أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - رائد الحواري - اعمدة الحكمة السبعة















المزيد.....



اعمدة الحكمة السبعة


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4307 - 2013 / 12 / 16 - 07:34
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


أعمدة الحكمة السبعة
ت ـ أ ـ لورانس

هذا الكتاب يمثل وثيقة تاريخية عن واقع الأحداث في المنطقة العربية مع بداية الحرب العالمية الأولى، رغم إن الكتاب يمثل مذكرات شخصية، إلا أنها تتناول الواقع العربي من بداية التمرد على الحكم التركي، وكيف استطاع الانجليز من خلال شخص لورانس أن يغير خارطة المنطقة كاملة لصالح انجلترا، كما أن الكتاب يتناول شخصيات مثل فيصل بتفاصيل عديدة وكذلك عبد الله وعلي وزيد أبناء الشريف حسين، كما تم تناول تفاصيل الجغرافيا والسكان في المنطقة العربية، خاصة ما تلك الموجودة في شرق الأردن وجنوب سوريا.
الانتماء للانجليز والعمل مع العرب ـ جعلت من لورانس يعيش حالة من الازدواجية وشكلت لديه ـ لفترة وجيزة ـ حالة من الصراع، لكن سرعان ما تم حسمها لصالح الانتماء الحقيقي لمؤلف الكتاب ـ أبريطانيا ـ الكتاب يجب أن يقرأ، لكي يعرف القارئ العربي أن العلاقات الدولية لا تعرف المشاعر مطلقا، وان المصلحة العليا للدول فوق أي مصلحة، وان الفرد مهما بلغ من مكانه رفيعة ومهما أنجز من أفعال مبهرة، لا يمكنه أن يمثل إلا ذاته ولا بد أن يعود لمصالح دولته وينفذها .
لورانس لعب دور الجاسوس المخادع للعرب، رغم انه كان يقدم لهم المساعدات المالية والحربية ـ معدات وأسلحة وخبرة عسكرية ومعلومات ـ لقتال الأتراك، إلا انه كان أولا وأخيرا يخدم دولته أبريطانيا من خلال العرب، فالعرب لم يكونوا عند لورانس والانجليز أكثر من منفذ، سيتم الانتهاء منهم بعد إتمام المهمة الموكلة لهم ـ ضرب القوات التركية من اليمن وحتى دمشق ـ وهذا ما تم.
سنحاول إضاءة هذه الجوانب من خلال الشواهد التي قدمها لنا لورانس في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" والكتاب من إصدار مكتبة النافذة في مصر وترجمة ـ مختصرة ـ لهشام خضر.

بداية تشكيل غرفة العمليات الانجليزية

بدأت الفكرة من مكتب الاستخبارات الانجليزية لتشكل مجموعة من الأفراد العسكريين والمدنيين للتأثير على القيادة العسكرية والمدنية الانجليزية على دعم العرب والتعاون معهم، فهم أصحاب قضية، من هنا تم إقناع العناصر المؤثرة في القرار الانجليزي على هذه الخطوة،" كنا نسمي أنفسنا (العصابة المتطفلة) التي تريد أن تجتاز الأسوار وتدخل قاعات السياسية الانجليزية المخططة، وتؤسس شعبا جديدة في الشرق، بالرغم من العقبات والسدود التي أقامها أسلافنا في تلك الطريق، وهكذا كانت بداية عملنا في مكتب الاستخبارات المدنية والعسكرية في منطقتنا الكائنة في القاهرة، ومحاولين إقناع أغلب الرؤساء القريبين والبعيدين بضرورة تبني القضية العربية والعطف عليها، وكان السيد (هنري مكماهون) المندوب السامي البريطاني في مصر أول من توجهنا إليه، وقد تمكن السيد (هنري مكماهون) من خلال ما يملكه من ذكاء وعبقرية ورؤية ثاقبة أن يصف مشروعنا بالمفيد" ص18، وهنا لا بد أن نطرح سؤال حول هذا الأمر، هل كانت الإدارة البريطانية تعمل بطريقة مجزئة، بمعنى أن كل جهاز أو جهة تعمل بطريقة مستقلة عن البقية؟ أم أن هناك تعاون وتكامل في العمل؟ نعتقد من خلال هذا السرد، أن هناك جهة خفية وراء إقدام تلك الجماعة على إقناع الجهات المتنفذة الانجليزية على التعاون مع العرب، وهنا لا بد من التأكيد على هذا الأمر، حيث أن نتيجة التعاون والتحالف ما بين العرب والانجليز كان يخدم أولا وأخيرا الانجليز فقط ومشروعهم الاستعماري، وما حصل عليه العرب لم يكن إلا استبدال الحكم التركي بآخر استعماري غربي، وأيضا تم تمزيق الأرض العربية إلى أقسام متفرقة ومتناثر ـ سياسيا ـ ومن ثم كان هذا الواقع منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى الآن.

الشريف حسين يقدم للانجليز أكثر مما يتوقعون

العربي بطبيعته كريم جدا، وأيضا يندفع إلى الأمام بسرعة كبيرة منطلقا من العاطفة التي تتحكم به أكثر من العقل، كما أن العقل العربي الذي لا يرى إلا من زاوية واحدة جعلت الشريف حسين يقدم على عمل خطير جدا، دون أن يفكر بالعواقب المترتبة عليه "وكان القليل من الذين تسنى لهم مطالعة سير الأحداث على يقين بان شريف مكة سوف يقوم فعليا بقتال الأتراك، لاسيما للأحوال العسكرية غير المواتية، لذا كانت ثورة الشريف وفتحه لموانيه أمام سفننا مفاجأة بلغت حد الدهشة والذهول" ص20، هنا كان خطأ الشريف حسين، حيث أعطا صورة الانجليز عن طبيعة العربي، من خلال الإقدام على فتح الموانئ العربية أمام السفن الحربية الانجليزية، وإذا دققنا بكلمات لورانس نجده قد اخذ جرعة قوية ودفعة على الاستمرار في مهمته من خلال تماهي الشريف حسين مع مطالب الانجليز، وأيضا من خلال معرفة لورانس لطريقة التفكير عند القيادة العربية، وهذا الأمر قدم له الفائدة من جهتين، الأولى إقناع بعض الشخصيات الانجليزية المترددة بخصوص مهمة لورانس، والثانية امتلاكه واقع على الأرض ومن ثم معرفته لطبيعة العرب، مما جعل مهمته تحقق انجازات سريعة.
ومن خلال هذا الموقف العربي تم التعامل مع مشروع لورانس بطريقة مماثلة من القيادة العسكرية الانجليزية ".. وهنا أجابني الجنرال ليدن بل قوله المفاجئ أن الأسلحة والإمدادات متعلقة به شخصيا، وهو سيعمل حالا على إجابة طلبي هذا" ص54، نعتقد أن عملية لورانس من بدايتها، كانت لليد التي شكلت تلك (العصابة) دور هام وحيوي وعملت على دفع القيادة العسكرية الانجليزي في مصر على التعاون وتسهيل المهمة الموكلة للورانس، خاصة انه لم تكن لاتفاقية سايكس بيكو أن تنفذ دون إزاحة الأتراك تماما من المنطقة العربية، وما كان للانجليز أن يخوض حرب في مناطق صحراوية وضد قبائل عربية وجيش نظامي تركي في آنا واحد، من هنا كان لا بد من وجود وكيل يقوم بضرب الأتراك أولا، ثم يتم العمل على تنفيذ اتفاقية تقسيم للأرض العربية بين الانجليز والفرنسيين.

