أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - ميس إيجيبت الفصل السادس















المزيد.....


ميس إيجيبت الفصل السادس


سهير المصادفة

الحوار المتمدن-العدد: 2266 - 2008 / 4 / 29 - 09:53
المحور: الادب والفن
    



افتح عينيك على اتساعهما ، وكما يليق بحالم عظيم حاول أن تقبض على "شقفة" من وهج الحقيقة .

عارف تاج


تلكأ وهو يجتاز بوابة فندق" المينا هاوس " ، تحمل الأهرامات الثلاثة قرص الشمس وتكسوه رهبة وجلالاً، تأمل البار على يساره ، هنا كان يجلس مع " ميرنا "يوم ارتكاب الجريمة ، تركها فجأة لتعكر مزاجه ولا يتذكر حتى الآن أين ذهب بعد ذلك ؟ أو ماذا فعل ؟ المدهش أنه يتذكر كل شيء حتى الثامنة ، كل همسة من "ميرنا" ، كيف مالت عليه وهى تزيح خصلة شعرها ، كيف جعلته عصبياً وهى تحاول بأكثر من طريقة أن تثيره ليتخذ قرار زواجهما، بينما يدافع هو كأي رجل عن حريته بكل ما عرف من وسائل وجمل شائعة ومستهلكة،يتذكر كيف داعب عمال البار الذين يرتدون قمصاناً طويلة بيضاء ذات ياقات منشاة بيضاء :

- ترتدون رداء الملائكة وخلفكم الـ" باك جروند" زجاجات المنكر، ده حتة كادر.

بعد ساعتين بالضبط من رحيله قتلت " نفرت جاد" ، كوافير " لوسى " قريب جداً من " المينا هاوس" لا يستغرق الوصول إليه في يوم بارد كهذا أكثرمن عشر دقائق بالسيارة ، دلف إلى اليمين ، سار ببطء في ردهة خافتة الإضاءة تحث على النوم ، فتح ببطء باب الحلاق، لم يقترب من ذقنه أو شعره منذ مقتلها ، ظل معظم الوقت في سريره على أمل أن يداهمه جسدها أطول وقت ممكن . عيناه مفتوحتان وهو نائم ، وهى مهرة تخب فوق صدره وها هو يحاول ترويضها، تطورت علاقتهما في الآونة الأخيرة ، ولكنها لا تحدثه أبداً ، لذا يتساءل طوال الوقت كيف كان صوتها ؟! صارت مع مرور الوقت أكثر جرأة ، تفتح أزرار بيجامته كلها ، تجرده من ملابسه وهى لا يغطيها منذ اليوم الأول الذي احتلت فيه سريره إلا شعرها الغجري الطويل .. يحبها وهى صاخبة تشرع في اقتحامه أول الليل ، تجعله يتلصص على ركبتيها المضيئتين وتدس أصابعه في كل نوافذها وتفرجه على وردتها الموغلة في التفتح ، ويحبها وهى منهكة تجمع خلاياهـا ، وعيناهـا اللوزيتـان في عينيـه المرهقتيـن وهى تستشرف شكل غيابها الذي أصبح عادياً كما أفول الشمس.

- يا أهلا يا أهلاً يا "عارف" بيه ، عاش من شافك.

ميالاً إلى الصمت كان، ولكنه همس كمريض :

- ازيك ياحسن مش عارف اقص شعرى ولا اسيبه طويل ؟

أصابعها تتخلل شعره طوال الليل .. فهل يتركه لها أم يحلقه كما كان ؟ سيجن قريباً إذا ظلت " نفرت جاد" في سريره لوقت أطول ، يهرس جسدها جسده ليلاً ويدهس قتلها عقله نهاراً .

