أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - حمدى عبد العزيز - في المشمش















المزيد.....

في المشمش


حمدى عبد العزيز

الحوار المتمدن-العدد: 5163 - 2016 / 5 / 15 - 23:01
المحور: سيرة ذاتية
    



لا رغبة لي هذا الصباح أشد من رغبتي للإرتداد إلى ذلك الطفل الذي كان ينتظر الأب العائد من العمل متأبطاً ذلك الكيس الورقي ذو اللون الجملي والذي يمتلئ بثمار المشمش الذي ينضج في هذا الوقت من العام

ربما كان المشمش لذيذ الطعم
ولكن ذلك لم يكن هو الموضوع الأهم الجالب لتلك البهجة التي كنت أمتلئ بها لحظة القفز فوق درجات السلم هاتفاً بنشيدي اليومي (بابا.. جه..) بعد طول إنتظار مسبق تظل فيه عيني معلقة على الشارع الذي تطل عليه بلكونة شقتنا بسورها الذي كان عبارة عن أعواد حديدية متراصة بانتظام يبعد كل واحد منها عن الآخر بمقدار مساحة تستطيع رأسي أن تخرج منها بكاملها تلتقي كلها بزاوية قائمة في الرصيف الخرساني للبلكونة من الأسفل وتلتقي بنفس الزاوية من الأعلى بعامود حديدي بنفس السمك يمتد كخط أفقي تستند عليه كيعان الكبار حين يقفون في الصبايا والشباب المشتبكين في إشارات من الغزل أو نقاشات في الأوضاع السياسية العامة أو جدل حول مباريات كرة القدم التي يكون أحد أطرافها الأهلي أو الزمالك أو الترسانة الذي كان له مشجعين كثيرين في إمبابة
سواء كان ذلك أو كان حتى كيعان السيدات اللواتي يتعاتبن أو يسردن حكاياتهن مع الأولاد والأزواج وثرثرات وفضفضات كثيرة. كنت لاأعي معناها في هذا الوقت وإشارات بالأيادي لم أكن أفهم غالب دلالاتها

كانت الأعواد الحديدية للبلكونة حانية على بشكل يكفي لكيما تحتضن وجهي المتطلع دوماً إلى الشمس والهواء والتراب والغبار والناس والبائعين الجالة وعربات الآيس كريم وفنون نداء الباعة على مايبيعون
( سوريا وبضايع سوريا) ،
( مجنونه ياقوته) ،
( بنص افرنك يابطيخ)

أريد هذا الإرتداد
إلى حيث كنت أحشر رأسي باستغراق واستمتاع هائلين بين تلك الأعواد المعدنية الحنونة لبلكونتنا التي كانت تطل محطة قطار أمبابة التي تنزل من قطارات البضاعة في الصباح طوابير الجمال القادمة من السودان إلى حيث سوق الجمال لتهيج غبار الشارع الذي مازلت اشتم رائحته إلى الآن

كانت أفضل المشاهد وأروعها هو مشهد وصول قطار الخيل المبطن بالإسفنج والذي ماكن يقف أمام بصيرتي الطفولية الشاخصة من بلكونة إحدى شقق المساكن الشعبية التي تطل على براح ترابي يتلوه طريق الترولي باص سواء كان بسنجة واحدة أو سنجتين

بمجرد أن يقف قطار الخيل الذي كان يأتي مرتين في الإسبوع حتى يعلو صهيل قطعان الخيل التي يتم إنزالها بأطقم سروجها المزركشة وألوانها المتنوعة مابين الأبيض والبنى المائل للحمرة أو المائل إلى السواد أو المرقط منها
كنت أسأل أمي الريفية التي كانت تأتي بناء على ندائي الذي ينطلق عند هذا المشهد
- ماما
الحصنه جت.. جت
الحصنه جت.. جت
الحصنه جت..جت
فتأتي تحت إلحاح نشيدي الصاخب لتطل على ماأطل عليه ،
أو ربما لحنين طفولي ما قد تمرد بداخلها تشاركني بهجتي

أسألها
- هما بيودوهم فين
فترد
- هما رايحين السبق ياحبيبي
- طب هما بيلبسوهم كده ليه
- عشان في السبق يميزوهم عن بعض