القبائل المقاتلة

هناك العديد من المواقف تشير إلى طبيعة القبائل العربية، والكيفية التي تفكر بها وأيضا طريقة تعاملها مع الآخر ومع بعضها البعض، ".. كان اغلبهم فتيان في شرخ الشباب، ورغم ذلك كانت ملامح وجوههم تبرهن بغير شك عن القسوة والخشونة، وأجسادهم نحيلة وإن امتلأت قوة وخفة وحيوية.
... والواقع لم يكن في الإمكان تدبير وإيجاد رجال اصلب وأقوى عودا من هؤلاء الرجال، أنهم يعبرون المسافات الواسعة على متن خيولهم وجمالهم لأيام عدة، ويمشون حفاة لأقدام على الرمال الملتهبة والصخور الجامدة المدببة، بل ويتسلقون التلال كالأغنام وملابسهم أن هي إلا ثوب واسع وكوفية تستر رأسهم كمنشفة.. وكانت الحرب بالنسبة لهؤلاء الرجال أمتع الأوقات وأكثرها رخاء، فالشريف كان يسدد لهم رواتبهم كاملة فضلا عن الطعام، وكان كل واحد منهم يتقاضى جنيهين مذهبين كراتب شهري، ثم يستأجر الجمل منهم بنحو أربعة جنيهات، وكانت الطريقة الملائمة دون غيرها لإبقاء رجال العشائر لأشهر طويلة في ميادين القتال ... لقد كنا من قبل نسخر من حب أهل الشرق للأموال، بيد أن الأتراك كانوا يدفعون الرشاوي الكثيرة لكي يحصلوا على خدمات لا تذكر، وكانت العشائر ترضخ للرشاوي وتقبلها، وتشكر معطيها، ثم تذهب لجيش فيصل لتقاتل في صفوفه نظير مبلغ قليل من الدراهم، وكان الأتراك يقتلون أسراهم، أو بمعنى أدق يذبحونهم كذبح الإبل والنعاج، بينما كان الأمير فيصل يدفع جنهيا واحدا من الذهب لكل من يأتي إليه بأسير تركي حيا، كما انه كان يدفع جوائز من الذهب عن الأسلحة والخيول التي يتمكن الجنود من الاستيلاء عليها" ص48، هذا الفهم للواقع الاجتماعي الاقتصادي للرجال القبائل المقاتلة مع الشريف حسين سهل مهمة لورانس في القضاء على التواجد التركي من الجزيرة العربية وبلاد الشام بأسرع من توقعات القادة الانجليز بكثير، فعندما تعرف طبيعة الأداة التي تستخدمها ستجيد وتقن عملك تماما، ومن ثم سيكون هناك إبداع في نوعية العمل وشكل العمل معا.
الفقر وضعف الإمكانيات جعل من جنيهين بالإضافة إلى الطعام يشكل حافز للعربي لكي يستمر في القتال إلى جانب الشريف حسين، الذي يمثل بشخصه قائد أو رئيس عشيرة يجب إطاعته، فما بالنا إذا قدم تلك العطايا!.
كما أن طبيعة العربي يميل إلى بني جنسه، وأعمال الأتراك اتجاه الخارجين عليهم جعلت القبائل العربية تندفع إلى جيش الشريف حسين رغم تواضع إمكانياته المادية والعسكرية، كما أننا نجد الجوانب الأخلاقية عند الأمير فيصل في تعامله مع الأسرى الأتراك، على النقيض من الطرف الآخر، الذي لا يتورع عن قتل أي أسير أو معارض، وهنا بطبيعة الحال سيكون الجيش الأكثر أخلاقا وتسامحا هو الذي يستطيع إقناع المحايدين على الوقوف معه، والابتعاد عن الجيش الذي يستخدم البطش ضد المعارضين، وهنا لا بد من التذكير بان الحديث عن القبائل العربية في الجزيرة العربية.
هذه النواحي الايجابية عند القبائل لها ما يماثلها من السلبيات، فطبيعة النظام القبلي تحتم على الأفراد والجماعة أن تسير حسب العلاقة الاجتماعية، من هنا تبرز طبيعية التفكير القبلي التي تتميز عن المجتمعات الحضرية، والتي لا تستطيع أن تتجاوز واقعها " .. فالواقع أن هذا لا يمنع احد رجال العشائر من الأخذ ثائر قديم إذا سنحت له الظروف بذلك، ولهذا اتضح لي أن رجال العشائر لا يصلحون إلا للدفاع، وكانت تلك شجاعتهم التي بلغت حد التهور تجعلهم أكفاء ومتميزين في نسف وتدمير الخطوط الحديدية وسلب ونهب القوافل، لكنهم كانوا من غير الممكن عليهم أن يخضعوا لأوامر قيادة عامة، إذ كان هؤلاء الأبطال غير مستعدين للتدريب" ص49، اعتقد أن لورانس يستطيع من خلال فهم طبيعة الرجال الذين يتعامل معهم أن يحقق أهدافه بدقة، وإذا تتبعنا الأعمال العسكرية التي نفذت نجد معظمها كان نسف الخطوط الحديدية، أو ضرب قافلة أو مركز للجيش التركي، من هنا كان الأتراك يتعرضون لشل حركتهم وأيضا إرباكهم من خلال العمليات العسكرية التي تقترب من عمل العصابات، ومن ثم يسهل على الجيش النظامي العربي أن يقتحم المواقع ويسيطر عليها.
طبيعة الإنسان تدفع به للسعي وراء المصلحة المادية، فما بالنا إذا كان هناك حالة جمعية تعمل لتحقيق مصالحها! والمشاهدين لها يعيشون في شظف العيش! فلا بد أن نجد الازدحام على هذه الظاهرة وليس الركض ورائها وحسب، " بعدها رجعنا إلى رم لكي نعلن أن شرف قيادة الحملة قد رسا على قاسم وعشيرته، وفي التو بدأ الرجال يتدفقون علينا طالبين الانخراط في صفوف الحملة، يدفعهم لذلك ما ترامى لسمعهم عن الحملة السابقة وما شاهدوه بأعينهم من غنائمها، فاضررنا أن نرفض الكثيرين وأبقينا 150 رجلا وعدد ضخما من الجمال على أمل أن تعود محملة بالغنائم" ص173، هذه الصورة تبين بأن ليس كل القبائل كانت تعمل مع الشريف حسين من اجل القضية العربية والتخلص من الأتراك، بل هناك عامل آخر يمكن أن يكون أكثر تأثيرا على القبائل لدفعها للتعاون مع حركة الشريف، فالغنائم التي تشكل احد أهم موارد الرزق للقبائل، والتي أيضا تتفق مع طبيعة ترزقها، كان العامل الأهم في استمرار الحركة من اليمن إلى أن وصلت إلى دمشق.