حدثه الدكتور " عبد الرحمن " كثيراً عن أمها ، لأول مرة يراه حزيناً وشفافاً وليس ساخراً كعادته.. إذا كنت جاداً في معالجة هذه الحادثة سينمائياً اجعلني أساعدك قليلاً حتى لا تقول ما قيل مراراً ، لأن ما قيل مراراً ليس الحقيقة على الإطلاق فالحقيقة إذا لم تكن مفزعة فهي ليست حقيقـة .. يا " عارف " إذا رأيت " لوسي " مجرد داعرة تسببت في مصرع ابنتها فسوف تقول ماتم قوله آلاف المرات ، تخيل امرأة تجاوزت الخمسين ..خفت كثافة شعرها ، وبدأت الخيوط الدقيقة الكثيرة تظهر تحت عينيها ، تقضى وقتها كله في محاربة شبح لا يكف عن العبث في جسدها ، يغير شكل استدارة ردفيها ، ويملأ بالدهون فخذيها وبطنها ، ويفسد التفاف ساقيها وذراعيها ، فتغطى كل يوم جسدها بمسحوق الترمس والليمون ، وتضع على وجهها أقنعة الخيار وعسل النحل والفراولة والزبادي وجنين القمح ، تدهن تحت عينيها كريمات لإزالة التجاعيد والانتفاخات والهالات السوداء، وتزيل السواد والخشونة من الركبتين والكوعين ، تنقع شعرها في حمامات طويلة من زيت الزيتون والسمسم والجرجير والخروع والنخاع ، وتكافح كل يوم بلا هوادة ظهور الشعيرات البيضاء ، تقف كل صباح أمام مرآتها راضية عن نتيجة مجهوداتها ، ولكنها تعرف جيداً أن شيئاً ما يحدد سنها غير ذلك كله .. ربما نهش الزبائن المتكرر لها .. ربمـا الخيبـات والهزائـم المتوالية والتي كان آخرها هجر " أيمن بركات " لها ورميها على ناصية فى شارع " تحتمس" ككيس قمامة ، بل التوله أيضاً في حب ابنتها .. ربما الليالي الخالية الموحشة التي تتراكم وتكون طبقة فوق الجلد يستطيع حتى الأعمى رؤيتها وتحديد سنها ..عينان تميلان إلى الاخضرار ، وجه أبيض مستدير تفننت في تنوع ملامحه مجموعة لا بأس بها من الجنسيات تركية ..عربية .. إنجليزية.. فرنسية ، ولم تنس أن تزينه في النهاية بأنف أفريقى كبير ، وجه يجعل من يراه يتجاوزه على الفور حتى لا يفكر فيه ويعيد تذوق هذا الكوكتيل المعقد .

تخيلها وهى تضع فوق جفنيها خط " آى لاينر " أخضر رفيعا ، تلمع عيناها فجأة لأن واحدة من عاملات الكوافير أخبرتها بوجود سيارة " أيمن بركات " أمام الباب ، ثم تصور أنه بمجرد أن يراها ينطلق هاربأ وهو يسبها ويلعنها فتعرف أنه كان بانتظار أن يرى ولو لدقيقة " نفرت جاد" ، و" نفرت جاد" تدخل عليها ليلاً بعد اجتياز التمرينات المبدئية لخوض مسابقة miss Egypt . تتأمل دموع أمها وتمد بضيق يدها لريموت الفيديو وتتأفف ببرود :

- أف يا " ماما " عشرين مرة شفت ال "pretty woman" ده .

تخطف منها " لوسى " الريموت وتستمر في التحديق في وجه "جوليا روبرتس" من خلال دموعها.

فتتنهد " نفرت " بازدراء :

- يعنى كل يوم لازم نشوف قصة الداعرة دي، وبعدين دي كان سنها صغير ، وهو مليونير أمريكي متحضر ونبيل ، مش دون زى " أيمن " بتاعك.

تنظر لها " لوسى" بكل الكراهية التي حلت محل الحب الذي أغرقتها فيه حتى دخلت الجامعة وفار جسدها وتحولت إلى تلك الأنثى المثيرة.

ترتبك " نفرت"

- يا ماما أنا خايفة على عينيك ، شايفة بقيت إزاى،وعلشان إيه كلب وحقير لا يستحقك .

تصور يا " عارف" لا شيء على الإطلاق يشبه كره المرأة للمرأة ، تصور آلاف المشاهد والتفاصيل التي تشبه هذا المشهد والتي جعلت " لوسى " خارج الزمن لا تستوعب حتى الآن ما حدث ، ليس منذ مقتل ابنتها وإنما منذ اتفقتا اتفاقاً شبه سرى على أن تبيع الأم الجسد وتستمتع الابنة بعائده ثم لا تسامحها أبداً ، فتحول حب الأم ببساطة إلى منافسة بين امرأة في عز شروقها وامرأة غاربة ظل جسدها أداة لإمتاع الكثير من الرجال ، وضنت عليها الحياة بأن يستمتع هذا الجسد ولو لمرة واحدة مع الرجل الوحيد الذى أحبته.

