أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليم نصر الرقعي - التباس في زمن الارهاب!؟















المزيد.....


التباس في زمن الارهاب!؟


سليم نصر الرقعي
مدون ليبي من اقليم برقة

(Salim Ragi)


الحوار المتمدن-العدد: 5412 - 2017 / 1 / 25 - 00:12
المحور: الادب والفن
    


(قصة اختلط فيها الواقع بالخيال الطريف والوسواس المخيف!؟)
**************************************************
أتذكر !؟
°°°°°°°
أتذكر في العام ما قبل الماضي 2015، في الايام التي تلت العمليات الارهابية التي نفذها تنظيم (داعش) الإرهابي في لبنان ثم في فرنسا أنني ، وبينما أنا في المقهى هنا في مدينة (شفيلد) حيث أقيم ببريطانيا أتناول قهوتي في أمان الله واقوم بنقل نصوص محاولاتي الأدبية والشعرية القديمة من اوراقي وكراساتي العتيقة الى جهازي المحمول استعدادا لتنقيحها وتطويرها ثم نشرها لاحقا، وبينما أنا كذلك ، اذ دخل للمقهى فجأة شخص ملتح ذو ملامح شرقية شبه عربية يرتدي ملابس افغانية ويضع على ظهره حقيبة ظهر سوداء !!، وما أن رأيته حتى انطلقت فجأة صافرة الانذار في احدى دهاليز دماغي البعيدة !! ، ثم مع قرع جرس الانذار في رأسي سمعت صوت مسؤول الطوارئ وضابط التحوطات الأمنية في دماغي ، وبعد أن قفز واقفا على رجليه من على احد كراسي عقلي ، وهو يصيح في انفعال شديد ويلهث من شدة الفزع، وبصوت حاد وصارم كما لو أنه رئيس فصيل عسكري في الميدان صاح في جنوده : "انتباه ! ، انتباه !".
فداهمني شعور بالصدمة كحال النائم الغافل حينما يقوم البعض برش كوب من الماء البارد على وجهه على حين غرة ! ، فقلت مصدوما في ارتباك :
- بسم الله الرحمن الرحيم ! ، ماذا هناك !؟، ماذا دهاك!!؟.
- كيف !؟؟ ، ألم تلحظ دخول هذا الشخص الغريب المريب للمقهى يا رجل!؟.
- بلى ، لقد شفته ! ، ما به!؟ ، و مالنا وماله!؟، أنا في حالي وهو في حاله !.
- والله بصراحة أنا غير مرتاح له !!.
- لماذا !؟ ما خطبه !؟.
- يا عزيزي ماذا لو كان هذا الشخص من الجماعة اياهم !!؟، انظر الى شكله وهيئته!.
- أية جماعة !!؟؟.
- اقصد الارهابيين الذين نفذوا العمليات الارهابية خلال الايام الماضية في لبنان وفي فرنسا !.
- ماذا تقصد بالضبط !؟، لم أفهم !.
- أقصد ما الذي يضمن لك أنه ليس منهم !؟ ، ماذا لو كان من أنصار طالبان أو داعش وقد جاء للمقهى لأنه مكلف بتنفيذ عملية ارهابية انتحارية كما جرى في لبنان وفرنسا الأيام الماضية!؟، هب أنه كذلك ماذا عليك أن تفعل !؟ .
- اعوذ بالله !! ، والله ان كلامك هذا يخيفني!! .
- يا عزيزي ، من خاف سلم ! ،
- ولكن ما هو دليلك ؟! ، إن بعض الظن اثم !.
- هههههههههه ! ، يضحك ضابط الشك والعمليات الأمنية في عقلي بسخرية مليا ثم يمضي يقول في تهكم : حسنا يا سيد سليم ! ، بعد أن ينفذ هذا الارهابي العملية ويفجر قنبلته في المقهى وتصبح انت في خبر كان ابحث عندها عن الدليل !؟ ، ودع عندئذ حسن ظنك ينفعك ويعيدك للحياة وإلى زوجتك وولدك الوحيد من جديد!.
