أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلامة كيلة - اليسار السوري في ميله الليبرالي















المزيد.....


اليسار السوري في ميله الليبرالي


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 1253 - 2005 / 7 / 9 - 09:47
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


إذا كان اليسار السوري (الشيوعي، الماركسي) سنوات السبعينات والثمانينات يُعظّم من ضرورة الاشتراكية. بعضه يؤكد على تحقيقها العملي (الحزب الشيوعي من خلال التحالف مع السلطة)، وبعضه يعتبر أنه يحضّر لتحقيق الثورة الاشتراكية التي باتت راهنة (حزب العمل الشيوعي)، حيث كان هؤلاء يتوافقون على أن «سمة العصر» هي " الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية».
وإذا كان شقٌ من هذا اليسار (المكتب السياسي) بات يميل إلى التأكيد على «التغيير الديمقراطي»، من منظور ماركسي كما كان يبدو، وبالتأثر بمفاهيم الثورة الوطنية الديمقراطية.
فقد أفضى انهيار المنظومة الاشتراكية سنوات 1989 ـ 1991، إلى انقلاب هائل طال قطاع كبير من هؤلاء، خصوصاً في أحزاب المعارضة (العمل/ المكتب السياسي/ العمال الثوري)، لكنه طال قطاع من أعضاء الحزب الشيوعي المشارك في السلطة كذلك. تمثّل في تعظيم الديمقراطية، وتحويلها إلى بند وحيد في أجندة المجتمع السوري، والى إعتبار أنها «الحل السحري» لكل مشكلات المجتمع، وهي «الشعار العريض» الذي يجبّ كل الشعارات الأخرى، والهدف الوحيد الذي يلغي التفكير بأهداف أخرى، خشية «عدم التركيز الكافي» على هذا الهدف، أو خشية العجز عن «حفظ» هدفين (أو أكثر) في الآن ذاته، أو لكي لا يُشرك به أحد من أجل تحقيق الوحدانية المطلقة. وحيث بدأ «التنغيم» عليها كما كان الوضع حينما كانت الاشتراكية هي الهدف الوحيد في الأجندة، مع ملاحظة أن ذلك كان يقتضي (أو يفترض) أن يكون الشعار (الاشتراكي سابقاً, الديمقراطية الآن) عمومياً, ورومانسياً.
الأمر الذي كان يجعل «الطرح الاشتراكي» يرتبط بممارسة منافية للاشتراكية, وهو يجعل «الطرح الديمقراطي» يرتبط بممارسة غير ديمقراطية.
وإذا كانت الديمقراطية ضرورة, وهي هدف أساسي بلا شك, وله أولوية ما, لأن تفعيل الحركة المجتمعية يفترض الديمقراطية (رغم أن الديمقراطية لن تتحقق إلا عبر تفعيل الحركة المجتمعية, أي حركة العمال, والفلاحين, والفئات الوسطى الريفية والمدنية).
وبالتالي يمكن أن تفضي هذه الضرورة إلى «شطط», من خلال عدم المقدرة على مسك موقعها في إطار صيرورة التغيير المجتمعي, ولان الاستبداد الطويل يمكن أن يضخّم الحاجة إلى الديمقراطية, في إ طار الشعور الذاتي للأفراد، وطبعاً دون أن تكون مفهومه, أو ممتلكة, ربما نتيجة هذا السبب بالذات, كونها جاءت كرد فعل على فعل الاستبداد ذاته.
