التسرب من الخدمة العسكرية: القيم المادية تحل محل المعنوية


اساف اديب
الحوار المتمدن - العدد: 2063 - 2007 / 10 / 9 - 12:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

النقاش حول ظاهرة التسرب من الخدمة العسكرية الذي اندلع مؤخرا في اسرائيل، هو محاولة متأخرة من جانب المؤسسة الرسمية لاعادة عجلة التاريخ للوراء. اسرائيل التي انخرطت في العولمة الاقتصادية صارت ترى في رجل الاعمال الغني وليس في الضابط الكبير في الجيش، النموذج للمواطن الناجح.


اساف اديب

القصف الذي تعرض له معسكر الجيش الاسرائيلي جنوبي عسقلان ليلة الثلاثاء 11/9، وأسفر عن اصابة نحو 60 جنديا، كشف عن طبيعة العلاقة الجديدة بين المجتمع الاسرائيلي وبين الجيش. ما كان يعتبر في الماضي حدثا امنيا خطيرا، تتوقف عنده الانفاس الى حين صدور قرار حكومي بالرد العسكري، انقلب الى مشهد من الاتصالات والزيارات التي قام بها اهالي الجنود للمعسكر، أصرّوا خلالها على اخراج ابنائهم منه فورا رغم انف الاعتبارات العسكرية. كما لم يترد هؤلاء في التحدث لوسائل الاعلام والتشكيك في حكمة الجيش، لانه في رأيهم لم يوفر اماكن آمنة لابنائهم.

أكد المشهد نقطة الضعف الكبيرة التي يعاني منها الجيش الاسرائيلي اليوم، وهي عدم استعداد الجنود واهلهم لتحمل عبء الخدمة العسكرية التي تضع حياتهم في خطر. دون استعداد للتضحية يصعب على اي جيش ان يتحرك، كم بالحري ان يدير احتلالا. وفعلا، اتسعت في اسرائيل ظاهرة التسرب من الجيش ليس لاسباب ايديولوجية، بل لمصالح ذاتية. وقد بلغ الامر درجة الاضطرار لطرحه للنقاش العلني لاول مرة.



الجيش يفقد مكانته المركزية

اندلع النقاش بعد ان قام قسم القوى البشرية في الجيش بنشر معطيات العام 2007، وذلك ، عشية حملة تجنيد كبيرة في شهر آب. وتبين من المعطيات ان ربع ابناء الشبيبة اليهودية في سن ال18 لا يتجندون للجيش. اكثر من نصف الشباب الذين يتم اعفاؤهم من الخدمة العسكرية هم طلاب المدارس الدينية (نسبة 11%)، واصحاب ملفات جنائية (4%)، اما البقية (10%) فحصلوا على اعفاء من الخدمة لاسباب صحية او نفسية.

الواقع انه لا جديد في هذه الارقام، بل هي معروفة منذ عدة سنوات. في عام 2003 نشرت حركة "بروفيل حداش" لمساعدة الجنود الرافضين للخدمة احصائيات شبيهة. كما ذكرت احصائيات الجيش ان 20% من الجنود لا يُكملون الخدمة لنهايتها، مما يعني ان نسبة الشبيبة اليهود الذي يؤدون الخدمة العسكرية الكاملة، لا يزيد عن 60%.

مؤسسات الامن الاسرائيلية قلقة بشأن هذا الوضع منذ فترة طويلة، ولكنها لم ترغب في اثارة الموضوع علنا خوفا من تعميق الازمة اكثر. وطالما ان الطرف المعني بالموضوع لزم الصمت، فقد التزم الجميع ايضا بهذا الموقف. ولكن في ظل ازمة القيادة في اسرائيل، خاصة بعد حرب لبنان الاخيرة، قرر الجيش انه قد حان الوقت لشن حملة دعاية لوقف تسرب الشبيبة من الخدمة العسكرية.

وزير الامن، ايهود براك، ادلى بعدة تصريحات في هذا المجال في 31/7، واشار الى اهمية الخدمة العسكرية، وضرورة نبذ كل من يتسرب منها. رئيس هيئة الاركان الجديد، جابي اشكنازي، كان اكثر وضوحا في تفسيره لخطورة الوضع، عندما قال: "في الماضي ايضا تسرب البعض من الخدمة، ولكنهم كانوا يخجلون من الحديث عن ذلك، اما اليوم فلم يعد المتسربون من الخدمة يخجلون بفعلتهم. دورنا هو خلق جو جديد يعيد الشعور بالخجل للهاربين من الخدمة". موقع NRG، 1/8.

