أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - شارع النهر















المزيد.....

شارع النهر


طارق حربي

الحوار المتمدن-العدد: 6106 - 2019 / 1 / 6 - 07:40
المحور: الادب والفن
    


فصل من كتاب الطريق إلى الناصرية يصدر قريبا
لا شيء يشبه الوقوف على الجسر وتأمل المياه الغائضة في النهر، بما غطت شواطئه من النباتات الضارة، إلا الوقوف على الأطلال في الشعر العربي الكلاسيكي، حيث رثاء الشاعر بقيا دار الحبيب وأصداء الحب الأولى!

والفرات حبنا الأول والعلامة الفارقة في الناصرية وتأريخه جزء لا يتجزأ من تأريخنا الشخصي، سواء في مزاولة هواية السباحة أم المشي تسرية عن النفس على شواطئه، أم التمتع بعيد الشجرة السومري وعيد النبي زكريا حيث توقد الشموع ويُطلب المراد. وتختزن ذاكرة النهر سجلاً حافلاً للمنافسات البطولية بين السباحين، سواء في عبوره أم في رمي الجسم من على الجسر أو إحدى ركائزه الخرسانية (الدوب).

بعد 22 وعشرين عاماً من الغياب والعواطف المجنحة وقفت ذات نهار صيفي حار أصفرَ مغبراً على جسر النصر، ماداً البصر بطول النهر الناضب متأملاً أمواج الفرات المتلاشية بوهن المرضى على الشاطئين، هي كفت عن الاندفاع بقوة إلى الجانبين، فلا تسمع أصوات الطرطشة كما في الأيام الخوالي، ولا صياح الأولاد من السباحين ولاعبي كرة القدم على الشاطىء!، وتراءت لي وأنا على هذه الحال من الذهول وجوه أصدقائي السباحين الغرقى والسكارى المنتحرين، احتجاجاً على طول سنوات الحرب العبثية في ثمانينيات القرن الماضي، أو ممن قضوا في السجون والمعتقلات، أو هرباً من الملاحقات والبطش إلى خارج العراق.

يمنحك الوقوف على الجسر فرصة تأمل الماضي الذاهب مع الأمواج، وإنك لا تنزل إلى النهر مرتين كما كتب الفيلسوف الطبيعي الأغريقي هيرقليطس، الزمن الذي اعتبره نيوتن في القرن الثامن عشر مطلقاً (Absolute Time) ، حتى مجيء الفيزياء الحديثة فأصبح حسب النظرية النسبية لانشتاين في مطلع القرن العشرين يمثل البعد الفيزيائي الرابع للمكان، حيث يمكن الحديث عن الزمن النفسي أو الفيزيائي أو التخيلي الذي يعطي للوجود معناه ونعد به سنيّ العمر!

لكن الزمن في الناصرية مهدور إنسانياً وعمرانياً، بل قل ليس فيها زمن إلا الذي وصفه المعري في إحدى قصائده
وتأكلنا أيّامُنا، فكأنّما تمرّ بنا الساعاتُ، وهي أُسودُ!
ومصداق ذلك ما يراه الزائر للمدينة على وجوه السكان وواجهات المباني!

إن الوقوف على الاطلال زمن أيضاً يمضي باتجاه واحد مثل نهر جار لا يعود إلى الوراء، جارف مثل النهر الذي في داخلي وداخلك عزيزي القارئ، فذات أصياف فائتة كانت هنالك مساحة واسعة على الشاطىء المشمس، مربعة الشكل مسيجة بالحصران (البواري) ولها باب يطل على النهر مباشرة تداعب عتبته الأمواج، يقوم فيها معلمو الرياضة بتدريب الأولاد على السباحة وسط موجات من الصياح والمرح، وتُلتقطُ الصور بالأبيض والأسود فردية وجماعية، وكما لا تخفي صداها الأمواج المندفعة بقوة قبل تلاشيها على الشاطىء، لا يغيب عن البال مشهد السباحين المهرة من عابري النهر سباحة، أو على إطارات السيارات المنفوخة صغيرة وكبيرة فرحين جذلين، أحياناً ولما يصلون إلى منتصف النهر يستريحون على الاطارات وتسكن حركتهم، فيعن لهم الصداح من بعيد بأغاني حزينة وأبوذيات المفجوعين من فيضانات دجلة والفرات!
مرة أو مرتين سنوياً وربما أكثر من ذلك يغرق الأولاد في النهر، فتركض الروح العراقية للسباحين والغواصين ومن كان يتمشى على الشاطىء أمامهم ركضاً إلى مكان الحادث، إن الفرات مثل النيل في الأساطير المصرية يلتهم ضحية أو أكثر سنوياً!.
شاهدت في السنوات البعيدة على الشاطئ أمهات نائحات على الأبناء الغرقى الذين لا يبين لهم أثر إلا بعد مضي ثلاثة أيام أو أكثر، غالباً ما يجرفهم جريان النهر بعيداً عن المدينة ببضعة كيلومترات، أحياناً يعثر عليهم في انعطافته حول مدينة سوق الشيوخ التي تبعد عن الناصرية 29 كيلومتراً غرباً، بعدما يمتلىء جوفها بمياه النهر وتنهشها الأسماك تطفو الجثة، ولعل الشاعر الذي كتب الدارمي الشهير (مثل ام ولد غركان وابره الشرايع .. كلمن وليفه وياه بس ولفي ضايع!)، وهو أقسى شعر شفاهي سمعته في حياتي وغناه العديد من المطربين الشعبيين حتى في الأعياد ومناسبات الزواج!، كتب دارميه من وحي غرق الأولاد وصدى نواح الأمهات على شواطىء النهرين!