إذا كانت الديمقراطية ضرورة, فإن المشكلة التي يمكن أن تكون خطيرة, هي الميل الليبرالي الكاسح الذي بات يسكن اليسار, والذي أصبح هو الحاكم لوعي قطاعات واسعة أتت من مختلف أطياف اليسار السوري. وبقدر ما كان «اشتراكياً» بات ليبرالياً. بقدر حماسه للاشتراكية أصبح متحمساً لليبرالية. لهذا فهو ضد «القطاع العام» من حيث المبدأ, وليس ضد «القطاع العام» القائم الآن, لأنه يرى أن الديمقراطية لا تقوم إلا على الملكية الخاصة واقتصاد السوق, وان قوة الدولة المستبدة نتجت عن تحكمها بالاقتصاد. دون أن يفسِّر العلاقة بين الاستبداد و«القطاع العام», أو أن يحدِّد العلاقة بين التحولات المجتمعية التي تحققت وقوة الدولة. وبالتالي ليكون الربط بين الديمقراطية والليبرالية ربطاً صورياً, يقوم على «منطق نقي» كما كان الوضع في الماركسية القديمة, عبر ملاحظة هذا الربط في صيرورة تشكُّل الماركسية, ومن ثم الانطلاق من ضرورة المرور في الصيرورة ذاتها, أي الانطلاق من نقل تلك الصيرورة إلى واقعنا. بمعزل عن تحولات الواقع, واختلاف الظروف, و«الواقع الملموس».
وهو ما يؤكد استمرار «العقل النصي الميكانيكي» الذي حكم الماركسيين, لكن مع تحويل الشعار فقط. وهو تحويل يمكن أن يعيد هؤلاء (أو قسم منهم) إلى رفع شعار الاشتراكية مجدداً, في حال «انتهى الاستبداد», ومال وضع الحركة اليسارية إلى النشاط والفِعل. أو يمكن أن يلقي بهم إلى التكيُّف مع أي تكوين سلطوي (رأسمالي كما هو مفترض) قادم.
هذا الميل الليبرالي يحتاج إلى انتقاد ليس من موقع أيديولوجي, فهذا يجعل الانتقاد مثلوماً, ويقود إلى حوار هو أقرب إلى الـ «تناحر», لان أساسيات الحوار لن تكون متوفرة مادامت المسألة تطرح في إطار «إما الاشتراكية أو الليبرالية». لكن يجب ملاحظة الواقع ذاته, والتأسيس انطلاقاً من ممكناته, لان المسالة تتعلق في الإجابة على سؤال: هل تقود الليبرالية إلى خدمة الطبقات الشعبية, مادام اليسار, بمعناه العام, يعني ذلك بالتحديد؟ هل تقود إلى تحسين إمكانيات العمل والوضع المعيشي والتعليمي والصحي؟ أم تفضي إلى عكس ذلك تماماً؟
من زاوية أخرى, هل تفضي الليبرالية إلى تحقيق «التطوّر الرأسمالي»؟
بمعنى هل أن آليات السوق ودور البرجوازية هما اللذين يقودان إلى تطوير القوى المنتجة في الزراعة والصناعة, وتطوير الخدمات ومجمل الاقتصاد, وزيادة التراكم الرأسمالي؟
فإذا كان يمكن التضحية بوضع الطبقات الشعبية من أجل تحقيق التطور, الذي يعني بالتحديد التطور الصناعي الزراعي, فهل أن الليبرالية تقود إلى ذلك؟
ولاشك في أن لليسار دور أساسي في تحقيق هذه أو تلك, أو أن طابعه اليساري نابع من دوره في هذه أو تلك, أو في ـ في الغالب ـ هما معاً. وبالتالي ليس أي منهما أو كليهما. إن يساريته هي نتاج كونه يقدم تصوراً يخدم التطور والطبقات الشعبية. أو بشكل آخر, إن يساريته هي نتاج كونه يسعى لتهديم البنى التقليدية, والى تجاوز الوعي التقليدي, من أجل تأسيس بنية مجتمعية تمتلك الحداثة. وتبني القوى المنتجة الحديثة, وتؤسس البنية السياسية الفكرية الحديثة كذلك.
