أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب - الجزء السادس















المزيد.....



نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب - الجزء السادس


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 4696 - 2015 / 1 / 21 - 04:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


## الجزء السادس: (العلمانية والأخلاق في المجتمعات الأوروبية):

كثيرا ما يحدثنا العلمانيون المصريون والعرب عن الأخلاق والقيم والإنسانية والنظام في المجتمعات الأوروبية وكثيرا ما يتباهون ويشيدون بها، بل ويعايرون بها _من المعرة والمعايرة_ المجتمعات العربية والإسلامية، وفي الحقيقة لو قمنا بوضع ما يسمى بالأخلاق والقيم والإنسانية والنظام لدى الشعوب الغربية على طاولة النقد والتشريح فلن نجد ثمة أخلاق ولا قيم ولا نظام إنساني على الإطلاق، وهذا ما قمت ببسطه وعرضه في هذا الجزء على النحو التالي:

في البداية أود أن أذكر ثلاث نقاط هامة كمدخل وتهيئة لموضوع هذا الجزء، هي:

أولا: إن الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة السامية لا مصدر لها على الإطلاق سوى الدين, وأقصد بالدين هنا الدين بمفهومه العام أيا كان شكل هذا الدين وأيا كانت شرائعه ومعتقداته وشعائره ونسكه، فتاريخيا ومنذ بدء الخليقة لم يوجد مجتمع واحد من مجتمعات الأرض على مدار التاريخ الإنساني كله ليس فيه دين ما من الأديان له صورة ما من الصور، وما وجد دين قط في أي مجتمع على ظهر هذه البسيطة إلا وهو يدعو ويلزم أتباعه في جانب من جوانبه بالأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة والأمر بالمعروف والخير والنهي عن المنكر والشر. فالدين هو المصدر الوحيد للقيم والأخلاق وهو الذي علم الإنسان القيم والأخلاق، ولولا الدين والأخلاق الدينية لما عرف الإنسان للقيم ولا للأخلاق سبيلا ولا معنى.

ثانيا: ليس من العلمي ولا من الموضوعي أن نحكم على أي سلوك أو تصرف أخلاقي يصدر من الإنسان على أنه سلوك أخلاقي أو تصرف أخلاقي سامٍ راقٍ نبيل إلا إذا كان بوازع الإيمان بالله وبوازع تقواه سبحانه فحسب، ودون انتظار أي مقابل دنيوي، سواء كان مقابلا ماديا أو معنويا، أما إطلاق وصف أخلاق على سلوكيات وتصرفات بعض الناس حتى ولو قام بنفس السلوكيات والتصرفات التي وردت في نصوص الأديان وأمر بها الله، كأن يكون ذلك الشخص صادقا أو أمينا أو متسامحا أو مؤثرا أو كريما، أو أو أو ...إلخ، فلا يمكن أن نطلق على هذه السلوكيات وصف أخلاقية ولا على الإنسان الذي قام بها إنساناً ذا خلق أو على خلق، طالما كان تصرفه وسلوكه ليس نابعاً من إيمان بالله وتقوى له سبحانه، لماذا؟ لأن ذلك التصرف أو ذلك السلوك الذي صدر من ذلك الإنسان هو تصرف وسلوك نفعي دنيوي ينتظر له مقابل، وليس تصرفا أو سلوكاً أخلاقيا حقيقياً، لأن انتفاء وازع الإيمان بالله ووازع التقوى لله سبحانه يجعل الوازع الوحيد لذلك التصرف أو ذاك السلوك إما الخوف أو الضعف أو الرياء أو الطمع في كسب مادي أو معنوي دنيوي عاجل، يوجد ذلك السلوك أو ذاك التصرف بوجود المقابل المادي أو المعنوي الدنيوي العاجل له وينتفي بانتفائه، وبالتالي فهو ليس سلوكا أخلاقيا ولا تصرفا أخلاقيا حقيقيا على الإطلاق حتى ولو جاء في هيئة صدق أو أمانة أو تسامحاً ...إلخ.

ثالثا: لماذا لا يمكننا أن نحكم على أي سلوك أخلاقي يصدر من الإنسان بأنه سلوك أخلاقي إلا إذا كان نابعا من الإيمان بالله والتقوى له سبحانه؟، الجواب: لأن الله سبحانه غيب محض لم ولن يراه أحد من البشر، وكذلك ثوابه وعقابه الأخرويين غيب محض، لا يمكننا التثبت من حدوثه الآن وبشكل عاجل، ومن ثم يكون الإيمان بالله وتقواه هما السبيل الوحيد الذي يخلق في وعي الإنسان رقابة ذاتية من نفسه على نفسه، دون تدخل أي طرف أو أي عامل دنيوي نفعي مادي أو معنوي، هنا فقط يكون هذا الشخص ذا خلق أو على خلق، وتكون تصرفاته وسلوكياته تصرفات وسلوكيات أخلاقية حقيقة، لا يقوم بها ولا يفعلها انتظاراً لمقابل دنيوي نفعي مادي عاجل توجد بوجوده وتنتفي بانتفائه.

كثير من العلمانيين والملحدين يستخف بوعي السذج والبسطاء من مريديهم وأتباعهم بقولهم: "إن الملحدين والعلمانيين أكثر أخلاقا وأدبا وإنسانية من أتباع الأديان أو من المتدينين وأن منبع هذه الأخلاق من ضمائرهم وإنسانيتهم". ولعمرك لا يدري المرء أيضحك ساخراً أم يصمت كمداً وغيظاً؟ بل لا أجد قولا أرد به على هؤلاء سوى القول المأثور: (إذا لم تستح فافعل ما شئت) وأضيف عليه: (وقل ما شئت). وقد يندهش مثلي ويضرب كفا على كف ويتسائل: من أي مصدر ومن أي سماء هطلت "الأخلاق والقيم والأدب والإنسانية" على العلمانيين والملحدين؟!!، أليست كلمات كـ "الأخلاق، القيم، الأدب، الإنسانية" لم تأت بها سوى الأديان ونصوص الأديان؟ ولم يتعلمها بني آدم جميعا إلا من الدين؟ بل إن كلمات كـ: "الأخلاق، القيم، الأدب، الإنسانية" التي يدعيها كل من العلماني والملحد ويزعم أن مصدرها ضميره وإنسانيته، لولا الدين الذي اعتنقه أبواه وأهله وجيرانه ومدرسوه وزملاؤه وأهل مجتمعه لما سمع بهذه الكلمات ولا عرف إلى معانيها سبيلا حتى ولو عاش أحدهم في الدنيا ألف سنة. بل إن أشهر وأكبر الملحدين في العالم كانوا أبناءً لرجال دين، بل إن أغلبهم إن لم أقل جميعهم وهم صبية صغار تربوا وتعلموا داخل دور عبادة "كنائس معابد مساجد"، بل إن جميعهم تعلم النصوص المقدسة وتلاها وحفظها، بل إن "تشارلز داروين" زعيم الملحدين المتطرفين ماديا أرسله والده إلى كلية المسيح في "كامبردج" للحصول على بكالوريوس الفنون كخطوة أولية ليصبح رجل دين بالكنسية الانجيلية. وبعد كل هذا لا يخجل ملحد أو علماني لاديني من القول بأنه أكثر أخلاقا وأدبا وإنسانية من أتباع الأديان أو من المتدينين وأن منبع هذه الأخلاق من ضميره وإنسانيته!!!. حسناً، سيكون لنا وقفة مطولة ومفصلة حول الأخلاق وماهيتها ومصدريتها وإلزامها في فصل كامل من فصول أحد كتبي: الذي سأنشر فصوله قريبا إن شاء الله.

إن الفرد النصراني "البولسي" الأوروبي خاصة والغربي عامة قد تربى منذ قرون طويلة وتشكل وجدانه ورسخت معتقداته وقناعاته على اللاأخلاق واللاقيم، بدءا من تلوث نفسه وقلبه ووعيه وأفكاره يالعلمانية الكهنوتية السلطوية التي أفرزتها "ديانة" "بولس الرسول" المختلقة المزعومة، التي قامت باستئصال شريعة الله وناموسه الذي أنزله على موسى وعيسى بن مريم عليهما السلام، وانتهاء بالعلمانية المادية الإلحادية الغربية المعاصرة، وقد تبدى ذلك في وحشية النصارى الغربيين عبر تاريخهم المقتظ بالمجازر والجرائم الوحشية الهمجية ضد بعضهم بعضا وضد غيرهم من أصحاب الدينات والأمم الأخرى، والمستمرة حتى يوم الناس هذا.

والسؤال الآن: هل مثل هذه الشعوب تحولت هكذا بغتة وبين عشية وضحاها إلى شعوب تتمتع بالقيم والأخلاق الآدمية السامية كما يروج ويزعم العلمانيون والملحدون المصريون والعرب أم أن الأمر لا علاقة له بالأخلاق ولا بالقيم ولا بالإنسانية من قريب أو بعيد؟؟، للجواب على هذا السؤال أقول: لما لم تجد الشعوب الغربية وحكوماتها بدا من التعايش السلمي فيما بينهم، عقب كل تلك الوحشية والهمجية والمجازر والمذابح والحروب الأهلية التي استمرت لقرون طويلة وتوجت بالحربين العالميتين اللتين راح ضحاياهما عشرات الملايين من البشر، ولما لم يكن لدى الشعوب الغربية من مرجعية دينية قيمية أخلاقية أو أحكام وتشريعات دينية تضبط وعي ومعتقدات وأفكار وقناعات وسلوكيات وممارسات الشعوب الغربية بفعل العلمانية البولسية الكهنوتية وبفعل العلمانية المادية الإلحادية المعاصرة، ولما لم يجد الساسة والمفكرون والفلاسفة في الغرب أمامهم من سبيل للجم وتدجين وترويض الشعوب الغربية ولجم الوحش المفترس المتأهب داخل نفوس هذه الشعوب، لجأ الساسة والمفكرون والفلاسفة وأصحاب رؤوس الأموال إلى الثورة الصناعية والتكنولوجية لإلهاء هذه الشعوب في سيل عارم من الانتاج المتوهج والاستهلاك الشره الذي لا يشبع ولا يتوقف، وتوجهوا إلى الرأسمالية المتوحشة التي تحول الإنسان في ظلالها إلى ترس في ماكينة لا تهدأ ولا تتوقف عن العمل ليظل الإنسان الغربي طوال حياته راكضا لاهثا خلف المنتجات الحديثة وبريقها الآخاذ حتى يجد نفسه قد وصل إلى أعتاب قبره وهو لم ير من حياته سوى أنه كان ترسا في ماكينة من العمل والانتاج والاستهلاك الذي لا يشبع ولا يتوقف.

