجتماعية التاريخية لحركات اليسار الإسرائيلي، هو مستوى المعيشة العالي ونمط الحياة المترف. ما نراه اليوم هو نوع من الإدمان على حياة الترف التي وفّرها لهؤلاء اندماج إسرائيل في العولمة الرأسمالية، وبالتالي دعمهم المطلق لهذا النظام العالمي بعيدًا عن الالتزام بمبادئ العدالة الاجتماعية.

ظهور حزب كديما عام 2005 كان إفرازًا لنفس الظاهرة؛ إذ يعتبر حزب كديما إطارًا سياسيًا مركزيًا يفتقر لعقيدة عينية، وكلّ همّه هو ضمان تفوّق إسرائيل واندماجها في الاقتصاد الغربي، والابتعاد عن الخوض في قضية أرض إسرائيل الكبرى، التي كانت في الماضي مسألة مركزية في فكر الحركة الصهيونية. غير أنّ هذا النوع من "الاعتدال السياسي" الذي يميّز كديما وكذلك قبولها لحلّ الدولتين، ليس فيه كما رأينا في حرب غزّة الأخيرة وحرب لبنان عام 2006 ايّ ضمان لاستعداد حقيقي للسلام والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. فهو ببساطة تعبير عن الوحدة بين الجناح المركزي في الليكود برئاسة شارون وأولمرت من جهة وقيادات مركزية من حزب العمل، مثل بيرس ورامون وإيتسيك من جهة أخرى. هذه الظاهرة الجديدة، التي برزت في أعقاب الانفصال الأحادي الجانب عن غزّة، تعكس رغبة الطبقة الوسطى الإسرائيلية في غضّ الطرف عن القضية الفلسطينية ومواراتها التراب بعيدًا خلف الأسوار.

منذ التوقيع على اتّفاقية أوسلو مع منظّمة التحرير الفلسطينية (عام 1993) وحتّى تنفيذ خطّة الانفصال الأحادي الجانب (عام 2005)، تراجع اليسار الإسرائيلي عن تضامنه وعن محاولته قصيرة المدى للاهتمام بقضية الشعب الفلسطيني، وانتهى الأمر به إلى موقف يرفض أيّة فرصة أو أمل مستقبلي للتسوية بين إسرائيل وفلسطين. نَعِمَ اليسار الإسرائيلي بمستوى معيشة عالٍ جدًّا متجاهلاً حياة وهموم العمّال العرب، وكذلك وضع مئات آلاف العمّال اليهود الفقراء.

لا يمكن فهم صمّ الآذان إزاء مطالب الفلسطينيين العادلة بمعزل عن الفجوات الطبقية التي تعمّقت في المجتمع الإسرائيلي، وجعلته مجتمعًا متصدّعًا يعاني من فجوات اجتماعية، هي الأعمق إذا ما قيست مع سائر الدول الصناعية المتطوّرة. هذا الواقع كان له انعكاس في الأزمة السياسية التي ظهرت إبّان حرب لبنان الثانية عام 2006، حين عمّ انتقاد عارم للحكومة لعدم اكتراثها بمعاناة الفقراء في شمال البلاد.لم يكن المجتمع الإسرائيلي مستعدًّا للحرب في لبنان آنذاك، وانعكس ذلك بوضوح في أداء الجيش على أرض المعركة في لبنان وفي تعامل السلطات مع المدنيين في بلدات شمال البلاد.

فما فسّره زعيم حزب الله الشيخ نصر الله وبحقّ، كنقطة ضعف إسرائيلية، تمّت معالجة الجانب العسكري منها خلال السنتين ونصف السنة التي مرّت منذ حرب لبنان الثانية. فلجنة "ڤينوغراد" التي قامت بإجراء تحقيق جذري لأداء الجيش والحكومة في الحرب على لبنان لم تهتمّ إطلاقًا بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية من الأزمة، بل ركّزت على الأداء العسكري، ودفعت توصيتها بالقيادة الإسرائيلية إلى إجراء تعديلات، شملت استبدال وزير الدفاع بيرتس ببراك، واستبدال رئيس الأركان حالوتس بأشكنازي، وكذلك إدخال القوّات العسكرية إلى نظام مكثّف من التدريبات تمهيدًا للمعركة القادمة في غزّة. كلّ هذه الخطوات مهّدت الطريق لشعور إسرائيلي عارم بأنّ الدولة باتت مستعدّة للحرب التي ستشكّل نوعًا من تصحيح الأخطاء التي كانت في حرب لبنان الثانية. فالحرب على غزّة تعدّت كونها حملة ضدّ حماس إلى غاية أخرى، وهي إعادة ثقة المجتمع الإسرائيلي بقوّته العسكرية.

