أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - راتب شعبو - حديث اللبن














المزيد.....

حديث اللبن


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 6214 - 2019 / 4 / 28 - 13:50
المحور: سيرة ذاتية
    


شيطاني قوي، هذا ما أستطيع أن أؤكده بعد تلك الواقعة التي ما كان لها أن تقع لولا القدرة الرشيقة لشيطاني. والقصة هي كما يلي: شاء صديقي أحمد أن يشكرني على وقوفي إلى جانبه (وإن يكن دون جدوى) في محنة الشك التي أنهكت روحه في السجن. فأرسل لي، بعد خروجه من السجن، سطلاً من اللبن مع زواري. استلم عناصر شرطة جناح الأمن السياسي سطل اللبن من أهلي في الزيارة، ولكنهم رفضوا تسليمه لي بعد الزيارة. هذه أشياء تحدث وهي طبيعية ومعتادة، ولكن لأن شيطاني قوي فقد راجعتُ مفرزة الشرطة واستفسرت عن السبب فقال أحد العناصر إن إدخال اللبن من الزيارة ممنوع بأمر من سيادة الملازم أول (رئيس المفرزة). ولسوء حظي كانت تجمع هذا العنصر، عصبية مناطقية مع الملازم أول، وهو ما جعل للحدث دينامية أقوى مما كان يمكن أن تكون عليه لولاها. وأمام جواب الشرطي هذا، ما كان من شيطاني إلا أن تكلم على لساني قائلاً: لماذا استلمتموه من الأهل إذن، أم أنها مصيدة!؟ (هكذا يفعل شيطان المرء غالباً، يتقدم في لحظة يختارها جيداً، ويزيح كل ما يتسلح به المرء من حذر و"وعي"، ثم يضرب ضربته ويتراجع تاركاً المرء لعواقب فعلته!). كان يمكنني أن أقول كلاماً آخر ذا حواف كليلة، كان يمكنني مثلاً أن أقول كلاماً ليناً ومؤثراً: "تعبت أمي في إحضار سطل اللبن وأرجو أن يسمح سيادة الملازم أول بإدخاله!"، كان يمكنني أن أقبل بصمت قرار سيادة الملازم أول وأعود إلى مهجعي بغنيمة الإياب. الاحتمالات الآمنة أمامي كانت كثيرة لولا هذا الاقتحام "الشيطاني" الذي افقدني زمام لساني لثوان معدودة كانت كافية لإحداث ما حدث. وكانت كلمة "المصيدة" بمثابة الصاعق الذي يفجر، وقد نجح شيطاني في اختيارها لزجي في مواجهة مع سيادة الملازم أول، رئيس المفرزة الذي لا يفرق بالطبع بين المرء وشيطانه.
[هذا الشيطان لا علاج له! حتى وأنا أكتب الآن مجريات ما حدث، يطل برأسه بكل ثقة ويوبخني ويتهمني بالجبن ويبين لي مفارقة أن أخشى من مواجهة رئيس مفرزة بشأن سطل لبن في حين أني أزعم مواجهة دولة بشأن قضايا كبرى. ويعتبر أنني عالة عليه وليس العكس. فهو يفعل ما يفعل ولا يبدي أي قدر من التردد أو الندم. وها هو يختم إطلالته هذه ساخراً مني بالقول: أنا الغريق ولكني أخشى من البلل!]
بعد فترة وجيزة من مطالبتي بسطل اللبن، طلبني رئيس المفرزة وأسمعني من خلف مكتبه أولاً ثم وهو يدور حولي، كلاماً وافراً عن وفرة اللبن لديه وعن أنه يغمرني ويغمر كل عائلتي باللبن. ثم زاد غضب الملازم أول فخرج من بين شفتيه كلام متقطع وعالي النبرة عن أننا (السجناء السياسيين) أناس عاقون ولا يعجبنا العجب وأن السجن قليل علينا. وقفت ساكتاً آملاً بتخامد انفعاله. ولكن ما حصل هو العكس تماماً. راح كلامه يستفزه أكثر وأكثر فدنا مني ووجه إلى وجهي صفعة مشفوعة بشتيمة مناسبة، ثم قرر خاضعاً لقانون كرة الثلج، وإثباتاً لغناه عن اللبن، أن يسكب سطل اللبن في التواليت أمام عيني.
وجه رئيس المفرزة الأمر إلى العنصر الذي كان يقف على باب مكتبه شاهداً على بهدلتي، ومنتظراً الأوامر. وكان هذا العنصر (وهو غير العنصر القصير البدين الذي واجهني حين طالبتُ، أقصد حين طالب شيطاني، بسطل اللبن) طويلاً نحيلاً برأس صغيرة، ويوحي بصحة المثل الشعبي الشائع عن الطويل. فاندفع العنصر لتنفيذ الأمر وأمسك بسطل اللبن واتجه متحمساً إلى التواليت (التنفيذ هو جوهر الخدمة في الفروع الأمنية، لا يلتفت العنصر إلى معقولية أو لا معقولية الأمر، الأمر معقول وفي محله طالما أنه صادر عمن يرؤسه، ويكون هذا الأمر ملحوظاً أكثر كلما نزلت أكثر في سلم الرتب، واضح أنه ليس لدى عناصر الشرطة شياطين من نوع شيطاني أو أن شياطينهم هذه ضعيفة للغاية!). أما أنا فوقفت أتفرج دون كلمة أو حركة، ويخالط دهشتي من هذا الأمر شعور بالطرافة. لعل الملازم أول شعر بخسارة سطل اللبن وساءه برود رد فعلي على غليانه المتصاعد، فأصدر أمراً جديداً نسخ ما قبله، حيث طلب من العنصر الطويل أن يسكب سطل اللبن ليس في التواليت بل ... على رأسي!
لم أصدق أن العنصر يمكن أن يسكب اللبن على رأسي كما لو أنه يسكبه في التواليت دون تردد، أو أن الملازم أول سوف يثبت على قراره المستجد دون تعديل. كنت مطمئناً إلى أن تغييراً ما لا بد أن يحدث لدى عنصري الفعل (الملازم أول والشرطي) بشكل يحول دون تحقق هذه الغرابة.
[كان علي أن أتذكر أن عنصري الفعل هذين سبق لهما أن قادا مواجهة منطقية مقنعة ضدنا عندما اعترضنا على كميات الطعام المقدمة لنا، وبرهنا معاً أن كمية اللبنة التي يقدمونها في وجبة الفطور على الطاولة المخصصة لثمانية أشخاص كافية لإفطار أكثر من 8 أشخاص. كان طعام الفطور موزعاً على الطاولات في المطعم المخصص لسجناء الجناح السياسي في سجن عدرا (دمشق)، وكنا قد امتنعنا عن الدخول احتجاجاً على قلة كميات الطعام. عندها أصر الملازم أول على دحض افتراءاتنا بقلة كمية الطعام، فأرسل الشرطي الطويل إياه برفقة سجينين ليبرهن أن الطعام المقدم على الطاولات أكثر من كاف. فرش الشرطي ثماني خبزات على الطاولة ووزع عليها كمية اللبنة التي لا يتجاوز حجمها حجم البيضة ثم لفها على أنها 8 سندويشات لبنة، قائلاً إنه مع ذلك لم يمسح الصحن كما يجب! وعاد إلى الملازم أول وهو يحمل السندويشات الثمانية ليبرهن صحة كلام "المعلم". وحين قال له أحد السجينين المرافقين إنه على هذا النحو يمكن صناعة 20 سندويشة لبنة من نفس الكمية. قال الشرطي الطويل: لو طلب مني سيادته أن أصنع منها 100 سندويشة لفعلت].
حتى اللحظة الأخيرة، حين رفع الشرطي السطل مقترباً مني اعتقدت أنه إنما يفعل ذلك لمجرد الإيحاء. ولكنه سكبه بالفعل كما لو أنه طالما قام بذلك. في اللحظة الأخيرة انطفأ اطمئناني وأيقنت بجدية الأمر وتنحيت جانباً. فكان أن نجوت برأسي من اللبن الذي اندلق على جاكيتي وطرش على الأرض وعلى ملابسي وملابس الشرطي. كان الملازم أول قد دخل إلى مكتبه، فيما راح العنصر يبربر كلاماً مفاده أننا نحن من نجبرهم على القيام بمثل هذه الأشياء.