يبدو ان المؤسسة الحاكمة في اسرائيل بدأت تشعر بفقدان السيطرة على الوضع، وانه دون القيام بحملة مكثفة قد يتدهور الوضع لتبلغ نسبة الهاربين من الجيش الى 50%، مما سيُفقد الجيش مضمونه ك"جيش الشعب". في محاولة لتدارك هذا الامر، يدور حديث عن إشراك مدراء المدارس الثانوية في حملة تجنيد الطلاب للخدمة العسكرية. ولكن لا يبدو ان المهمة ستكون سهلة، سيما ان عددا كبيرا من نجوم الفن الاسرائيليين يتحدثون بصراحة عن قرارهم عدم الخدمة في الجيش، مما يضفي شرعية على الهاربين من الخدمة.



من بطل عسكري لرجل اعمال

في كتابه "من جيش الشعب لجيش الهوامش"* يقدم الباحث ياغيل ليفي من جامعة بن غوريون تحليلا لوضع الجيش على خلفية التحولات الكبيرة التي مر بها المجتمع الاسرائيلي. يؤكد الكاتب ان الجيش اليوم صار خاضعا لمفاهيم جديدة، والتي تقيس كل شيء حسب منطق الربح والمقابل المادي. هنا يكمن التحول العميق الذي طرأ على الاقتصاد والمجتمع الاسرائيليين خلال ال25 سنة الاخيرة، والذي سبّب تغييرا جوهريا في نمط التفكير والعادات والمفاهيم السائدة في اسرائيل.

يدّعي الكاتب ان المجتمع الذي تبنى نمط السوق الرأسمالية الحرة في مجال الاقتصاد، وسمح لرجل الاعمال الغني بان يحل محل الدولة المركزية، مجتمعا كهذا لا يمكنه الاحتفاظ بمفاهيم "جيش الشعب" الذي يطلب من الجميع التضحية الطوعية دون مقابل مادي.

خصخصة الاقتصاد التي بدأت عام 1985، يشير الكاتب، قادت الى تحولات اجتماعية. فقد تغيرت طبيعة نخبة اليهود من الاصل الاوروبي، بعد ان كانت الشريحة الاساسية في اسرائيل وصاحبة المكانة المركزية في الجيش، تحولت الى شريحة غنية من الطبقات الوسطى، وباتت ترى في نفسها جزءا من التطور التكنولوجي الذي يشهده الغرب الرأسمالي، وهي تتمتع بتأثير قوي على الرأي العام الاسرائيلي. في الستينات كان النموذج للرجل الاسرائيلي المثالي ضابط الجيش، اما البطل الجديد فهو رجل الاعمال او مدير شركة التكنولوجيا المتطورة الذي لا يهتم احد بسؤاله اذا كان قد خدم في الجيش او في الاحتياط.

في هذا الموضوع كتب ليفي: "ان تعزيز مكانة الاقتصاد مقارنة بمكانة الدولة وزيادة اهمية الجانب المادي وتقوية دور الطبقة الوسطى، ادت جميعها الى تآكل في اهمية المساهمة في خدمة الدولة (مثلا الخدمة في الجيش) كمقياس للحصول على مكانة اجتماعية، ومن هنا يأتي التآكل في الشعور بالانتماء للدولة. بالمقابل، برز دور وثقل اكبر لمسألة الانجاز الشخصي". (ص 192)

من جهة اخرى، يعزو الكاتب التآكل في هيبة الجيش الى الشعور السائد بالنسبة لمحدودية القوة العسكرية في حسم الوضع الامني مع الدول العربية المجاورة. فمنذ حرب 1967 التي تمكن فيها الجيش الاسرائيلي من هزم الجيوش العربية خلال ستة ايام، نشبت حروب لم ينته اي منها بنتيجة حاسمة: حرب اكتوبر 1973 أظهرت محدودية القوة العسكرية الاسرائيلية وهزت المجتمع الاسرائيلي من اساسه. فشل حرب لبنان الاولى واندلاع الانتفاضة الاولى نسفا نهائيا الوهم بقدرة القوة العسكرية على شطب القضية الفلسطينية. وجاءت حرب لبنان الاخيرة، بعد سبع سنوات من الانتفاضة الثانية، لترسّخ هذا الاعتقاد، وبالتالي فقد الجيش من مكانته المقدسة كعامل رئيسي في ضمان امان، حياة ومستقبل المجتمع.



تركيبة الجيش الجديد

العامل الثالث الذي يفسر انتشار ظاهرة التسرب من الجيش، متعلق بتركيبة الجيش الاجتماعية. في هذه النقطة يركز ليفي على الدور المركزي الذي لعبه ابناء الطبقة الوسطى من اليهود الاوروبيي الاصل ومواطني مركز البلاد والكيبوتسات، في قيادة الجيش وطليعة الوحدات القتالية على مدار 30 عاما. الارتباط العضوي بين المؤسسة العسكرية وبين المؤسسة السياسية والاقتصادية في تلك الفترة، منح كل من كان له دور هام في الجيش مكانة تلقائية في رأس الهرم الاجتماعي في اسرائيل.