فإهمال العامل العقائدي والفكري ـ عند بعض رجال القبائل ـ كان احد أهم الأسباب التي جعلت القبائل ومن ثم حركة الشريف حسين تتوقف عندما تم كشف حقيقة التآمر الانجليزي الفرنسي على العرب، ولم تبدي ذات المقدرة القتالية التي أبدتها ضد الأتراك، فقد كانت تلك القبائل قد حصلت على مقدار من الغنائم يجعلها في غنى عن تعرض رجالها للقتل أو للأسر، من هنا هذا احد الأخطاء القاتلة في حركة الشريف حسين، فلم يعطي الجانب العقائدي والفكري أهمية كما هو الحال بالنسبة للحوافز المادية التي يحصل عليها الرجال والقبائل من خلال عملية السلب والاغتنام من الأتراك، وهذا جعل من حركة الشريف حسين ـ في بعض وجوهها ـ ليست أكثر من عملية تتناغم مع طبيعة القبائل ورجالها، فهم ليسوا معنيين بالهم التحرري العربي بقدر اهتمامهم بالحصول على اكبر قدر من الغنائم، فتم وئد الحركة بمجرد أن شبع واكتفى هؤلاء الرجال مما اغتنموه، ومن ثم كانوا عامل مثبط ومحبط للآخرين الذين أرادوا الاستمرار في حركتهم ضد الغازي الجديد ـ الانجليز والفرنسيين.
ولتأكيد هذا الأمر يعطينا الكاتب هذا المشهد " وقد اضر الأمير فيصل إلى ملء صندوقه الحديدي بالحجارة ووضع حراسة مشددة حوله لكي يوهم رجال العشائر بان المال لا يزال متوفرا لديه" ص42 و43، إذن العديد من رجال القبائل يحاربون في سبيل المال والأجر والاغتنام، وليس في سبيل قضية قومية أو وطنية، بل قضية مال وقضية شخصية، ومن هنا انعكس هذا الأمر على الأمير فيصل وعلى علاقته بالمقاتلين العقائديين، فعندما كان يجد هناك من يقاتل مندفعا من خلفية عقائدية أو بسبب الشعور بظلم الأتراك كان يتلقفه ويكرمه بصورة تليق بالمقاتل، " ـ لقد جاء عودة، وشاهدت في التو رجلا يدخل الخيمة مفتول العضلات، وجهه متغضن ونظراته يكسوها الحزن العاطفي، واقبل يصافحنا وهو يقول السلام عليكم يا أمير المؤمنين.. جلس عودة بعد ذلك بالقرب من فيصل، ثم اخذ الأمير يقدمنا له،.. وقال انه يأمل مخلصا أن يرى الحرية تنتصر في بلاده ... جلسنا حول السماط وخلال الطعام رويت لفيصل بعض الطرائف عن معسكر عبد الله، وفجأة هب عودة واقفا على قدميه وهو يصرخ "سامحنى الله" ثم خرج خارج الخيمة، وبعد قليل سمعنا شيئا يتحطم فخرجت لأرى ما الذي يصنعه عودة، فوجدته ينحنى فوق صخرة ويحطم وجبة أسنانه الصناعية، وبعد أن انتهى من تحطمها استدار إلي قائلا : لقد نسيت أن جمال باشا كان قد أهداني وجبة أسناني هذه" ص117و118، هكذا كان المقاتل العربي المنطلق في قتاله بدوافع عقائدية، وإيمان بواقع الظلم والجور الذي أحدثه الأتراك، فنجد صورة مثلى لرجل مؤمن بحربه، حتى أن الأسنان التي تعتبر ضرورة جدا ولا بد منها للإنسان، تخلى عنها وبطريقة (ثورية) لكي لا يكون هناك أي شيء جميل اتجاه الأتراك.
المفارقة بين صورة السعي وراء المصلحة الشخصية وصورة المقاتل عودة، هي مربط الفرس، كان من المفترض تنمية الروح القتالية عند رجال القبائل بشرح وتوضيح ضرورة التحرر من الحكم التركي، وليس بترغيبهم في الغنائم والرواتب وأجرة الجمال، وهذا يدل على أن حركة الشريف حسين وأولاده كانت غير ناضجة اجتماعيا ولا فكريا، فهي حاولت أن تعوض النقص والفقر الفكري والعقائدي لديها بالاهتمام بالمسائل مادية، فكانت كمن يصب الزيت على النار، فما أن تم وقف تلك المكاسب حتى توقف رجال القبائل عن القتال، ولم يعد يهمهم أمر الحكم أن كان انجليزيا أو فرنسيا أو تركيا، فما أن توقف الدفع حتى توقف هؤلاء عن القتال، فضاعت الحركة في مهب الريح، وضاعة معها الوحدة السياسية التي كانت موجودة أيام الحكم التركي، وأمست الأرض العربية أشلاء متباعدة فعليا رغم تقاربها جغرافيا، فهناك السوري والفلسطيني والعراقي والأردني واللبناني والسعودي واليمني والكويتي والإماراتي والبحريني والقطري والعماني.
اعتقد يجب إعادة دراسة الحركة العربية التي انطلقت من مكة بقيادة الشريف حسين وأولاده، مرة أخرى لكي نتعلم منها كيفية القيام بحركة ثورية حقيقية، مبنية على الواقع ومدعومة بأساس فكري عقائدي، يكون رافدا مستديما لعناصر الثورة.

