والقلب يعشق سراً . ( الجزء الثامن )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4907 - 2015 / 8 / 25 - 16:07
المحور: الادب والفن
    

غروب نفس اليوم، عادت السيدة ومرت أمام باب المستشفى كما وعدت، لتجد ناهد جالسة تضم ابنتها بين ذراعيها لتقيها البرودة المسائية، وأم مظلوم قد جمعت أشياءها واستعدت للعودة إلى بلدتها. وقفت أمامها وهي تحمل فى يدها شنطة مصنوعة من البلاستيك، وبها لفائف ورقية، تبدو طعاماً، انحنت تربت على كتفها وقالت لها وكأنها توقظها:
- قومي يا بنتي ، ياللا بينا خلينا نروَّح .
استسلمت لها ناهد إذ نال التعب منها منتهاه، وكان الجوع يعتصر معدتها، لكن شيئاً ما كان يحدثها بأن تثق في هذه السيدة الكبيرة.
في حارة من أحد الأحياء العشوائية، على الطرف الشرقي للقاهرة، في منطقة يطلق عليها عزبة الهجانة بالكيلو أربعة ونص طريق السويس، كان منزل الست نبوية. جلست السيدتان المرهقتان على حصيرة متقابلتين وبينهما الطبلية عليها طعام العشاء، دعتها لتناول الطعام معاً.
المنزل من طابق واحد ويحتوي عدة غرف تشطيبه فقير ويغلب عليه الذوق البدائي في ألوان الدهان وفي فرشه.. سألت ناهد السيدة عن الصورة الفوتوغرافية الموضوعة فوق تلفزيون صغير وفيها تظهر السيدة صاحبة المنزل تجلس على مقعد يلتف حولها أبناؤها في أعمار مختلفة، ولدان أحدهما شاب مجند يقف مشدوداً نافخاً صدره ، وبنت تجلس على حجرها وأخرى كبيرة لا تشبههم تقف بجوار الولدين.
قالت السيدة بفخر :
- دول ولادي، انا جوزي ميت وأنا اللى ربيتهم لوحدي وجوزتهم، البت الكبيرة اللى في الصورة دي من الراجل الأولاني.
نظرت ناهد للصورة وهي تحمل ابنتها الرضيعة على حجرها تهزها وتـُحكِم الغطاء حولها من حين لآخر، ثم ردت مجاملة:
- ربنا يخليكي لهم ويخليهم لك.
أخذت ناهد تقصّ حكايتها بالتفصيل، والست نبوية تنصت باهتمام وهي تنفث دخان سيجارتها، مسندة ظهرها إلى سحارة الكنبة البلدي، وقد أثنت ساقاً تحتها واستندت بمرفقها على الساق المثنية الأخرى. ثم صبّت في كوب شاياً تركتْه يغلي على وابور جاز بجوارهما، وكلما أخذت رشفة عاودتْ الصبّ منه وقد تحوّل لونه إلى الأسود الداكن .
وكانت الست نبوية بخفة ظلّها تطلق نكتة من حين لآخر لتضفي بها جواً لطيفاً حول الضيفة التي لم تكفّ عن البكاء وهي تقص التفاصيل، تمسح دموعها في كــُمِّها تارة وطرْحتها تارة أخرى.
وجهها الضحوك الطيب لا يخلو من ملاحة تسللت في غفلة من هذا الوحش المسمى بالزمن، عيناها الخضراوان وبياضها الثلجي المشرَّب بالحمرة وشعرها الناعم المخضب بالحناء، كلها ملامح عصية على قسوته.. لم تتأثر بالسنين والهموم.
في نهاية الحديث نظرت الست نبوية بعينيها الواسعتين في عيني ناهد وقالت:
- أنا عايشة فى البيت هنا مع إبني الصغير شوقي وباقي أولادي متجوزين وفاتحين بيوت، بيشتغل نقـَّاش بس اليومين دول فى الغردقة معاه شغل ولسة قدامه كام يوم على ما يرجع، يعني ممكن تباتي الليلة هنا معايا، وبكرة من النجمة نروح سوا أفرجك عالأوضة قبل ما أطلع على شغليّ.