لهذا يطرح السؤال: ماذا تقدم الليبرالية الآن؟ و بماذا تتقاطع مع مطاح اليسار؟ وبالأساس من هي القوى الحاملة للمشروع الليبرالي؟ بمعنى هل يمكن للمشروع الليبرالي أن يتحول إلى مشروع واقعي؟ وبأية صيغة؟
سأشير أولاً إلى أن «الحلم اليساري» بالليبرالية يتخذ مظهرين, أو أن الليبرالية في الخطاب اليساري تُطرح في سياقين، الأول: يمكن أن أسميه «تقليدي»لأنه يكرّر منطق الحركة الشيوعية الذي ساد لثلاثة عقود تقريباً (1937-1964), والقائم على أن الهدف الواقعي هو تحقيق التطوّر الرأسمالي في إطار نظام ديمقراطي برلماني. وهنا ترتبط الليبرالية والديمقراطية في إطار دفع البرجوازية لقيادة السلطة و المجتمع. ولهذا يتركز نشاط اليسار في كسب البرجوازية, وفي دعمها لكي تتحول إلى سلطة, لأنها سوف تحقق ذلك. وهنا السوف هذه تطرح في سياق حتمي، للثقة المفرطة في الربط الحتمي بين البرجوازية والديمقراطية والتطور الرأسمالي. وهذه الثقة المفرطة يفوح منها الطابع «الأيديولوجي» للفكرة, لأنها تكرّر سياق التطوّر الرأسمالي الأوربي, في وضع يختلف جذرياً عن وضع أوربا حينما تطوّرت الرأسمالية.
وإذا كان يمكن مناقشة هذه المسألة من خلال البحث في التكوين الاقتصادي العالمي الراهن, وهل تسمح سيطرة الرأسمالية (الأوربية/ الأمريكية/ اليابانية) على العالم, وتفوّقها، والهوة التي أوجدتها بين ( الشمال والجنوب), ولكن أيضاً التكوين الاحتكاري الذي باتت تتشكل فيه، هل تسمح بأن يتحقّق التطوّر الرأسمالي في الأمم المخلَّفة؟ حيث سنلمس هنا أن نشوء الرأسمالية في المراكز بات عنصر فِعل, وعنصر فِعل حاسم, في التطوّر العالمي, وبالتالي بات تأثيرها على التطوّر كبير، ويفرض البحث في الطرق «غير العفوية»، و«غير التقليدية» للتطوّر في الأطراف. حيث لم يعد ممكناً أن يتحوّل التراكم الرأسمالي البسيط إلى التوظيف في الصناعة، من أجل أن يبدأ عملية تراكم طويلة لكي يفرض أن تتحوّل تلك الأمم إلى أمم صناعية، وفق صيرورة الرأسمالية الأوروبية التي اتخذت أكثر من قرن ونصف لكي تتبلور في الشكل الذي اتخذته. وهو غير ممكن لأننا في عالم واحد، يفرض التطوّر الرأسمالي أن يتحقق في إطار سوق مفتوح (اقتصاد السوق)، الأمر الذي يجعل فارق التطوّر، وفارق التراكم الرأسمالي الهائل، والتقنية، والسوق العالمي الذي تحظى به رأسمالية المراكز، عنصر تأثير حاسم يخمد ميول التصنيع والتطور في المهد، لهذا يميل الرأسمالي المحليّ للنشاط في القطاع المكمّل للنمط الرأسمالي، أي في قطاع التجارة /الخدمات/ المال، لأنه يعي أن وضع الرأسمال في قطاع الرأسمال الثابت (أي في الصناعة)، في عالم بات محكوم باحتكارات هائلة، يعني دمار الرأسمال ذاته.
لكن يمكن مناقشة هذه المسألة في الوضع العياني، فأين هي الرأسمالية التي يمكن أن يكون لديها مشروع بناء الصناعة أو تطوير الزراعة؟ عادة كان يُذكر اسم رأسمالي واحد، هو خالد العظم، ويمكن الآن الإشارة إلى رأسمالي واحد كذلك هو رياض سيف. لكن المسألة هنا ليست فردية، بل هي مسألة ميل فئة استحوذت على التراكم المالي، إلى توظيفه في قطاع الصناعة. هذا ما لاحظناه مع تجربة طلعت حرب وبنك مصر في مصر، ولم يكن واضحاً في سوريا قبل الإصلاح الزراعي و التأميمات. وبدا التشابك جلياً بين ملاّك الأرض (الإقطاع) والبرجوازية المتشكلة في المدن، خصوصاً من خلال تحويل التراكم لدى ملاّك الأرض إلى النشاط التجاري في الغالب، أو لبعض الصناعات البسيطة أو التقليدية (النسيج). الأمر الذي فرض الحفاظ على التناقضات في الريف (الفلاحون ضد الإقطاع)، وبطء استيعاب جيش العمل الاحتياطي في المدن، والحفاظ على التكوين التقليدي للمجتمع. لهذا ترابطت الصراعات الطبقية في الريف والمدينة، مع الشعور العام بالحاجة لتحقيق التطوّر، الذي كان يعني بالخصوص الصناعة، في عملية متسارعة تحقّق التراكم السريع الذي يلبّي حاجات المجتمع، ويزيل الطابع اللامتكافىء في العلاقة مع المراكز الرأسمالية.