صورة المقاتل العربي

هناك العديد من المشاهد التي قدمها لورانس عن المقاتل العربي، فنجده أحيانا مستبسلا، ونجد آخر لا يعرف لماذا من يحمل البندقية ولا يستطيع أن يفكر بطريقة موضوعية، فهو أسير لحالة التفكير البدوية، التي تجعله غير صالح للقتال المنظم أو الانطواء تحت أي قيادية، كل ذلك يؤكد حقيقة الضعف والإهمال الفكري عند بعض لمقاتلين العرب "كان (مولد مخلص) يستمع إلى حديثنا.. فصاح وقالا لي: .. أن ما نبتغيه هو الحرب، والحرب لا غيرها حتى نقضي عليهم، أعطني بطارية من مدفع شنايدر الجبلية، وبعض الرشاشات وأنا اكتب لك نهايتهم بيدي" ص44 هذا الاندفاع في القتال كان احد عوامل الحسم في المعارك مع الجيش التركي، ف (مخلص وعودة) كانوا رأس الحربة في قتال الأتراك، وكانوا يشكلون مثالا يحتذى به الآخرين.
"كانوا يقفون في صفوف غير مستوية، .. كانوا يحافظون على سلاحهم حتى يبقى في حالة جيدة، وكان بعضهم بارعا في إصابة الأهداف على مسافات بعيدة، وإذا كان رجال العشائر غير قادرين على القتال في جماعات بسبب فقدانهم للنظام، إلا أنهم أقوياء حين يحاربون بجماعات صغيرة، وكلما نقص عدد الرجال في الوحدة ازدادت مقدرتهم على انجاز ما يعهد إليهم من المهام، فعلى سبيل المثال كان الألف منهم يفشل في مقاومة سرية تركية واحد، بيد أن ثلاثة أو أربعة رجال كان بوسعهم التصدي في وجه عشرات من الأتراك" ص76، تركيبة البدوي تجعله بهذه الصفات، فهو لا ينتمي للنظام ولا للتنظيم، يعمل بشكل جيد إذا أعطيه حرية الحركة، ويفشل حين يطالب منه التقيد بأمر معين، يستدل من هذا الكلام على أن رجال العشائر يركنون على بعضهم كثير، إلى حد أن يتكاسلوا في معظمهم، وعند الشدة نجدهم حازمين مستبسلين، هكذا هي تركيبة رجال القبائل.
"... ووقفنا نترقب إطلاق المدفع الرشاش الذي نصبناه ولكن بغير جدوى، فقد نما لعلمنا بعد ذلك بوقت وجيز إن الرجال قد خشوا الوحدة، فحملوا مدفعهم وجاءوا به إلينا" ص109، صورة عن الكيفية التي يتعامل بها رجال القبائل في المعركة، فهم يتصرفون وكأنهم في نزهة وليس في حرب، ولا يعرفون خطورة عدم التقيد بالأوامر العسكرية، خاصة أثناء المعركة، من هنا كان هؤلاء الرجال يشكلون ضررا فادحا على حركة الشريف حسين، لأنهم وصلوا إلى حد كان من الممكن أن يكون لصالحهم، لو كانوا يملكون التنظيم العسكري وأيضا الإيمان الفكري والعقائدي، لكنهم كانوا رجال مرحلة وأصحاب أمزجة خاصة، لا يمكن لأي كان أن يطوعهم.

تأثر الأتراك بالحالة الدينية

الجيش التركي معظم أفراده من المسلمين، وكما أن فيه عدد كبير من العرب الذين ينتمون للدين الإسلامي، من هنا نجد هذا الجيش يراعي حرمة المصلين "...ولما وصلنا ترجلنا عن ظهور جيادنا وتقدم منا دخيل الله وقد صلى فينا إماما، وعندما رآنا الأتراك نصلي استولى عليهم الذهول واستبدت بهم الدهشة، وتوقفوا عن إطلاق النيران" ص113، مشهد يعطي اندهاش الجنود الأتراك كان ناتج عن اعتقادهم بان من يقاتلهم هم كفار غير مسلمين، وهذه طبيعة أي جيش متخلف، يعمل على بث الأكاذيب والمعلومات غير الصحيحة عن الخصم، مما يجعله مسخا بعيون إفراده، لكن في حقيقة الأمر هذا الموضوع بحاجة إلى إعادة النظر فيه.
فعندما قدم النظام العربي الرسمي الجيش الإسرائيلي على انه جيش يقاتل مجبرا، ويتم تقيد الجنود في الدبابات حتى لا يفروا من المعركة، وجدناهم يحققون النصر على ثلاث جيوش عربية في وقت واحد، مما أعطى انطباعا بان القيادة العربية تمارس عين السلوك الذي استخدمه الأتراك.