موقف منافق

رفعت ميرتس قبل الحرب راية المحافظة على البيئة، التي لاقت شعبية كبيرة في الشارع الإسرائيلي. فقد كان أبرز إنجاز لمرشّح "مدينتنا جميعًا" في تل أبيب، عضو الكنيست دوڤ حنين، في انتخابات تشرين الثاني 2008 بمثابة إشارة لقيادة ميرتس بأنّ هناك شعبية حقيقية لهذه الأجندة، مع تجاهل القضية السياسية التي تخصّ الاحتلال والصراع العربي الإسرائيلي، كما فعل حنين في الانتخابات لبلدية تل أبيب.

في محاولة لتكرار إنجاز حنين في تل أبيب، ضمّت ميرتس إلى صفوفها ممثّل الطبقة الوسطى من تل أبيب، نيتسان هوروڤيتس ، الذي عمل مذيعًا في القناة العاشرة التلفزيونية، ومنحته المكان الثالث في قائمة ميرتس الجديدة. أرادت قيادة ميرتس بذلك كسب أكبر عدد ممكن من بين 46 ألف الذين منحوا أصواتهم لدوڤ حنين في تل أبيب من جهة، آملة بذلك أن يفقد عضو الكنيست الشيوعي كثيرًا من مؤيّديه في اللحظة التي يظهر فيها إلى جانب زملائه من الجبهة محمّد بركة وحنّا سويد.

الهروب من اتّخاذ موقف حاسم وواضح والتركيز على هموم الطبقة الوسطى البيئية لم يَطُل، فقد جاءت الحرب على غزّة لتفرض على ميرتس اتّخاذ موقف سياسي من القضية الفلسطينية ومن الحكومة الإسرائيلية. لاحظنا خلال الأيّام الأولى للحرب اتّخاذ ميرتس موقفًا يتلاءم مع تطلّعات الطبقة الوسطى الإسرائيلية التي ترتبط ارتباطًا عضويًا بالنظام الاجتماعي- الاقتصادي القائم وليس لديها أيّ طموح لزعزعته. كان دعم قيادة ميرتس للحرب تلبية لإملاءات هذه الطبقة، التي تعتبر المصدر الرئيسي لأصواتها.

بعد أسبوع من شنّ الهجوم الإسرائيلي على غزّة، ظهرت انتقادات عالمية بسبب مقتل المدنيين العشوائي، فبدأت ميرتس تلائم تصريحاتها بما يتوافق مع هذه الانتقادات، وهي تصريحات فارغة تنمّ عن موقف باعثه الربح والخسارة؛ فهي ترغب في الظهور بمظهر أخلاقي رافض للقتل الجماعي من جهة، لكنّها لا تودّ الخروج عن شبه الإجماع الإسرائيلي المؤيّد للحرب من جهة أخرى. لذا افتقرت هذه التصريحات لموقف مبدئي ضدّ إبادة المدنيين، وذلك لتحقيق مكاسب سياسية.

متحدّثو ميرتس وحركة السلام الآن، اللتين نظّمتا مظاهرة لوقف الحرب بعد أسبوعين من القتال في غزّة، أكّدوا في خطاباتهم بأنّهم يتظاهرون في إطار انتمائهم الصهيوني، ويطالبون بوقف الحرب لأنّها قد حقّقت أهدافها، فموقفهم لم يكن رفضًا مبدئيًا للحرب. في الامتحان الحاسم، الحرب، أثبت هذا التيّار انتماءه إلى المؤسّسة الحاكمة الإسرائيلية، التي هي مصدر قوّته والإطار الذي يعمل تحت كنفه.

