أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - عن أزرق بوسعيد















المزيد.....

عن أزرق بوسعيد


سهير المصادفة

الحوار المتمدن-العدد: 4400 - 2014 / 3 / 21 - 11:35
المحور: الادب والفن
    



أحاول أنا والطائرة أن نتخلص من غيوم أكثر من ثلاث سنوات، ما زال في أذنيَّ زئير شعبي الجسور الغاضب على الرغم من أنه وضع رئيسين وأعوانهما في السجن، وما زال دخان الإرهاب الأسود يتصاعد هنا وهناك بغيظٍ وحقدٍ، وما زالت قوات الجيش والشرطة يعملان على حبسه من جديد، وما زالت السياسة هى سيدة الشارع في مصر وستظل كما أخمن حتى تتحقق أهداف ثورة الشعب كاملة، فمذ سكن الثوار بيت الشابي: (إذا الشعب يومًا أراد الحياة/ فلابد أن يستجيب القدر)، ومذ أشعل محمد البوعزيزي النار في نفسه محتجًا على سكون اللحظة العربية ونحن نلاحق أحداث العام السياسية من عمر بلداننا الثائرة بأحداث عقد من زمان الأنظمة البائدة.
يعلن مذيع الطائرة أننا سنهبط بعد قليل في مطار قرطاج الدولي، فأكاد أشم رائحة ياسمين، وتحاول عيناي من علٍ احتواء الحدود التي حددتها "عليسة" لمدينة قرطاج والتي يعني اسمها "المدينة الجديدة".. أتذكر كيف اتسعت عيناي عن آخرها وأنا أستمع منذ عشرين عامًا لأسطورة "عليسة".. "عليسة" التي فاوضت حاكم البلاد الأمازيغى ــ بعد أن رست مركبها على شواطئه هاربة من مُلكها بعد مقتل زوجها ومحاولة قتلها ــ لكى يمنحها أرضًا تبني عليها مدينتها الجديدة فرفض أن يمنحها أكثر من مساحة جلد ثور ووافقت "عليسة" وقامت بقصِّ جلد الثور إلى أشرطة دقيقة طويلة أحاطت بها الهضبة التي نحلَّق فوقها الآن.
أدلفُ ــ تقريبًا ــ من المطار إلى صالون معرض تونس الدولي للكتاب.. الصالون الأنيق يحطم هذه المرة الجدران بين الكاتب وقارئه ويرأب الصدع المخيف الناجم عن أنظمة عربية عقيمة ما زالت تتهاوى أعمدتها يومًا بعد يوم، ويطيح بفكرة القاعات المكيفة المغلقة على مثقفيها وكُتابها وأصداء كلماتهم التي ظلت محبوسة هناك إلى الأبد دون الوصول إلى جمهور متعطش للكتاب وكاتبه، في هذا الصالون من الصعب ألا يلمح جمهورُ القراء ــ أثناء مرورهم إلى الداخل أو الخارج أو أثناء شراء كتبهم ــ ضيوفَ معرض الكتاب.
أذهب بدعوة من الإذاعة الوطنية لتسجيل مداخلة فأجد وزير ثقافة تونس الدكتور المهدى مبروك معى في اللقاء نفسه.. أطمئن حين أشهد بنفسي مدى تهذيبه وتواضعه وثقافته الرفيعة على مستقبل الثقافة في تونس، وأبدى إعجابي بإقامة المعرض في هذا الوقت تحديدًا.. في ظروف سياسية وأمنية متوترة وشائكة تمر بها البلاد التي يحاول شعبها التخلص من حكم الإخوان كما تخلصت مصر منه في 30 يونيو 2013، لأن الإيمان بالكتاب هو أقوى سلاح من مُحبي الحياة أمام كل القوى الظلامية، والكلمات قادرة دائمًا على بناء الأوطان والإنتصار للكلمة، وهذا ما لم يفهمه ضيقو الأفق ممَن نصبوا أنفسهم محامي دفاع عن الله بتفجير أنفسهم، والكلمات هى انتصار لله الذي قال: (في البدء كانت الكلمة). والكتب حيوات متعددة تستطيع حلَّ كلّ معضلات الحياة إذا ما قُرأت.. في الكتب صمت الطُغاة الأبديّ وتنكيل التاريخ بمَن لعبوا بمقدرات شعوبهم، وأنين الضعفاء ومَن لا حيلة لهم أمام فُجر مَن يدعون إمتلاك اليقين المطلق.. في الكتب جسور شديدة الفتنة تلتقى عبرها الشعوب وتذوب فوقها اختلافاتهم وألوانهم وأعراقهم.. في الكتب صور الملوك وهى تتكرر إلى أبد الأبدين بملامح ــ فقط ــ مختلفة يغلفها الغباء نفسه مما يجعلها متشابهة إلى حدِّ الفزع.. في الكتب فلاسفة وشعراء وكُتاب بُحت أصواتهم وهم يشيرون إلى دروب الخير والعدل والسلام والجمال.
أعرف أن القائمين على تنظيم المعرض هم من المبدعين الذين يمتلكون خيالاً تواقًا لرسم مستقبل تونس الثقافي والأدبي، أتابع دقة نظام المعرض ونظافته، ومحاولاتهم المستميتة أن يسيطروا على كلِّ تفاصيل تنفيذه بشكلٍّ يليق بتونس وبأسمائهم وأن يحلّوا كلَّ المشكلات الإدارية الصغيرة التى تعترض تحقيق حلمهم، أخجل حتى من إلقاء التحية العابرة على الشاعر الكبير "آدم فتحى" عندما ألتقي به في بهو المعرض لأنني أعرف أنه لا ينام تقريبًا ومعه أيضًا الكاتب الموهوب وليد سليمان وبالطبع آخرين.
يتناقش جمهور المعرض مع ضيوفه من الكُتاب ــ الذين تجاوز عددهم المائتان وخمسون ضيفًا ــ حول كلّ محاور الأدب والثقافة تقريبًا من خلال برنامج حافل.. المحاور تلخص هموم الثقافة العربية المقيمة منذ نصف القرن من الزمان.. أسئلة وضع الكتاب العربي كمًا وكيفًا وشجون صناعته وبؤس توزيعه.. علاقة الأدب المعاصر بالكتاب المدرسي.. الكتابة الإلكترونية.. الرواية العربية حراك الواقع وأسئلة التخييل.. القصة وسؤال الجنس الأدبي.. الترجمة وحقوق الملكية الفكرية.. ونحاول احتواء المشهد الثقافي والأدبي للسنغال ضيف الشرف هذا العام من خلال برنامجها شديد الثراء، ونحاول أن نطرح مدخلات المأزق الثقافي العربي بأكثر من طريقة، ويظل السؤال قائمًا كما هو: لماذا يتراجع المشهد الأدبي العربي في عيون الغرب؟
تساءلت أثناء مشاركتي في ندوة الترجمة: (الوضع الراهن لترجمة الأدب العربي إلى لغات العالم).. مَن يختار ما يتم ترجمته إلى اللغات الأجنبية.. نحن أم الغرب؟ إن الكتب التي تمت ترجمتها من قبل الجانب العربي لم توزع في الغرب ولم يعتمدها الغرب ولم تقبلها المكتبة الغربية، وكأن الغرب يقول لنا: أنا أترجم ما أحتاج إليه، وأظن أن المكتبة الغربية تعرف ماذا تريد منا، ولن نستطيع إجبارها على ترجمة ما نراه نحن مهمًا ومعبرًا عن حالتنا الثقافية والأدبية والفكرية.
إن الغرب يحتفى بالمشهد الأدبي في أمريكا اللاتينية وفي الهند والصين وحتى المشهد الأدبي في إفريقيا السوداء ولكن ذائقته كانت شديدة الإنتقائية فيما يخص المشهد الأدبي العربي، وهنا يتحمل المسئولية كلا الجانبين.. يتحملها هؤلاء الذين يمتلكون مقدرات الأدب والثقافة والترجمة في العالم العربي فهم لم يقدموا المشهد الأدبي بأصواته المتعددة من خلال مطبوعات/ كتالوجات متخصصة بلغاتٍ أجنبية وبشكلٍ جادٍ يلفت انتباه الناشر الأجنبي ليختار منها، وكذلك يتحمل المسئولية الناشر الأجنبي الذي من المفترض أن يبحث عن الصورة الكاملة للمشهد الأدبي والثقافي والفكري بدلاً من بحثه عن صورة ذات بعدٍ واحدٍ عادة ما يكون بعدًا فولكولوريًا.
أختتم زيارتي لتونس الخضراء بزيارة سى بوسعيد.. وفي بوسعيد تتبادل البيوت الأنيقة مع البحر سطوة اللونين الأبيض والأزرق.. يبدو البحر متسعًا بزرقته وفوقه نُثار الزبد الأبيض، بينما يهيمن اللون الأبيض على منازل بوسعيد ويتكثف لون البحر الأزرق الزهري على نوافذ وأبواب البيوت.. أقف مذهولة عند سفح المنحدر الصخرى، وكأنني أمام مفردات مشهدٍ هاربة من لوحة تشكيلية نادرة.. وتهاجمني فجأة لوحات الرسامين المستشرقين الأوائل الذين مروا من هنا وألهمتهم بوسعيد ألوانهم النادرة وخلودهم.. غيوم فوق شمس باذخة النور.. ظلال رهيفة لقفطان امرأة تتوارى في منحنى زقاق ضيق.. لونٌ أرجواني ساخن يلقي بدفئه إلى حدود اللون القرمزي.. أشجار لوز مضيئة تكاد من وهج الشمس تستحيل إلى شموع.. ياسمين يسهل تحويله إلى بؤر فاتنة وشديدة البياض.. درجة من اللون الأزرق تخص بوسعيد فقط وهى مسجلة عالميًا باسمه (أزرق بوسعيد).. أصعد نحو الغيوم لنحتسى شايًا بالبندق في "القهوة العالية".. تقريبًا هي وسط السحاب وبأعلى ذروة الجبل الذي يطل على قرطاج عليسة وخليج تونس.. هذا الجبل الذي طالما قام بحمايتهما باعتباره برج مراقبة وقلعة لدرء خطر تقدم الأعداء.. بوسعيد هبة الولى الصالح أبو سعيد الباجي الذي يرقد هنا بسلام منذ أكثر من ثماني مائة عام.. يُقال في تونس أن مَن لم يُشهد بوسعيد على محبته من علٍ كانت محبته منقوصة، أستند إلى ذراع زوجي الشاعر والكاتب كمال العيادي وأصعد.. الأبواب الزرقاء الفاتنة بمشغولاتها الأندلسية الشرقية مغلقة تمامًا على ما وراءها.. أصحو على صوت الشاعر الصديق "آدم فتحى" وهو يحدثني عن تقليدٍ قديم حرص عليه سكان بوسعيد وهو أنهم تعمدوا حجب نعمهم وبذخهم عن المارة.. ربما حتى لا يجرحوا العابرين من الفقراء وربما حتى يحافظوا على خصوصية تفاصيل حياتهم، ننتبه إلى تغير هذه العادة في كل العواصم العربية لدى العرب الأثرياء الآن الذين ينفقون أموالاً طائلة لتبدو مداخل بيوتهم مثل القصور.. ربما لغيظ العابرين من الفقراء على الرغم من أن داخل بيوتهم قد لا يكون باذخ الثراء إلى هذا الحدِّ، يحدثني "كمال العيادي" أنه كان بالطبع ذات يوم من الأيام خلف بابٍ من هذه الأبواب الزرقاء البديعة المغلقة وأنه اندهش كثيرًا حين رأى حدائق لم يتصور أنها ممتدة هكذا ونوافير ومسابح وأشجار زيتون ولوز ونخلات عاليات، أهبط من ذروة بوسعيد وكأنني أصحو من حلم حلو وفي طريق عودتي إلى القاهرة يخاتلني اللون الأزرق الزهري وهو في حضن اللون الأبيض الناصع والشاسع الاتساع كما لو كان لآلئ زرقاء نادرة الوجود.



#سهير_المصادفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مكانى الأول
- عاصمة ثقافية
- غرفتى الأولى
- -بيت الديب- وفِتنة السرد فى رواية الأجيال
- كأنه يعيش
- يكاد الأدب أن يكون متمردًا
- -عبد المنعم رمضان- وحنينه العاري
- إلى الكاتب المصرى
- طيب يا حلمى
- اليونانُ.. هنا تعيشُ الآلهة
- تاء التأنيث
- إلى محمد عفيفى مطر
- مانهاتن .. مدينة المرايا
- ميس إيجيبت الفصل الثاني عشر والأخير
- ميس إيجيبت الفصل الحادي عشر
- ميس إيجيبت الفصل العاشر
- ميس إيجيبت الفصل التاسع
- ميس إيجيبت الفصل الثامن
- ميس إيجيبت الفصل السابع
- ميس إيجيبت الفصل السادس


المزيد.....




- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - عن أزرق بوسعيد