ردت ناهد بحرج :
- لكن يا حاجة أنا مش عاوزة أتائل ( أتثاقل ) عليكي.
بادرتها الست نبوية بعطف:
- ولا تتائلي ولا حاجة انتي زي بنتي.
استسلمت ناهد فقد كانت في غاية الإجهاد بعد اليوم الطويل، وتكوَّرَت تضمّ ابنتها على سرير فى نفس الغرفة مع الست نبوية حتى صباح اليوم التالي.

في صباح اليوم التالي ببيت الست نبوية، كانت ناهد منحنية تكنس الصالة الضيقة لتزيل آثار العشاء، علمتها أمها ألا تكنس أبداً طالما الليل قد حلَّ وإلا سيزول الخير، وكان أيضاً رأي الست نبوية، فنامت ليلة أمس بعد أن رفعت صحون العشاء وغسلتهم، وأجَّلت الكنس للصباح.
على غير توقع سألت الست نبوية ناهد:
- لو إتقدم لك حد تتجوزي؟
اعتدلت ناهد واقفة وقبضت بيدها على معصمها الممسك بالمكنسة، ثم ردت بنبرة مليئة بالانكسار والأسف معاً:-
- يتقدم لمين !! وكمان مين يتجوز أرملة ومعاها عيلة عمرها شهرين ؟ هو ده معقول !!
ثم انحنت تستكمل العمل فسألتها الست نبوية:
- تتجوزي إبني؟ أنا كنت في نفس ظروفك دي في يوم من الأيام بس كنت مطلقة مش أرملة، واتجوزت وخلفت تاني وولادي بقوا رجالة أد الدنيا.
اعتدلت ناهد هذه المرة لتواجه الست نبوية وهي تتطلع في وجهها بدهشة غير مصدقة ! هذه السيدة لم تعرفها سوى منذ ساعات فكيف تعرض عليها فجأة الزواج بابنها ؟؟ ثم إنها لم تره بعد ! فردت بابتسامة تجمع بين التمنع والخجل:
- طب مش بس أشوفه، وبعدين ده أنا معايا بنت صغيرة يا خالة – ثم بنبرة جادة ـ وبصراحة مش ناوية أسيبها لأهل أبوها.
أطلقت الست نبوية شهقة وردّت مستنكرة:
- يوه .. هو حد قالك تسيبيها يا بت !! دى حتبقى بنتنا.. وانتِ وهي ها تعيشوا معانا هنا معززين مكرمين.
مرت بضعة أيام استضافت فيهم الست نبوية ناهد وابنتها وكانت تتعامل معهما خلالهم كابنة، تهتم بها وبابنتها وكأنهما تنتميان إليها. وهذا كان له عظيم الأثر في ارتباط ناهد بالخالة نبوية وشعورها بالأمان، لدرجة أنها أعطتها موافقتها على الزواج من ابنها قبل أن يعود وتقابله، أو حتى تضمن أنه سيوافق على رغبة والدته.
بعد أسبوعين من هذا الحوار تزوجت ناهد من شوقي ابن الست نبوية. ولكنها اكتشفت بعد مرور أقل من شهر أنه قد سبق له الزواج، ولديه ابنة من زوجته الأولي تركها لها وهرب ليعيش مع أمه، واكتشفت بعد ذلك أن الست نبوية كانت تعلم بأمر الزوجة، ولكنها اعتبرت الأمر كله مجرد غلطة ممكن إصلاحها، أما الابنة فلم تعرف بأمرها إلا حين جاءت الزوجة الأولى تهدده بأن يدفع لها نفقة كل شهرلتعيل ابنتهما.