أيار 2012



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطفال سورية
- العلويون، عزلة ثانية
- رفة عين اسمها الاستيقاظ
- خيانات مضمرة
- براميل على الذاكرة
- -المقامر- على أضواء سورية
- الموت تحت التعذيب
- بيت في المخيم
- إرهاب ضد الإرهاب
- البلد العابر للسياسة
- النساء في الثورة السورية
- من الذي قلع عين الرئيس؟
- حزب السيارة الزرقاء
- عميد مغلق وباب مفتوح
- الطبيب المسكين وفخامة الجريح
- يا حيوان ليش ما قلت انك -منهم-؟
- تموت وتاكل غيرها
- موت الرواية
- أرض الألغام
- عزلة المنكوبين


المزيد.....




- السعودي المسجون بأمريكا حميدان التركي أمام المحكمة مجددا.. و ...
- وزير الخارجية الأمريكي يأمل في إحراز تقدم مع الصين وبكين تكش ...
- مباشر: ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب ع ...
- أمريكا تعلن البدء في بناء رصيف بحري مؤقت قبالة ساحل غزة لإيص ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة (فيدي ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /26.04.2024/ ...
- البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمق ...
- لماذا غيّر رئيس مجلس النواب الأمريكي موقفه بخصوص أوكرانيا؟
- شاهد.. الشرطة الأوروبية تداهم أكبر ورشة لتصنيع العملات المزي ...
- -البول يساوي وزنه ذهبا-.. فكرة غريبة لزراعة الخضروات!


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - راتب شعبو - حديث اللبن