وتمر أسراب الخيل يمسك بها الخيالة إلى حيث يختفون من أمام عيني المتشعبطتين بهما إلى آخر مدى للرؤية

أريد أن ارتد إلى تلك الظهيرة
حيث ألمح من موقعي في البلكونة أبي متأبطاً كيساً جملياً من الضروري أنه يحتوي على نوع ما من الفاكهة
أو متأبطاً بطيخة يلونها الأخضر الداكن اللامع تحت وهج الظهيرة
أو شمامة إسماعلاوية كبيرة
كان ذلك كفيلاً بأنشد نشيدي المنبه للجميع في البيت
( بابا جه... بابا جه .. بابا جه)
ثم أفتح الباب لاقفز درجات السلم
وأحيانا كنت أمتطي ظهر الدرابزين الأملس منزلقاً عليه من الطابق الثالث حتى الطابق الأول في حركات بهلوانية طفولية
لأحمل ما يتأبطه أبي وأسبقه إلى حيث أمي التي بدأت لتوها في أعمال تحضير طبلية الغداء
وأصعد السلم مسرعاً لأتخطي كل درجتين بفرجة واحدة من ساقي كنت أتقنها بحيث أصبح متقدماً عن أبي اللاهث على السلم بأكثر من عشر درجات على الأقل .. لأدلف إلى الداخل هاتفاً
- بابا جه ... بابا جه .. بابا جه

ولكن لم تكمل لنا ياسيد حمدي حديثك عن المشمش؟

... المشمش ..

أريد الإرتداد إلى تلك اللحظة عندما كانت أمي بعد أن نفرغ من طعام الغداء تفرغ محتوى الكيس المشمشي اللون ويتصادف أن يكون محتواه ثمرات المشمش تقوم بتوزيعها علينا أنا وأخواتي الثلاثة بالتساوي حسب عدد الثمرات

هنا كنت أطلب على أبي وأمي والبعض وشقيقاتي البنات - كذكر وحيد حتى هذا الوقت - التحفظ على كل مايتخلف من منابات المشمش من النوايات الصلبة وأجمعها مع مايتخلف مني وأجففها لأملأ بها جيبوبي في عصر اليوم التالي وانطلق إلى الشارع مزهواً بتلك الثروة من النوى الذي كنا نسميه (نقي المشمش)

فيأتي إلى أترابي بجيوبهم المملؤة بنقي المشمش (كل حسب ثروته) ونبدأ في التحلق حول حفرة تصنعها في الأرض الترابية بعمق خمسة سنتيمترات أو مايزيد تقريباً وبقطر لايزيد عن نفس المقياس
وتبدأ اللعبة بتحديد ترتيب اللاعبين عبر عمل قرعة يشارك فيها ثلاث لاعبين لا أكثر كنا نسميها (كلوا باميه) والتي يقدم فيها كل لاعب كفه اليمني لتتعانق الأكف وترجز رجزتين منشدين ( كلوا باميه ..) ثم تفرد الأكف حسب إختيار كل صاحب كف سواء بظهر الكف أو باطنه فيكون صاحب الكف الإستثنائية هو الذي تجنبه القرعة حظ البدأ وهكذا إلى أن تحدد أدوار كل منا في اللعب
تبدأ اللعبة بعد أن يكون كل منا قد وضع ضريبة اللعب حبة نواة مشمس واحدة أو اثنتين أو حسبما نتفق بالتساوي كرصيد للعب في قاع الحفرة
ويلتقط كل لاعب يأتي عليه الدور في اللعب نوايتين من جيبه ويمسكهما وليقيهما بطريقة معينة ليصطدما بالنوي في قاع الحفرة فإذا ماقبعت النواتين في قاع الحفرة فقد أضيفتا لرصيد الحفرة وإذا ماقفزتا إلى الخارج يتم إنزلهما إلى قاع الحفرة لتضاف إلى رصيدها أيضاً
أما إذا ماتصادف حظ أحدنا إلى جانب مهاراته في أن ينقر نواتيه الأثنين قاع الحفرة فتقبع واحدة وتخرج واحدة إلى خارج الحفرة فيكون فائزاً ويكون من حقه أخذ كل مايوجد في الحفرة من نوي وهكذا تتم عملية ملئ الحفرة وتفريغها وفق قواعد تلك اللعبة إلى أن يجد أحدنا أن ثروته قد قاربت على النفاذ فينسحب وتنتهي اللعبة بخاسرين ورابحين

كانت لدي ثروتي من نوي المشمش والتي كانت تزيد لأنني كنت قد اكتسبت مهارة في تلك اللعبة كفيلة بأن أنهى موسم المشمش بكمية لابأس بها من حبوب نقي المشمش الصلبة ليبدأ طقس آخر كان يجري بعد إنتهاء موسم المشمش وهو أن أذهب إلى أمي بتلك الثروة فتقوم بغسلها ثم تجفيفها ومسحها بقماشة مغموسة بزيت الطعام ثم وضعها على صاجة على الموقد ليتم تحميصها ثم تواصل كسر النواة تلو الأخرى بخبطة واحدة محسوبة بدقة بواسطة إستخدام يد ( الهون) النحاسي الذي كان بمثابة المطحنة البدائية التي كانت ضمن سحارات جهازها الذي أتوا به من الريف إلى القاهرة

بعدها كانت أمي تتولي طحن حبات لحم النواة الناتجة عن كسر قشرتها الصلبة والتي عرفت فيما - عندما كبرت وتحسنت ظروفي المالية - أنها تشبه نواة حبات اللوز الذي جلبته لأمي من العريش عندما ذهبت مع زملائي في إتحاد الشباب التقدمي في رحلة إلى العريش في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي

كانت أمي تتطحن قلوب نواة المشمش والتي تشبه اللوز المكسرة في ( الهون النحاسي) مع خليط من الملح والكمون وقليلاً من الشطة وتملأ منها برطمانين في حجم برطمانات الصلصة

كنا نحن الصبية من أولاد محدودي الدخل ومتوسطي الحال سكان المساكن الشعبية التي تقع خلف مركز شرطة إمبابة نسميها (دقة) بضم الدال وكانت كل البهجة هي أن نغمسها بالكعكة الحلقية الكبيرة (السميطة) التي كنا نشتريها ( بتعريفة) أي خمسة مليمات وتلك عملات قد اندثرت بمجرد الولوج إلى سبعينيات القرن الماضي

حمدي عبد العزيز
13 مايو 2016



#حمدى_عبد_العزيز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطوات عاجلة لمعالجة مشكلات الإنتاج الزراعى
- في ذكرى ضحايا الفاشية التركية
- تدوينة 24 إبريل 2016
- هيكل أسطورة الصحافة وثعلبها السياسي
- قيمة ابن إياس الهائلة
- فى مديح طبق الفول الصباحى
- ملاحظات شخصية فى مسألة الجزيرتين
- أوراق بنما وعصا المايسترو
- عن جمال عبد الناصر
- أمجاد لطبق الفول الصباحي
- يصل ويسلم إلى الرئيس
- لم أحب رباب
- المرأة حارسة الحياة
- فى قضية الروائى أحمد ناجى
- مقاطعته وعزله وإسقاطه أمر ممكن
- دكاكين بلا بضاعة تستحق الزبائن
- شعبطات الصبي المشاكس
- مكاتبة ومكاشفة للرئيس
- تنبيه عاجل
- هل من طريقة لاستعادة ذلك الصبي ؟


المزيد.....




- أوروبا ومخاطر المواجهة المباشرة مع روسيا
- ماذا نعرف عن المحور الذي يسعى -لتدمير إسرائيل-؟
- من الساحل الشرقي وحتى الغربي موجة الاحتجاجات في الجامعات الأ ...
- إصلاح البنية التحتية في ألمانيا .. من يتحمل التكلفة؟
- -السنوار في شوارع غزة-.. عائلات الرهائن الإسرائيليين تهاجم ح ...
- شولتس يوضح الخط الأحمر الذي لا يريد -الناتو- تجاوزه في الصرا ...
- إسرائيليون يعثرون على حطام صاروخ إيراني في النقب (صورة)
- جوارب إلكترونية -تنهي- عذاب تقرحات القدم لدى مرضى السكري
- جنرال بولندي يقدر نقص العسكريين في القوات الأوكرانية بـ 200 ...
- رئيسة المفوضية الأوروبية: انتصار روسيا سيكتب تاريخا جديدا لل ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - حمدى عبد العزيز - في المشمش