- ماذا تقصد !؟.
- أقصد ، صحيح أن بعض الظن إثم ولكن بعضه الآخر حكمة ووعي وفطانة ! .
- حرام عليك!، فقد شككتني في الرجل وجعلت الفار يلعب في ثوبي وفي قلبي معا!.
- انت حر ولكن أنا مهمتي هي أن أنصحك واحذرك من الاخطار المحدقة بك ثم أنت قرر، وعقلك ميزانك ! ، ثم بالله عليك واحد متدين ومظهره مظهر واحد سلفي لماذا يدخل لمقهى فيه موسيقى واختلاط نساء برجال ومحاذير شرعية حسب فهمهم للشريعة !!؟؟ ، ماذا يفعل شخص متدين هنا بالضبط هل تحولت المقاهي الى معابد!!؟، صدقني يا صديقي ، الموضوع فيه إن !!!؟.
- لا حول ولا قوة الا بالله !! ، قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا !.
- صحيح ! ، ولكن الأخذ بالأسباب واجب شرعي وعقلي !.
- والله انك ارعبتني وجعلتني اشك به فعلا ! ، هل تعتقد انه بالفعل جاء لهذا المقهى لتنفيذ عملية ارهابية انتحارية!!؟؟ .
- هذا وارد لحد كبير !.
- هل تعتقد انه سيفعل ذلك !!؟؟.
- ولم لا ؟ ، الم ترى ما حصل في بيروت وباريس الأيام الماضية !!؟.
- أتعني أنه يحمل معه في حقيبته قنبلة !!؟.
- وما المانع !!؟؟ ، ربما يكون يرتدي حزاما ناسفا ايضا ! .
- يا ساتر !! ، اعوذ بالله !! ، والله انك اخفتني جدا يا هذا ! .
- من خاف سلم ! ، الا تلاحظ أنه بين الفينة والأخرى يقوم بترتيب بعض الاشياء داخل الحقيبة وهو يتلفت في ارتباك ذات اليمين وذات اليسار !؟.
- وماذا يعني ذلك !؟.
- يعني انه يقوم بتجهيز العملية !!.
- أتظن ذلك !!؟.
- نعم ! ، فقط عليك أن تنظر الى بعض تصرفاته الغريبة والمريبة وذلك العرق الذي يبلل جبينه وذاك الارتباك الذي يعتريه كلما قام بالنظر الى داخل حقيبته !؟ .
- لا حول ولا قوة الا بالله ! ، والله إن كلامك صحيح !؟ ، فتصرفاته تدل على أن وضعه غير طبيعي !.
- شفت !؟؟ ، شفت بعينك الآن يا سي سليم !؟ ، ألم أقل لك منذ البداية !!؟ ، ألم اخبرك ان دخول هذا الشخص المريب غريب الأطوار لهذا المقهى هو شيء غير طبيعي أصلا !!؟ ، العملية واضحة يا صاحبي!، فالله عرفناه بالعقل ! ، فهذا الشخص متطرف داعشي دخل لهذا المقهى لتنفيذ عملية ارهابية انتحارية !.. والتي ستكون حضرتك ، بعد عدة دقائق ، من ضمن ضحاياها المساكين!، فليرحمك الله وليكن في عون زوجتك وولدك الوحيد !!!.
- يا ساتر !! ، هل انت متأكد أنه ارهابي انتحاري !؟.
- متأكد بنسبة 99.99 % !!.
- وما هو الحل الآن !؟ ، ماذا ينبغي علي أن أفعل !؟ ، هل اتصل بالطوارئ وابلاغهم بهذه العملية الارهابية الانتحارية التي على وشك ان ينفذها هذا الارهابي الخسيس اللعين أم ماذا يجب أن أفعل!؟.