ولكن قوانين اللعبة بدأت تتغير في الثمانينات. الشريحة التي انتمت بمعظمها لحزب العمل، بدأت تشعر بانها استُثنيت من السلطة بعد ان سيطر الليكود برئاسة مناحيم بغين على الحكم عام 1977. ويرى ليفي في حركة "سلام الآن" تجسيدا لسعي مجموعة من الضباط من تلك الشريحة بالذات للتأثير على مسار السياسة (سلام الان تشكلت عام 1978 كاطار لضباط الاحتياط).

في هذا السياق نشير الى ما يبدو كخط فاصل هام في تاريخ الجيش الاسرائيلي، ويبدو ان المؤلف لم يمنحه الاهمية الكافية، وهي تجربة حرب لبنان الاولى عام 1982، وما تبعها من انقسام حاد في المجتمع الاسرائيلي بين الطبقة الوسطى المثقفة التي تظاهرت ضد الحرب (مؤيدي حزب العمل ويساره)، وبين شرائح واسعة من الهوامش السياسية والاقتصادية التي دعمت الحرب (سكان البلدات الفقيرة والمستوطنات من مؤيدي حزب الليكود).

في تلك الفترة بدأ الجيش يعتمد اكثر على ابناء المجموعات الهامشية نسبيا في المجتمع، مقابل الانخفاض المستمر في مكانة الشريحة الاوروبية الاصل. يشير الكتاب الى "التركيبة الجديدة للجيش" والذي صار منذ التسعينات يعتمد بالاساس على المستوطنين، اليهود الشرقيين، المهاجرين الروس، النساء والعرب. من خلال استعراض لائحة الجنود الذين قُتلوا في الحروب المختلفة، يثبت الكاتب ان من يتحمل اليوم عبء القتال ويدفع ثمن الحروب هي الشرائح التي كانت في الماضي في الهوامش. يشار في هذا الصدد الى ان نسبة القتلى من سكان تل ابيب في حرب لبنان الثانية، كانت ضئيلة جدا وهو امر لفت اليه قائد قسم القوى البشرية في الجيش اليعزار شترن في تصريح خطير اثار جدلا واسعا في الرأي العام الاسرائيلي العام الماضي.



لا عودة الى الوراء

يطرح المؤلف ليفي تصورا مستقبليا للجيش الاسرائيلي، يتجنب في رأيه مشكلة التسرب من الخدمة، اذ ينص على التحول التدريجي من جيش اجباري لابناء ال18 ومعتمد على استعداد الشعب للتضحية، الى جيش مهني معتمد على جنود يتقاضون اجورا مقابل الخدمة العسكرية، وبالتالي متوقع ان يأتي هؤلاء من الشرائح الفقيرة والهامشية التي تحتاج الى الرزق، كما هو الحال في الولايات المتحدة، مثلا.

القيادة الامنية الاسرائيلية لا تزال ترفض هذا الخيار، لانها ترى فيه خطورة على وحدة المجتمع وتهديدا بمزيد من التفكك. الحملة الجديدة ضد المتسربين من الخدمة تبدو كمحاولة يائسة لاعادة عقارب الساعة الى الوراء، ووقف عملية تسرب الشرائح العليا والوسطى وخروجها عن سيطرة السلطة المركزية. لكن يمكننا ان نجزم بان قوة التطورات الاقتصادية والاجتماعية ستكون اكبر من هذه الحملة، مما سيضطر الجيش الى رفع اجور جنوده وضباطه، لضمان تجنيد الكم والكيف الضروري لاداء المهام العسكرية حسب مفاهيم القيادة الاسرائيلية.

يجب ان ننوه الى ان النقاش حول هذه المسألة لا يعني اننا امام انهيار القوة العسكرية والاستراتيجية الاسرائيلية. اسرائيل لا تزال تحتفظ بالقوة نتيجة تفوقها الاقتصادي والتكنولوجي وتحالفها القوي مع امريكا. ولكن من جهة اخرى، فان هذا التآكل يشير الى تقلص قبضة الافكار الصهيونية، ويفتح المجال لايجاد عدد متزايد من العناصر الاسرائيلية التي تحررت من هذه الافكار وهي على استعداد للاشتباك مع العرب بالحوار والانتاج الادبي والاجتماعي على اساس من التضامن السياسي، بدل الاشتباك العسكري الذي اثبت محدوديته.

* اصدار: دار "الكرمل" للنشر، 2007، باللغة العبرية