وهذا ما جعل انقلاب عسكري يقود إلى تغييرات عميقة، حيث عبّر عن الميل العفوي للريف المضطهد من أجل إلغاء اللاتكافؤ الداخلي، وإعادة توزيع الثروة بما يزيل الاختلال الذي كانت تحدثه برجوازية المدن. ولقد قلت «الميل العفوي» لأشير إلى أن السلطة الجديدة تعاملت انطلاقاً من الشعور العميق بالغبن، لهذا جاءت تصرّفاتها كردّة فعل على اضطهاد تاريخ، وتوصيف ممارسات السلطة منذئذ ربما يوضّح ذلك.
الآن، هل في الواقع السوري برجوازية يمكنها أن تحمل مشروع التطوّر البرجوازي؟ سيشار إلى رياض سيف، لكنه فرد، حيث يجب ملاحظة وجود ميل لدى شريحة من الرأسمالية تسعى لتحويل الرأسمال من النشاط التجاري إلى النشاط الصناعي أو الزراعي. لقد حوّل جزء من الرأسمالية (وفي الغالب الوسطى)، نشاطه إلى الصناعة (في الغالب الخفيفة، أو الصناعة الزراعية) خلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة، أي في ظل الحماية التي تفرضها الدولة، وهو الآن الأشدّ خوفاً من إنفتاح السوق، ولقد لعب دوراً في تأخير التوقيع على إتفاقات الشراكة السورية الأوروبية، ولازال يطالب بحماية الدولة كذلك، لأنه يعتقد بأن الانفتاح وتعميم اقتصاد السوق سوف يؤدي إلى دمار نشاطه الصناعي.
وكما يشير د. نبيل سكر أن القطاع الخاص ضعيف و مفتّت و صغير " و لم يستطع بعد إفراز برجوازية لها مصالح عميقة داخل الوطن تجعلها تطالب بالمشاركة في إتخاذ القرار " ، فمن أين نأتي بها لتحقيق التطوّر الرأسمالي؟
هنا تكمن مشكلة اليسار الليبرالي. فهو يتعلّق بـ«حلم» لا حامل له في الواقع. وهو بالتالي لا يرى الواقع، لهذا يغرق في «الأيديولوجيا»، التي غالباً ما يتهم أخصامه بها. إن تقديم تصوّر يفرض البحث في الواقع عن حامله، و إلا كان التصوّر وهماً، وهذا يفرض السؤال لماذا لم تتشكّل الطبقة المعنية بحمل المشروع البرجوازي؟ والمسألة هنا لا تتعلق بهيمنة الدولة على الاقتصاد لأن البلدان الأخرى التي ظلت «تتطوّر» في ظل الاقتصاد الحر مثل المغرب لم تتشكّل فيها طبقة برجوازية معنيّة بهذا المشروع. وبالتالي يجب الإجابة على السؤال: لماذا يتمركز التراكم الرأسمالي المحلي في قطاع التجارة / الخدمات / المال؟
إذن، اليسار الليبرالي يقدّم تصوراً للتطوّر لا حامل له، وبالتالي فهو تصوّر وهمّي، قاد في الماضي الحزب الشيوعي السوري إلى الكارثة، وربما يقود الآن لكارثة أشدّ.
فقد عبّر الريف عن نقمته فقط لأن الحزب الشيوعي لم يكن يحمل حلم التغيير. وربما نشهد في السنوات القادمة ردّ فعل قوى أخرى تكون أشد تدميراً إذا لم يحمل اليسار مشروعه الخاص.
