أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - ميس إيجيبت الفصل الثالث















المزيد.....


ميس إيجيبت الفصل الثالث


سهير المصادفة

الحوار المتمدن-العدد: 2249 - 2008 / 4 / 12 - 09:13
المحور: الادب والفن
    



يدا الملك مصطبغتان بدم الحقيقة وقامته المهيبة بلا ظل وقلبه يهيم وحيداً فى عراء الليل.
تاج العريان
==============================================

أسراب الغربان تحلق فوق رأسه تمامأً ، الحقيقة الوحيدة التي يعرفها جيداً أنه لم يمت بعد ، وأن الذين يضعون أصابعهم على كل جزء من أجزاء جسده ليسوا إلا أهله وأطباءه وخدمه، يقلبون عضوه الذي طالما ركعت أمامه أجمل النساء، الآن يمسكون به وكأنه عرف ديك ميت، لم يمت بعد وأمام عينيه المفتوحتين تتجلى طوابير عسكرية شديدة التنظيم والصرامة، بمجرد أن ترمش أهدابه حتى ينقلب عساكرها وضباطها ولواءاتها على الأرض مصوبين ألسنتهم إلى السماء وهم يولولون كالنساء ، يغمض عينيه فتنهض الطـوابير العسكريـة شديدة التنظيـم تضـرب الأرض وترفـع يدها بتحية عسكرية كما في لعبة من ألعاب الكمبيوتر.

أمامه الدكتور "عبد الرحمن" صديق ابنه "تاج".. يعرف هذا جيداً ، هذا الوسخ ينغز إليته بشيء يشبه الصاروخ ويضحك في وجه " تاج" :

- الباشا كويس جداً يا " تاج" مات إيه يا راجل .. ده الباشا هيموتنا كلنا، روح انت استعجل الدكتور بتاعه.

يخرج "تاج" ويترك له هذا الرجل ذا الأنف الغريب ، يقترب منه .. يدلك جبهته ويهمس في أذنه وهو يظن أنه لا يسمعه :

- مش كده يا " باشا" مش انت ها تموتنا كلنا ، والله برافو يا "باشا" بدأت حياتك بمصادرة قصور الباشاوات ، وها أنت تلحق أن تموت في قصر، وزعت عزب الباشاوات يا " باشا " واستبدلت القطن طويل التيلة بفواكه لا طعم لها ولا رائحة ، وها أنت ترقد خلف نافذة تطل على عزبتك التي تضاء كلها بكبس في غرفتك بالنيون الأخضر ، إذا ما زارك ليلاً أحد أصدقائك الباشاوات ، والله برافو يا" باشا" كل هذا في نصف قرن فقط ! اطمئن يا باشا سنبقى على حياتك حتى تتفرج على ثمار كل ما بذرتم من بذور.

" تاج " الذي يتمنى كل لحظة موت أبيه هو نفسه الذي يصرخ و يهرع لإنقاذه إذا ما شك أن أنفاسه همدت ، يحلم دائماً بسرادق عزاء ضخم في " عمر مكرم" يحضره لفيف من المسئولين ورجال الأعمال والفنانين أصدقاء ابنه" عارف" ، يتسامرون ويتذكرون أمجاد " العريان " الكبير ثم يعود إلى بيته لينام مرتاحا ً، فأخيراً لن يخجل من فكرة أنه هو العجوز مازال أبوه على قيد الحياة.. ربما ينقذه كل مرة لكي يكفر عن حلمه كل لحظة بموته ، يفكر وهو يقلب ويتأمل صفحات قديمة من مجلات وجرائد ... هل من الطبيعي أن يعيش الأب إلى الأبد ؟ وينتظر في الوقت نفسه وصول طبيب أبيه بلهفة.