رفض شوقي في بداية زواجه من ناهد أن تعمل في أي مكان، لا في المستشفى ولا حتى في دار للمسنين قريبة من المنزل كعاملة نظافة. مع كسل شوقي وتقاعسه عن العمل وتمضية النهار في النوم والسهر طوال الليل لتعاطي المخدرات مع شلة من الأصدقاء، سمح لزوجته بأن تعمل خادمة في البيوت، واستسلم أمام رفض الست نبوية الصارم أن تصرف عليه وعلى زوجته وابنتها.
كانت ناهد تقف أمام حوض المطبخ تغسل صحون العشاء، وابنتها ترقد على بطانية فوق الأرض بجوار الحائط ، وبين الحين والآخر تترك ناهد الصحون، ثم تنحني على ابنتها لتهدئتها من البكاء أو لإرضاعها، في هذه الأثناء سمعت ناهد كلمات حماتها القاسية لابنها العاطل، كان هذا بعد مرور أربعة شهور فقط على زواجهما ـ لم تجد فيها أي نوع من الراحة أو البهجة ـ وكانت الست نبوية قد اعتمدت عليها تماماً فى كل ما يتعلق بأعمال المنزل، من إعداد الطعام وتنظيف وغسيل وشراء الاحتياجات، وحتى الخدمات التي كانت تؤديها لجاراتها نقلتها بالكامل على كاهل ناهد.
في تلك الليلة لم تذق طعم النوم وبكت بحُرقةٍ، لعنت اليوم الذي قبلت فيه الزواج من هذا النطع.. يا لنصيبها التعيس في هذه الدنيا.. حتى أخوتها الذكور لم يبحثوا عنها، وأما والدها فقد أعلن في القرية غضبه عليها وأقسم أن يقتلها لو عادت للبلدة.
تشاجرت مع شوقي عند عودته في الفجر، وأصرت على أن تخرج للعمل لتنفق على ابنتها على الأقل.. سبّها ونعتها بكل الصفات القبيحة، وفي النهاية استسلم لرغبتها بعد أن أغرته بأنها سوف تكسب الكثير وتعطيه مما تحصل عليه.
منذ ذاك الوقت وأم محمود تداوم على العمل وتنفق على كل أفراد الأسرة. الابنة التي صارت اليوم شابة والتحقت بكلية التجارة، وابنَاها من شوقي محمود طالب الثانوية العامة الفاشل "دلوعة" جدِّته، ورضا طالب الاعدادية المراهق الصغير الذي يصغر محمود بثلاثة أعوام، رقيق المشاعر، يعشق تربية الحمام ويعمل في الإجازات الصيفية ليخفف العبء عن أمه التي يشفق عليها لأنها لا تتوقف عن العمل حتى لو مرضت، ولا ترتاح إلا لو لبَّت جميع احتياجات أولادها وبيتها، وحتى إنفاقها على الست نبوية، بعد أن تدهورت حالتها الصحية وتقاعدت عن العمل وباتت تنفق كل معاش زوجها المتواضع على الأدوية والعلاج.
أما شوقي فيلتحق بعمل لمدة بسيطة ثم يتركه أو يُطرَد منه، واستمرت مشاجراته مع ناهد بشكل شبه يومي. تبدأ بانقضاضه على حافظة نقودها محاولاً الاستيلاء على ما فيها من قروش بسيطة، يليها اشتباك بالأيدي وبكاء وصياح و:
- إلهي ما توعى تصرفهم يابعيد، يا راجل خلي عندك دم ، ده بدل ما تديني .. بتسرقني!
ثم تخاطب ناهد نفسها باكية:
- طب العيال دي تتعشى إيه ؟ زلط !! روح يا بن نبوية إلهي تخرج ما ترجع.
ولا تتوقف المشاجرات إلا بخروجه من البيت غاضباً، وعودته متسللاً بعد الفجر، بجيوب خاوية وبدن يتأرجح فوق ساقين خارت قواهما من تأثير المخدر.

***
اعتدلت أم محمود فى جلستها بالميكروباص وتحسست عامود الطعام المنتصب على الارض بين ساقيها، تأكدت من أنه في وضع رأسي تماماً وبدون أي ميل، سحبت جلبابها الأسود الطويل إلى الأسفل وكنست بظهر يدها حبات سمسم سقطت فى حجرها من الكعكة التي تناولتها كتصبيرة أثناء رحلتها.