الفكر التحرري والوحدوي العربي

لا شك أن هناك فكر تحرري كان يتكون عند العرب، ناتج عن سياسة التتريك التي مارستها الدولة التركية بحق العرب، خاصة عندما تولى جمال باشا الحكم في بلاد الشام، فعمل فيها العجائب بحق المواطنين العرب، فهناك مشاهد عديدة تأثر بها القائد الفعلي للحركة العربية الأمير فيصل عندما شاهد العديد من العرب يقادون إلى المجهول أو إلى المشنقة، فقط لمطالبتهم باحترام الدولة التركية لحقوقهم الإنسانية والوطنية،" فقد شاهد بعين رأسه عددا من أصدقائه ورفاقه يساقون إلى المشانق في طوابير غفيرة لا تنتهي" ص12، عادة الأنظمة المتخلفة ممارسة اشد أنواع القمع لرعاياها، تحسبا من قيامها بأي عملية يمكن أن تشكل خطورة على النظام، لكن في الواقع تكون هذه الدولة كمن يقتل نفسه بيده، فعندما تجد تلك العناصر و الجماعات أول منفذ لها ستقلب الطاولة على رؤوس حكامها، وهذا ما فعله العرب أيام الأتراك ومن خلال الحركات الحالية في الدول العربية.
هذا كان احد العوامل على تشكيل فكر وطني وقومي تحرري عربي، فلم تكن مسألة المكاسب المعنوية لها تأثير عند القبائل العربية، بقدر تخلصها من الظلم التركي "لقد أدهشني رجال العشائر ذو الثياب المتهرئة بسعة وشمولية وعمق أفكارهم للمفاهيم القومية التي يتعذر على الطبقات المثقفة هضمها... طرحت عليهم هذا السؤال محاولا فهم حقيقة مشاعرهم: ترى من الذي سيفرض سيطرته على الآخر : دمشق أم الحجاز بعد أن تنتصر الثورة؟ ..وقد كانت الإجابة تتلخص في أن مثل هذا الأمر لا يعنيهم كثيرا، فالأولوية تتلخص في هؤلاء المتطفلين الذين يتحكمون بهم" ص46، في بداية الحركة العربية ضد الأتراك كان الدوافع في الأساس ناتجة عن الظلم والجور الذي وقع على العرب من الحكم التركي، لكن وصولهم المناطق الشمالية، ورغم وجود هذا الظلم عليهم، إلا أن تحركهم ضد الأتراك كان بدوافع المال والغنائم، أكثر مما هو بدافع رفع الظلم عنهم، وهذا يعود إلى عدم وجود قائد في تلك المناطق بحجم فيصل أو الشريف حسين، يستطيع أن يعبئ القبائل بعدالة قضيتهم، ومن هنا كانت دوافع القبائل تقع ضمن هاتين الحالتين، وفي أحيان كثيرة كانت القبيلة فيها نماذج من الحالتين، بمعنى هناك من يعمل مع الثورة من اجل المال فقط، وهناك من يعمل معها لرفع الظلم التركي، أو بسبب قرب العرب للعرب أكثر من الأتراك، ومنها من يعمل بسبب المال ورفع الظلم معا، وهذا ما وجدناه في الحديث الذي تناوله لورانس عن القبائل العربية.
ويكمل الكاتب فكرته عن العرب وعن الوحدة العربية التي يسعون إليها قائلا "أما بالنسبة إلى العراقيين والسوريين المنضمين للجيش العربي فقد كانوا على يقين بأهمية المشاركة في ثورة الحجاز: .. والآمر بالنسبة لهم سواء كانت الدولة المنتظرة دولة وحدوية لو اتحاد كونفدراليا، وكانوا ينظرون إلى دمشق وبغداد برغبة دفعهم إلى الأسرة العربية، لم أجد لدى العرب سوى اثر ضعيف للتعصب الديني، فقد رفض الشريف مرات عديدة أن يصقل ثورته بالطابع الديني، فحقيقة ثورته كانت قومية، والعشائر كانت تدرك أن الأتراك من المسلمين، والانجليز مسيحيون، وعلى الرغم من ذلك فقد ثاروا على الأتراك وقبلوا صداقة المسيحيين والتحالف معهم، فالعرب يريدون حكومة مستقلة تدافع عنهم وعن حقوقهم وقوميتهم وتفسح لهم مجال العيش بسلام" ص47، المنطلق للحركة العربية الظلم التركي بالإضافة التي وجود حالة من القومية بدأت تظهر لديهم بسبب سياسة التتريك. فالمسألة الدينية كانت بالنسبة لهم محسومة سلفا فهم مسلمون عرب، من هنا كان العامل الديني غير مهم بالنسبة لهم، فالشريف حسين معروف بمركزه الديني في مكة، ومع هذا لم يحاول أن يستثمر هذا العامل لصالح الحركة العربية، وكتفت حركته بتناول الجانب العربي إضافة إلى الجور والظلم التركي عليهم.
" وقد نجحنا في إتمام بعض الغايات من وراء تلك القيادات الهامة التي جاءت إلينا لاسيما وأن جمعهم قد اقسموا اليمن على القرآن على مسمع من فيصل بان يكونوا حيث يكون، ويتقدموا حيث يتقدم، وألا يطيعوا الأوامر الصادرة من الأتراك، وعلى أن يعاملوا كل ناطق باللغة العربية معاملة حسنة، سواء كان ذلك المرء من حلب أو من بغداد أو من الشام، وان يقدموا قضية الاستقلال لتكن على رأس قائمة المطالب والأولويات، بل وفي قلب الصدارة وفوق أية قضية وعشيرة وغاية" ص101، نجد في هذا القول الفكر الوحدوي بكل معانيه، فنجد وكأن هناك تنظيم سياسي ينظم الأفراد ضمن شروط فكرية محددة، فرغم عدم وجود برنامج سياسي مكتوب وكامل، إلا أن مثل هذه المعلومات كافية لكي يتفق علينا المتعاقدون ـ تنظيميا ـ وكانت عملية الحلف على القرآن الكريم كتوثيق العهد بين الأفراد والقائد والتنظيم، ونجد أيضا الفكرة الوحدوية موجودة وحضورها مميز في القسم الذي يتم، فكل من يتكلم العربية هو أخ أو رفيق، يجب احترامه وتقديم المساعدة له إن أمكن، كما نجد في القسم المصلحة العربية أخذت واحتلت المرتبة الأولى، وهي فوق المصالح الشخصية أو القبيلة.

الشخصيات الواردة في الكتاب
الأمير فيصل بن الحسين
يتناول لورانس العديد من الشخصيات التي تعامل معها، فمنها الفاعل المؤثر في الأحداث، ومنها من كان على الهامش، أكثر شخصية كان لها حضورها في مذكرات الكاتب شخصية الأمير فيصل بن الحسين، الذي كان فعليا هو القائد للحركة العربية، وهو يحتل المحور الثاني من الاهتمام في الكتاب بعد شخصية الكاتب، وسنحاول تسليط الضوء على هذه الشخصية لكي نعلم ما لها وما عليها، فيصل هو الذي أوصل العرب إلى ما هم عليه، فهو يتحمل بطريقة أو بأخرى نتائج حركته، "وحمل فيصل على كاهله أعباء الحرب فيما كان شقيقه الأمير عبد الله يلهو في جدة، أما شقيقاه زيد وعلي فقد كانا حينئذ يستمتعان بالحياة في رابغ" إذن الشخصية التي تحملت كل ما يتعلق بحرب الأتراك كان فيصل، فهو المحرك للحرب وهو من شن الحرب على الأتراك، وسنحاول تناول الدوافع الحقيقية وراء موقف فيصل من محاربة الأتراك، فيحدثنا لورنس عن فيصل بأنه قد تعرض لضغط نفسي هائل عندما كان جمال باشا يعلق أحرار العرب أصدقاء فيصل على المشانق على مرى من فيصل، وهذا الأمر جعل منه يتحامل وبشدة على السياسية التركية، فما إن وجد أول فرصة حتى انقض على الأتراك، رغم معرفته بصعوبة، ويمكن باستحالة الانتصار عليهم، هذا الأمر وهو أيضا احد العوامل التي جعلت فيصل والشريف حسين يتعاونا مع الانجليز بهذه الطريقة غير مدروسة.
السمات القائد غير متوفرة عند الجميع، وإن وجدنا بعض هذه الصفات إلا إن طريقة استخدامها من قبل القادة تكون متميزة، هكذا كان فيصل القائد " كان مجلسنا يضم حشدا لافتا، فقد كانت تضم عددا من أشراف ووجهاء وشيوخ القبائل من(جهينة) وعتيبة، وأخذت أتطرق إلى قضايا ومسائل خلافية جرت فيما بينهم، وكنت حاولت تفجيرها وإثارتها بدعوى معرفة آرائهم ومعتقداتهم، وقد كان الأمير فيصل ـ الذي يدخن تبغا كثيرا ـ يقود المحادثات ويهيمن حتى حين تصل إلى أوج عنفها، وقد بدا لي رجلا عظيما يتحلى بقدرة هائلة على الإمساك بخيوط الحديث وتوجيهه كيفما شاء وأينما أراد، يمكن القول أن الأمير فيصل رجل محبوب، وقد استولى بذكائه وطيبة قلبه على أفئدة الجميع التي سكنها واستقر بها" ص45، الصفات الفريدة التي يتمتع بها القائد تجعل منه موضع لجمع الفرقاء، فهو كالأب الذي يجمع أولاده حوله، وهم أيضا يجدون فيها الحنان والحب الذي يجمعهم، هكذا كان فيصل القائد والمقاتل عند جنوده.
خصائص القيادة لا تكمن بهذا الحب والاحترام من الجنود وحسب بل لها صور أخرى " أما بخصوص مسألة قدرته على كبح جماح نفسه فقد كان ذلك أمرا غريبا وعجيبا، عندما وصل إلى خيمته رجل يدعى منصور الكحيمي ينقل إليه خبر هزيمة أخيه زيد انفجر ضاحكا وسط جمع غفير وطلب منه أن يخرج بعيدا عن الخيمة، وكان يتحدث إلى شيوخ عشيرة حرب وعقل الذين كانوا هم المسئولين عن وقوع مثل هذه الهزيمة النكراء، ولم يتجاوز كلامه معهم أكثر من عتاب رقيق، بيد أنه استدعى مرزوق أستدل ستار الخيمة خلفه بعد أن انصرف الشيوخ من الخيمة" ص63، ضبط النفس والتحكم بها، وعدم إظهار الغضب والعصبة ـ رغم أن الدوافع كثيرة وتبررها ـ يمثل سمة القادة ، فهم ليسوا كالآخرين، سريعي الغضب وتظهر انفعالاتهم العصبة لأي موقف، بل الضبط والتحكم بالمشاعر والأعصاب يعد احد أهم سمات القائد.
من هنا لم يكن فيصل ليغضب أحدا مهما كان ومهما فعل "وطوال فترة إقامتي معه لم أر رجلا عربيا واحدا يغادر خيمة فيصل آسفا أو غضبان حزينا، وهذا مرده إلى ذاكرته الحديدية وحكمته وذكائه الحاد" ص65، رضاء الجمع مسألة في غاية التعقيد، خاصة في مجتمع قبلي يعيش في حالة من الصراع والخلاف بشكل دائم، ومع هذا كان فيصل شخصية محورية للجميع ويرضي الجميع، وهناك ميزة أخرى تتمتع بها شخصية فيصل يتناولها الكاتب تتمثل في " فقد كان فيصل مولعا بالشعر العربي وينصت إليه بشغف" ص66. إذن نستطيع القول بان فيصل شخصية قيادة استطاع أن يجمع القبائل رغم ما بينها من عداوات وخلافات على موضوع جامع وموحد ـ القضاء على الحكم التركي، واستبداله بحكم عربي.