ثم فجأة يصرخ " عبد الرحمن ":

- حتى هذا كتب مراراً وتكراراً ، أقول لك يا "عارف" اكتب أي زفت ، قال يعنى أنت اللي ها تنقذ السينما المصرية من العته اللي هي فيه ؟!

بعد ست سنوات وشهر واحد من تاريخ هذا اليوم ، ستدمع عينا" عارف تاج" وهو يتسلم جائزة أحسن فيلم من " مهرجان القاهرة السينمائي " وإلى جواره " ميرنا " التي أخذت اسمه فصارت " ميرنا عارف" ، تبتسم للكاميرا وهى تتسلم جائزتها كأحسن ممثلة عن فيلمه ،و سيتذكر الدكتور " عبد الرحمن " وسيظل لديه وإلى الأبد أمل أن يكون قد رأى الفيلم برغم موته قبل الشروع في تصويره ، سيمنى نفسه كلما قرأ موضوعاً عن معتقدات إحدى الديانات في شكل الحياة بعد الموت أن يكون الأمر هكذا ، وأن الدكتور " عبد الرحمن " استطاع ان يرى فيلمه سواء كان روحأ هائمة أو متناسخا في جسد إنسان أو كلب أو حتى خنزير ، المهم أن يكون قد رآه ، نعم لم يستفد من حدوتة " نفرت جاد " إلا بالحالة النفسية التي وضعته فيها والأجواء المروعة للجريمة، ولكن ظلت إشارات " عبد الرحمن" هي السبب في نجاح فيلمه .

انتبه لصوت أجش ظن في بداية الأمر أنه من الراديو وانه يتلو القرآن الكريم ، ولكنه من خلال المرآة تابعه وهو يتطلع إلى وجه صاحبه الوسيم الذى كان تقريباً في بداية الأربعينيات ، يمسح عن وجهه بقايا " ماسك " ما بعد الحلاقة ، تعجب أن يصدر هذا الصوت عن ذلك الوسيم .... ياأخى هل تعلم لقد " هتفت امرأة باسم " نصر بن حجاج " وتمنت أن تشرب الخمر وتلقاه ، فأرسل إليه " عمر بن الخطاب " رضي الله عنه وأرضاه ، فإذا هو أحسن الناس شعراً ، وأصبحهم وجهاً ، فأمره أن يجم شعره ، فظهر جبينه ووجنتاه فازداد حسناً ، ثم أمره أن يعتم فزادته العمامة زينة وغواية ، فقال : " لا يسكن معي رجل تهتف به العواتق في خدورها " .

يا أخى هذا هو الإسلام ، يحارب فيه جمال الرجل ، فما بالك بجمال المرأة التي هي أساس الغواية وكل الشرور ؟ يا أخى إن من قتلها قد أعز دينك ، وأنت تكاد تبكى على امرأة من الكاسيات العاريات ، كانت تحضر نفسها للسفر والتهادي على مسارح الدول الكافرة بالخارج مع عاهرات العالم اللائي يفسدن لنا نساءنا .

ميالاً إلى الصمت مازال ، ظل " عارف " ينظر إلى وجه " حسن " في المرآة وهو يحمر خجلاً ولا يقوى على الرد ، صاح رجلان آخران ينتف لهما العاملان حواجبهما فى نفس واحد :

- أحسنت والله يا مولانا.

وهزت رأسها استحساناً وتشفياً المرأة البدينة ذات العينين الضيقتين التي تجلس على الخزينة .

يتحدثون إذن عن " نفرت جاد " ، ترى من أين بدأوا ؟

تأمله " عارف " طويلاً .. عينان واسعتان كحيلتان كعيني " عمر الشريف" في أوائل أفلامه ، قامة طويلة ممشوقة ، شفتان ممتلئتان وحازمتان بابتسامة ساخرة وكأنها ملتصقة بهما طوال الوقت ، جرده من ملابسه بسرعة ، ألبسه عباءة واسعة سوداء طويلة ونقابا وقفازات سوداء من تلك التي ترتديها المنتقبات ، وتقابلت أعينهم في المرآة ، تأملا بعضهما البعض بإمعان حتى تصور "عارف" أن الوسيم المنتقب سينهى الأمر وسيصيح في وجهه:

- نعم أنا قاتلها .