اعتادت ناهد ألا تأكل أبداً بدون أولادها الثلاثة دعاء ومحمود ورضا، ولذلك لم تكن تتناول طعاماً في البيوت التي تعمل بها حتى لا تشعر بالذنب أن تكون قد نالت شيئاً هم محرومون منه، كثيراً ما كنتُ أحاول أن أقدم لها طعام الغداء الذي يحل موعده وهي لا تزال تعمل، لكنها كانت ترفض وتطلب مني أن أقوم بوضعه في لفافة لتأخذه معها وتتناوله مع أبنائها.
اليوم أعطيتها مبلغاً إضافياً على يوميتها كمكافأة إذ كانت الشقة فى حاجة ماسة إلى التنظيف من الغبار المتراكم طوال هذه الفترة بعد غيابي الذي امتد لشهرين في أمريكا.
أتاحتْ هذه المكافأة فرصة لأن يكون طعامهم لهذا اليوم ممتازاً، لأن المبلغ الإضافي وفر أجر حصتين فى دروس الرياضيات لإبنها محمود، كما مكنها من شراء دجاجة قامت بطهيها لأبنائها وزوجها العاطل عن العمل منذ ما يقرب من الثلاث سنوات أو أكثر. حجزت نصيبها لحماتها المريضة الست نبوية، وأسرعت بالطعام إلى المستشفى لتلحق بالزيارة قبل انتهاء مواعيدها.
زفرت بتنهيدة مسموعة ثم تمتمت:
- أستغفر الله العظيم.
بادرتها جارتـُها الجالسة بجوارها في الميكروباص قائلة:
- رزقك عاللي خلقك ياختي.
فردت ناهد بوجه راضٍ:
- ونعمة بالله.

مياه النهرتتحول إلى لون رمادي يميل للسواد كلما توارت الشمس أكثر خلف الأبنية، يسير الميكروباص ببطء موازياً للنهر. تتابُع أمواج النهر الصغيرة بإيقاع هادئ يزيد من نعومة المشهد ويضيف المزيد من الشجن بقلبها. تدخل نسمات الهواء الخريفية من خلال شباك سيارة الميكروباص فتغمض عينيها مستسلمة متعبة، تقوى الموجات ويتسارع إيقاعها مع مرور المراكب الصغيرة التي يصدر عن بعضها موسيقى صاخبة بمكبرات صوت يسمعها المشاة على الضفتين فيختلُّ هدوء المشهد الرقيق، مع هدير موتورات السيارات الرابضة بإشارة المرور المغلقة بلا أمل.
مر قاربٌ مزين بأحبال من اللمبات الملونة كُتِب عليه بألوان الدهانات " سهر الليالي"، " هدي يا موج هدي .. لما الحلوة تعدي "، وجمل أخرى كبركة دعاء الوالدين وشعارات ضد الحسد وكفوف حمراء. كان المركب حاملاً على ظهره مجموعة من الفتيان والفتيات. دقات طبول وتصفيق يصاحبان أغنية شعبية تخترق الآذان عبر مكبرات الصوت، موسيقى بأصوات كهربائية وإيقاعات متسارعة عالية ومغنّ يجعر بصوت أشبه بصوت الباعة الجائلين بالأسواق ويليه صوت آخر حاد أضيفت إليه مؤثرات صوتية جعلته أكثر حدة:
- الحلوة ماشية بتهز طولها ..
قالت لي كلمة ما أقدرش أقولها.
فيرد عليه الكورس والشباب على ظهر المركب قائلين:
- لأ ، قولهااا.