الأثر السلبي للموقف العربي

كلّ ما أوردناه هنا من انتقادات لليسار الإسرائيلي لا يهدف إلى دفعنا إلى الاستنتاج بأنّه ليس هناك أساس لتطوير الحركة التقدّمية والمناهضة للاحتلال في المجتمع الإسرائيلي. فما شاهدناه من مظاهرات ضدّ الحرب ومقالات مندّدة بجرائم إسرائيل، ورفض الخدمة العسكرية من بعض الجنود أثناء حرب غزّة يدلّ على أنّ هناك نواة قوية من اليساريين في المجتمع الإسرائيلي الذين سئموا النفاق الذي يميّز اليسار الصهيوني. هؤلاء الأفراد الذين يتّخذون موقفًا سلميًا حقيقيًا يدركون بأنّ سياسة إسرائيل العدوانية من شأنها أن تقود إلى المزيد من الحروب والكراهية ويؤيّدون الانسحاب الإسرائيلي من كلّ المناطق المحتلّة عام 1967.

وإذ ذكرنا أنّ التراجع الملموس لليسار الإسرائيلي في السنوات الأخيرة كان له أساس مادّي انعكس في ارتفاع مستوى المعيشة وفي برجوازية الطبقات الوسطى، لاحظنا في المقابل اتّساع قاعدة الطبقة العمّالية المحرومة من حقوقها الأساسية، والتي تشمل عددًا كبيرًا من سكّان مناطق الهامش النائية عن مركز البلاد، وكذلك العمّال والموظّفين في كافّة المجالات الاقتصادية، بما فيهم العديد من المثقّفين والمعلّمين في المجتمع الإسرائيلي، الذين فقدوا الثقة بالقيادة الفاسدة التي تعيش على حسابهم. هذه الحالة من التفكّك الاجتماعي تشكّل أرضًا خصبة لتعميق النقاش الفكري مع ثوابت الحركة الصهيونية وتطوير الموقف اليساري المتضامن مع قضية الشعب الفلسطيني، وبالتالي توسيع قاعدة دعم وتأثير الأقلّية النشطة التي برزت أثناء الهجوم على غزّة.

غير أنّه يأتي هنا التأثير السلبي للانقسام الفلسطيني والعربي الذي كان له دور حاسم في الحرب على غزّة وعلى مجراها؛ إذ رأينا في حرب لبنان الأولى عام 1982 مظاهرة الأربعمئة ألف إسرائيلي ضدّ المجزرة في صبرا وشاتيلا، وشهدنا أثناء الانتفاضة الأولى عام 1988 تطوّر حركة التضامن مع الفلسطينيين، وكان ذلك دون أدنى شكّ، تعبيرًا عن موقف فلسطيني موحّد وقيادة فلسطينية موحّدة تتحدّث بلغة واضحة ترفض الاحتلال والمساومة على حقوق الشعب الفلسطيني، لكنّها أيضًا تمدّ يدها للسلام مع الإسرائيليين. من الواضح تمامًا أنّ وحدة الفلسطينيين تدفع باتّجاه انقسام في المجتمع الإسرائيلي وأنّ انقسام الفلسطينيين يدفع باتّجاه وحدة المجتمع الإسرائيلي.

إنّنا على يقين بأنّ تغيير الواقع الفلسطيني والعربي وبلورة قيادة جديدة أكثر مبدئية وعقلانية، تتحدّث وتتوجّه إلى الطبقة العاملة وتهتمّ بمصيرها، سيكون له أثر في تعميق النقاش الإسرائيلي الداخلي وفتح المجال لبناء حركة يسارية جديدة، تضمّ شريحة واسعة من الجماهير العربية إلى جانب اليهود اليساريين الذين يريدون بناء مستقبلهم في هذه المنطقة، ليس على حساب العرب، بل من منطلق الأخوّة والشراكة في مجتمع حضاري عصري جديد.