ظل يتأمله وهو يفكر .. تطاردني عند الحلاق أيضاً ، كان من السهل عليها أن تشير إلى قاتلها حتى ولو كان هذا القاتل " أنا" ثم تمضى إلى غيابها الأبدي بدلاً من تركي هنا على حافة الجنون .

بعد سبعة أشهر من تاريخ هذا اليوم سيكتشف "عارف"أن " نفرت جاد " وضعت بالفعل قاتلها في طريقه ولكنه لم يصدق الإشارة .

دخل إلى مكتب " عمر الجوهري" كلاهما كان برما بالآخر ولكنهما ظلا لأكثر من ثلاث ساعات معا ، طلب له " عمر" بيتزا بالمشروم وطلب لنفسه دجاجة مشوية التهمها كاملة ، وهو يسب" لوسى "بأقذع الألفاظ ، ويعود ليردد في حسرة وهو يحاول تقليد صوت " تاج العريان" :

- حوالي عشرين سنة وهى شغالة مومس وقوادة على كبير ولا قضيـة دعـارة واحـدة ضدهـا ، شفـت ذكـاء بنـت الوسخة .

لم يلفت انتباهه هذه المرة في مهاترات " عمر الجوهري " إلا نتيجة تحرياته عن القائمة التي حدثه عنها أبوه ، والتي على رأسها "ليلى طوسون" ، يحب " أحمد عواد " الأسطى الأول في كوافير " لوسى " عانس أربعينية اسمها " ليلى طوسون" ،و "ليلى محمود طوسون " هي حفيدة أمة شركسية كانت " قلفة "(1) في قصر " عمر طوسون" بالأسكندرية ، أنجبت هذه القلفة ولدا وهى في سن كبيرة ومن حبها في أمير القصر ، طارت إلى معارفها في كفر الدوار وأسمت ابنها سراً طوسون "، وعندما قامت الثورة ماتت القلفة حسرة على عصاها الذهبية الضائعة وخدمها الذين تم تسريحهم في القرى القريبة ، كبر " طوسون"هذا وتزوج وأنجب عشرة من الأبناء ظلوا يرعون في خمسة فدادين ، ولم ينل من عز أمه القديم إلا اسمه المسروق وحكايات عن نخلات من الكريستال تحمل أغصانها شموعاً ، وراقصات يهبطن السلالم ببطء لاستقبال الضيوف ، وأوانى طعام من الذهب الخالص مرصعة بالجواهر ، عن جناح حريم في القصر يعج بالمغنيات والموسيقيات ، عن مربيات إنجليزيات وفرنسيات ، عن الأميرة " فاطمة " التي كانت مجوهراتها يوم زفافها ثقيلة لحد ان اثنين من الأغوات كانا يسندانها لتتمكن من المرور عبر قاعات الاستقبال ، تلك المجوهرات نفسها التي تبرعت بها لبناء جامعة القاهرة ، عن هسيس الحرير والقطيفة والموسلين وعن غناء الجواري والخدم ،لم ينجب " محمود " –أصغر الأبناء العشرة – إلا ليلى هذه ،كانوا يعيرونها وهى صغيرة لكونها شهباء،يجرون خلفها مستهزئين :عدوة الشمس أهى .

لم ترث من تاريخها المرتبك إلا روح جدتها الشركسية ، كانت أنيقة بسيطة ، تتأفف من القذارة والزحام وقد قررت لها أقدارها أن ينتقل أبوها من عمل إلى عمل حتى وصل إلى شبرا بحثاً عن مكان أرخص للعيش، فسكنت فى شارع مسمى باسم جدها،كلما تقدمت "ليلى " فى السن كانت الشمس تكسبها لوناً حتى صارت بيضاء عادية بعيون زرقاء وذيل حصان أصفر ظل يتهادى على ظهرها حتى الأربعين ، هادئة وعانس وصامتة لحد الخرس، كانوا يسخرون منها فى المدرسة:

- عاملة لنا حفيدة " طوسون" يا أختي ؟!

لم يكن لديها تعليقات ، كانت أكثرهم فقرا ، فما الذى يجعلها تحن دائماً إلى حكايات أبيها عن جدها وعن جدتها .

تخرج من باب مدرسة " شبرا الثانوية " التي كانت قصراً لـ "طوسون " ابن " محمد على" ، تضع فى حقيبتها الواسعة " كتاب الانجليزية للمرحلة الأولى من الثانوية " تقف أمام الباب كعادتها نحو نصف ساعة وكأنها فى انتظار أتوبيس ما ، تجرد المدخل من الباعة الجائلين وأكوام القمامة والمدرسات المسرعات فى أسمالهن ، والمدرسين ذوى الذقون الذين يسيرون ووجوههم إلى الأرض ، فتختفى المدرسة فجأة خلف أشجار لا حصر لها وأزهار ورياحين تنمو على شلالات صناعية ، وحيوانات جبلية وطيور نادرة تزقزق فى سماء زرقاء .
سيجدها " عمر الجوهرى " وستقف مرتجفة أمامه لتجيب عن أسئلته الغبية حول ضياع تليفونها المحمول ، وحول الأسماء المسجلة عليه والتى شملتها القائمة المشتبه فيها وعلاقتها بهذه الأسماء ؟ ولماذا برأيها سجلها " أحمد عواد" ؟ حول آخر مرة رأت المتهم الأول فى الجريمة ؟

ستكون اجاباتها كلها ب " لا أعرف " ، ولكنها ستعترف بأن جارها " أحمد عواد " أوقفها ذات مرة فى الطريق وبسنواته العشرين طلب منها الزواج،فصدقت طلبه من لمعان عينيه ووضوح نبراته ، ولكنها أشاحت بوجهها وواصلت خطواتها ، وهو يردد خلفها:

- مالك ، قولى موافقة .

- أنا أكبر منك بعشرين سنة.

- وماله ، وانت مدرسة انجليزى وأنا كوافير ، قولى موافقة.

ابتسمت فى وجهه وكأنه معتوه أو مسكين ، وهزت رأسها بيأس ونفاد صبر وهى تحاول إيجاد كلمات مقتصدة : أنا مستغربة .

يومها سرق تليفونها المحمول حتى يجد عذرا للحديث إليها وهو يعيده لها ، ثم ظل طوال صباح يوم الإثنين - يوم إجازته - ينقل الأسماء المسجلة على ذاكرته ليحدد من من صديقاتها تستطيع مساعدته فى الوصول إلى " ليلى طوسون".

يحجز "عمر الجوهرى " " أحمد عواد" منذ أيام ، ومنذ أيام يصعب على " أحمد عواد " الإجابة على أى من أسئلة " عمر الجوهرى " أو حتى وصف حالته ، لقد ظلت " ليلى " طوال سنوات عمره جارته ، سيطرت على أفكاره شابة ثم امرأة ، فكيف يستثمر فيها الآن كل هذه الأيام التى قضاها معها فى خياله المراهق وخياله كرجل ، كان يعتبرها غبية أن تضيعه من يدها ، هو الذى دفع فيها أكثر مما ينبغى ، ألا تعرف أنها كانت الحلم الذى ظل يحلمه وهو مفتوح العينين وهو مغلقهما وهو فوق عدد لابأس به من النساء ! هو لا يتذكر كيف بدأ انجذابه إليها .. وهو طفل فى الخامسة كانت هى متخرجة من الجامعة وتبحث عن عمل ، يراها وذيل حصانها الأصفر يتهادى فوق ظهرها فيردد :

- عندما أكبر سأتزوج بنتاً تشبه هذه.

وأخذ يكبر أمام فتاته ولا تكبر هى ، ظلت على حالها وحيدة وحزينة وبعيدة كأنها محاطة بغلاف بلاستيكى شفاف ، كان ينتظر طوال الوقت أن يجد لها زوجا وأطفالا ولكنها بقيت كصورة على جدار أيامه لا يهاجمها شعر أبيض ولا ترهل .

أفاق " عارف تاج " على جئير " عمر الجوهرى" :

- قال بيحب ابن الوسخة ، قال وايه بينضرب وهو ساكت وقال ما يعرفش شغلة " لوسى " الحقيقية ، ولا كان بيتدخل إلا فى كوى شعر البنات ومكياجهم بس.

- يا " عمر " حرام عليك ، انت عارف إنه مش القاتل .

- طبعاً عارف ، لكن ما هو لازم يكون فيه قاتل ، خليه فى الحجز ، يعنى هو بيعمل إيه بره ؟! على الأقل لحد مايظهر أى قاتل غيره.

بعد ليلة الأمس قرر " عارف تاج" أن يهرب منها تماماً ، قضى ليلته على الأرض ، يصلى عشرات الركعات ويدعو الله أن يساعده لترحل " نفرت جاد" إلى الأبد ، ظل يفكر وهو ممدد على سجادة صلاته .. هل يذهب غداً إلى قبرها فى مدافن 6 أكتوبر ويقوم بربط جثتها جيداً ووضع الأحجار عليها كما كان يحدث فى البرازيل فى القرون الوسطى ؟ هل يقطع رأسها ويدفنه فى الصعيد مثلاً فلا يتعرف جسدها على نفسه كما كان يحدث فى إفريقيا؟ هل يحرق جثتها ،بينما يرقص حولها بهستيريا مردداً تعاويذ تجعلها تختفى إلى الأبد كما كان يحدث فى غابات الأمازون ؟

هبطت عليه من حافة السرير كشلال هادر خمرى ، فى عينيها اللوزيتين عتاب ساخر ، التقت شفاههما بعنف حتى كاد يسمع صوت اصطكاك أسنانهما فى البيت كله ، أوجعته عظامه كلها من النوم على الأرض ، فجمع شعرها كله فى يد واحدة وشده بعنف حتى كاد يخلعه من مكانه،واقترب من وجهها وأخذ يجفف فيه حبات عرقه ويستغيث وهو يعلم أنها لن تجيب:

- أحبك وأكاد أجن.

فى الصباح أوجعه الموسى الذى ظل يمر على أماكن جروح أسنانها ، ولمحت أمه الخدوش على ركبتيه فحاول تبريرها بأكثر من طريقة ، وظل هو يسير بجسده الفارغ الطائر نحو سيارته .

توقف فجأة واشترى مجلة أزياء على غلافها صورة ملكة جمال مصر المنتخبة يكلل شعرها الأصفر التاج الذى كان ولابد أن يكون على رأس " نفرت جاد "سيترك نفسه تماماً لـ" ميرناً " ، اليوم رد على تليفوناتها أخيرا ، اتفق على أن يسهر معها الليلة ، سيلتصق بها طوال الوقت ، فربما كانت هى المنقذ ، وقف أمام بيتها ، راقبها وهى تقفز إلى جواره فرحة، لسعت يده يدها الباردة ،شفتاها اللتان لامستا جبينه ميتتان ، عيناها منطفئتان برغم بريقهما ، ابتسم بمرارة وهو يقول :

- عايزة تسهرى فين ؟

- أى مكان .. المهم معاك.

بعد سنتين عندما تصير زوجته سيتذكر هذا اليوم سيسوى شعرها بيد حانية وسيقبلها قبلة اعتذار طويلة لن تفهم سببها أبدا .

تحب أن تتناول عشاءها على مركب فى النيل ، أخذها إلى " سكاربيه " وأمام وجهها الشمعى لم يجد كلمات يتفوه بها ، الأزياء لامعة لحد إزعاج عينيه ، الموسيقى صاخبة تكاد تختفى فيها تأوهات وهمهمات " نفرت جاد " و" ميرنا" تجره جراً من ملكوته وهى تتحرك على كرسيها وكأنها فتاة إعلانات على شاشة بعيدة ، يكره أنفها وغمازتيها وشعرها القصير الناعم الملتصق بقرطها ، ذراعها العاري ، ويكره ابتسامتها المبتهجة الراضية ، دار رأسه مع راقص التنورة ، لم يتذوق الطعام الذى طلبه ، وود لو استطاع رمى نفسه فى النيل ليتخلص من كل ذلك ، أخذ ينظر بعمق إلى الماء هارباً من عينيها حتى وصلا إلى الشاطىء ، جلس لدقائق على مقدمة سيارته ثم قرر أن يغادر المكان كأى نذل مجنون ناسياً فتاته على الرصيف، فلقد استحالت " ميرنا " فجأة والجمل تقفز مرحة من فمها إلى قرد حقيقي .

= يتبع =




#سهير_المصادفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميس إيجيبت الفصل الخامس
- ميس إيجيبت الفصل الرابع
- ميس إيجيبت الفصل الثالث
- ميس إيجبت - الفصل الثاني
- ميس إيجيبت


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - ميس إيجيبت الفصل السادس