- لا ، لا ، إياك ! ، حذار ! ، ما علاقتك انت بكل هذه المشاكل !؟ ستجد نفسك حينها في سين جيم !؟ ومن يدري فقد تجد نفسك أنت ذاتك متهما بالإرهاب !؟ .. هل نسيت ، يا حبيبي ، أنك عربي ومسلم وذو ملامح شرق أوسطية!؟ ، وهل نسيت أنك كنت ايام شبابك محسوبا على احد الاتجاهات الاسلامية المتشددة !!؟ .. وبالتالي فأنت متهم حتى تثبت العكس ! ، ام تراك نسيت حتى هذه !؟؟.
- اذن ما هو التصرف الحكيم والسليم في مثل هذه الحالات يا رفيق !؟، ارجوك ساعدني للخروج من هذه الورطة!، بسرعة ! .
- الحل معروف وواضح يا عزيزي وضوح الشمس في رابعة النهار!!.
- ما هو!؟ ، أرجوك أسعفني به وبسرعة قبل أن يفجر هذا الارهابي الخسيس حزامه الناسف أو القنبلة التي في حقيبته السوداء !!.
- الحل هو أن تأخذ حقيبتك وتضع حاسوبك اللوحي (الجلكسي) تحت إبطك ثم تطلق ساقيك للريح ، ولا من شاف ولا من درى !!.
- لكن أليس من الأفضل ان أبلغ البوليس اولا لعلهم يقومون بإحباط هذه العملية الجهنمية الخسيسة القذرة التي يريد هذا المتطرف الارهابي البغيض تنفيذها ضد اناس ابرياء لا لهم في العير ولا في النفير من أمثالي!؟.
- ههههه ! ، هل انت مجنون !؟ ، ليس هناك وقت لكل هذا الترف العاطفي! ، انت فقط انج بنفسك اولا ثم لكل حادث حديث ! .
- والله صدقت ! ، هذا هو الحل العقلاني الوحيد !.
هكذا دار الحوار بيني وبين نفسي أو مع عقلي أو مع جهاز حفظ أمن الذات في اعماقي أو مع الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس أو مع أي بلوى من "البلاوي الزرق" التي تسرح وتمرح في اعماق انفسنا دون أن ندري ماهيتها بالضبط! ، وهكذا جرت تلك المناقشة في ذاتي حول موضوع هذا الشخص الملتحي الغريب المريب الذي دخل للمقهى على حين غرة وجلس على مقعد حول طاولة محلها يقع على بعد قاب قوسين أو أدنى فقط من طاولتي ومن محل جلوسي! ، وهكذا انتهى هذا الحوار النفسي الباطني ببث شحنة هائلة من القلق والخوف في قلبي الى حد الرعب والى درجة اللون الأحمر وبالتالي اقناعي بخطورة الموقف وضرورة المغادرة فورا على وجه السرعة وقبل ان ينفذ هذا الارهابي الخسيس عمليته الانتحارية في هذا المقهى وقبل أن يقع الفاس في الراس ولات حين مندم!!.
***
شعرت!؟ ..
°°°°°°°°°
شعرت بالرعب التام بالفعل ، وأفزعني صوت صريخ جرس الانذار في اعماقي وهو يجلجل بشدة في أحد تلافيف دماغي البعيدة وصوت آخر في جهة أخرى من دماغي يهتف ويردد : ( يا ساتر ! ، يا ساتر !) واصبحت على يقين تام أن ما بيني وبين الموت ليس سوى طرفة عين أو ضغطة زر ، كل ما هنالك هو أن يضغط هذا (الأخينا) على الزر فتنفجر القنبلة في وسط المقهى وتتطاير الكراسي والاجسام والاشلاء في كل مكان وأكون أنا في خبر كان ، أنا وكل من معي في المقهى ! ، هكذا اصبحت الحقيقة المرة والمرعبة واضحة بل و تتراقص عارية أمامي وسط المقهى وهي تخلع ثيابها قطعة