يتأمل ما في يده.. هذه هي كل تركة " نفرت جاد" قصاصات ملونة من أوراق مجلات فنية ونسائية ترجع إلى ثلاثة أعوام ، كلها من حفلات تتويج ملكة جمال على عرش الجامعة اللبنانية مثلاً ، أو ناد رياضي كبير أو مدرسة، أو عاصمة من عواصم العالم ، إلى جوار صور ملكات الجمال المتوجات كتبت" نفرت جاد" على الهامش بخط منمنم صغير " نفرت أجمل" كما أنها أحاطت رءوس لجنة التحكيم من الرجال والنساء بعلامات تعجب صغيرة ، ووضعت تحت أسمائهم خطوطاً بالقلم الفلوماستر الأخضر. . كانوا من أساتذة الجامعات أو أعضاء مجالس إدارة النوادي الرياضية أوملكات جمال سابقات ، بالإضافة لبعض الوجوه الفنية المشهورة.

كلهن ملكتات جميتلات ستواء كانت بشرتهتن بيضاء أم سمراء أم سوداء أم صفراء، مجهولات بالنسبة له وبالتأكيد بالنسبة لـ " نفرت جاد" نفسها.. في ابتسامتهن جميعاً روح واحدة متوثبة نحو جمال مجهول وسلام لم تعرفه البشرية قط ، ظل يتتبعهن وهن يقطعن بمرح قوالب الحلوى في الحفلات ، أو وهن يغيرن أزياءهن الجميلة الملونة، وهن يقبلن وصيفاتهن، وهن يبكين بعينين لامعتين حالمتين حال فوزهن ، أو عدم فوزهن. وهن ينتظرن إعلان النتيجة بأهداب متوترة وابتسامات مشرقة. شاهد لحظة تكليل ملكات الجمال بتاج الجمال، وتلصص على قبلات الراعي الرسمي لإحدى المسابقات على وجنتي ملكة جمال محطة فضائية تليفيزيونية، ثم شاهدهن وهن يقبلن الأطفال الفقراء والمشردين ويزرن المستشفيات في كل أنحاء العالم.. يا الله- لماذا لم يهتم بهذا العالم من قبل ؟! كان عندما يرى فتاة جميلة تشبه هؤلاء الجميلات لا يفكر إلا في أكلها وإذا ما كانت غير متاحة له... مثلاً من القرن الخامس عشر أو من أستراليا فقد كان يفكر فقط في من يا ترى سعيد الحظ الذي سيأكلها ؟ ولكنه لم يفكرأبداً في إمكانية وضع تاج على رأسها.

كل ما قطعته " نفرت جاد" من الصحف والمجلات كان مفهوماً بالنسبة له، فهي الجميلة الثرية المحمومة بفكرة أن تكتسح مسابقة " miss Egypt" ثم تنافس على لقب ملكة جمال العالم فتسجل أول سبق لمصر منذ آلاف السنين منذ كانت نفرتيتي هي جميلة الجميلات ، ولكن ليس مفهوماً تماماً لماذا تذهب "نفرت جاد " إلى دار الكتب وتصور عدداً من مجلة " العروسة" المصورة والتي كانت تنشر في عنوانها أن مبدأها نشر كل ما يستحق النشر من صور وأخبار وفوائد تهم السيدات خصوصاً والرجال عموماً ، أعلنت المجلة في عدد من أعداد العام 1928 مسابقة للجمال لصغار البنيين والبنات وكان الهدف من المسابقة هو حمل الآباء والأمهات على الاعتناء بصحة أطفالهم ، لأن الجمال لا يظهر في الطفل إلا إذا توافرت فيه شروط الصحة بكاملها، وشروط المسابقة أن يكون سن الأطفال الذكور ما بين ستة أشهر وعشر سنوات والبنات مابين ستة أشهر وثلاث عشرة سنة وأن تكون الصورة حديثة يلتقطها مصور فوتوغرافي محتـرف ! وقــد فــاز فـي هذه المسابقــة المصور الشهير " زولا" وفاز الفتى النجيب" يحيى إكرام" وعمره ست سنوات والآنسة اللطيفة " لميا " كريمة جواد بك وعمرها خمس سنوات بالجائزة، وقد ظهرت الآنسة " لميا " في الصورة بعينيها النجلاوين ، وابتسامتها الغامضة التى تشبه ابتسامة الموناليزا، وقد وضعت كفها تحت ذقنها الملائكي ، أخذ " زولا " الصورة لها وهى مستندة إلي مسند كرسي عال ، وقد طوق عنقها عقد بسيط على فستان عاري الصدر والأكتاف من الأورجانزا .. ليس معروفا لونها أو حتى لون العقد فالصورة بالطبع أبيض و أسود.