يعلو الصوت تدريجياً مع اقتراب المركب حتى يصبح في محاذاة الميكروباص الذي يسير ببطء السلحفاة بسبب الزحام المروري الخانق. يلتفت الركاب بوجوههم المتعبة جهة النهر لمشاهدة المركب مصدر الضجيج، حيث يتحلق منْ على ظهره حول شابتين محجبتين ترقصان بخلاعة على الإيقاع الوحشي للأغنية الصاخبة، وتميلان بجسديهما إلى الأمام فتبرز مؤخرتاهما، يتعالى تهليل الشباب، بعض الفتيات يطلقن الزغاريد، فيتمتم ملتح من ركاب الميكروباص بكلمات استنكار وبوجه متجهم:
- مسخرة وقلة دين ورباية.
ركاب آخرون يبتسمون ابتسامات خبيثة، ويصيح سائق الميكروباص غير آبه بالملتحي وتعليقاته:
- إيوا أيوا يا مُزَّاااا
ثم يطلق صفيراً عالياً فيرد عليه الشباب من المركب بصفير جماعي، ومن شدة الحماس كاد السائق يقفز من النافذة المجاورة له مدلياً ذراعه ونصف جسده خارج السيارة وهو يدق بكفه بصخب وإزعاج على سطح الميكروباص المعدني، ويأتي بحركات متهورة دودية أثناء قيادته ومروره بين السيارات بمجرد فتح إشارة المرور غير عابئ بالركاب الذين معه.. ومع واحدة من هذه الحركات الرعناء، مالتْ أجساد ركاب الميكروباص على بعضها البعض، فهمست إحدى الراكبات وهي تميل على صدر الراكب الجالس بجوارها دون إرادة منها:
- يوه ..!! ينيلك يا بعيد، لا مؤاخذة يا خويا. فيضحك التبَّاع ببلاهة.
ثم ينخفض تدريجياً صوت الأغاني ساحباً معه صوت كركرة المحرك مع تباعد المركب، الذي رغم بطئه إلا أنه يصل الى نقطة متقدمة في النهر الموازي للشارع المصاب بالشلل التام.
***
وقفت أم محمود لاهثة تلتقط أنفاسها بعناء، بعد المسافة التي قطعتها عدواً من موقف الميكروباص وحتى باب المستشفى خشية عدم اللحاق بالمواعيد، عضّت على طرف طرحتها بأسنانها، وهي تتصبب عرقاً حاملةً الأكل الساخن داخل عامود الألومنيوم. كان الزوار قد بدؤوا يغادرون المستشفى الحكومي العريق حيث انتهت مواعيد الزيارة.
وقفت ناهد أمام رجل الأمن الذي منع دخولها، واعترض طريقها مشيراً للساعة في يده.
ورغم رجائها تظاهر بعدم الاهتمام بتوسلاتها وتشاغل عنها بالزوار وتشاغل عنها بالزوار الخارجين وهو ينظر بعيداً كأنه لا يراها، استندتْ إلى زاوية الباب بتعب، ثم قررت أن ترشيه بجنيهين سراً ريثما تقلّ أعداد الزوار الخارجين، وحتى لا تتسبب في إحراجه، حيث كان حديثاً فى الوظيفة فهي تعرفهم جميعاً وتحفظ وجوههم عن ظهر قلب، بعد أن باتت تزور المستشفى يومياً منذ ثلاثة أشهر تقريباً، عندما أدخلت فيه حماتها، فأصبحت كل الوجوه مألوفة حتى الكريه منها. قال بإصرار:
- ياللا يا ست من هنا، خلاص مواعيد الزيارة انتهت، وكمان ممنوع دخول الأكل.
وعيناه ترمقان الحقيبة البلاستيك التي تحملها ويظهر منها العامود، مدّت يديها بها وكأنها تريد أن تثبت براءتها من جرم ما، ودفعتها نحوه ليفتشها ويتأكد مما بداخلها، وقالت:
- ده شوية شوربة ونسيرة فرخة يا خويا فضلة خيرك، إلهي يخليك ويديك الصحة، والنبي ما بترضى تاكل أكل المشتشفى وزمانها على لحم بطنها من إمبارح.