قطعة على ايقاعات أنغام موسيقى صاخبة وسريعة وأغنية غربية ساخنة تضج في مكبرات الصوت التابعة للمقهى تقول كلماتها : ( انهض ، انهض ، وقتك يجري هدرا هدرا !) ، وعلى هذا الايقاع الجنوني اصبح صوت خفقان قلبي كصوت قرع طبول الحرب ، فقفزت من على كرسيي فجأة كمن تعرض لتوه لصعق كهربي مفاجئ أو لوخزة مسمار في مقعده أو لمس جنون! ، وانتشلت حقيبتي بسرعة واختطفتها خطفا ، وبطريقة مستعجلة ومرتبكة لفتت انظار رواد المقهى من حولي و جعلت بعضهم يرمقني بنظرة تنضح بالشك والحيرة والارتياب والتساؤل ! ، وخرجت أهرول على عجل لا ألوي على شيء ! ، ولسان حالي يقول : ( يا روح ما بعدك روح !!) ، أهرول وأنا أتلفت يمينا وشمالا مرارا وتكرارا كالمخبول بينما قلبي يخفق بشدة ، ومسؤول حفظ امني الشخصي في نفسي يجلدني بسوط صرخاته الصاخبة من وسط رأسي بأعلى صوته مرددا : ( اسرع ! ، اجري ، اركض يا ابن آدم ، فالإرهابي الخبيث يكاد ان يضغط على زر التفجير! ، القنبلة ! ، القنبلة !! ، والحزام الناسف !!، بسرعة ، اهرب ، انج حاج سليم فقد هلك وليم ! ) .. وبالفعل خرجت اركض وانا أتلفت حولي كالمعتوه متوقعا انفجار القنبلة في أية لحظة رهيبة من لحظات القدر الغريبة ، وفي أثناء خروجي السريع والمفاجئ بذلك الشكل المريب لمحت شخصا تدل معالمه على أنه مواطن انجليزي الأصل ، كان يجلس على أحد المقاعد الموضوعة خارج المقهى وقد أخذ ينظر نحوي في شك وارتباك حتى احمر وجهه فغدا كلون الطماطم ثم اصفر فصار بلون الحنظل وظلت عيناه متسمرتين نحوي في جحوظ عجيب وأنا في تلك الحالة غير الطبيعية كما لو أنه هو الآخر ، وقد رآني بتلك الصورة المريبة ، قد داهمه الشك على حين غرة واصبح مثلي في وضع ملتبس رهيب وفي حيص بيص ! ، ثم وبينما كنت ابتعد عن المقهى مهرولا وأنا أتلفت خلفي كمن تعرض لمس من الجنون لمحته هو أيضا و قد غادر طاولته مسرعا على عجل كالبرق تاركا المقهى خلفه وهو يتلفت شمالا ويمينا وعرفت يقينا بأنه ارتاب في أمري كما ارتبت أنا في أمر ذلك الشخص ذي الملاح الشرق اوسطية الذي يرتدي الملابس الأفغانية والذي كنت قد تركته هناك ورائي في داخل المقهى يتهيأ لتفجير نفسه ! ، وقلت في نفسي لنفسي لعل هذا الإنجليزي وقد رآني اخرج من المقهى بذلك الشكل السريع المريب شك في أمري واعتقد انني وضعت القنبلة الموقوتة في المقهى وانطلقت خارجا بسرعة لأقوم بتفجيرها عن بعد من خلال جهازي المحمول! ، ربما يكون خطر له هذا الخاطر المخيف فشعر بالخطر الرهيب كما حدث معي ! ، وأصبح ،بالتالي، الوضع في الواقع كالتالي : أنا أركض مبتعدا عن المقهى كالمخبول خوفا من ذلك الشخص الملتحي الذي يرتدي الزي الافغاني الذي اعتقدت أنه يريد تفجير حزامه الناسف بينما هذا الانجليزي أخذ يركض خوفا مني كالمعتوه بعد أن رآني أركض بتلك الحالة الغريبة والمريبة !! ، هكذا هو المشهد ! .
***
ابتعدت ...