اكتشف " تاج العريان" الشبه بين " لميا" و"نفرت جاد" وقرر أنه سيحاول غداً رؤية صور "نفرت جاد " وهى في الخامسة من عمرها ليتأكد من ذلك، أزاح قصاصات الجرائد والمجلات بعيداً واندهش من استيلاء " نفرت" هذه على كل أفكاره برغم يقينه ان قاتلها سيظل مجهولاً.. ما الذى يجعل جثة " miss Egypt" خاصة إلى هذا الحد ؟ ما الذى جعل عينيها المغلقتين تغلقان وإلى الأبد بصيرته ؟ أهو الجزء المستأصل منها ؟! .. كم أمسك بين يديه أكياساً بها بعض الأصابع أو بقية ذراع أو جزء من عضو ذكرى لم يسلق جيداً ، فمنذ اخترعت قاتلة السويس الشهيرة طريقة تعبئة جثة زوجها فى أكياس بلاستيكية سوداء بعد تمزيقها إلى قطع صغيرة وتوزيعها على البؤر المركزية للقمامة فى أنحاء المحافظة وهو لا يني يفتش فى الأكياس عن عيون جاحظة مفتوحة .. لطالما أمسك بين يديه بأعين مغلقة بماء النار أو البوتاس أو الأسمنت ولم تثر فيه إلا سؤال صاحبها : أما كنت تستطيع الفكاك من هذا المصير ؟! ثم يضعها فى الكيس مرة أخرى ويواصل البحث عن أعين مفتوحة .. لم تؤثر فيه من قبل هكذا عينان مغلقتان .. تذكر أشجع عين مفتوحة قابلها كانت لزوج بدين مثله أسرت له بأن بدانته المفرطة منعته فى الآونة الأخيرة من مضاجعة زوجته الخادمة التى ظلت طوال سنوات تنفق عليه ثم سئمت من كل شىء فجأة فأخذ يسبها ويضربها، فخلطت له سم الفئران مع أكثر وجبة يحبها .. البولبيف بالبيض وقدمتها له وتركته يأكل بينما تستمتع هى بكل لقمة يبتلعها.. كم رأى من عيون ! عيون خلدت قاتلها وكافحت لتظل مفتوحة برغم دفنها تحت الأرض أو وضعها فى فريزر ثلاجة أو رميها من علٍ أو حتى حرقها وعيون استسلمت من أول لحظة واحتضنت بحرص قاتلها وغلقت عليه أبوابها وإلى الأبد، تأفف من إغلاق طبيب أبيه لتليفونه المحمول ولكنه ظل يكرر المحاولة.

ترك أبوه "محمد العريان" الجيش في 1985 كلواء متقاعد وتفرغ للتجارة في حديد التسليح،كل ما كان يمتلكه مجموعة من الأسرار العسكرية وفضائح شخصية لكبار المسئولين ، ومحطات مجهولة لم يتوقف عندها قطار تاريخ مصر الحديث.

شيد بملياراته مجهولة المصدر إمبراطورية مترامية الأطراف تشبه جسد " نسل شاه" ممتلئة بالجبال والمنحنيات والهضاب وصحارى شاسعة وصامتة وأبواب مغلقة على صناديق مختومة بالشمع الأحمر، ظل لأكثر من عشرين عاماً ينهض كل يوم في ميعاده العسكري فجراً، جعله المرض يتخلى عن كل شيء إلا امتثال جسده للصحو مبكراً، يزوم لتغير له الممرضة البامبرز، يلوك شيئاً ما وهمياً بين فكيه، يتحسس صلعته الحمراء ، ووجهه المنتفخ، يتناول عصائره وأدويته، وبنصف إغماضة يتابع قناة الجزيرة ، يختلط عليه الأمر فلا يفرق بين حرب التحرير العظمى والحرب العالمية الثانية، أو بين عاصفة الصحراء، ومشاهد اجتياح العراق، يخال نفسه مشاركاً في أحدها فيتهته للممرضة.. أوقعت هذه الطائرة أمس على أرض سيناء المقدسة ، تلتقط الممرضة حروفه وتصفها في جمل بعد تنقيتها من قباحة بعض الألفاظ، ولكنه يكررها بإلحاح.. وبعدين خوزقت الخمسة اللي فيها وبدأت بالطيار نفسه.. انت بتضحكى ؟ مش مصدقانى، طيب اسألي الكتيبة بتاعتى يا جاهلة.. وروحي يا بنت يا ناشفة انت هات لي مهلبية.