بعد عقود من ذلك وعلى المساحة البريئة المشمسة قامت مساحات لعينة أدخلت الناصرية في ليل دامس وما تزال!
سطر طويل من مقرات الأحزاب الفاسدة ينتهي بمبنى المحافظة الجديد الفاسد قرب الجسر، مبنى سيطرت عليه مافيات الأحزاب الدينية، في سنة 2003 نصب على عجل محافظ جاهل من حزب الدعوة، تلاه جهلاء من نفس الحزب كان آخرهم إبن رجل الدين محمد باقر الناصري وكان لاجئاً في أستراليا، جاء به رئيس الوزراء نوري المالكي وعينه مديراً عاماً في مجلس الوزراء بضعة سنوات قبل تنصيبه محافظاً، يقول المقربون إن التعيين كان إرضاء لرجل الدين المذكور وكان مسؤولاً حزبياً للمالكي خلال فترة المعارضة في إيران، وعقدت في المكان الجديد ومنذ عشر سنوات أنواع من الصفقات المشبوهة بأيدي أعتى عتاة مافيات الأحزاب الدينية، حيث تمت سرقة الميزانية العامة التي تخصصها بغداد للمحافظة سنوياً!

***

وتشكلت منذ سبعينيات القرن الماضي الملامح الأولى لشارع مواز للنهر سمي (الكورنيش)، نبتت على طول شاطئه الأيمن بارات ونوادي ليلية للاقتصاديين والمعلمين وعامة الناس، ومقاهي للعوائل وليالي السمر التي تشهد عليها أمواج الفرات ونسائمه العذبة، وفي بداية (الكورنيش) من الجهة الشمالية هنالك دار استراحة عصري للمسؤولين والسياح والأغنياء، وغير بعيد عنها تقف شاخصة كأنها إله ماء سومري إسالة الماء مثقبة برصاص الاحتلال، ومعارك الميليشيات الحزبية المتصارعة بعد التغيير على السلطة والمال والنفوذ، ولم يعد (الكورنيش) كما في السابق ملاذاً للكثيرين من سكان المدينة، يهرعون إليه مساء يستنشقون فيه النسمات المنعشة بعد طول نهار مغبر، فتحالف بذلك السياسيون مع الطبيعة على خنق سكان الناصرية، وأبعد عنهم كل أمل في بناء مدينة ليست بالضرورة عصرية، ولكن على الأقل تتوفر على شروط العيش الكريم لمواطني بلد نفطي!
شارع طويل شمله الخراب ليس له من النهر إلا الأسم، مكسر تعبيده القديم بفعل الحرارة، مقطع الأوصال بالدكات الأسمنتية، وبأشجار لم تشذب فافترشت الرصيف أغصانها الطويلة المتكسرة، شارع نصف مظلم في بعض أنحائه ودامس الظلمة في أنحاء أخرى يقع في منتصفه مبنى مديرية تجنيد الناصرية، وكان أرسل مئات الآلاف من الأجيال الشابة خلال العقود الماضية إلى محارق الحروب، ودأب سكارى الليل قبل التغيير وبعده على التبول على المبنى والبصاق وإطلاق الشتائم من كل الأجناس!

كما حجبت مقار الأحزاب الدينية جبهة النهر الخالد، ووقف على أبوابها عسكريون أو متطوعون مسلحون أغلبهم من أبناء العشائر المنتمين للأحزاب ومن مقلدي الحوزات الدينية، تتعثر خطى المارة ويهمسون همساً ضد الأحزاب كلما مروا من أمام مقراتها، في قلوبهم خوف قديم ورثوه من العهد الفاشي من أذن تصغي ويد تكتب التقارير الحزبية، أو جهاز إلكتروني يسجل الخطى المرتبكة والكلام الصريح ضد سياسة الأحزاب الفاسدة!، اتخذ أبرزها من بار أنكيدو الشهير مقراً له، وكان خلال الحرب اللعينة ضد إيران ملاذاً للكثيرين من أبناء الناصرية، من متمردين و(فرارية) من الحرب وغيرهم، ولطالما تندر أبناء الناصرية قائلين، كان المكان نجساً بالنسبة لهذا الحزب ولا نعلم كيف تم شطفه واتخاذه مقراً له فسبحان مغير الاحوال؟!



#طارق_حربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطريق إلى الناصرية 2
- انهيار التعليم في العراق
- حي الأرامل
- بيان حول الاعتداء السافر ضد المتظاهرين في مدينة الناصرية.
- عقيل حبش .. بطل من الناصرية
- موعد في غوا (رحلة إلى العراق والهند) الفصل الأول : الناصرية ...
- موعد في غوا (رحلة إلى العراق والهند) الفصل الأول : الناصرية
- في الليل تسطع نجمتها!
- كم هو حزين هذا الصباح؟!
- مثل ام ولد غركان .. بالناصرية؟!
- يكون غدا أثرا
- 9 هلالية!
- مقطع من القصيدة النرويجية
- استمارة الصافي مرفوضة وسنقوم بتوكيل محامين دوليين!
- دعوة إلى محافظ ذي قار الجديد التنازل عن منصبه!
- قرب مكان الانفجار الثاني بالناصرية !
- هوامش حول حرية التعبير في العراق
- الأستاذ الجامعي السعودي سعد الدريهم .. إبن أي شارع أنت؟!!
- مقهى عزران وشاعر المدينة .. فصلان من كتاب (الناصرية .. شخصيا ...
- علم الغربية .. باطل!


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طارق حربي - شارع النهر