°°°°°°°°°
ابتعدت كثيرا عن المقهى بما يكفي لضمان عدم وصول شظايا الانفجار المرتقب للقنبلة لمكاني وعند ذاك توقفت قليلا وتنفست الصعداء وأنا اصوخ السمع في انتظار سماع صوت انفجار القنبلة الكبير! ، وانتظرت لعدة دقائق ولكنني لم اسمع شيئا (!!!) ، انتظرت لمزيد من الوقت فلما لم يحدث شيء البتة ولم تنفجر القنبلة ولا فجر ذلك الارهابي الافغاني نفسه بحزام ناسف استغربت وشككت في كل هذه المسألة !! ، ثم ما لبثت أن شعرت ببعض الارتياح الممزوج ببعض الحيرة مع احساس بجفاف شديد في حلقي بسبب لحظات القلق والخوف التي عشتها اثناء تواجدي في المقهى فضلا عن تأثير ركضي المفاجئ بذلك الشكل السريع مرعوبا ، فهززت رأسي مستغربا ومتحيرا بل ومستنكرا كل ما وقع مني خلال الدقائق الرهيبة الماضية ثم قررت العودة للبيت بعد كل هذه اللحظات الرهيبة التي عشتها نتيجة انذار خاطئ كان لونه احمر بلون الدم!، وفي طريقي نحو محطة القطار المحلي المربوط بالأسلاك الكهربائية (الترام) عرجت على محل للمرطبات وتناولت مشروبا باردا للتخفيف من وطأة جفاف حلقي ثم انطلقت نحو المحطة أنتظر قدوم الترام على مضض كي يقلني للبيت وقد أنهكني الخوف واستهلك طاقتي البدنية والذهنية الى حد كبير ، وقدم (الترام) وصعدت اليه وألقيت بجسمي المنهك فوق احد مقاعده لينطلق مسرعا وأنا بعد في حيص بيص من كل ما جرى منذ قليل حيث رأيت شبح الموت وهو يحوم حولي في المقهى ، ثم تنفست الصعداء وابتسمت لنفسي في شيء من الخجل والسخرية ، ولكنني ما إن فعلت ذلك حتى وقع بصري فجأة ومجددا على ذلك الشخص الذي يرتدي ملابس افغانية قادما بشحمه ولحمه وبحقيبته السوداء المشبوهة التي يحملها على ظهره من اقصى الممر من داخل الترام وهو يجول بناظريه في ارتباك هنا وهناك باحثا عن مقعد ليجلس عليه وكان لسوء حظي أن المقعد الذي أمامي شاغرا، فاتجه إليه وجلس عليه ليكون قبالتي وجها لوجه ونظر الي مبتسما ابتسامة مجاملة سريعة ومرتبكة ، بل وخاطفة كومضة البرق ولكنها بدت لي غامضة وذات مغزى حتى خيل الي أنه قد رمقني لثانية عابرة بخبث وسخرية كأنه يقول لي باستهزاء وتهكم : ( حا تروح مني فين يا حبيبي !؟؟ ، وراك وراك !!) ، فشعرت بأن قلبي يهوي في بطني وأن الدنيا أخذت تلف وتدور وعاد جرس الانذار في دماغي يقرع بشدة معلنا اللون الاحمر مرة اخرى بعد ان كان قد تغير الى البرتقالي منذ لحظات ! ، يا إلهي ! ، ها هو هذا (الأخينا) يظهر على خشبة مسرح الأحداث قبالتي من جديد كما لو أن أرضية القطار انشقت وانفلقت عنه وخرج منها كما لو أنه مارد المصباح الذي مكث حبيس المصباح لمائة عام ثم نذر في لحظة غيظ وحقد بأن من سيخلصه من هذا الحبس سينتقم منه ويحوله الى فأر تعس !! ، من أين هبط علي هذا ا(لأخينا) مرة أخرى يا رب !!؟ ، لماذا يلحقني في كل مكان كما لو انه ظلي أو قدري المحتوم !!؟؟ ، هكذا سألت وأنا أشعر برعب شديد وقلت في نفسي : " آآخ !! ، يا لسوء حظي !! ، بكل تأكيد أنه مكلف بتفجير (الترام) وليس المقهى كما ظننت سابقا !، وها هو الآن يستعد لتنفيذ عمليته الانتحارية وانا بقربه وجها لوجه ! " ، تفرست في معالم وأسارير وجهه فوجدته لا يزال في تلك الحالة من غرابة الاطوار والارتباك والتوتر ! ، وقلت في نفسي لنفسي في استسلام ممزوج باستغراب : (سبحان الله ! ، يا للغرابة الأقدار !! ، فأنا هربت من الموت من هناك ، من المقهى ، فلحقني هو الى هنا ! ، إنه القدر المستعجل المحتوم !!) ، وبدأت اتمتم بالشهادتين في سري والهج بالاستغفار استعدادا للحظة تفجيره للقنبلة التي في حقيبته أو الحزام الناسف الذي يلفه حوله، تحت ملابسه الافغانية الفضفاضة ! ، وبالفعل رأيته يمد يده بأصابع مرتعشة رويدا رويدا لحقيبته التي خلعها عن ظهره ووضعها على حجره ! ، وسرت رعدة الموت في كل أنحاء جسمي متسائلا كيف ستكون لحظة الموت !؟ ، كيف سيكون طعم تجربة الموت باعتبارها آخر تجربة في الحياة!!؟ ، هل سأحس بنفسي حينما تتطاير اشلاء جسمي في الهواء وتختلط بأشلاء من حولي بما فيها اشلاء هذا الارهابي نفسه !!؟ ، هل سأشعر للحظات، ولو للمحة عين ، بمشهد الانفجار أم ترى بمجرد حدوث الانفجار سأحس كما لو أن أحدهم قد أطفأ كل الأضواء فجأة ثم أغرق في ظلام كثيف ودامس وفي صمت بهيم واختفى عن الوعي والوجود ثم بعد لحظات أجد نفسي حيا واعيا أركض عاريا وسط جموع بلايين البشر وهم ينبعثون من قبورهم كالجراد المنتشر وهم يركضون في رعب واستغراب على صوت نفخ البوق الرهيب نحو المحشر في يوم الحساب حيث سينتظر الجميع قدوم الله شخصيا لفصل الخطاب! ، دار في نفسي كل هذه الحديث السريع وتلاحقت في ذهني كل هذه الأخيلة و الأسئلة في حين كانت عيني متسمرة على يد ذلك الشخص وهي تغوص في أعماق حقيبته السوداء المرعبة شيئا فشيئا استعدادا للضغط على زر التفجير حيث بعد ذلك ، وكما هو معروف ، سيدوي صوت الانفجار الكبير معلنا نهاية يومي الأخير!، وتخيلت للحظات وقع الخبر على ابني الوحيد وعلى زوجتي وهما يعيشان في هذه الغربة بعيدا عن أرض العرب وعن الأقرباء والعائلة الكبيرة والعشيرة والجيران ! ، ثم قلت في نفسي في استسلام تام لقضاء الله وقدره : (انا لله وانا اليه راجعون ، اللهم اغفر لي واخلفني في ولدي وأهلي ومالي فأنت خير خليفة وأنت خير الحافظين!) ثم بات قلبي مستسلما لقدري المحتوم في هذا اليوم المعلوم واصبحت في جهازية تامة للحظة الانفجار الكبير واستقبال الموت لينزع روحي عن جسمي! ، فها هي يده تغوص في احشاء حقيبته السوداء المرعبة، وتتحرك في اتجاه تشغيل الصاعق وبالتالي تفجير القنبلة التي ستقوم بحرق وقتل كل من حوله ، وأولهم أنا بالطبع من بعد حضرة جنابه! ، بحكم قربي الشديد منه ولكن !.
***
ولكن !!؟ ....