وما ان يدخل عليه " تاج العريان" حتى ينهنه دونما دموع ..

- صاحبك الوسخ نغزنى بالسم في الحقنة.. خلاص ، ها موت يا "تاج" .

ويهمس بصوته المشروخ : اقبض عليه يا" تاج " ده عدو الثورة، قال لي بالحرف الواحد : باشاوات العهد البائد كانوا يشيدون المدارس ويؤسسون الملاجيء للأيتام ويبنون المبرات و يرعون الفنون الراقية ويتبرعون للمرضى ، ويفتحون الجامعات، أما أنتم فماذا فعلتم يا "باشا"سوى نكاح الراقصات وتسجيل أعضائكم التناسلية على السيديهات ؟ خلاص يا" تاج" أنا ها موت صاحبك أبو مناخير قتلني.

وانقبض وجهه وتكورت ملامحه وهو ينتحب بحرقة : كان نفسى أشوف "كمالة" قبل مااموت يا بنى .

أغمض "تاج " عينيه وحاول أن يسيطر على صداع رهيب، أخرج تليفونه المحمول وطلب رقماً وانتظر طويلاً قبل أن يقول :

- ازيك يا ست "كمالة".. والله واحشانا .

- الحمـد لله ، هو بخير ، وعايـز يشوفـك ، انـت عارفـة " الباشا " بيعزك قد إيه .

- لا..لا.. تاكسي إيه ؟ ها بعت لك السواق حالاً.

ستأتي " كمالة " وسيشرق وجه " محمد العريان " سينهض جالساً ، وسيحتضن كل منهما الآخر بحياد جسده وجسدها، وبرعشة عرق تحت جفنها الأيسر ، وحركة خفيفة من حاجبه الأيمن. ستحكى له كل الأحلام التي لم تحكها له بعد والتي أغلبها عنه ، وستومض عيناه ، سيستمع إليها باهتمام واندهاش وقد يكرر السؤال الذي طرحه آلاف المرات:

- لماذا لا أحلم أنا على الإطلاق؟ هل لأنني رجل عسكري؟

وستمتعض " كمالة" وهى تصيح وكأنها تدرأ عنه رذيلة لا تغتفر، وهى تشيح بيدها المعروقة :

- لا يا " باشا" لا يا "اخويا" بتحلم طبعاً. لكن الفرق بيني وبينك انى بافتكر أحلامي وانت بتنساها، امال إيه ، أنا فاضية لكن انت..انت "باشا "ها تفتكر إيه ولا إيه ؟؟!

سيبتسم راضياً وسيبذل جهداً مضنياً للامتناع عن حركة فمه التي تصاحبه وكأنه يلوك شيئاً ما وسيخجل من طول جلستها ، خوفاً من دخول الممرضة لتغيير البامبرز له أو المحلول أو لربط أو فك أحد الأجهزة اللعينة، ستدمع عيناه ولكنه برقة غير معهودة فيه ورجولة فرسان القرون الوسطى سيأمرها وهو يربت على ذراعها:

- ياللا ياكمالة .. اتكلي على الله- السواق ها يوصلك.

- خليني قاعدة معاك شوية يا " باشا".
سيفتح عينيه وسيملأهما من عينيها وطرحتها الحريرية السوداء وجلدها الذي تغضن تماماً ولكنه ظل كما كان ناعم الملمس.

- اسمعي الكلام .. علشان لما أعوز أشوفك أبعت لك تانى.