عبد الله بن الحسين

شخصية عبد الله تختلف عن فيصل القائد المنتمي لفكرة التحرر، فيبدو عبد الله وكأنه واكب الحركة العربية على مضض أو لأنه ابن الشريف حسين ليس أكثر، فهو لم يكن ليتحمل الضغط ويواجه الصعاب كما هو الحال بالنسبة لفيصل فهو يمثل شخصية إشكالية في الأحداث التي تناولها لورانس، والأحداث التي أعقبتها، خاصة بعد معرفة العرب بالخيانة التي نصبت لهم، من خلال الاتفاق الانجليزي الفرنسي على تقسيم الأرض العربية بينهما، فكان عبد الله بعد انتهاء الحركة العربية ليعب دورا أساسيا وحيويا في المنطقة على العكس تماما من عدم فاعليته أثناء الحركة العربية، وهنا لا بد من التأكيد على أن عبد الله كان على علم بالمخطط الانجليزي الفرنسي من خلال اتفاقية سايكس بيكو، لكنه لم يكن يجرؤ على التكلم بذلك لفيصل أو للشريف حسين، فهل تعمد أن يكون موقفه سلبيا من الحركة العربية لكي لا يقعوا فيما هو أسوء؟ خاصة إذا علمنا بأنه الرجل المسؤول عن العلاقات الخارجية في الحركية العربية !
"وكان إيماني القوي بان عبد الله لا يصلح لكي يكون زعيما أو قائدا لتلك الثورة، وذلك لبرودته المفرطة ومزاحه الكثير ومنطقه القوي، وكنت ازداد إيمانا بهذا الرأي كلما مضى بنا الحديث في ذلك الاجتماع" ص25، من هنا كان العبء الأكبر على كاهل فيصل الذي لو وجد في إخوته من يقف معه موقف حازم وفاعل، لكان قد تفرغ لأمور أخرى، ومن ثم يكون أكثر حكمة واتزان في التعامل مع كافة المستجدات، إن كانت عسكرية أم سياسية، خاصة فيما يتعلق بالعرض التركي بعد أن استطاع تجاوز الجزيرة العربية إلى الشمال، فقد عرض عليه الأتراك الاستقلال بالجزيرة العربية، ورفض ذلك، فتم إضافة بلاد الشام والعراق للجزيرة العربية وأيضا رفضها، وهنا كان القرار القاتل للعرب والذي ما زلنا ندفع ثمنه، من خلال التجزئة ودول الطوائف التي أوجدها الاحتلال الغربي.
"وما أن جلسنا لكي نتناول الطعام حتى بدأت الجوقة تحت تهديد عبد الله تعزف ألحنا تركية مزعجة خالية من أي تنسيق أو انسجام، بل كانت تسبب أذى للقلب وللأذن معا، وراح عبد الله يتأملنا وهو يبتسم قائلا في زهو: هذه موسيقاي. لقد كان مجلسنا يدعو للغرابة في تلك الليلة، حيث كان خليطا من الرجال، فعبد الله هو النائب السابق لرئيس مجلس المبعوثان التركي ووزير الخارجية الحالي للدولة العربية" ص29، شهادة أخرى على عدم أهلية عبد الله ليكون في أي منصب أو مركز، فهو يبدو من خلال الموقف السابق كشخص غير سوي، وبحاجة إلى الكثير من التعليم والمعرفة لكي يقوم بأعمال وأفعال منطقية، إلا إذا أراد من وراء هذا السلوك (تطفيش) لورانس من الجزيرة العربية أو انه أراد أن يقطع التواصل والتعاون ما بين العرب والانجليز لكي يجنبهم ما هو قادم، حيث أن هناك موقف آخر يذكره لورانس يؤكد عدم جدية وعدم اهتمام عبد الله بالأحداث الجارية "لم يكن عبد الله يولي للشأن العسكري العام أية اهتمامات، بل كان يعتبر أن هذا من أهم الواجبات أخيه فيصل، ولذا فقد قرر أن يقيم بصفة نهائية في وادي عيسى، وكان لا يقوم بأي نشاط ضد الحاميات التركية، وكان لا يشجع غيره على أن يقوم بشن هذه الغارات إلا فيما ندر، ولقد علمت أن عبد الله يضمر في نفسه حسدا وغيرة لفيصل وغير فيصل، ولهذا السبب كان لا يسعى إلى القيام بأية عمليات عسكرية حتى لا تكون هناك أية مقارنة بين ما يقوم به هو وبين ما يقوم به فيصل. واشتدت بي الرغبة في مغادرة معسكر عبد الله الخامل" ص115 هناك حرب طاحنة في العالم والعرب يقومون (بمغامرة) لا تحمد عقباها، وعبد الله في لهو وعدم مسؤولية اتجاه ما يحدث، فهل كان هذا الأمر مقصودا؟ أم مجرد نزوة؟ أم أن تركيبة عبد الله بهذا الشكل؟، أم انه يخشى القادم الاسوء؟.
لورانس يقدمه كرجل مهم جدا في الحركة العربية، وهنا نحن نؤكد على تورط عبد الله فما حدث للحركة العربية من خلال الغدر والخيانة الانجليزية والفرنسية، فهو الرجل المسؤول عن العلاقات الخارجية في الحركة العربية، وكان مطلوب منه أن يستقصي الحقائق عن اتفاقية سايكس بيكو، لا أن يجعل من هب ودب يتكلم بها. من هنا سير الأحداث ألاحقة تشير إلى علم عبد الله بالاتفاقية الانجليزية الفرنسية، ومن ثم ـ كان سكوته ـ يمثل مساهمة في تقويض الحركة العربية، وتراجعها السريع إلى الخلف. وهنا نطرح تساؤل ماذا فعل عبد الله بعد أن أكشفت الخيانة الانجليزية للعرب؟ وماذا كان دور القوات التي في يده، ولماذا وافق على إقامة إمارة في شرق الأردن وليس في مكان آخر، فلسطين مثلا؟ لماذا وقف متفرجا ومتواطئا عندما كانت فلسطين تشتعل في ثورة 29 البراق وفي ثورة 36 بعد مقتل القسام. موافقته على ضم الجزء المتبقي من فلسطين حيث تم إلغاء فلسطين من الخريطة السياسية، ثم حمايته لحدود دولة إسرائيل حتى مقتله في القدس، وهنا أيضا نضع علامة استفهام كبيرة، أيهما كانت من المفترض أن تكون العاصمة للمملكة الناشئة، عمان أم القدس؟ وأيهما أكثر حضورا البلدة الفقيرة أم المدينة المقدسة؟.