°°°°°°°°°°°°°
وفي تلك اللحظة الحرجة الرهيبة الفاصلة بين الحياة والموت ، وبينما كنت في قمة الخوف وفي خدر الاستسلام الأخير ، كاستسلام الطريدة للصياد بسبب التعب والارهاق لطول المطاردة ! ، وفي اللحظة التي كنت فيها أتمتم وألهج بالشهادتين استعدادا للرحيل ومقابلة الجليل وعيني على يده وهي تغوص شيئا فشيئا داخل حقيبته ، حدث ما لم يكن في الحسبان وما لم يخطر لي على بال !! ، حيث رأيته قد أخرج من حقيبته مجلة مصورة !! ، مجلة مصورة أخذ يتصفحها ويطالعها بشغف واهتمام بعد أن استغرق عدة دقائق وهو يحملق في صورة فتاة الغلاف!، كانت المجلة متخصصة في عروض الأزياء للسيدات حيث كانت صورة فتاة حسناء شديدة الفتنة والجمال والأنوثة ترتدي ثيابا مثيرة غير محتشمة تتصدر غلافها وهي على شاطئ البحر! ، فنظرت اليه مذهولا والى غلاف المجلة بشيء من الدهشة وعدم الاستيعاب وعدم التصديق وقد فغر فمي حتى سال من جانبه بعض اللعاب ! ، ما هذا !!؟؟ ، وحسبت للوهلة الأولى أنه يقوم بعملية مراوغة وتمويه من باب التغطية والتضليل الأمني ! ، لكنه ظل طوال الوقت يطالع تلك المجلة دون انقطاع في استغراق عميق ويقلب صفحاتهة ذهابا وايابا بشغف واهتمام بل وفي سرور! ، وظل على هذا الحال وعلى هذا المنوال وأنا تارة أحقق وأدقق النظر في أسارير وجهه وتارة أخرى أحدق في تلك الصور التي يتأملها ويتفرج عليها في هيام واستغراق تام إلى أن وصل الترام للمحطة التي كنت اقصدها ونزلت اليها بسلام وأنا في حالة يرثى لها من الارهاق العصبي والنفسي بعد كل تلك اللحظات الجهنمية الرهيبة من التوتر والقلق والخوف التي عايشتها ورأيت فيها الموت يرقص أمامي على قرع الخطر في المقهى ثم في الترام معا ثم لينتهي كل هذا الفيلم المرعب الرهيب بلقطة سريالية سخيفة ومحيرة وملتبسة !! ، لقطة تظهر هذا الشخص المشكوك في امره وهو يتصفح مجلة عارضات ازياء !!؟؟ ، أهكذا بكل بساطة بعد كل تلك (البهدلة) وكل ذلك الرعب الشامل !!؟ ، أيعقل كل هذا !!؟ ، هل هو فيلم سريالي يتركك في حالة من الالتباس والإبهام ولتغادر صالة العرض في حيص بيص دون أن تفهم معنى هذه النهاية وما علاقتها بتلك البداية وما المقصود بكل هذه الحكاية !!؟؟ ، وهممت للحظات ، ولشدة غيظي وصدمتي، أن أصرخ في وجه هذا الشخص المنهمك في تصفح مجلته تلك وأن أوبخه قبل نزولي من القطار بأعلى صوتي قائلا له : " أتعبتني يا أخي !! ، هل تحسب أن اعصاب الناس لعبة !! ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء يا اخي !! ، ما هذه الحركات السخيفة !!؟؟" ، نعم والله قد هممت بفعل ذلك ولكنني أعرضت عن هذه الفكرة الجنونية وضربت عنها صفحا وغادرت الترام ووقفت في المحطة متسمرا كالتمثال النحاسي الذي أرهقته عوامل التعرية! ، وقفت هناك انظر الى ذلك الشخص الملتحي عبر شباك الترام الزجاجي في ذهول ! ، بينما سيادته لا يلقي لي بالا ولا يشعر بوجودي حتى! ، وظل مندمجا بالكامل في تقليب صفحات تلك المجلة التي تعج وتضج بصور النساء الجميلات شبه العاريات! ، ذلك الشخص الملتحي الذي يرتدي ملابس افغانية كالتي يرتديها الدواعش و(الافغان العرب) والذي اعتقدت خلال كل تلك اللحظات الرهيبة الماضية أنه إرهابي خسيس ! ، ظللت أحملق فيه بشيء من السذاجة والحيرة غير مصدق لهذه النهاية السعيدة غير المتوقعة لكل ذاك الرعب والقلق الجنوني! ، وتحرك الترام ببطء مغادرا محطتي نحو المحطة التالية ، الا أنه وفي لحظة مروره من أمامي وقع بصري من خلال نوافذه الزجاجية وفي مقاعده الخلفية على ذلك الشخص الانجليزي الذي ركض هاربا من المقهى حينما رآني خارجا منه مسرعا بشكل مفاجئ ومريب! ، كان جالسا هناك مشرئبا بعنقه في ذهول وهو يحدق في وجهي بنظرات مفعمة بالاستغراب من خلال نافذة الترام ، نظرات شاردة بلهاء امتزج فيها الشك بالحيرة بعدم الاستيعاب! ، وحينما التقت نظراتنا ابتسم لي ابتسامة صفراء باهتة مرتبكة ملتبسة اختلط فيها الحابل بالنابل ، ابتسامة سريعة كما لو أنها ومضة ضوء الكاميرة الباهر (الفلاش) ثم اختفى مع الترام المنطلق نحو المحطة التالية وهو يتلوى كالأفعوانة !.