أخرجت من صدرها كيس نقودها وجذبت سحّابَه بحركة استعراضية مبالغ فيها. لمحها بزاوية عينه، فدخل يتهادى إلى بهو المستشفى، وجلس خلف الباب الزجاجي لكي يبدو غير مهتم، وأخذ يعبث بدفتر موضوع على المكتب مُركـِّـزا نظره عليه.
دخلت بهدوء، وقفت أمامه ثم وضعت الحقيبة البلاستيك على المكتب المعدني ماركة "إيديال" الذي تجرح طلاؤهُ وكـُشِفَ الصاج الأسود من تحته. مدت يدها بالجنيهين فتلقفهم بسرعة ودون مقاومة ثم وضعهم في درج المكتب، وأدخل فيه الدفتر ليداري النقود عن رئيسه الذي يقف على مقربة منه يرمق كل الأحداث ويباركها في صمت. تركته مسرعة إلى المصعد، تعرف طريقها وهي تقبض على الحقيبة البلاستيك، ألقت التحية على عاملة النظافة وأخرجت لفافة صغيرة من الحقيبة البلاستيك ودستها في حجرها، ثم جهزت فى يدها جنيهاً لتعطيه لعامل المصعد الذي يدعو لحماتها دوماً بالعافية.
خرجت من المصعد في الدور الخامس، توزع التحيات على الممرضات اللاتي يقابلنها بوجوه ودودة ويدعونها لتناول الشاي معهن، وهي ترد مبتسمة:
- أطل على أمي وأجيلكم حضَّروا الشاي.
ثم سألت إحداهن تبدو أكبرهن سناً وأفضلهن مظهراً تجلس خلف الكاونتر:
- إزي أمي النهاردة يا ريِّسَة ؟
ترد بصوت هادئ وهي تنظر بملف أمامها:
- حماتك دى مالهاش حل .. طول النهار مجننة العنبر كله، بس للأسف مش راضية تاكل، ياريت تعرفي تأكليها عشان نقدر نديها الدوا.. طبعا ده غير اني قفشتها بتدخن.. مش عارفة جابت السجاير منين، أوعي تكوني بتجيبي لها.
قالت أم محمود مستنكرة وهي تدق بكفها على صدرها :
- انا !! و دي معقولة .. هو انا إتجننت .!!
حيث اللافتة المكتوب عليها (الدرجة الثالثة - العنابر- سيدات )، المدلّاة بسلاسل معدنية من السقف، يطل العنبر الذي ترقد فيه مريضتها من آخر الرواق الطويل فاغراً بابه كجوف وحش. اعتادت عيناها على مشاهد المستشفى البائسة، لمبات النيون تشعُ ضوءاً شاحباً أغلبها محترق يعلوه الغبار، وبعضها الآخر يصدر أزيزاً متقطعاً، هِرّ يتسكع متمسحاً بالحائط تلتف ساقيه على بعضهما كسكير، أبواب الغرف المتراصة على جانبي الرواق، مغلق بعضها ويصدر من بعضها الآخر أصوات أنين، أو ثرثرة بقايا الزوار، طلاء الزيت على الحوائط تحول للون غير معروف، سكن العنكبوت الأركان وبنى أعشاشَه أعلى الشبابيك وتدلـّى من سماعات الإذاعة الداخلية ولمبات النداء المعطلة، سلة مهملات ملقاة على الأرض تخرج منها القمامة، علب عصير وزجاجات بلاستيكية فارغة.. رائحة المطهرات والبنج التي تملأ المكان.
وقفت عند باب أحد العنابر على يسار الممر الطويل، وقالت في محاولة لإضفاء البهجة على صوتها:
- إزيك يا أبلة نادية !!
رد صوت واهن من الغرفة:
- نشكر ربنا يا أم محمود.. إتفضلي
- ربنا يتم فضله عليكي.. فى أخبار عن العملية؟
- الدكتور قال لي العملية يوم الخميس الجاي.. بس ربنا يستر، أصل سارة بنتي مش حتكون وصلت من البحرين.