السياق الثاني الذي تُطرح فيه الليبرالية في الخطاب اليساري: هو الاندماج في العولمة، والحماس الشديد لليبرالية الجديدة التي تحملها. وهذا يستتبع لدى قطاع من اليسار الليبرالي القبول بكل السياسات التي تمارسها الرأسماليات الإمبريالية، والدول التي تمثلها، خصوصاً سياسات الدولة الأميركية.
وهنا لا تعود المسألة تتعلّق بمشروع برجوازي محليّ للتطوّر، بل تتعلّق باعتبار الرأسمالية (الأميركية خصوصاً) هي حاملة رسالة التطوّر والحداثة والديمقراطية. حيث يجري التأكيد على ضرورة سيادة اقتصاد السوق، وإنهاء دور الدولة الحمائي، والاستثماري، والاجتماعي (ضمان حق العمل، الضمان الصحي والاجتماعي، مجانية التعليم، توازن الأسعار والأجور..)، وإطلاق يد السوق لكي تحقّق «المعجزات»، كما يجري ربط ذلك بالديمقراطية، على اعتبار أن اقتصاد السوق ملازم للديمقراطية «حتماً».
فهل أن الاندماج في الاقتصاد العالمي، وتعميم اقتصاد السوق، والخصخصة، عبر انسحاب الدولة من الدور الذي لعبته خلال العقود الماضية، سواء فيما يتعلق بدورها الحمائي (التحكم بالتجارة الخارجية) والاستثماري (القطاع العام)، والاجتماعي (وهو ما حدّدناه للتو)، يقود إلى تطوير الاقتصاد، واستمرار بناء القوى المنتجة الصناعية والزراعية؟ وبالتالي تطوير الوضع المعيشي للفئات الشعبية؟ وضمان حق العمل والضمان الاجتماعي والصحي ومجانية التعليم؟ أو أيٍّ منها على الأقل؟
طبعاً، لا أستغرب أن اليسار الليبرالي لم يلحظ تجارب البلدان الأخرى، ولم يُرد أن يلحظ هذه التجارب لأنها توضّح عكس ما يحاول أن ينشر من أفكار، أو لأنها تضفي قتامة على التصوّر الوردي الذي يرسمه للاندماج في العولمة، أو لأن تعلّقه الأيديولوجي هو أكبر من حاجته لفهم تلك التجارب ودراسة الواقع. على كل ستبدو كل التجارب مدمّرة، ونتائجها واضحة للعيان، حيث يزداد النهب المحلي والدولي، وتتشكّل فئة محدودة تمتلك المليارات، وأغلبية واسعة تعيش الفقر أو تحت خط الفقر. وينهار القطاع المنتج (سوى بعض الصناعات والزراعات الضرورية للرأسمال الإمبريالي، مثل قطاع النسيج، والأسمنت، والفوسفات، و البتروكيماويات)، ويتصاعد عجز الميزان التجاري، والحاجة لاستيراد السلع من المراكز الإمبريالية، بما فيها القمح والمنتجات الزراعية.
وبالتالي انتهى مشروع التطوّر في البلدان التي وُجد فيها (مصر مثلاً)، ولم ينشأ مشروع التطور في البلدان التي ظلّت دون تغيير (مثل المغرب). وأعيد ربط إقتصادات هذه البلدان بالشركات الاحتكارية الإمبريالية، وباتت مجال نهب هائل، دون لمس أيّ تطور صناعي، أو زراعي، أو خدمي، أو تعليمي أو صحي، وازدادت البطالة زيادة هائلة. والصناعات التي يقال أنها قدِمت من الخارج لم تعدُ أن تكون صناعات تجميعية (السيارات) وقابلة للرحيل. والاستثمارات التي قدِمت تمركزت في صناعات سابقة ناجحة (النسيج، الاسمنت)، باتت الرأسمالية تسعى لنقلها من بلدانها لأنها صناعات ملوثة (الاسمنت، البتروكيماويات). ولقد أعفيت من الضرائب، وألغيت حقوق العمال، وبات لها حق تصدير الرأسمال، والأرباح وقت تشاء، كما قاد الانفتاح إلى امتصاص الخبرات والعلماء عبر انتقالها إلى البلدان الرأسمالية ذاتها، وهذا شكل من أشكال النهب المريع.