وأما أنا وقد عاد الى صوابي وتنفست الصعداء، كنت أقول لنفسي في طريقي للبيت : "اذا كنت أنا العربي المسلم هذا حالي من الخوف والشك والوسواس والارتياب والالتباس من بعض اخواني العرب والمسلمين وهو حال نتج عن كل هذه العمليات الارهابية المجنونة التي تطال الابرياء في كل مكان من العالم تحت شعار نصرة الله واقامة الدولة الاسلامية وفش الغل وإرواء الغليل في الكفرة والغربيين والصليبيين! ، فكيف اذن حال الآخرين من اصحاب البلد الأصليين!!؟"، "بصراحة الواحد بات يلوم ويعذر ! ، فقد اختلط الحابل بالنابل واختلط الصالح بالطالح والحلو بالمالح وسط غبار هذه المعارك المروعة حيث تتطاير الرؤوس والاشلاء في كل مكان ، واصبح ، بالتالي، (الالتباس) هو سيد الموقف العام وهو من يسيطر على المشهد الحالي المحفوف بالمخاطر والمسكون بالقلق حيث يظل يتلاعب ويعبث بأفكار ومشاعر وخيال وتصرفات الناس على هواه كأنه جني مجنون !! ، ولله في خلقه شؤون !.
************
سليم الرقعي
2017
(*) القصة من حيث الأصل والفكرة تجربة حقيقية ولكن طبعا بعد ذلك تدخل فيها الخيال الأدبي الساخر ليمططها ويضخمها ويشكلها ويختلق فيها منحنيات وأحداث ليست سوى لزوم العمل الأدبي!.



#سليم_نصر_الرقعي (هاشتاغ)       Salim_Ragi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المايسترو والجني الاخرس!؟
- اللذة الضائعة !؟
- المستذئب !؟
- موقفي من السلفيين والإخوان المسلمين!؟
- مفاجأة من العيار الثقيل!؟ (تجربة أدبية!)
- صبابة!؟ شعر
- ظاهرة انتقال امراض النظام الشمولي لمعارضيه!؟
- صعود القبلية والطائفية وجمود الدولة الوطنية المدنية!؟
- لماذا سأم الغربيون من الهجرة لبلدانهم!؟
- الشخص الآخر ذو الوجه المألوف !؟
- هل للسوق تأثير على الحاكم العربي!؟
- هل هي ثورة،وهل هي فاشلة!؟
- الوجودية كما فهمتها !؟
- نظرية المؤامرة ونظرية الانتقام الالهي!؟
- فلسطين للفلسطينيين،كيف ولماذا !؟
- العرب وشماعة وعد بلفور !؟
- تأثير كمية المعرفة والقدرة في كمية الحرية!؟
- بين مفهوم (النخبة) و مفهوم (الأئمة)!؟
- مشكلة نخب أولا لا مشكلة شعب !؟
- العرب وسن المراهقة والمهدي المنتظر!؟


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سليم نصر الرقعي - التباس في زمن الارهاب!؟