- يوه !! وانا رحت فين، انا عنيا ليكي يا أبلة نادية، ولا تشيلي همّ انا هاكون معاكي من الفجر ولو حبيتي أبات معاكي قبلها بليلة كمان.
- تسلم عينيكي يا بنتى، ربنا يكفيكي شر المرض ويحافظ عليكي.. ما هو عماد ابن أختى جاى ما تتعبيش نفسك.
- أتعب نفسي ده إيه !! ده كلام تقوليه برضه يا أبلة نادية ده انتي حبيبة الكل.. مستكترة علي أقوم بواجب زي ده ؟ أفوتك بالعافية دلوقتي عشان أروح أطل على حماتي زمانها قالبة العنبر مورستان.. وعلى فكرة دعاء خلصت إمتحانات وممكن تيجي تقعد معاكي تسليكي وتخدمك.. ده أنتِ فضلك عليها كبير.
- ماتقوليش كده يا أم محمود.. سلمي لي عليها وألف شكر، لو احتجت هاقولك.. دعاء دي زي بنتي تمام.
السيدة نادية تادرس هي مدرّسة اللغة الإنجليزية لدعاء ابنة أم محمود حين كانت بالمدرسة الإعدادية، وكانت ناهد تعمل ببيتها فى نفس الوقت، فكانت تتعاطف مع ظروفها وتساعدها في أمور دعاء الدراسية ، ولم تكن تبخل عليها بالاهتمام والشرح وخاصة قبيل الامتحانات.
ومنذ حوالي العام مرضت السيدة نادية، وأصبحت ترقد وحيدة لفترات طويلة بعد زواج ابنتها الوحيدة وسفرها للعمل مع زوجها بدولة البحرين، وعلمت ناهد بالصدفة في إحدى زياراتها لحماتها، بأن السيدة نادية ترقد بنفس المستشفى وفي عنبر مجاور، ومنذ ذلك الوقت وهي تزورها بانتظام وخاصة في الفترة الأخيرة.
اقتربت ناهد من العنبر الذي ترقد فيه حماتها، وسمعت ضجيجاً وضحكات آتية من داخله وهي ما زالت على بعد أمتار منه، دخلت وهي موقنة أن الضاحكة هي الخالة نبوية، رغم وجهها الشاحب الذي ينبئ أنها على حافة الموت، وضَوء الفلورسنت المُسَلـَّط أعلى الفراش يزيد من شحوبها، نحافتها تجعلها أشبه بهيكل عظمي مُغطّى بغلالة من الجلد الرقيق كأنها قطعة نحت قدّت من خشب جاف غادرتها الدماء، أما العينان فغائرتان لا تخلوان من المشاغبة رغم سنها المتقدم وشعرها الأشيب تماماً الذي تتدلى ما تبقى من خصلاته الخفيفة الناعمة من تحت منديل الرأس الأبيض.
بعض المريضات يتحلقن حولها، إحداهن تجلس بجوارها على الفراش، وأخرى تجلس على الأرض بالقرب منها وكأنهن فى حفلة سمر، والعجوز تلقي عليهن همساً النكات غالباً ما تكون جنسية.. ينفجرن ضحكاً رغم مرضهِّن العضال، وإنتظارهـِّن جميعاً للموت، وكأنه أحد زوار المستشفى الدائمين. زعقت ذات الجسد الضئيل والملابس البيضاء والتي يبدو أنها من الممرضات الجدد بصوتها الحاد بعد أن حقنت الست نبوية:
- سجاير !! يا مصيبتي !! آه لو أبلة الريِّسة شافتها.
وأخذت تشكو الست نبوية لناهد حال دخولها العنبر. نظرت أم محمود نظرة عتاب لحماتها وطبعت قبلة حانية على جبينها وقالت:
- مش حتبطلي بقى الهباب ده!! على طول جايبة لنا الكلام كده!
ردت بصوت خشن محتبس يشوبه ضعف، موجهة كلامها لزوجة ابنها والممرضة معاً:
- بس يابت انتي وهي، وانتي ياللي تنقرصي ( موجهة كلامها للممرضة) مافاضلش إلا العيال كمان يتكلموا.