هذه الصورة، لن تكون بعيدة عن سوريا، ومن يتابع أبحاث الخبراء الاقتصاديين، وآراء الصناعيين، والفلاحين، يلمس التخوّف من هذه النتيجة. حيث سيكون القطاع الصناعي بشقيه العام والخاص مهدّداً لأنه غير قادر على المنافسة، وكذلك الزراعة، الأمر الذي سيقود إلى ارتفاع هائل في عدد العاطلين عن العمل، ويتصاعد الفقر، ويختفي «الملجأ الأخير» للفقراء، الذي هو الدولة، ويشار إلى أن قطاع النسيج الذي هو القطاع الأساسي في الاقتصاد السوري، معرّض للانهيار، كذلك صناعة الأدوية التي تقدّم دواءً رخيصاً لقطاع واسع من الشعب.
وإذا كان الواقع الاقتصادي الراهن مأزوم، والفقر يطال 60% من الشعب، والاقتصاد يقوم على تصدير الموارد الأولية (النفط، القمح، القطن) بنسبة 80% من السلع المصدّرة، والبطالة تصل إلى نسبة 30ـ 37%. والنهب قاد إلى إفلاس العديد من مؤسسات القطاع العام. والفارق بين الأجور والأسعار في تصاعد مضطرد. فإن تعميم اقتصاد السوق سوف يقود إلى انهيار اقتصادي شامل، وأزمة اجتماعية عميقة.
وهنا ليس الحلّ في الحفاظ على ما هو قائم حتماً، لأن على اليسار أن يعبّر عن الأزمة الاجتماعية القائمة الآن، لا أن يندفع ـ نكاية بما هو قائم ـ إلى الدعوة لتعميم اقتصاد السوق، والاندماج في العولمة، رغم أن السلطة سبقته في هذا الطريق، حيث تعمل المافيات على تكييف وضعها في إطار النمط الرأسمالي العالمي، وترتيب وجودها ونشاطها من خلاله، وبالتالي التحوّل إلى وكلاء شركات إمبريالية، وتجار استيراد، ووكلاء تصدير المواد الأولية.
واللافت هنا أن «النقيضين»: أي السلطة واليسار الليبرالي، يبدوان أنهما يسيران في طريق يفرض التقاءهما، ليبدو أنه اتحاد بين الرأسمال والسياسي، وبالتالي ليبدو تناقضهما الراهن دون أساس، ولتكون النهاية سريالية. لكن إصرار اليسار على الليبرالية لن يفضي سوى إلى هذه النهاية السريالية. وبالتالي ليبدو أن «حقده» الراهن هو على شبح.
والمشكلة التي ستواجه هذا اليسار تتمثّل في أن هذا التكوين الاقتصادي الذي يتشكّل لن يكون مؤاتياً لتحقيق الديمقراطية. يمكن أن تحقِّق بعض الانفراج، وشكل هزلي للديمقراطية، عبر إقرار حق وجود الأحزاب، وحرية الصحافة والانتخاب، لكن بعزل هذه الأحزاب عن الشعب عبر إقرار القوانين التي تمنع اتصالها بالطبقات الفقيرة، وتمنعها من تحريضها على الإضراب أو التظاهر، وربط كل نشاط جماهيري بـ«موافقة وزارة الداخلية». وأيضاً عبر تزوير الانتخابات، كما يحدث في مصر، وتونس، والأردن والمغرب...إلخ.
وسيوافق هذا اليسار على كل ذلك، على أساس أنه خطوة أولى، لكنها ستكون الأخيرة كذلك. كما سيوضّح الصراع الاجتماعي مدى هشاشة هذه الديمقراطية، وانعزال ذاك اليسار.
حيث أن مرض اليسار يتمثل في القبول بالأمر الواقع في الغالب، وإذا رفض أمر واقع فسيقبل أمر واقع آخر، وهو دائماً يميل إلى أن يكون في ظلّ آخر، في ظل البرجوازية، أو في ظل السلطة، أو في ظل «العولمة». بمعنى أنه لا يسعى لأن يكون هو، ذات مستقلة لها رؤيتها ودورها وموقفها من الواقع، ومن كل التيارات، وتسعى لأن تلعب الدور الأساس لتقود هي حركة الآخرين. إن عدم تبلورها كذات، وتبلور رؤيتها، وميلها لأن تقود الطبقات الشعبية، يجعلها تتكيّف مع القوّة المهيمنة، سواء في المعارضة أو السلطة، أو في العالم.
لهذا نرى هذا اليسار ينساق مع موجة «الديمقراطية» والليبرالية التي انطلقت بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. كما كان لثلاثة عقود (37 ـ 1964) يحمل البرجوازية على أكتافه قابلاً بقيادتها، ومصرّاً على ذلك. ثم التحق بالسلطة بعد ذلك من أجل «تحقيق الاشتراكية» معاً، ومقاومة الإمبريالية «يداً بيد». كما ينجرف بعضها خلف الحركة الأصولية تحت ذريعة مقاومة «الاستكبار العالمي». إن مشكلة اليسار تتمثل في أنه لم يكن يعي معنى اليسار، ولا أهمية دوره، وأيضاً الإمكانيات التي يتمتع بها لكي يصبح القوة الفاعلة الأساسية.
إذن، القبول بالأمر الواقع هو مرض اليسار، لهذا نراه ينساق مع الموجة العالية، وكأن لا «شخصية» له، ولا «ذات»، و لا " وزن ". رغم أن لدوره أهمية كبيرة في تغيير الواقع، لأنه الوحيد القادر على التعبير عن الطبقات الشعبية وفق استراتيجية تغييرية عميقة. لهذا يجب معالجة هشاشة التكوين، من أجل تأسيس يسار حقيقي، لا يلحق الموجة، بل يفعّل الحركة الواقعية بما يقود إلى تحقيق تغيير حقيقي.
الآن، من الضروري تجاوز الليبرالية، والارتباط بالطبقات الشعبية، كما بتحقيق التطوّر المجتمعي. فهذه هي مهمة اليسار الآن، والتي لن تتحقق إلا على أنقاض الليبرالية والرأسمالية، دون أن يُعتبر البديل هو الاشتراكية، فلازال أمام اليسار هدف تحقيق المهمات الديمقراطية، التي تعني تحقيق التطوّر الصناعي/ المجتمعي. هذه هي مهمته الأولى الآن، حيث أنه هو الذي يمتلك الإمكانية لتحقيق التطور، وتحسين وضع الطبقات الشعبية.
و بهذا فإن اليسار في ميله الليبرالي لا يفعل سوى إلغاء ذاته لمصلحة فئات مافياوية في الغالب. و إلى الدعوة لخيارات تزيد إبتعاد الطبقات الشعبية عنه. ليتحوّل إلى " ثلّة " من السياسيين الذين ينتظرون وصول قطار السلطة، أي سلطة. و لتكون " الشعارات الكبيرة " حول دور الرأسمالية التاريخي، أو الدور التاريخي للعولمة، هي القشرة الهشّة لتمويه هذا المسار. بينما الواقع يدفع نحو تعميق الصراع الطبقي، و يفرض البحث عن خيار شعبيٍّ حقيقيٍّ، يكون لليسار الدور المركزي فيه.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مناقشة - مشروع بيان غير شيوعي
- منطق الإستبداد لحظة القرار الأميركي بالتغيير في سوريا
- الماركسية و أفق البديل الإشتراكي: الماركسية في أزمة؟
- مأزق اليسار الديمقراطي و إشكالية الإشتراكية الديمقراطية
- دافوس البحر الميّت
- سياسة أميركا
- ورقة عن الحرب الإمبريالية الصهيونية في المنطقة العربية
- الحركة القومية العربية: تجربة نصف قرن
- مسار الخصخصة في سوريا
- عودة الى الطبقة العاملة
- الحركات الشعبية و دور أميركا
- التغيير التائه بين الداخل و الخارج
- ديمقراطية الطوائف
- أميركا و الأصولية
- منزلقات الأصولية
- الإصلاح ليس ضرورة
- الى الأستاذ حسقيل قوجمان
- نداء إلى كل الماركسيين في الوطن العربي
- غيبوبة السياسة السورية
- بوش في أوروبا، هل يمكن تحقيق التوافق؟


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - سلامة كيلة - اليسار السوري في ميله الليبرالي