إن الثورة الصناعية والتكنولوجية العاتية في الغرب وما تبعها من شره استهلاكي قد دفع الإنسان الغربي ثمنها غاليا، من آدميته وكينونته وحياته الغارقة في هجير من المادية القاحلة، وفي ماكينة عمل لا تتوقف، كي يستطيع دفع فواتير شرهه ونهمه الاستهلاكي، حيث يتلقفه منتج جديد ما يلبث أن يستمتع به برهة من الوقت حتي يسلمه ذلك المنتج إلى منتج آخر جديد، فيظل يركض ويهرول من منتج الى منتج ومن موضة الى موضة ومن صرعة إلى أخرى ومن وهم بالمتعة الى وهم آخر بالمتعة، حتى أصبح الانتاج والاستهلاك والعمل الدؤوب والترف والبريق المادي والاقتصادي وفتح باب الإباحية الجنسية على مصراعية دون شرط أو قيد هو الثواب والجزاء الوحيد لالتزام المواطن الغربي بالنظام والقوانين وما نظنه نحن قيما وأخلاقا، وتحول المواطن الغربي إلى أشبه ما يكون بحيوان السيرك الذي تم ترويضه واستئناسه، ومدربه هم حكامه وسياسييه ورأسمالييه، فيلقي اليه المدرب بقطعة اللحم لينفذ ما يطلبه منه من ألعاب وعروض ورقصات في مقابل هذه القطعة من اللحم، فما نحسبه نحن قيما وأخلاقا ونظاما لدى الشعوب الغربية إنما هو التزام قصري بالنظام والقوانين لأجل الحصول على المتعة الوهمية بالبريق المادي والاقتصادي والإغراق في المادية المتطرفة والاستهلاك الشره الذي لا يشبع ولا يحده حد.

فلم يكن أمام الإنسان الغربي في مجتمعاته تلك سوى الالتزام الصارم بتطبيق وتنفيذ القوانين واللوائح دون مناقشة أو تذمر أو امتعاض في مقابل الحصول على المتع الوهمية التي تقدمها له حكومته في شكل انتاج جهنمي متسارع واستهلاك شره وعمل دؤوب لا ينتهي لدفع فواتير متعه الوهمية، وهذا على خلاف الالتزام بالأخلاق والقيم لوازع ديني إيماني بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، ففي الدين يكون الالتزام بالأخلاق نابع من إيمان الفرد بالله، وخوفا من عقابه، وطمعا في رضاه وثوابه وجزائه الأخروي، أما في الغرب فيكون الالتزام بالنظام العام والقانون وما نتوهمه نحن أنه أخلاق وقيم إنما هو التزام للحصول على الترف المادي والمتع الوهمية والاستهلاك الشره وليس ثمة أخلاقاً أو قيما دينية انسانية سامية ذاتية تجعل الفرد له سلطانا ذاتيا من نفسه على نفسه فيأمرها وينهاها دون ادنى مقايل دنيوي مادي عاجل, بل إن ذلك البريق المادي والترف الاقتصادي هو الحاجز الوحيد الذي يحول دون تفكك وانهيار بل وانفجار الشعوب الغربية من داخلها، إذ لو حدث _وسيحدث بالفعل عاجلا أو آجلا_ وانهارت الاقتصادات الغربية ستتحول الشعوب الغربية الى غابة من الذئاب والوحوش المفترسة في هيئة بشر، وسيقتل بعضهم بعضا وسيحرق بعضهم بعضا، لأن حاجز الصد الوحيد لوحشية الإنسان الغربي الآن هو الترف المادي والاقتصادي والترفيهي والاستهلاكي والانحلال الجنسي وخلو قلب ووعي الإنسان الغربي من أي رصيد يذكر من الدين والأخلاقيات الدينية التي تجعل الفرد يقوى على ترويض نفسه والسيطرة على ذاته وشهواته ونزواته وحماقته، فمتى انهار هذا الحائط وسقط، ساعتها سنشاهد كيف تكون الوحشية البشرية التي يتوارى منها وحوش البهائم والأنعام ألما وخجلا.

ففي الخامس عشر من يوليو، عام 1977م، ونشرته صحف العالم في حينه، أن التيار الكهربائي انقطع في مدينة "نيويورك" التي تعد أكثر مدن العالم "رقيا وتحضرا" لمدة خمس وعشرين ساعة متوالية، فتحولت المدينة إلى مسرح للنهب والسلب، وسرقت البيوت والمتاجر، والمرافق العامة والخاصة، وارتكب في تلك الليلة الواحدة ما يعادل جرائم سنة كاملة. وفي عام 2005 ضرب إعصار كاترينا ولايتي لويزيانيا ومسيسيبي وخاصة مدينة نيو أورليانز وعمت حالة من الفوضى العارمة في المناطق المنكوبة وطلب حكام الولايات المتضررة 10 آلاف فرد إضافي من الحرس الوطني ليرتفع بذلك العدد الإجمالي إلى 21 الفا لن تقتصر مهامهم على جهود الإنقاذ بل تمتد إلى احتواء عمليات السلب والنهب. فقد خرج مواطنون مسلحون إلى الشوارع في بعض المناطق في محاولة لإقرار النظام في مدينة نيو اورليانز. وفي المناطق التي لم تغمرها المياه جلس أصحاب المتاجر أمام متاجرهم يحرسونها بأسلحتهم الخاصة. وتعرض العديد من المتاجر التي تبيع الطعام والسلع المنزلية لعمليات سلب ونهب وحطمت أبوابها ونوافذها. وشوهد بعض من شاركوا في هذه العمليات وهم يخرجون في هدوء من المتاجر المنهوبة وهم يحملون ما سطوا عليه. فأين الأخلاق وأين القيم وأين الرقي وأين التحضر الذي طالما صدعنا علمانيونا وملحدونا بهم؟!!، بل ماذا سيحدث من الشعوب الغربية لو انهارات اقتصاديات الدول الغربية وأفلست حكوماتها؟؟.

وفي السطور القادمة التي اقتبستها من أحد فصول كتابي "النظام المديني وزوال الديمقراطية" أقدم للقارئ تحليلا مفصلا حول كيف استطاع علماء ومفكروا وفلاسفة وساسة المجتمعات الأوروبية والغربية تدجين واستئناس وترويض وحشية الشعوب الغربية بخدعة الديمقراطية وأكذوبة حكم الأغلبية وسجنها فرادى داخل قفص حديدي قاسٍ يسمونه "الليبرالية" وكيف تبخرت الأخلاق الحقيقية وتلاشت من نفوس ووجدان ووعي الشعوب الغربية:

## الديمقراطية وخدعة حكم الأغلبية:

الديمقراطية الغربية كلمة تم إفراغها تماما من مدلولها الحق الذي يعني حكم الشعب لنفسه _الشعب بأكمله_، لاستحالة تطبيق هذا المفهوم في الواقع، وحين وجد المفكرون والساسة الغربيون أن الديمقراطية بمفهومها الحق عصية على التطبيق الفعلي على الأرض قاموا بترقيع الديمقراطية والالتفاف عليها بخدعة جديدة، لكنها بعيدة كل البعد عن مفهوم الديمقراطية الحق، وكانت هذه الخدعة الترقيعية هي خدعة (حكم الأغلبية)، ولا يخفى على أحد أن (حكم الأغلبية) لا علاقة له بمفهوم الديمقراطية الحق من قريب أو من بعيد، بل إن (الأغلبية) هذه ليست بأغلبية حقيقية كما انخدع الناس وتخادعوا بها.

لقد عرَّفت المعاجم السياسية مصطلح الأغلبية بأنه مصطلح يستخدم لوصف ذلك القسم من مجموعة تكون أكثر من النصف من الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات. وقد يستعمل المصطلح أيضا لوصف (أكثرية نسبية) أو أغلبية(Plurality) أي أكبر عدد من الأصوات أو من الناخبين عندما يكون هناك اختيار بين بديلين أو أكثر من المرشحين في الانتخابات غير أن العدد يقل عن 50% من مجموع الأصوات. وتتطلب بعض الإجراءات (أغلبية مطلقة) أي أكثر من 50% ممن يحق لهم التصويت بشأن قضية ما في الانتخابات سواء يدلون جميعا بأصواتهم أو لا يفعلون ذلك.

ومن المعلوم للقاصي والداني أن حق التصويت ليس متاحا لجميع أفراد الشعب وإنما هو متاح فحسب لأفراد الشعب الذين بلغوا من العمر 18 عاما فما فوق. وهو ما يسمى عادة بسن الانتخاب. ووفق المقاييس العالمية يمنح كافة المواطنين الذين بلغوا سن الانتخاب حق التصويت بغض النظر عن العرق، أو الجنس، أو الثروة، وكانت أولى النصوص الدولية التي تناولت هذا الحق كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أكد في المادة 21 منه على حق الناس في المشاركة في سياسة شؤون بلدهم مباشرة أو عبر ممثلين يتم اختيارهم بحرية، معتبراً أن الانتخاب يعبر عن الإرادة الشعبية. وفي الفقرة الثالثة نص الإعلان على الصفات أو الخصائص التي يجب أن يتمتع بها حق الانتخاب وهي "الدورية، النزاهة، العمومية، المساواة، السرية".

إن ما يسمى بالأغلبية ما هي إلا خدعة كبرى تتنافي تماما مع مضمون الديمقراطية الحق، فالديمقراطية بمفهومها الحق هي حكم الشعب أو سلطة الشعب _كل الشعب بلا استثناء_، إلا أن مشاركة كل الشعب في الحكم أو في السلطة أو في اتخاذ القرارات ووضع السياسات العامة للدولة أمر لا يمكن تحققه على الإطلاق، نتيجة للتباين الكبير والاختلافات المتعددة بين جميع فئات الشعب الواحد حول الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وما يسمى بالأغلبية ليست في حقيقتها أغلبية، إنما هي مجموعة من الناخبين الذين يحق لهم التصويت وليس كل الذين يحق لهم التصويت، ونسبة هذه المجموعة من المصوتين التي يطلق عليها أغلبية ما هي إلا أقلية ضئيلة جدا نسبة لجميع الشعب كل الشعب، سواء من الذين يحق لهم التصويت أو من الذين لا يحق لهم التصويت، هذه الأقلية الضئيلة التي يطلق عليها كذبا وزورا (أغلبية) هي التي تقوم بصنع القرارات والقوانين والسياسات العامة للدولة في تجاهل تام لبقية جموع الشعب الذين يطلق عليهم كذبا وزورا (أقلية). هذه المجموعة المسماة كذبا (أغلبية) ما هي إلا دكتاتورية أقلية حقيقية تم تلفيقها في ثوب ديمقراطي كاذب ومخادع، هذه الأقلية الديكتاتورية الديمقراطية هي التي تستبد بصياغة القرارات الهامة وتستبد برسم السياسات العامة للدولة وهي التي تستبد بالتحكم في المقدرات العامة للدولة على حساب سحق وتجاهل واستغفال الأكثرية الحقيقية للشعوب والمسماة كذبا وزورا بالأقلية لا لسبب سوى أنهم لم يشاركوا في التصويت.

وبنظرة سريعة على أي انتخابات في أي دولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية في انتخابات نزيهة أو غير نزيهة يتأكد لنا حقيقة هذه الخدعة التي تسمى (أغلبية)، فمثلا في الاستفتاء الذي أجري على التعديلات الدستورية في مصر عقب ثورة 25 يناير تبين أن 77.2% ممن شاركوا في الاستفتاء صوتوا بـ "نعم" على التعديلات الدستورية أي أكثر من 18.5 مليون ناخب شاركوا في التصويت. وبلغت نسبة الإقبال على التصويت 41.2% من بين 45 مليون شخص يحق لهم المشاركة في التصويت، فيما بلغ عدد الأصوات الباطلة 171.190 ألف، مما يعني أن 26,5 مليون شخص ممن يحق لهم التصويت لم يشاركوا في التصويت، ومما يعني كذلك أن من يسمون كذبا بالأغلبية وهم من يزيدوا على 14 مليون شخص بقليل هم وحدهم من قرروا مصير الشعب المصري الذي يزيد تعداده على 80 مليون مواطن. فهل من العدل والحق أن يطلق وصف الأغلبية على الـ 14 مليون مواطن؟ وهل من العدل والحق أن يطلق وصف الأقلية على الـ 66 مليون مواطن الذين منهم من صوتوا بـ "لا" ومنهم من لم يشارك أصلا في التصويت؟.

وفي الانتخابات الأمريكية التي فاز فيها بوش الابن في المرة الأولى شارك حوالي 25 في المائة من الذين يحق لهم التصويت من الشعب. وبعد حذف الأصوات الخاطئة يكون نسبة الذين انتخبوا بوش من المتبقين الذين شاركوا فعليا في الانتخابات هم 50 في المائة من الـ 25 في المائة المشاركين فعلياً من مجموع الذين لهم حق الانتخاب. والنتيجة تكون كالتالي:

عدد الذين لم يصوتوا لبوش يساوي عدد الذين لا يحق لهم التصويت وهم مثلا 40 في المائة من الشعب الأمريكي، يضاف إليهم عدد الذين لم يشاركوا ممن لهم حق التصويت وهم 75 في المائة من الذين يحق لهم التصويت، يضاف إليهم عدد الذين شاركوا ولكنهم أخطئوا في التصويت أو تركوا الورقة بيضاء، يضاف إليهم عدد الذين انتخبوا غير بوش وقد يساوون 49 في المائة ممن شاركوا فعلاً في الانتخابات، فلو كان عدد سكان أمريكا (300) مليون نسمة، فيكون عدد الذين صوتوا لبوش 20 مليون مواطن أمريكي، بينما الذين لم يصوتوا لبوش كانوا حوالي (280) مليون مواطن، 120 مليون (ليس لهم حق الانتخاب) + 135 مليون (لم يشاركوا في الانتخابات ولهم حق الانتخاب) + نصف مليون (تركوا أوراقاً بيضاء) + 23 مليون وهم الـ 49 في المائة الذين صوتوا لخصم بوش، فأين هي الأغلبية؟؟

ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تعاني في العقود الأخيرة من مشكلة تقاعس الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الرئاسية. ولقد شهدت الخمسون عاماً الماضية تراجعاً واضحاً في نسبة من يذهبون إلى صناديق الاقتراع في يوم الانتخابات؛ فقد كانت نسبة من يشاركون في الإدلاء بأصواتهم في عام 1960م أكثر من 63% من إجمالي عدد الناخبين، وانخفضت تلك النسبة إلى 49% في انتخابات عام 1996م. وفي الانتخابات الرئاسية عام 2000، صوتت نسبة تقل عن 50 بالمائة من مجموع الناخبين المؤهلين. هذا التراجع قد توقف في العقد الماضي بسبب المنافسة بين المرشحين، ولكن المراقبين يجمعون على أن الناخبين قد فقدوا الثقة في جدوى التصويت بسبب الخداع الإعلامي، وتدخُّل قوى الضغط السياسي في العملية الانتخابية، وغير ذلك من الحيل التي أفقدت الانتخابات الأمريكية بريقها الديمقراطي.

ويعلل بعض المؤرخين هبوط هذه النسبة بالهبوط المقابل في أهمية الأحزاب السياسية في الحياة اليومية لدى الناس، ويعتقد آخرون أن نمو مجموعات أصحاب المصالح المتمولين دفع الناس إلى فقدان الاهتمام بالانتخابات التي تجري معاركها بصورة أولية عبر التلفزيون وإعلانات الصحف. ولدى سؤال الذين امتنعوا عن التصويت عن سبب امتناعهم تراوحت أجوبتهم بشكل واسع. كان منهم من لم يعتقد أن صوته بمفرده يمكن أن يُحدث أي فرق، ومنهم لم يعتقد أن القضايا المطروحة تؤثر عليه، ومنهم من لم يهتم بكل بساطة بالأمر، ومنهم من يمتنع عن التصويت بسبب تلاعب السياسيين الغوغائيين عن طريق وسائل الإعلام بالناس الذين لا يملكون معرفة ذات شأن بهذه القضايا.

ومما يجعل هذا الأمر ملفتاً للنظر عاملان آخران يتزايدان خلال الأعوام الأخيرة أيضاً. الأول أن ما يقارب من نصف الناخبين لا يذهبون إلى صناديق الاقتراع، ومن ثَمَّ فإن نصف الناخبين لا يشاركون في الانتخابات. ويتزايد في الآونة الأخيرة إحجام أبناء الشعب الأمريكي عن الحصول على بطاقات انتخابية أيضاً، مما يعني عدم المشاركة في أي انتخابات. كل ذلك يلقي بالكثير من ظلال الشك حول حقيقة تمثيل رغبة الشعب الأمريكي في انتخابات الرئاسة أو غيرها.

ولقد تم توجيه العديد من الانتقادات الحادة لما يسمى "حكم الأغلبية"، وكان من أكثر الانتقادات شيوعاً والتي توجه إلى الديمقراطية هو خطر "طغيان الأغلبية". وأول من نحَت هذا المصطلح هو "ألكسيس دو تاكفيل" في كتابه (الديمقراطية في أمريكا)، الذي ألفه عام 1831، ولكن العبارة مع ذلك تُنسب إلى (جون ستيوارت ميل) إذ وردت في كتابه (حول الحرية) الذي ألفه عام 1859 وكانت حينها تشير إلى الانسجام الاجتماعي وليس إلى الحكم الديمقراطي. إن "طغيان الأغلبية" يتضمن القول بأن حكومة تعكس وجهة نظر الأغلبية بإمكانها إتخاذ إجراءات لقمع أقلية معينة. وهذه الأغلبية في بعض الأحيان هي أغلبية نسبية من الناخبين وهي تعد لذلك أقلية. وهنا تمارس إحدى الأقليات طغيانها على أقلية أخرى باسم الأغلبية. إن الأغلبية المهيمنة سياسياً (وهي إما أغلبية حقيقية أو نسبية) قد تقرر بأن أقلية معينة -سواء كانت دينية أو سياسة أو عقائدية أو من يحملون فكر الأقلية-، يجب تجريمها إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا يقوض الفكرة القائلة بأن الديمقراطية تخويل للناخبين ككل. وهناك كثير من الأمثلة على طغيان الأغلبية تتضمن: عدد من الدول الأوروبية أصدر قرارات تحظر استخدام رموز دينية شخصية معينة. وهذا الحظر ينظر إليه البعض على أنه موجه إلى الأمور التي تعد رموزاً إسلامية -الحجاب والبرقع والنقاب-. وقد تم حظر استخدام الرموز المشار إليها آنفاً في المدارس العامة في فرنسا حسب قانون العلمانية والرموز الدينية الواضحة. يرى معارضو الحظر فيه انتهاكاً لحق الحرية الدينية. كذلك القانون الخاص بالإجهاض إنما تحدده المواقف الدينية للأغلبية. فبالنسبة لمؤيدي "الحياة" من مناوئي الإجهاض تعد الأجنة غير المولودة أقلية مظلومة وعاجزة ومحرومة من حقوقها لذا فإن فرض حظر على الإجهاض يعتبر استخداماً صحيحاً لسلطة الدولة.

وكذلك الأغلبية هي غالباً من تفرض الضرائب على الأقلية الغنية بنسب عالية متزايدة، وذلك بنية تحميل الأغنياء عبئاً أكبر لأغراض تحسين الأوضاع الاجتماعية. وهو ما تتم معادلته من قبل الأغنياء بلجوئهم إلى خبرات المختصين (مستشاري الضرائب والمحامين). وكذلك في الديمقراطيات الغربية المزدهرة يشكل الفقراء أقلية بين السكان، وقد تحرمهم الأغلبية من الذين يرفضون التحويل الضريبي. وينطبق ذلك على وجه الخصوص في الحالات التي يشكل فيها الفقراء طبقة سفلى متميزة حينها قد تلجأ الأغلبية إلى استخدام العملية الديمقراطية بالنتيجة لحرمانهم من حماية الدولة. وكذلك الديمقراطية الأثينية القديمة هي التي أعدمت سقراط بتهمة عدم التقوى، أو بمعنى آخر لكونه يحمل رأياً مخالفاً رغم أن مدى ارتباط هذا المثال بالديمقراطية المعاصرة لا زال موضع جدل.

كذلك من الأمثلة التي غالباً ما يَشار إليها في الحديث عن طغيان الأغلبية هو مجيء "هتلر" إلى السلطة عن طريق إجراءات ديمقراطية مشروعة. فقد حصل الحزب النازي على الحصة الأكبر من أصوات الناخبين في جمهورية (فايمار) في عام 1933. وقد يعد البعض هذا مثالاً على "طغيان الأغلبية" بما أن هتلر لم يحصل قط على غالبية الأصوات، ولكن حصل على نسبة الأغلبية منها، وانتهاكات نظامه الواسعة في مجال حقوق الإنسان إنما حدثت عقب إلغاء الحكم الديمقراطي. كما أن دستور جمهورية (فايمار) في حالة "الطوارئ" سمح للقوى الدكتاتورية بالظهور وبإيقاف العمل بأساسيات الدستور نفسه من دون الرجوع إلى تصويت أو انتخابات.

وكذلك من أسوأ مظاهر (الديمقراطية الغربية الكاذبة) أن جميع الدول الغربية يستبد بالسلطة فيها حزبان رئيسيان يتم تبادل السلطة بينهما تحت زعم وكذبة وخدعة (الأغلبية) من دون بقية الأحزاب ومن دون الشعب جميعا، ففي الولايات المتحدة يستبد بالحكم والسلطة فيها الحزبان الرئيسيان (الحزب الديمقراطي) و(الحزب الجمهوري)، وكذلك في بريطانيا يستبد بالسلطة الحزبان الرئيسان (حزب العمال) و(حزب المحافظين)، وكذلك في إسرائيل يستبد بالسلطة فيها الحزبان الرئيسان (حزب العمل) و(حزب الليكود)، هذا وناهيك عن أن خدعة الديمقراطية تعمل طوال الوقت على إسالة لعاب المتطلعين إلى السلطة وعلى إثارة شهوة المواطنين المسمون بالأقلية نحو وهم وسراب السلطة الذي لن يتحقق لهم أبدا. وقد يرد مؤيدو الديمقراطية على الانتقادات الموجهة إلى (طغيان الأغلبية) بأن وجود الدستور في العديد من الدول الديمقراطية يعمل كوقاية ضد طغيان الأغلبية. إلا أن هذا الرد يمكن دحضه بأن الدستور من السهل تغيير مواده أو تعديلها بموافقة الأغلبية الكاذبة من النواب المنتخبين من الأغلبية الكاذبة من المصوتين، وهذا يعني أنه لا زال بإمكان أغلبية غير حقيقية ما أن تضطهد أقلية غير حقيقية ما بخدعة الشرعية الديمقراطية.

وقد تم الالتفاف على حقيقة طغيان "الأغلبية الكاذبة" من قبل مؤيدو الديمقراطية بأن حكم الأغلبية برغم مخاطره أفضل من أشكال الحكم الأخرى وان طغيان الأغلبية في كل الأحوال هو نسخة معدلة ومحسنة من طغيان الأقلية. بل إن مؤيدو الديمقراطية قد التفوا على حقيقة طغيان "الأغلبية الكاذبة" برشوة ديمقراطية غير أخلاقية لمن يسمون بالأقليات تتمثل هذه الرشوة الديمقراطية غير الأخلاقية في أن من يسمون بالأغلبية يسمحون لمن يسمون بالأقلية بقدر ما من الحريات، منها: حرّية الكلام والتعبير والتظاهر والاعتصام والحرّية الدينية وحرية المعتقد؛ والإجراءات القضائية المتبعة والحماية المتساوية بموجب القانون؛ وحرية التنظيم، والتصريح بالرأي، والمعارضة والمشاركة في الحياة العامّة للمجتمع، وهذه رشوة ديمقراطية غير أخلاقية لأنها تمثل ملهاة للأقليات وتنفيس لهم ومقايضة عن حرمانهم من حق المشاركة الحقيقية أو التأثير الحقيقي في صنع القرارات المصيرية ورسم السياسات العامة للدولة والتحكم في مقدراتها، بل أقل ما يمكن أن توصف به هذه الرشوة الديمقراطية غير الأخلاقية أنها تتماشى مع القول المأثور: "القافلة تسير والكلاب تعوي".

إن من أسوأ ما أنتجه الفكر السياسي الغربي عبر خدعة الديمقراطية الكاذبة هو رهن مصائر الشعوب لرؤى شخصية وأهواء ورغبات أفراد بعينهم أو فئات بعينها من أصحاب المصالح ومالكي الثروات ممن يعملون في السياسة أو ممن يساندون الساسة البارزين، وكذلك من أسوأ ما أنتجه الفكر السياسي الغربي عبر خدعة الديمقراطية الكاذبة إخضاع الوعي القيمي والمعرفي للجماهير وتوجهاتهم الحياتية لما يسمى "كاريزما" الأشخاص ورؤى وقناعات الأفراد الشخصية التي أنتجها أشخاص بعينهم من دون مرجعية قيمية عليا أسمى تكون هي المرجعية الأم لتشكيل الوعي الجماهيري ويكون الأشخاص من أي لون كانوا هم حماة تلك المرجعية ومنفذي مبادئها وقيمها، بحيث لا يكون للفرد أي فضل شخصي له على الجماهير.

وكذلك تقوم "خدعة الديمقراطية الغربية الكاذبة" على أن فئات قليلة أو مجموعات قليلة جدا متخصصة سياسيا في عدد من الأحزاب السياسية هي من تقوم بوضع خارطة طريق أو فكرة أو حزمة سلوكيات أو مجموعات قوانين لتسيير شئون بلد ما من البلدان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ثم تقوم جميع هذه الأحزاب بطرح هذه الأفكار في برامج على الجمهور الأقل علما والأقل وعيا لاستدراجه بالوعود البراقة والشعارات المخادعة للتصويت عليها واختيار أحدها ليقوم الحزب الذي تم اختياره عن طريق ما يسمى (أغلبية تصويتية) بفرض رؤيته وتوجهه على سائر الأحزاب والتيارات والأقليات الأخرى التي لم تحظ بالاختيار من الناخبين، ومن ثم يمكن القول إن خدعة الديمقراطية الغربية بآلياتها الحزبية والتصويتية أصبحت من أسوأ ما أنتج العقل البشري السياسي، وذلك لعدة أسباب: منها أن جموع الشعب لم تشارك بشكل فعلي حقيقي في وضع واختيار تلك الرؤى التي وضعها أشخاص من المنتمين لتلك الأحزاب، ويقتصر دور الجموع فقط في هذه الخدعة الديمقراطية على اختيار رؤية تسوسه لم يشارك فعليا في صنعها أو إيجادها، بل فرض عليها اختيار إحداها فرضا.

وقد يقول البعض إنه من غير الممكن أن يشارك الشعب بأكمله فردا فردا في صنع رؤى الأحزاب وبرامجها. وللرد على هؤلاء أقول: ومن ذا الذي خول هذه الأحزاب ومن ذا الذي أعطاها تفويضا بالقيام على رسم الرؤى التي تسير أمور المجتمعات، وهذه الأحزاب والحركات السياسية لم تنشأ من ساحات الشعوب إنما هي صنيعة النخب السياسية المرتبطة برجال المال والمصالح والأعمال والأيديولوجيات الذين يمدونهم بالمال والدعاية والإعلام والتبرعات في مقابل أن يكونوا هم المستفيدون الحقيقيون بشكل أو بآخر منهم حال وصولهم للسلطة، ما يعني أن جماعات المال والمصالح تعد هي المشكل والموجه الحقيقي في النظم الديمقراطية لهذه الرؤى وليست الشعوب، مما يعني كذلك أن خدعة الديمقراطية يتم من خلالها تجاوز حقيقي للشعوب لصالح النخب السياسية وأصحاب المصالح ومالكي الأموال والثروات هم من يقفوا من وراء هؤلاء جميعا، حتى أصبحت الديمقراطية أداة شريرة وفكرة شيطانية للعبث بإرادة الشعوب ومصائر الأمم.

## الليبرالية وترقيع فتق الديمقراطية:

إن الديمقراطية الغربية المعاصرة بشكلها الكاذب المخادع بعد تحولها إلى ديكتاتورية أقلية محسنة ومغلفة بما يسمى (حكم الأغلبية) هي عبارة عن ثوب به فتق، هذا الفتق يكمن في استحالة تطبيق الديمقراطية بمعناها الحق في الواقع العملي، ولرتق هذا الفتق تم ترقيع الديمقراطية برقعة تسمى "الليبرالية" للتغطية على هذا الفتق المتسع والمشوه لثوب الديمقراطية، وكذلك لاستعباد ليس الأقليات فحسب بل لاستعباد أكثرية الشعوب ممن لا يأبهون أصلا بالعملية السياسية برمتها، فحين بدأ العمل بالديمقراطية في المجتمعات الغربية كنظام سياسي يعتمد في مضمونه على ما يسمى "حكم الأغلبية" أصبحت الديمقراطية الغربية نظاما سياسيا لا يحمل في مضمونه أي معنى قيمي أو أخلاقي أو حقوقي لمن يسمون زورا بـ "الأقليات"، من هنا رأى المفكرون والساسة الغربيون أنه لابد من البحث عن فكرة أخرى ليتم إلصاقها بالديمقراطية لاسترضاء الأقليات الذين هم في الحقيقة أكثرية الشعوب التي لا تشارك في التصويت واستحمارهم واستغفالهم وتعويضهم عن استحالة مشاركتهم في الحكم أو مشاركتهم في صنع السياسات العامة أو القرارات المصيرية للدولة أو التحكم في مقدراتها، فلم يجد الساسة والمفكرون الغربيون أفضل من فكرة "الليبرالية" ليرقعوا بها الديمقراطية بشكلها الكاذب المخادع، لتصبح الديمقراطية الغربية فيما بعد الترقيع إلى ما يسمى الآن بـ "الديمقراطية الليبرالية".

ومن هنا نشأ الخلط والالتباس بين مفهوم الديمقراطية ومفهوم الليبرالية، مع أن الأصل هو أن الديمقراطية شيء والليبرالية شيء آخر، الديمقراطية تعني في الأصل حكم الشعب لنفسه، لكن كثيرا ما يطلق اللفظ علَى "الديمقراطية الليبرالية" لأنها النظام السائد للديمقراطية في دول الغرب، وبهذا يكون استخدام لفظ "الديمقراطية" لوصف الديمقراطية الليبرالية خلطا شائعا في استخدام المصطلح سواء في الغرب أو في الشرق، فالديمقراطية في ذاتها هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة وحكم ما يسمى كذبا وزرا "الأغلبية"، بينما الليبرالية تؤكد على حماية حقوق الأقليّات والأفراد وهذا نوع من تقييد الأغلبية في التعامل مع الأقليات والأفراد بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي لا تشتمل على دستور يلزم مثل هذه الحماية والتي تدعى بالديمقراطيات غير الليبرالية، فهنالك تقارب بينهما في أمور وتباعد في أخرى يظهر في العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية. وتحت نظام الديمقراطية الليبرالية أو درجةٍ من درجاتهِ يعيش في بداية القرن الواحد والعشرين ما يزيد عن نصف سكّان الأرض في أوروبا والأمريكتين والهند وأنحاء أخرَى. بينما يعيش معظم الباقي تحت أنظمةٍ تدّعي نَوعاً آخر من الديمقراطيّة كالصين التي تدعى الديمقراطية الشعبية.
إذن نتبين مما سبق أنه يتم في الاستخدام الشائع الخلط خطأً بين الديمقراطية في ذاتها وبين "الديمقراطية الليبرالية الحرة"، فالديمقراطية الليبرالية هي بالتحديد شكل من أشكال الديمقراطية النيابية حيث السلطة السياسية للحكومة مقيدة بدستور يحمى بدوره حقوق وحريات الأفراد والأقليات وتسمى كذلك "الديمقراطية الليبرالية الدستورية". ولهذا يضع الدستور قيوداً على ممارسة إرادة الأغلبية. أما الديمقراطية غير الليبرالية فهي التي لا يتم فيها احترام هذه الحقوق والحريات الفردية. ويجب أن نلاحظ بأن بعض الديمقراطيات الليبرالية لديها صلاحيات لأوقات الطوارئ والتي تجعل هذه الأنظمة الليبرالية أقل ليبراليةً مؤقتاً إذا ما طُبقت تلك الصلاحيات أثناء الاضطرابات العامة أو أثناء الحروب أو أثناء حالات الطوارئ سواء كان من قبل الحكومة أو البرلمان أو عبر الاستفتاء.

ومن هنا يلوح في الأفق سؤال هام وكبير ألا وهو: هل بعد إضافة فكرة الليبرالية إلى الديمقراطية أصبحت الديمقراطية الليبرالية الغربية بالفعل نظاما سياسيا له مبادئ قيمية وأخلاقية إنسانية عالمية حقيقية؟، أم أن إلصاق الليبرالية بالديمقراطية كان بمثابة إضفاء بعض مساحيق التجميل الأخلاقية على وجهة الديمقراطية غير الأخلاقي القبيح للالتفاف على حقوق الأقليات في تولي السلطة، ولإخضاعهم لحكم ما يسمى بالأغلبية الكاذبة، ولتفتيت قواهم وتجمعاتهم الأيديولوجية حتى لا تقف في مواجهة ما يسمى بالأغلبية، ولتعويض حرمانهم المطلق من تولي السلطة أو اتخاذ القرارات المصيرية والهامة أو التحكم في مقدرات الدولة؟، وقبل الجواب على هذا السؤال الهام لابد من إلقاء نظرة علمية حول مصطلح الليبرالية، كما جاء في بعض الموسوعة العلمية الغربية على النحو التالي:

الليبرالية مصطلح معرب مأخوذ من (Liberalism) في الإنجليزية، و(Liberalisme) في الفرنسية، وهي تعني "التحرر"، ويعود اشتقاقها إلى (Liberaty) في الإنجليزية أو (Liberate) في الفرنسية، ومعناها الحرية. وهي مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها. والليبرالية حاليا مذهب أو حركة وعي اجتماعي سياسي داخل المجتمع، تهدف لتحرير الإنسان كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة: (السياسية والاقتصادية والثقافية)، وقد تتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع الذي يتبناها، وتتكيف الليبرالية حسب ظروف كل مجتمع، إذ تختلف من مجتمع إلى مجتمع. الليبرالية أيضا مذهب سياسي واقتصادي معاً ففي السياسة تعني تلك الفلسفة التي تقوم على استقلال الفرد والتزام الحريات الشخصية وحماية الحريات السياسية والمدنية.

نقد الديمقراطية الليبرالية:

الليبرالية بهذا المدلول السابق عرضه قد يراه كثير من الناس لا غبار عليه، بل قد يثير لعاب الشعوب والجماعات والأفراد وخاصة الذين يتبنون الأفكار السياسية والنظريات الفكرية الفلسفية الغربية دون وعي. علينا أن نعي ابتداء أن الفكرة أو الفلسفة الليبرالية بمفهومها الغربي ظهرت كردة فعل على ظلم الكنيسة ورجال دينها وعلى الإقطاع في العصور الوسطى، فكما سبق وأن ذكرنا في هذا الكتاب أن الديانة المسيحية لا تحمل في طياتها شريعة تفصيلية جامعة شاملة لتنظيم حياة المؤمنين بها وفض منازعاتهم كما هو الحال في الشريعة اليهودية والشريعة الإسلامية، مما دعا رجال الدين المسيحي الكاثوليك في العصور الوسطى أن يزعموا أن لهم وحدهم السلطان من قبل الله على جميع المسيحيين حكاما ومحكومين، وفي ظل فراغ المسيحية من شريعة إلهية تنظيمية لعبادات الناس ومعاملاتهم وفض منازعاتهم لجأ الباباوات إلى إصدار أحكام مزعومة زعموا أنها تأتيهم من الله مباشرة بحلول روح القدس عليهم، وهنا لا يخفى على أحد مدى المزاجية والجهالة والظلم والاضطهاد والطغيان حين يخضع شعب من الناس لسلطة أو حكم هذه صفته دون حسيب أو رقيب من أحد من البشر، وهذا ما قد حدث بالفعل للشعوب الغربية على أيدي رجال الدين الكاثوليك الذين أذاقوا الشعوب الغربية إبان العصور الوسطى شتى صنوف العذاب والاضطهاد والتضييق والكبت والحرمان والإقطاع والقتل والتنكيل لمن فكر في الخروج على سلطان الكنيسة أو حتى فكر في مخالفتها، ولم تظهر الليبرالية نتيجة لطغيان رجال الدين المسيحي فحسب، بل كذلك ظهرت نتيجة للحروب الدينية الطاحنة في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الجانبين، فجاءت الليبرالية لوقف تلك الصراعات باعتبار أن رضا المحكوم بالحاكم هو مصدر شرعية الحكم وأن حرية الفرد هي الأصل.

أما في العالم العربي فيحاول البعض دون وعي أن يلصق هذا الواقع الديني المزري في أوروبا في العصور الوسطى على الواقع الإسلامي وعلى الدين الإسلامي، ويتناسى البعض أو يتغافل سواء عن قصد أو عن غير قصد أن النزاع الديني في الغرب المسيحي إبان القرون الوسطى كان نتيجة لفراغ الديانة المسيحية من نصوص تشريعية تنظيمية تفصل بين الناس في منازعاتهم اليومية وشئون حياتهم العامة والخاصة، هذا هو ما دعا المذاهب الدينية المسيحية إلى التناحر والتذابح والاقتتال فيما بينها لعدم وجود نص ديني تشريعي يحتكمون إليه أو حتى يختلفون حول فهمه أو تطبيقه في ظل التعايش المشترك كما هو الحال في الدين الإسلامي وبين أتباعه. فقياس وفرض الواقع الديني المسيحي الغربي بكل خصوصياته وملابساته ومفارقاته على الدين الإسلامي وعلى أتباعه لهو ظلم عظيم ولا يقول به سوى من ليس لديه علم أو وعي بحقيقية وطبيعة شرعة ومنهاج الإسلام وحقيقة انتفاء زجود شرعة ومنهاج في المسيحية.

فما كان من ساسة ومفكري الغرب أمام هذا التطاحن الديني والمذهبي الدموي بين الشعوب الغربية سوى دمج الديمقراطية غير الحقيقية التي تم تزويرها تحت خدعة ما يسمى "حكم الأغلبية"، ثم تم دمج فكرة "الليبرالية" بهذه الديمقراطية المزعومة للتخلص من هذا التطاحن الديني الدموي، وكذلك لتحقيق العديد من الأهداف العنصرية والاستعمارية والتسلطية في يد قلة من ساسة الغرب الذين تحللوا تماما من أي وازع ديني أو خلقي أو قيمي أو إنساني في التعامل مع الشعوب الأخرى غير الغربية.

هذه الفئة التي قامت برسم مبادئ النظم السياسية الغربية وتأسيسها منذ البدء لم تستشر شعوبها في إرساء تلك المبادئ ولم تخيرها في تأسيس تلك النظم، وإنما قامت بخداع الشعوب الغربية وإطلاق العنان لشهواتها وغرائزها تحت مسمى القيم الليبرالية حتى لا تتطلع هذه الشعوب يوما نحو السلطة على أساس عقيدي ديني أو عرقي أو جغرافي أو أي أساس أخر سوى الأساس الديمقراطي المخادع الذي تم تحويله وتزويره وإخراجه في صورة خدعة ما يسمى "حكم الأغلبية"، وبعد أن قامت الأنظمة الغربية بتأمين جبهتها الداخلية وبعد أن قامت بتدجين شعوبها وإبعادها تماما عن السلطة والسياسة قامت الأنظمة الغربية مجتمعة بالسطو على شعوب العالم أجمع واحتلالها لعشرات السنين وقامت بنهب خيراتها وسرقة ثرواتها ومواردها لعشرات السنين وقامت بجلبها إلى البلدان الغربية لبناء اقتصادياتها الضخمة وتقدمها العلمي والتقني المذهل الذي نشاهده اليوم.

فعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعد زوال الحقبة الاستعمارية بدأ الغرب في بناء اقتصاده وتضخيم ثرواته وحضارته وتقدمه من خيرات الشعوب المنهوبة للتحول فيما بعد إلى قوى استعمارية جديدة، لكن هذه المرة ليس استعمارا بالجيوش والعتاد العسكري وإنما بالاستعمار الاقتصادي والاستعمار السياسي والاستعمار الثقافي، وخاصة الاستعمار الحقوقي والقانوني المتمثل في مهزلة ما يسمى "مجلس الأمن" و"الأمم المتحدة"، ومن ثم قامت الأنظمة الغربية تغدق على شعوبها كل ما لذ وطاب من ترف الحياة المادي والبذخ الاقتصادي والنفخ والإعلاء من النجومية الإعلامية والفنية والرياضية والتسابق نحو الموضة والأزياء ومساحيق التجميل والأطعمة المصنعة والوجبات الجاهزة كعامل إلهاء للشعوب الغربية لتسكين نوازعها نحو السلطة ونحو عدم الانفتاح على القيم الدينية الإنسانية الحقيقية العامة ونحو التفكير في نظم سياسية جديدة تقوم على العدل والحق والرخاء والشراكة والندية لا للشعوب الغربية والرجل الأبيض فحسب بل لشعوب العالم أجمع.

وليس أدل على ذلك من قراءة التاريخ الاستعماري الغربي القديم وقراءة التاريخ الاستعماري الغربي الحديث الذي مازال مسيطرا على العالم أجمع بقوته وأسلحته الجهنمية المدمرة التي يمتلكها ويرهب بها العالم أجمعه وفي الوقت ذاته يفرض حظرا عنصريا على بقية شعوب العالم الأخرى من امتلاكها، ناهيك عن زرعه لدولة إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط للتخلص من وجود اليهود في المجتمعات الغربية بل واستخدامهم في إنهاك واستنزاف الدول العربية وإلهائهم في صراعات ومساومات سلمية لا نهائية، وناهيك عن موقف الغرب من إيران ومن القضية الفلسطينية ومن أفغانستان ومن العراق والصومال، ناهيك عن مساندة الغرب المنافق لأنظمة الحكم الديكتاتورية الاستبدادية الطاغية في دول ما يسمى بالعالم الثالث لعشرات السنين.

لقد صنع الغرب كل هذا لأن منظومته الفكرية والثقافية والسياسية لا تحمل أي معنى للقيم الدينية الإنسانية الحقيقية العالمية التي تشمل جميع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم وثقافاتهم ودياناتهم، واقتصر فقط في ممارسته لهذه القيم على الشعوب الغربية والرجل الأبيض ومن سار على نهجهم، بل إن القيم الليبرالية التي تتخذ من حرية الفرد محورا لها من يراجع فلسفتها وممارستها الحقيقية الواقعية بين أبناء الشعوب الغربية يرى أنها قيم تقوم على تدجين الفرد الغربي وإغراقه في شهوانيته وغرائزه ومحورته داخل نفسه ومركزته حول ذاته وغرائزه لطمس أي معالم للبناء القيمي الإنساني الجماعي العالمي داخل تركيبة الفرد الغربي وعدم إشاعاتها بين شعوب العالم بلا استثناء، وكذلك عملت النظم السياسية الغربية على إلهاء الفرد الغربي عن التفكير في تغيير النظم السياسية الغربية التي تقوم على عنصرية القيم وعنصرية الحرية وعنصرية الرخاء الاقتصادي وعنصرية امتلاك القوة وعنصرية التقدم التقني والاقتصادي لتبقى مقاليدها في يد الأنظمة السياسية الغربية وحدها ولا تجني خيراتها سوى الشعوب الغربية فحسب، وكذلك لإلهاء الشعوب الغربية عن الاهتمام بسياسات حكوماتها الخارجية التي تقوم على استعمار شعوب العالم الأخرى وحرمانها من أي تقدم إلا تحت مظلة ورعاية ومراقبة الأنظمة السياسية الغربية العنصرية.

وليس أدل على شيطانية غايات فكرة وفلسفة الليبرالية التي تمجد الفرد وتجعله هو محور ذاته بفعل الأنظمة السياسية الغربية من أن الليبرالية الغربية جعلت من الإنسان الغربي إنسانا مشوها فكريا وخلقيا وقيميا، ويظهر هذا جليا في الشعوب الغربية التي تقوم بتأسيس جمعيات للرفق بالحيوان والرأفة به بشكل مفرط، لدرجة اقتنائه للكلاب والقطط والطيور والزواحف والاهتمام المفرط بها والإنفاق عليها ببذخ، بل إن منظمات غربية عديدة هاجمت كثيرا ذبح المسلمين للخراف والنعاج بأعداد كبيرة في عيد الأضحى واعتبرتها جرائم ومأساة في حق الحيوان، بينما هذا الإنسان الغربي هو نفسه يشاهد بأم عينه كل يوم ما تفعل جيوش بلاده بالعراقيين والأفغان والفلسطينيين وبغيرهم من شعوب العالم في كل مكان من أرض الله ولا يحرك له ذلك ساكنا، كل هذا نتيجة للأفكار الشيطانية الإجرامية التي اختلقها الغرب الضال ليحرر الفرد الغربي من القيم الدينية الإنسانية العالمية ويمحوره حول فرديته وحول ذاته ومن ثم تجريده من آدميته المستقلة ليصبح عبدا وخروفا داخل قطيع ينساق خلف غرائزه وشهواته وأهوائه وخلف ساسته المجرمين السفاحين المستعمرين سافكي دماء الشعوب، ويسهل السيطرة عليه من قبل وسائل الإعلام التي تعمل وفق إمكانيات جهنمية لتوجيهه إلى الوجهة التي يريدها تجار الحروب وأصحاب المصالح ومالكي الثروات ونخاسيي الإعلام وأهل السلطة من الرأسماليين المتوحشين.

إن تبني الأنظمة الغربية لفكرة الليبرالية وللمنهج الليبرالي في النظام السياسي الغربي لم يكن عن إيمان حقيقي بقيمة الإنسان -عموم الإنسان أي إنسان- ولم يكن تقديرا لكرامته ولا اعترافا بحريته كما يظن السذج دعاة الليبرالية العرب وكما ينبهرون بها، إذ لو كان الأمر كذلك فإن القيم الإنسانية لا تتجزأ ولا يمكن أن تكون قيما عنصرية تتمتع بها شعوب دون أخرى، أو تمنح لشعوب وتحرم منها أخرى، إنما هي حق إنساني عالمي عام لجميع شعوب العالم وليس للرجل الغربي الأبيض فحسب. بل لقد رأت الأنظمة السياسية الغربية وجوب احترام استقلال الفرد الغربي، وأن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير، والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها. كعامل للتنفيس والاحتواء وتعويضا لقطاعات عريضة من الشعوب الغربية التي لا تمارس السلطة الفعلية ولن تتمكن من ذلك، لأن هذه القطاعات العريضة من الشعوب الغربية لا تنتمي لتلك الأحزاب الرئيسية التي تستبد بالحكم وفق النظام السياسي المحدد الذي لا يسمح للشعوب الغربية بتغييره أو العمل من خارجه، بل إن الشعوب الغربية مجتمعة لا يمكنها إسقاط رئيس دولة غربية أو رئيس وزراء أو حتى وزير تم انتخابه بخدعة ما يسمى "الأغلبية التصويتية" إلا بعد انقضاء مدته أو استقالته هو من تلقاء نفسه، أو ترى جماعات المصالح ذلك فتحشد الجماهير ضده عبر الدعاية الانتخابية المضادة وعبر وسائل الإعلام المأجورة لتحريض جماهير المصوتين عليه فيتم إسقاطه في الانتخابات التجديدية المقبلة.

وكذلك بفعل الليبرالية الغربية التي تركز على تقديس فردية الإنسان ومحورته حول ذاته وشهواته وغرائزه وانكبابه على عمله أو تجارته أو وظيفته أو رحلاته أو سياحته داخل ذلك النظام الرأسمالي المتوحش يتحول الإنسان الغربي إلى مجرد ترس في ماكينة لا تتوقف عن العمل ولا يعلم شيئا عن شئون الحكم أو السياسة الداخلية أو الخارجية لبلاده إلا عبر وسائل الإعلام التي تشكل وعيه بشكل كامل وتوجهه نحو الوجهة التي تريده متجها إليها جماعات الضغط والمصالح وأساطين المال والأعمال والإعلام ضمن صفقات قذرة تتم بين هؤلاء جميعا، وبالتالي تحول المواطن الغربي بفرديته المفرطة إلى مجرد خروف في قطيع من الغنم لا يدري عن أمر دنياه شيئا سوى أنه يأكل ويشرب ويعمل ويمارس هواياته الشخصية والجنسية والعلمية بحرية كاملة وفق قوانين النظام السياسي لبلده الذي يوفر له كل هذا بل ويحميه، ولا مجال هناك للحديث عن الأخلاق العالمية أو القيم الدينية الإنسانية العالمية، فله أن يفعل ما يشاء وأن يعتقد ما يشاء وأن يقول ما يشاء ويعبر عن رأيه كما يشاء لكن دون الخروج عن الخط السياسي المرسوم له ودون الخروج عن النظام السياسي الذي تم رسمه له دون اختيار منه أو مشيئة.

لقد أصبحت الفردية الذاتية في الفلسفة الليبرالية الغربية هي المقدس الذي لا يمس ولا يقتحم ما لم يتجرأ ذلك الفرد على النظام السياسي أو على القانون الذي يحكم شئون البلاد، هذا الإفراط وهذا التطرف الليبرالي في تقديس حرية الفرد في التفكير والتعبير والاعتقاد والاختيار لم يتم السماح به هكذا عبثا في المجتمعات الغربية، ولم يتم ترويجه وإشاعته والحض عليه نتيجة الإيمان الحقيقي بحقوق الإنسان وكرامته وقيمته، كلا، إنما كان لشيء يراد، هذا الشيء يراد من ورائه إشاعة الفردية المتطرفة داخل نفوس الغربيين، لأن الفردية المتطرفة لا يمكنها أن تمثل أي خطر يذكر على النظم السياسية، وكلنا يعلم القول المأثور: (فرق تسد)، لذلك عملت النظم السياسية الغربية بكل قوتها على إشاعة الليبرالية التي تقوم على الفردية المتطرفة لتفتيت وتذويب التجمعات الإنسانية الطبيعية التي خلق الله الناس عليها، كالتجمع حول الأسرة، أو القبيلة، أو العرق، أو الثقافة، أو الدين، أو الجغرافية، أو التجمعات الطائفية من أي لون، أو التجمعات الانفصالية، فلقد عمل الغرب ونجح عن طريق نشر وإشاعة الفكر الليبرالي الفردي المتطرف بين الشعوب الغربية في القضاء على استقلالية وتماسك الأسرة والقبيلة والعرق وأي تجمع ثقافي، أو ديني، أو مذهبي، أو جغرافي، أو طائفي، أو تجمع انفصالي، لأن هذه التجمعات باستقلاليتها وقوتها وتماسكها تمثل خطرا كبيرا على تماسك عنصرية النظم السياسية الغربية وعلى الديمقراطية الغربية المزعومة، وبالفعل استطاعت النظم الغربية من خلال نشر وتجذير الفكر الليبرالي الفردي المتطرف أن تطيح بكل تلك التجمعات البشرية الطبيعية التي خلق الله الناس عليها حتى أصبح المواطن الغربي مجرد فرد محاصر داخل ذاته مسجونا بين جدران فرديته.

ولقد كان تبني النظم السياسية الغربية لفكرة الليبرالية التي تنزع إلى الإيمان المطلق بالفردية القائمة على حرية الفكر والتعبير والإبداع والابتكار واحترام كرامة الإنسان وضمان حقه في الحياة وحرية الاعتقاد والضمير والمساواة أمام القانون وغيرها من القيم في صورتها الموغلة في الفردية لتشجيع الفرد على الابتكار والإبداع ومن ثم تستحوذ النظم السياسية الغربية على توجيه ثمار ذلك الابتكار وذلك الإبداع الذي لا يمكن للفرد أن يستثمره أو ينقله خارج حدود الدول الغربية إلا بموافقة النظم السياسية الغربية التي من خلال قوانينها ومن خلال توجهات سياساتها الخارجية العنصرية ولتأمين مصالحها الداخلية والخارجية تعمل جاهدة على التحكم في أي منتج ابتكاري أو إبداعي وتقوم بالتوجيه بالمنح أو المنع لهذا المنتج أو ذاك خارج حدودها الجغرافية إلا من بعد أن تأذن النظم السياسية الغربية لمن تشاء وترضى، ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة الأمريكية وكل الدول الغربية تفرض كثيرا من العقوبات الاقتصادية والعسكرية والفنية والصناعية والآلية وغيرها على كثير من الدول التي لا تخضع لإملاءاتها ولسياساتها، ويتم ذلك عن طريق الكونجرس الذي يقوم بفرض حظر على الشركات الأمريكية والغربية التي تقوم بتصدير تلك المنتجات إلى خارج الدول الغربية، لمنع تلك الشركات من تصدير منتجاتها إلى خارج البلدان الغربية إلا بموافقة الحكومات الغربية، لإجبار تلك الدول على قبول ما تمليه عليها النظم الغربية.

كذلك تستفيد النظم الغربية من إعلاء فكرة الليبرالية القائمة على الفردية المفرطة في أنها تقوم بقطع الفرد من أي آصرة أو رابطة قرابية أو دينية أو مذهبية أو عرقية أو انفصالية وتتركه فردا وحيدا أعزل ليسهل افتراس وعيه السياسي من قبل وسائل الإعلام التي تعد هي المشكل الوحيد لوعي المواطن الغربي، فالنظم السياسية الغربية تحظر حظرا تاما ممارسة أي نشاط سياسي جماعي معارض إلا داخل المؤسسات السياسية الرسمية حزبية كانت أو غير حزبية وبالآليات التي أقرتها النظم السياسية، فمما هو معلوم للقاصي والداني أن المؤسسات السياسية الرسمية الغربية الموجودة بالفعل سواء كانت معارضة أو غير معارضة هي جزء أساسي من النظام السياسي، هذه المؤسسات قامت على تأسيسها تيارات سياسية ومالية واقتصادية وإعلامية تملك إمكانات مالية ضخمة تستطيع تمويل هذه المؤسسات والإنفاق عليها ببذخ عن طريق التبرعات المادية الهائلة وغيرها من أساليب التمويل والإنفاق، وتستطيع كذلك صنع الحشد الجماهيري والشعبي لصالحها عن طريق أرباب الإمبراطوريات الإعلامية الكبرى، فيما إن الأفراد العاديين أو التجمعات الصغيرة من خارج هذه المؤسسات لا يمكنها إنشاء مؤسسات حزبية بهذه الضخامة والتأثير.

وبالتالي لم يكن أمام الشعوب الغربية كأفراد موغلين في الليبرالية الفردية إلا صناديق الاقتراع الرسمية للإدلاء بآرائهم بكل حرية لكن بالاختيار بين هذا أو ذاك مما لم يشاركوا في صنعه وإيجاده، أو أن يختاروا مقاطعة الانتخابات بالكلية والانكفاء على الذات وتلبية شهواتها والانشغال بشئونها الخاصة، وهذا هو حال الغالبية العظمى من الشعوب الغربية، وفي هذا قتل حقيقي لآدمية الإنسان وقطعه واستئصاله من محيطه الإنساني العام.

إن الدولة في النظم الغربية لا تتدخل إطلاقا في العلاقات الاجتماعية بين المواطنين وخاصة العلاقات الجنسية المشروعة منها وغير المشروعة والشاذة، وكذلك لا تتدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية إلا في حال الإخلال بمصالح الفرد، لأن العلاقات الاجتماعية وخاصة العلاقات الجنسية وكذلك الأنشطة الاقتصادية لا تمثل أي خطر على النظم السياسية الغربية، بل إن إطلاق العنان وإطلاق الحريات المفرطة للأفراد في إقامة مثل هذه العلاقات وفي ممارسة هذه الأنشطة يعد عامل إلهاء لهذه الشعوب وتغييب لها عن الممارسات السياسية الخارجية العنصرية لهذه الأنظمة، إذن الديمقراطية الليبرالية الغربية لا تقتصر فحسب على حرية الأغلبية في أن تفعل ما تشاء وتقرر ما تريد، بل في مقابل ذلك تمنح الليبرالية الغربية من يسمو بـ "الأقليات" وهم غالبية الشعوب الحرية السلمية التامة في أن تعارض كما تشاء وتعارض من تشاء حتى وإن لم تثمر معارضتها عن أي تأثير يذكر، تماشيا كما ذكرنا من قبل مع القول المأثور: (القافلة تسير والكلاب تعوي)، ولقد شاهدنا جميعا المظاهرات المليونية الحاشدة التي قامت بها بعض الشعوب الغربية المعارضة لغزو العراق في عام 2003م ولكن لم تشكل هذه المظاهرات أي رادع يذكر للأنظمة الغربية لإثنائها عن غزو العراق، ولقد تم غزو العراق بالفعل وأخرجت الأنظمة الغربية الاستعمارية المجرمة ألسنتها لشعوبها بكل صفاقة وفي وقاحة منقطعة النظير، هذه بكل بساطة هي "الديمقراطية الليبرالية" التي تبشرنا بها النخب السياسية والفكرية العربية فاقعة السذاجة.

كذلك من خصائص الليبرالية الغربية الموغلة في تقديس فردية الإنسان، وما تمثله تلك الخصائص من خطورة ووحشية على آدمية وإنسانية الإنسان واستئصاله من طبيعة تكوينه الجماعي والاجتماعي المستقل أنها عكس الأفكار "الراديكالية" أي تلك الأفكار التي تنغلق على فكرة بعينها أو مرجعية بعينها، سواء كانت تلك الفكرة أو المرجعية دينية أو سياسية أو اقتصادية أو أخلاقية أو قيمية أو من أي لون كانت، وإلا أصبحت الليبرالية مذهبا من المذاهب أو أيديولوجية من الأيديولوجيات، فالمذهب الوحيد والعقيدة الوحيدة والفكرة الوحيدة والأيديولوجية الوحيدة التي تقدسها الليبرالية هي حرية الفرد، فلا مرجعية ولا مذهب ولا أيديولوجية للفرد المعتنق لليبرالية في هذا الفضاء الواسع من التمركز والتمحور حول الإنسان الفرد، وحول حريته، وحول ذاتيته المفرطة سوى أن كل فرد ليبرالي هو مرجع لذاته ومرجع لحريته ومرجع لفردانيته. وحين يتم اختزال الليبرالية التي تقوم على الفردية في إطلاق العنان للإنسان لممارسة غرائزه وشهوانيته المالية والجنسية، وإطلاق العنان لحريته في أن يفعل ويعتقد ما يشاء داخل حدود ذاته وفرديته فحسب وبصورة مفرطة ومتطرفة هكذا، فهنا يجب أن نتوقف ونضع أمام الليبرالية عشرات من علامات الاستفهام والتعجب.

والخطورة الحقيقية الأخرى على الجنس البشري في هذا الفكر الليبرالي اللاإنساني تكمن في انعدام وجود المرجعية الدينية أو القيمية أو الأخلاقية سوى مرجعية ما يراه الفرد بذاته، وهذا يجعل ممن يمسك بزمام السلطة في هذا الغرب المنفلت من كل قيمة ومن كل خلق ومن كل قيد أن يفعل أي شيء يمكن لإنسان تصوره أو لا يمكن تصوره في الشعوب الأخرى دون رادع من ورع ودون وازع من دين أو أخلاق أو قيم، وهذا مشاهد في كل سلوكيات وممارسات النظم السياسية الغربية في البلدان العربية والإسلامية وغير العربية والإسلامية وفي مراوغتها مع حقوق الفلسطينيين المشروعة وكذلك في مساندة النظم الغربية الإجرامية للكيان الإسرائيلي الإجرامي العنصري، هذا مثال واحد من عشرات الأمثلة التي تدلل على هذا الفضاء المتسع من انعدام القيم والأخلاق الدينية والإنسانية في الفلسفة الليبرالية الغربية التي يريد أن يستوردها لنا دعاة الليبرالية العرب.

أما نحن أبناء العالم العربي وخاصة المنبهرين منا بالغرب اللاأخلاقي فدائما ما ننظر إلى الليبرالية الغربية من منظورين مختلفين المنظور الأول: من دعاة الليبرالية الذين يرونها تحض على حرية الفرد في أن يفعل ما يشاء ما لم يضر أو يعتدي على الآخرين، فله الحق حتى أن يكون منحلا جنسيا أو أخلاقيا لكن لا يقوم باغتصاب فتاة، وله أن يشرب الخمر كما شاء لكن لا يقوم بقيادة سيارة وهو مخمور. وأن يعتقد ما يشاء من فكر أو معتقد أو دين ولكن لا يفرضه على الآخرين. أما المنظور الآخر: فهم دعاة التيارات الدينية حيث يرون الليبرالية أنها دعوة للانحلال الخلقي وفساد للفرد ودعوة للتهتك لأنها لا تجرم أو تحرم مثلا الشذوذ الجنسي، ويرون أن الإباحية الجنسية ومنها الشذوذ ولو بشكل شخصي أو جماعي وشرب الخمور هو عين الانحلال والفساد الذي سيضر بالمجتمع عاجلا أو آجلا. بينما لم ينظر كلا الطرفين إلى هدف آخر من الليبرالية الفردية هذه، ألا وهي إشغال الأفراد بنزواتهم وغرائزهم الشخصية سواء كانت جنسية أو مالية أو ربحية أو اقتصادية أو فكرية أو أي شيء آخر مع الدفع الإعلامي للجماهير وبكل قوة لتبني هذا الاتجاه والتشجيع عليه لإلهاء الجماهير والأفراد عن الاهتمام بالحكم أو التطلع إلى السياسة وانكفاؤه على شأنه الشخصي الغريزي الشهواني، وهذا هو ما حدث ويحدث بالفعل في الغرب في ظل الخدعة الكبرى أو ما يسمى "الديمقراطية الليبرالية".

وكذلك لم ينتبه كلا الطرفين إلى أن الديمقراطية يتم من خلالها تسليم مصائر الشعوب والأمم لعبث فئة بعينها من المهتمين بالسلطة والحكم ومن ورائهم رجال المال والأعمال ومن وراء الجميع وسائل الإعلام المسيسة والمأجورة والتي توجه ميول الناس الذين لا وعي لديهم ولا علم وتوجه رغباتهم وتعمل بشكل جهنمي على ترجيح كفة عن أخرى ونظام على نظام وشخص على شخص ورؤية على رؤية وحزب على آخر. ومن أكبر البراهين على عبث الديمقراطية بمستقبل ومصائر الشعوب والأمم أنها أتت بـ "أدولف هتلر" إلى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، والديمقراطية هي التي أتت بـ "جورج بوش" الابن الذي دمر العراق ودمر أفغانستان ونكل بالشعب الفلسطيني على يد المجرم "شارون" عبر النظام الديمقراطي الليبرالي وعبر انتخابات حرة ونزيهة.

وكذلك لم ينتبه كلا الطرفين إلى أن من أهم أسباب نجاح الديمقراطية الغربية أن الشعوب الغربية ليست لديها مرجعية تشريعية حقة صادرة من سلطان إلهي حق يخضع لها الإنسان عن رضى وتسليم حتى وإن لم توافق هواه وميوله، أما في الشعوب الغربية حين يصدر التشريع غير موافق لهواه وميوله فعلى أي أساس قيمي وأخلاقي وإنساني تسلم النفس وترضى بهذا القرار سوى خضوعه وتسليمه لقرارات الأغلبية الكاذبة التي كان كل من المال والإعلام الموجه والمسيس وأصحاب المنافع والمصالح وراء غلبتها. فلا يوجد وازع قيمي أخلاقي يقيني، وهذا نابع من الفراغ التشريعي الإلهي الحق الذي قد يقبل به المرء في رضا وتسليم.

وكذلك لم ينتبه كلا الطرفين إلى أن العامل الأول والأكبر والأهم لنجاح "الديمقراطية الليبرالية" في الغرب هو ذلك الرخاء والثراء والترف الذي ترفل فيه الشعوب الغربية والذي تجد فيه ما يغنيها عن التصدي لرأي الأغلبية ومناوئته، وكذلك من أهم أسباب نجاح الديمقراطية الليبرالية أن النظم الغربية استطاعت عن طريق التطور التقني والتكنولوجي إلى ميكنة أخلاق الناس، أي أن هذه الأخلاق التي ينبهر بها البعض في الشعوب الغربية هي أخلاق تعمل بصورة ميكانيكية، وليس عن قناعة شخصية أو عن إيمان بالله الحق أو تقوى للخالق سبحانه، بل إن الأخلاق التي يتغنى بها الناس في الشخصية الغربية هي أخلاق (مميكنة) وليست أخلاق نابعة من وازع ديني أو ضميري أو إنساني خالص، ولك أن تشاهد في المجتمعات الغربية مدى تحكم الآلة في كل تصرفات وتحركات الناس لتخضعهم رغم أنوفهم شاءوا أم أبوا للقوانين واللوائح والأخلاق، وساعدهم في ذلك حالة الثراء الفاحش الذي تمرح فيه الدول الغربية وترتع، ومن هنا ينشأ الإنسان الغربي منذ طفولته تحت سطوة الآلة سواء كانت كاميرات مراقبة أو أجهزة الكشف المذهلة أو أجهزة التقصي والبحث فائقة التطور، مما جعلت الإنسان الغربي مراقبا ومحاصرا بالآلة في كل مكان وتعد عليه أنفاسه، وفي المقابل هناك حالة الرخاء والترف المعيشي الذي قد يرى فيه المرء في الغرب ثمنا مقبولا ورشوة مناسبة مقابل خضوعه للأخلاق والقيم الآلية المميكنة التي تحاصره وتلاحقه في كل مكان يذهب إليه أو يتحرك فيه خارج بيته.

وفي المحصلة النهائية لقد وضعت الأنظمة السياسية الغربية حزمة مما أطلقوا عليها "مبادئ حكم الأغلبية" ظهرت في صورة خطة محكمة لحصر الشعوب الغربية في الزاوية واستغفالها واستحمارها في ظل ما يسمى "الديمقراطية الليبرالية"، هذه المبادئ تم تصميمها حتى تحافظ الفئة القليلة المسيطرة على مقدرات ومصائر الشعوب التي تسمى كذبا وتضليلا بـ (الأكثرية) على قدرتها على الحكم الفعال والاستقرار والسلم الأهلي والخارجي ولمنع الأقليّات من تعطيل الدولة وشلّها، هذه المبادئ هي: (مبدأ حكم الأكثرية، مبدأ فصل السلطات، ومفهوم تجزيء الصلاحيات، مبدأ التمثيل والانتخاب، مفهوم المعارضة الوفية، مفهوم سيادة القانون، مفهوم اللامركزية، مبدأ تداول السلطات سلميا)، وكما سبق وأن بينا أن هذه المبادئ قام بتصميمها من يسمون زورا بـ (الأغلبية)، وهم في الحقيقة والواقع ليسوا بأغلبية ولم يأتوا إلى السلطة بأغلبية حقيقية على الإطلاق، لأن جميع من يذهبوا للإدلاء بأصواتهم في أي دولة من دول العالم بما فيها دول أساطين الديمقراطية الغربية هم أقلية ضئيلة جدا ممن يحق لهم التصويت، وفي أحسن الأحوال لا تتعدى نسبتهم 10% من مجموع الشعب الكلي، وخروج هذه الأقلية للتصويت لا يكون عن قناعة هؤلاء الشخصية بجدية النظم السياسية الغربية وروعتها، بل يخرجون تحت ضغط الدعايات الانتخابية الطوفانية الجهنمية وتحت ضغط وشحن وتحريض وسائل الإعلام المأجورة. بل إن الإنسان في الديمقراطية الليبرالية الغربية محروم من اتخاذ أي قرار نابع من ذاته في وجود مؤثرات خارجية تحرمه من ذلك، فالإنسان الغربي مستعبد بشكل مفزع للإعلام، خاصة إذا كان ذلك الإنسان بعيدا عن التخصص والعلم، وبالتالي فرأيه لا يكون مبنيا على علم ووعي حقيقيين، بل مبنيا على مؤثرات خارجية مدفوعة الأجر أو مسيسة أو موجهة لكل ميوله واتجاهاته بلا استثناء.

والخلاصة، إن الليبرالية الغربية لا علاقة لها بالسلوك الديني أو غير الديني للفرد، ولا علاقة لها بالسلوك الأخلاقي أو غير الأخلاقي للفرد، بل إن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد أيا كان ذلك السلوك طالما أنه لم يخرج عن دائرته الفردية الشخصية الضيقة الخاصة، كذلك لا علاقة لها بالمعتقد الديني أو المعتقد غير الديني طالما أنه لم يخرج عن دائرة الفرد الذاتية الشخصية الضيقة الخاصة، لكنها في قمة الصرامة والحسم إن خرج ذلك السلوك في إطار دعوي أو عمل جماعي. وحسبك هذا تفتيتا لمعاني الجماعات الإنسانية واستئصالا لقيم التنوع الجماعي الآدمي الطبيعي المستقل الذي خلق الله الناس عليه ووصفه بقوله سبحانه:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (13_ الحجرات).

(للحديث بقية في الجزء السابع)


نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]
فيس بوك: https://www.facebook.com/nehro.tantawi.7
مقالات وكتابات _ نهرو طنطاوي:
https://www.facebook.com/pages/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%87%D8%B1%D9%88-%D8%B7%D9%86%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A/311926502258563



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الخامس
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الرابع
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الثالث
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الثاني
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الأول
- (مسيحيون أم نصارى)؟ حوار رمضاني مع الأستاذ (أسعد أسعد)
- نبضة قلب في حياة ميتة
- لماذا توقفت عن كتابة مقالي اليومي في (روزاليوسف)؟
- (الإلحاد) هو الابن الشرعي للعقائد المسيحية
- (ليندي انغلاند) (أنجلينا جولي): يد تبطش والأخرى تداوي وتطبطب
- الفرق بين الإنسان الواقعي والإنسان الافتراضي
- الفرق بين -حقائق الأشياء- و-زخرف الكلمات- و-عوالمنا الخاصة-:
- آخر الهوامش: هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 ي ...
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (26)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (25)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (24)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (23)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (22)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (21)
- هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 يناير- (20)


المزيد.....




- صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها ...
- مشاهد مستفزة من اقتحام مئات المستوطنين اليهود للمسجد الأقصى ...
- تحقيق: -فرنسا لا تريدنا-.. فرنسيون مسلمون يختارون الرحيل!
- الفصح اليهودي.. جنود احتياط ونازحون ينضمون لقوائم المحتاجين ...
- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب - الجزء السادس