خرجت الممرضة من الغرفة وهى تتبرم وتتمتم بكلمات غاضبة وصوتها يبتعد مع خطواتها:
- انتي حرة مع أبلة الريسة شوفي شغلك معاها.
في هذا العنبر نساء مريضات بالسرطان. تأتي كل واحدة لترقد على سرير من الأسِّرَة العشرة التي يحتويها العنبر لمدة تطول أو تقصر، ولكن غالباً ما تنتهي بالموت. قلة منهـُّن من يخرجن قبل ذلك، ولكن لا تمر أسابيع إلا ويُسمَع أن إحداهن قد فارقت الحياة.
يرقدن انتظاراً لإجراء جراحة فاشلة وتلقيِّ العلاج الذي يسبقها كتمهيد، أو للعلاج الكيميائى أو الإشعاعي والذي عادة ما يمتص أرواحهن أكثر مما يعالجهن.. ويبدأن في الذبول يوماً بعد يوم، وفي عد تنازلي يدركن بدايته ويترقبنه حتى نهايته ونهايتهن، ومع ذلك فقد صادقن الموت كما صادقن بعضهن البعض، وتعرفت كل منهن على أسر رفيقاتها فى العنبر، وتشاركن في المشاكل، وتعاطفن إلى درجة أن كلاً منهن كانت تقدم ما في وسعها من خدمات رغم مرضها عن طريق أسرتها لخدمة رفيقاتها في العنبر، وكأنهن يردن أن يشعرن أن لوجودهن قيمة فيما تبقى .. صنعن حياة كاملة .. تنمو كموجة البحر وتعلو ثم تتلاشى وتضيع وتأتي غيرها.. وكلما اشتدت المحن رقّت القلوب وتحابت.
ولا ترحل أم محمود إلا بعد أن تطمئن على كل من في العنبر، وكأنهن جميعاً مسؤوليتها، عشاء هنا، غسيل هناك ، تدليك لتلافي قــُرَح الفراش، تذكِرَة بموعد دواء .. إحكام غطاء ، كوب ماء، ترتيب فراش، كل ما تستطيع تقديمه كانت تفعله بلا تردد ودون انتظار حتى كلمة شكر.
جلست بجوار حماتها على الفراش، وشرعت في إطعامها كطفل صغير بعد أن نجحت فى إقناعها أن تتناول الطعام الذي أحضرته لها، وبعد أن قامت حماتها بدعوة كل نزيلات العنبر إلى وجبة العشاء التي أحضرتها زوجة ابنها، كانت أم محمود تمسح بحنان ما يتساقط من فم الست نبوية من سائل الشوربة بسبب عدم وجود أسنان بفمها، ثم توقفت حين رمقتها حماتها بنظرة مشيرة لها بيدها أن تكف.
فقالت أم محمود متوسلة:
- طب حتة نسيرة صغيرة، ده فاضل معلقتين كمليهم عشان خاطري.
فقالت الست نبوية وهي مغمضة عينيها:
- شبعت الحمد لله
قصت ناهد عليها أخبار أبنائها وبالذات محمود الفاشل المدلـَّـل، فهو الوحيد الذي تهتم بسماع أخباره وقصص تسربه من المدرسة للعب الكرة وقضاء الوقت فى مقاهي الكمبيوتر، وبعد أن اطمأنت تماماً أنها تغط في النوم، مما يدل على عدم وجود ألم في هذه الليلة، لملمت ملابس حماتها التي تحتاج للغسيل، كما لم تنس أن تعرض على الجميع أن تغسل لهن ملابسهن، دثرت خالتها نبوية جيداً بالغطاء وقبّلتها من جبهتها، ثم أحكمت ربط طرحتها وارتدت العباءة، ثم ودعتهن وخرجت في طريقها للمنزل قائلة:
فوتكم بالعافية.

يتبع غداً

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات