أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - من ذاكرة الجزيرة السورية 1















المزيد.....

من ذاكرة الجزيرة السورية 1


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 5531 - 2017 / 5 / 25 - 14:52
المحور: الادب والفن
    


كنت أحب تلك الشجرة، الكينا، الوارفة الظلال الدائمة الخضرة في الصيف والشتاء، الطرية، المرنة، اللطيفة، والعطوفة وطيبة القلب والروح في بقية الفصول. رائحتها منعشة ولذيذة، قابعة في الحوش الذي كنا نعيس فيه.
كانت الأكبر حجمًا وطولًا وعمرًا في مدينة رأس العين. نجلس تحتها في الصيف نتبرد. وتمنحنا الظل والرطوبة. ومرات كثيرة اتسلق الجدع وأصعد إلى أعلى القمة عبر الأغصان المعرشة. أجلس فوق، في الأعلى أراقب المدينة الصغيرة، شاحنات القطن والقمح، العتالون، محطة القطار، الحدود وسكة الحديد مع تركيا. وأرى السيارات والناس وما يجري حولي. يصحبني لهاث من ضيق التنفس. واستيقظ مرات كثيرة على صراخ أمي العالي:
ـ انزل بسرعة. ستقع وتتكسر عظامك. تقف عند الجدع، تبكي وتولول وتتضرع لله أن يرفق بي ويمنحني العقل والمرونة حتى أرد على توسلاتها وأنزل.
كنت متمردًا رافضًا لكل شيء. لم يكن في ذهني شكل الرفض بيد أني كنت عنيدًا، صلبًا منذ نعومة أظافري. لم يحرك بكاء أمي أي شيء في داخلي. أفعل ما يمليه علي عقلي.
في الشتاء تكون الكينا مأوى للطيور المهاجرة أو الجريحة. الكثير منها يجلس فوقها، يستريح من عناء السفر الطويل. والبعض الآخر يسقط أرضًا من البرد أو التعب. وخاصة الزرازير. انتظر بفارغ الصبر سقوط أحدهم. عندما أسمع استغاثته، بكائه وحزنه عند اقتربه من الأرض. أركض نحوه وأمسكه. لم أكن أمهله الوقت حتى يلتقط أنفاسه، أجهز عليه مباشرة، ليتحول إلى طعام على مائدتنا. كل يوم كنت أحصل على ثلاثة أو أربعة من هؤلاء المساكين. وأحيانًا استيقظ من النوم وأركض وراء أحدهم حتى أمسكه.
كانت الكينا سمتًا، نبراسًا وملتقى طرق الترحال.
طوال الليل كنا نسمع صوت الطيور الراحلة، المهاجرة من الشمال إلى الجنوب طلبًا للدفء.
كان ذلك زمن الطيش والفرح واستبدال الأزمنة والتاريخ والعمر.
مر زمن طويل على ذلك الزمن. زمن لا نهائي خلف وراءه الكوارث والكوابيس ولم نتمكم من إدراك ما يدور حولنا إلا إلى وقت متآخر. رأينا أنفسنا فاقدي الصوت، تغطي الدماء رؤوسنا
كل يوم أحد كنت استيقظ في السابعة صباحًا من النوم. وأذهب برفقة أختي أنجيل ولوسين إلى الكنيسة، للأرمن الأرتذوكس. بمجرد أن أصل أدخل مع بقية الأطفال الصغار غرفة خاصة بالملابس. ألبس القميص الأبيض الطويل مثل الآخرين. وثم نخرج لنصطف بجانب بعضنا في المحراب إلى أن يأتي المصلون. ويبدأ القداس.
الحقيقة لم أكن أذهب إلى الكنيسة رغبة في الصلاة، أنما خوفًا من جنون القسيس كيفورك. كان رجلًا قاسيًا ومزاجيًا ولا يمكن للمرء أن يتنبأ بردات فعله بشكل دقيق. عندما كانت الكنيسة تمتلئ بالمصلين، كان يبقى طوال الأسبوع كله منشرح الصدر ولا يسأل عن غيابنا يوم الأحد. أما إذا كانت فارغة فالويل والثبور. يحمل العصا ويضربنا بمنتهى القسوة، ويذكرنا بمأساة أجدادنا. وأحيانًا كان يضرب رأسه على الجدران حزنًا على نفسه أو على غيره. وأحيانًا كان يشد شعره من القهر. كان مجنونًا.
أثناء تواجدي في الكنيسة كنت أبقى شاردًا طوال الوقت، انتظر صلاة الخاتمة بفارغ الصبر. في الحقيقة كنت موجودًا بين الناس جسدًا لكن قلبي وعقلي في مكان آخر تمامًا، في كرة القدم. أحس نفسي في جنازة، والموتى فوق أكتافي يركضون إلى التراب.
في ذلك العام/ 1969/ بدأت بلدية رأس العين بحفر الشوارع لتمديد مجاري المياه المالحة تحت الأرض. جلبوا حفارة /باكر/ وحيدة. ومضوا يمدون القساطل وملحقاتها من الاسبستوس.
أكثر ما أثار اهتمامي هو وجود أكوام هائلة من العظام والجماجم تحت الأرض على مسافة لا تتعدى العشرين أوالثلاثين سنتمتر من سطح الأرض.
كنا ننام في غرفة تطل على الشارع على مسافة متر ونصف المتر, بالقرب من تموضع العظام البشرية المكومة. رائحة التربة كانت رائحة عظام بشرية، ورائحة الشارع أيضًا. جماجم بالآلاف، سواعد، عظام الفخذ، أصابع اليد، أسنان مكومة فوق بعضها البعض. وكأن هذه العظام وصلت إلينا نتيجة معركة كبيرة تمت على هذه الأرض أو مجزرة حدثت في زمن ما. أستطيع القول أن مدينة رأس العين متموضعة أو نائمة على تلال من العظام ليس أولها الخرابات القابعة في شرقي المدينة على مقربة من سكة القطار، أو المكان الذي نسكنه.
كنت مع بقية الأطفال من عمري نسير مع الحفارة /الباكر/ نتحرك مع سطله أينما ذهب. العظام المفتتة ترمى على الجانبين من الشارع. كنت أقول لنفسي:
ـ عظام من هذه؟ من هم هؤلاء الضحايا؟ لماذا لم يذكر كتب التاريخ شيئًا عنهم؟ أم أن ذاكرة بلادنا ميتة؟
مرات كثيرة كنت أقف مع تمو ومعمو الباشات فوق العظام ونتحدث عن الأموات. واستغرب هذا الكم الهائل من المخزون الثقافي في عقولهم عن الموت وعذابات القبر ومجيء عزرائيل وجبرائيل وبيده العصا. ويفرز المؤمنين عن الكفار. وتساءلت:
لماذا هذه الثقافة المخيفة محشوة في عقول أطفال مثلنا؟ ولمصلحة من استثمار هذا الخوف الرباني؟
وعندما كبرت علمت أن هذه الثقافة توارثانها عبر أئمة دجالين ليس لهم هم إلا تخويف الناس ليبقوا خاضعين، صاغرين لإرادة رجال السياسة ورجال الدين المنافين. سألت أبي مرة عن عذاب القبر، قال:
ـ هذا كلام فارغ. لم يأت إنسان من بين الأموات أو حدثنا عن أوجاعه بعد الموت. وأردف:
من مات مات وفات أوانه ولن يعود. لا تعطي أذنك لهذه الخرافة الفارغة.
كان الملاكون الكبار، نساءهم وأبناءهم، الصغار والكبار، ذكورًا وإناثًا قد تركوا البلاد وهربوا بأجسادهم وكأنهم فص ملح وذاب. تركوا كل شيء وراءهم، البيوت، الأملاك، الخطط والبرامج الطويلة لاستثمار البلاد وتنشيط دورتها الاقتصادية. بعد أن صادرتها الدولة في الستينات.
وكأن السلطة الجديدة كانت في حالة حرب معهم. وهكذا، دفعة واحدة وبجرة قلم جرى تغيير جذري في الملكية وتوزيعها وبعثراتها وتشظيها إلى قطع صغيرة لتسهيل هضم القوى التي حازت على الأرض كانتفاع أو حيازة دون سند ملكية أو ضمان بعدم أخذها مرة ثانية.
لم يكن لدى القوى القديمة القدرة على الرفض أو الاعتراض لهشاشة قواها أو تمثيلها السياسي.
وهكذا تبرز الأيام موحشة، متعبة. لقد زرع العسكر الخوف والرعب في طول البلاد وعرضها. لا أعرف مشاعر الذين تخلوا عن أراضيهم تحت سطوة القوة، عن حياتهم ونبض العيش في مكان وجودهم الجديد. لكن ما أعرفه أنهم خسروا بضربة واحدة كل شيء وإلى الأبد. ودون تعويض.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقالة في العبودية المختارة
- طيور الشوك
- استراتيجيات الغرب وجاذبية الشرق الأوسط
- الخبز الحافي
- النظام الأمريكي بعد الحرب الباردة
- هل الظلم وحده يصنع ثورة..؟!
- ما تخلفه الحروب الدامية على المرأة
- التنظيم في رواية قبلة يهوذا
- الصين في رواية
- الثورة والنهج الأمريكي الجديد
- قراءة ثانية في رواية ألف شمس مشرقة
- الثورة حدث فاصل في التاريخ
- رقص رقص رقص
- المظلومية والمجتمع الرعوي
- عوالم تركية لقيطة استانبول
- العولمة وإدارة الفوضى..!
- ألف شمس مشرقة
- آلموت فلاديمير بارتول
- الديمقراطية السياسية
- رواية قبلة يهوذا


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - من ذاكرة الجزيرة السورية 1