ستنحني عليه ويهفهف طرف طرحتها على وجهه، ستقبل جبهته وصلعته الحمراء وسيغمض عينيه على قبلتيها وسيصيح بها قبل أن تصل إلى الباب:

- كمالة .. الواد " تاج" مخليكى عايزة حاجة.
تمصمص بشفتيها:

- "الباشا "الصغير ! ربنا يخليه ويخليك يا " باشا".

ربما كانت " " كمالة " هي المرأة الوحيدة التي لم يرها " محمد العريان عارية، كانت خادمته لفترة زمنية، ثم أصبحت العلاقة بينهما شديدة التعقيد والوصف ، فهو ينفق عليها طوال عمرها ويشترى لها شقة واسعة فى المهندسين ، ويرسل لها من تخدمها ، ويرسلها إلى الكعبة لتحج كل عام ، ويكاد يقتل نفسه إذا قصر فرد من أفراد عائلته في تلبية احتياجاتها حتى صارت الحاجة " كمالة" وكأنها عمود من أعمدة عائلة "العريان" ادعى في البداية أنها قريبته من بعيد ، ولكن تحريات زوجته أثبتت أنها لاتمت له بصلة قرابة، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي تحاول فيها زوجة " الباشا" الاقتراب من تفسير علاقته الشائكة بهذه المرأة، عندما خيرها بين أن تتركه وشأنه أو يطلقها الآن إذا ما سألت سؤالاً واحداً يخص "كمالة" .

ربمـا كانت " كمالـة " هي المـرأة الوحيـدة التي أحبهـا " محمد العريان" في حياته، وربما كانت هي الوحيدة التي أحبته أيضاً ، قالوا إنها رفضت كل من تقدموا للزواج منها وإنها رفضت وهى شابة فاتنة أن يمتلكها "محمد العريان " بكل الطرق التي اقترحها عليها.. زواج رسمي أو زواج عرفي أو حتى عشرة في الحرام ..أيامها أغلقت عليها الشقة التي اشتراها لها ، وأصبحت زاهدة في الحياة نفسها وعندما ضاق من عدم فهمه لها، تسلل إلى شقتها ، اطمأن أنها نائمة في غرفة نومها، فأخذ يفتش في كل ركن من أركان الشقة، عله يفهم شيئاً ،عندما استيقظت وجدته جالساً على الأرض في الصالة وأمامه كومة ذكرياتها.. شراب به عرق قدمه، صور له وهو على الجبهة ،وهو في النادي، وهو مع زوجته وأولاده، وهو علي البلاج مع حسناوات، منديل يتذكر أنه كان له في يوم من الأيام ، قميصه القديم المزركش وفق موضة السبعينيات ، قلمه الجاف الذي جف مداده، رباط حذائه البنى القديم، أعقاب سجائره ، ولاعة كان يمسكها فى يوم ما خاوية الغاز، خطاب مسروق من خزانة زوجته أرسله لها وهو على الجبهة، وعندما قرأه اكتشف لماذا سرقت " كمالة " هذا الخطاب بالذات لقد سأل فيه عن أخبارها ضمن من سأل عنهم وكانت تعمل في هذا الوقت خادمة عندهم، نظر كل منهما في عين الآخر طويلاً .. هطلت دموعها وهى تلملم أشياءها، كانت وكأنما عراها من ملابسها اختفت في المطبخ وهو لا يدرى ماذا يفعل معها ، هذا نوع من محبة لم يستطع قط فهمها . فكر في أن يحرق ذكرياتها لعلها تعيش معه في الحاضر، ولكن ماذا أدراه أنها لن تلم ذكريات جديدة.. يومها شرب القهوة التي أعدتها له، وقالت بهدوء وهى تمسح عينيها وأنفها:

- يا باشا إذا كنت ها تدخل الشقة من غير ما ترن الجرس لأنها شقتك فأنا هاسيبها بكره .

يومها بكى واستعطفها لكي تبقى وقال إنه يغير عليها وإنه سيجن إذا لم يتزوجها فهمست ببراءة:

- تغير على ! أنا مين يا باشا عشان تغير علىٍِ.
وأضافت بالبراءة نفسها وبمرارة من تحس بمصيبتها ولكنها لا تفهمها:

- ياريتنى أشوف رجل غيرك يا " باشا" كنت ارتحت وريحتك من همي .

وكان عندما يصرخ:

- أنا بحبك .. اتجوزينى .

تنظر إليه بعينين حمراوين من البكاء وكفرخة غبية تنتظر الذبح تبرطم بأشياء ليس لها علاقة بكلامه من قبيل:

- ربنا يسترها معاك يارب. أو

- كتر خيرك يا باشا. أو

- يا رب أنا طالبة الستر لنفسي والهداية ليه يا رب.أو

- يا رب قويني بقى.

أو تتمتم بصوت طفلة صغيرة :

- يعنى يا ناس أروح فين؟!

هل صامت " كمالة " طوال عمرها عن حبيبها حتى تستمتع الآن بكل آيات الاحترام في بيت " العريان" ستعرج الآن على" نسل شاه" وتهمس لها بأن تزيد الملح في خضار الباشا حتى تمتنع ريالته، وإذا ما اعترضت " نسل شاه" بأنها أوامر الأطباء ستنهرها قائلة :

- الأعمار بيد الله يا ابنتى و"الباشا" برده باشا وعيب يريل عشان أوامر الأطباء، يا ختى زودي الملح حبة بحبة، واتكلي على الله.

قالوا إن" محمد العريان" فشل طوال عمره في كشف سر محبة " كمالة"، ورفضها له زوجاً ، لم تحب سواه ولم تتمنّ رجلاً غيره وترفض كل شيء من مباهج الحياة إلا رؤيته، أخيرا اعتبرها "الباشا" مجرد حيوان محبوب أخرس، كان يغيب عنها سنة أو ستة أشهر أو أياما فيجدها في انتظاره ، لا تطلب شيئاً ولا تتمنى شيئاً ، تجلس أمام التليفزيون تتفرج على الأفلام المصرية وتبكى على مصير كل من أحب ولم ينل محبوبه، يكاد يصدق أنه لو لم يشتر لها ملابس لاستغنت عنها أو طعاما لكفت عن الأكل.

كانت "كمالة" نحيفة ذات بشرة رقيقة ناعمة وعينين كحيلتين ناعستين، وضفيرتين سمينتين طويلتين يندهش من يراهما ويتساءل.. كيف أنتج هذا الجسد الضئيل هذا الشعر الكثيف الناعم ؟

كمالة التي جلست طوال عمرها مع حفنة من آثاره المتعفنة ، نالت كل ما تمنت بعد أن فرغ جسدها وجسده من العنفوان فكانا يلتقيان وكأنهما روحان شفافتان برعدة في عروق يدها اليمنى وعلو في ارتفاع دقات قلبه يؤهله للموت، ولا يقسم أحدهما إلا بحياة الآخر.

أغلقت "كمالة " الباب خلفها، فسقطت رأسه على صدره ، أراد " تاج" ان ينهض ولكنه سمعه ينهنه بصوت خافت " تاج" متأكد أنه يبكى لذهاب "كمالة" ولكنه قال بصوته المشروخ :

- أنت ما قبضتش على صاحبك الخائن يا " تاج"؟ يعنى ها تسيبه يموتني كده؟

جلس" تاج" مرة أخرى وطلب الدكتور" عبد الرحمن":

- أنت مزعل "الباشا" ليه يا دكتور.. من فضلك بلاش الزيارة دي .. ده قرب يتجنن

- يا أخى وتكلمه في السياسة ليه؟

- يا أخى بيقول انك كلمته عن الثورة

تقطع صوت " محمد العريان " المشروخ وهو يصرخ في وجه "تاج" :

- أنا يا ولد قلت لك روح ذاكر .. انت تعرف إيه عن الثورة..هه؟! قول لمراتك تحميك وانت وسخ كده على طول.

أغلق " تاج " تليفونه برغم تأكده من أن "عبد الرحمن " استمع إلى صراخ أبيه.. دعا الممرضة لتجلس معه، وهو يسب نفسه التي قررت مراراً ألا تدخل على أبيه وأن تعتبره ميتاً.

= يتبع =



#سهير_المصادفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ميس إيجبت - الفصل الثاني
- ميس إيجيبت


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - ميس إيجيبت الفصل الثالث