علي بن الحسين وزيد بن الحسين

يتحدث لورانس عن علي على أنه الرجل الثاني في الحركة العربية، ورغم قلة الحديث عنه، إلا انه كان كافا لكي يعطينا صورة عن هذا الرجل " لقد أسرني شعور بالإعجاب البالغ بالأمير علي صاحب القامة المربوعة والعينين الواسعتين والأنف الدقيق والشفاه الرقيقة والأيدي الناعمة، وأما بشأن أخلاقه فقد كان يتسم بالهدوء والرزانة وعفة اللسان، فصلا عن كونه مولعا بالقراءة والاطلاع على كتب الدين والقانون، وقد عاب عليه البعض أنه كان مندفعا إلى درجة يتعذر عليه الرجوع أو الإقرار بخطئه إذا بدا أنه قد أخطأ، لذلك فقد أدركت أن الثورة على يد هذا الشاب المتحمس سوف تحقق خطوات كبيرة إلى الأمام إذا اتضح لي فشل الأمير فيصل عن القيام بدور القائد، فالأمير علي في تقديري كان أكثر أصالة في عروبته من أخويه عبد الله وزيد" ص31، إننا أمام رجل يستطيع أن يخلف فيصل في القيادة إذا ما ترجل أو تنحى، ورغم هذا الوصف العاطفي والمنحاز لعلي، إلا أن الكاتب لم يعد يشير أو يتحدث عن علي بشكل شبه تام، وكأنه يريد من القارئ أن يتجاهل هذه الشخصية، وهذا الأمر أيضا ينطبق على زيد بن الحسين.
"وكان زيد يتصف بالهدوء والخجل والتردد، وفي ربيعه التاسع عشر، وقد لاحظت على الفور على انه غير متحمس للثورة" ص31، زيد الشاب السلبي اتجاه الأحداث، يقوم بعمل يؤكد ما قاله لورانس، فعندما يعطيه لورانس 30000، ثلاثين ألف جنيا ذهبيا، يقوم بصرفها خلال فترة وجيزة، وعندما سؤل عنها قال: أنفقتها، لقد كنت مديونا، مما جعل المقاتلين الذي تحت قيادة يقعون في ضائقة مالية، ومن ثم الحد من الفاعلية القتالية، من خلال هذين المشهدين يتم تناول شخصية زيد، وبعدها يتم ـ اختفاء ـ زيد من الأحداث.

نوري السعيد

هذه الشخصية التي لعبت دورا موازيا لدور الأمير عبد الله بعد انتهاء الحركة العربية، فهو الذي رسم السياسية العراقية لفترة طويلة، فقد كان له صولات وجولات في ضرب القوى المناهضة للانجليز في العراق، حتى أن دوره تفوق على دور الملك، ورغم عدم استمراره في رئيسة الوزراء إلا انه استطاع أن يكون (الأب الروحي) أو اليد الخفية التي تتحكم بكل مجريات الحكم في العراق، يتحدث عنه لورانس في أكثر من موضع "وقد قام الأمير علي بكافة الخدمات الإضافية بمباركة من نوري السعيد الضابط الركن العراقي الذي كنت قد التقيت به مؤخرا في القاهرة، حيث كان يخضع للعلاج في إحدى مصحاتها، وكان نوري السعيد الرجل الثاني بعد عزيز علي المصري في قيادة الجيش العربي" ص30، وصف عادي لرجل خدم مصلحة العرب، لكن تناول الحديث عن تواجده في القاهرة واللقاء لورانس به هناك يضعه في موضع التساؤل والاستفهام!.
" وكانت مهمة رئاسة هذا الهجوم قد أوكلت للشريف ناصر المحفوظ الذي كان بصحبة نوري السعيد رئيس أركان حرب جعفر... ومع تباشير الصباح الأولى باغتت قنابل مدفع نوري السعيد المركز التركي الحصين فوق التلة القريبة وأرغمت المدفع التركي على السكوت للأبد" ص197و198، دور فاعل ومؤثر في أحداث المعارك ضد الأتراك، كما يستدل من الكلام انه رجل عسكري نظامي وصاحب رتبة عسكرية رفيعة.
"كان غزوة نوري السعيد هذه المرة هي الضربة القاضية على الأتراك، فلم يحاولوا بعد ذلك اليوم إصلاح الخط بين درعا وعمان مطلقا" ص215، من هنا يستدل على فاعلية نوري السعيد في الحركة العربية، لكن ما يثير الاستغراب، هو انخراط نوري في المشروع الانجليزي حتى انه كان انجليزيا أكثر من الانجليز، فهل هذا الأمر كان صدفة؟ أم أن الانجليز بعد انتهاء الحركة العربية لعبوا على التأثير عليه لصالح مشروعهم في المنطقة؟ أم انه كان مرتبطا بهم من خلال تواجده في القاهرة ومن ثم تم تطوير دوره في العراق؟.

هنري مكماهون

هذه الشخصية لها دور مهم وحيوي في مجرى الأحدث التي عصفت بالمنطقة العربية، فهو صاحب المراسلات الشهيرة مع الشريف حسين، وهنا لا بد من إعطاء الصورة الحقيقية لما جرى لهذا الرجل، فقبل إقرار الانجليز التعاون مع العرب وخوض الحرب مع الأتراك في الجزيرة العربية وبلاد الشام، تم اللقاء به من قبل لورانس لإقناعه بضرورة التعاون مع العرب لضرب الأتراك في الجبهة الشرقية "ومحاولين إقناع أغلب الرؤساء القريبين والبعيدين بضرورة تبني القضية العربية والعطف عليها، وكان السيد (هنري مكماهون) المندوب السامي البريطاني في مصر أول من توجهنا إليه، وقد تمكن السيد (هنري مكماهون) من خلال ما يملكه من ذكاء وعبقرية ورؤية ثاقبة أن يصف مشروعنا بالمفيد" ص18، ومن هنا بدأ العمل على (التحالف) بين العرب والانجليز، وكانت المراسلات بين مكماهون والشريف حسين التي تعهدت بها انجلترا على قيام دولة عربية في المشرق كاملا، لكن ما جرى بعد إن استطاع العرب يحققوا الانتصار وان يستولوا على مزيد من الأرض في الجزيرة العربية، تم عزل هذه الشخصية وترحيلها إلى انجلترا، ".. وكانت تلك المرة التي أقابل فيها كلا من الضابطين (جويس)و(دافبورت) اللذين شاركا في ثورة العرب بادوار شديدة الأهمية، وقد أعجب وينجيب بنظرتي المتفائلة هذه، فالثورة العربية كانت أمله الأكبر منذ سنوات عديدة، ولحسن الطالع لعب القدر لعبة هامة للغاية حيث نقل مكماهون من القاهرة بسبب الدسائس التي نسجت حوله، فاستدعي إلى بريطانيا وعين مكانه وينجيت" ص52، عملية واضحة وضوح الشمس، الاتفاقيات التي تم الاتفاق عليها بين مكماهون والشريف حسين، ألغيت بالنسبة للانجليز بمجرد نقل مكماهون إلى انجلترا، وكأنهم يتهربون من الاتفاق بهذه الخطوة، وهنا نطرح سؤال: لماذا تم نقل مكماهون؟ ولماذا نجد لورانس فرحا سعيدا وكأنه وجد كنزا بهذا النقل؟ وهل المبررات التي يقدمها لورانس ـ دسائس ـ مقنعة؟، لقد كانت هناك خيانة للعرب تحاك وكان لورانس احد أقطابها، وسيقوم لورانس بنفس الفعل ـ الهروب إلى انجلترا ـ لكي لا يواجه العرب الذين خدعهم.
التوقف قليلا عند كلام لورانس وتحليه بطريق عقلانية نجده يعترف ـ ضمنا ـ بالمخطط الذي حاكه الغرب ضد العرب، ولورانس كان رأس الحربة فيه، فالكاتب رغم أنه في فترة معينه ـ وهذا طبيعي جدا ـ قد تماهي مع الحركة العربية، حتى انه تعاطف وحاول أن يقدم شيئا للعرب من خلال الطلب الذي قدمه للقائد الفرنسي (شوفيل) البقاء لمدة يومين " ولما وصلنا في تجوالنا جهة الناحية الجنوبية قيل لي بان شوفيل قد وصل إلى طرف المدينة، فقصدته وطلبت إليه البقاء خارج الأسوار مدة يومين ريثما تهدأ حال المدينة، وعندها توجه إلى مكتبه للبحث في حاجاته وحاجتنا معنا، وتعهدت له بان أتحمل مسئولية الأمن العام في أثناء ذلك" ص219، لكي يفرح العرب بهما بعد تحرير دمشق من الاحتلال التركي وقبل أن يحتلها الفرنسيون، فاليومين بنظر لورانس يكفيان العرب ليفرحوا، وكأن اليومين هذين يعطيان العرب دفعة كبيرة جدا على تحمل الظلم والاحتلال الفرنسي، الذي سيكون علهم اشد وبالا من الاحتلال التركي.

رائد الحواري
أعمدة الحكمة السبعة
ت ـ أ ـ لورانس

هذا الكتاب يمثل وثيقة تاريخية عن واقع الأحداث في المنطقة العربية مع بداية الحرب العالمية الأولى، رغم إن الكتاب يمثل مذكرات شخصية، إلا أنها تتناول الواقع العربي من بداية التمرد على الحكم التركي، وكيف استطاع الانجليز من خلال شخص لورانس أن يغير خارطة المنطقة كاملة لصالح انجلترا، كما أن الكتاب يتناول شخصيات مثل فيصل بتفاصيل عديدة وكذلك عبد الله وعلي وزيد أبناء الشريف حسين، كما تم تناول تفاصيل الجغرافيا والسكان في المنطقة العربية، خاصة ما تلك الموجودة في شرق الأردن وجنوب سوريا.
الانتماء للانجليز والعمل مع العرب ـ جعلت من لورانس يعيش حالة من الازدواجية وشكلت لديه ـ لفترة وجيزة ـ حالة من الصراع، لكن سرعان ما تم حسمها لصالح الانتماء الحقيقي لمؤلف الكتاب ـ أبريطانيا ـ الكتاب يجب أن يقرأ، لكي يعرف القارئ العربي أن العلاقات الدولية لا تعرف المشاعر مطلقا، وان المصلحة العليا للدول فوق أي مصلحة، وان الفرد مهما بلغ من مكانه رفيعة ومهما أنجز من أفعال مبهرة، لا يمكنه أن يمثل إلا ذاته ولا بد أن يعود لمصالح دولته وينفذها .
لورانس لعب دور الجاسوس المخادع للعرب، رغم انه كان يقدم لهم المساعدات المالية والحربية ـ معدات وأسلحة وخبرة عسكرية ومعلومات ـ لقتال الأتراك، إلا انه كان أولا وأخيرا يخدم دولته أبريطانيا من خلال العرب، فالعرب لم يكونوا عند لورانس والانجليز أكثر من منفذ، سيتم الانتهاء منهم بعد إتمام المهمة الموكلة لهم ـ ضرب القوات التركية من اليمن وحتى دمشق ـ وهذا ما تم.
سنحاول إضاءة هذه الجوانب من خلال الشواهد التي قدمها لنا لورانس في كتابه "أعمدة الحكمة السبعة" والكتاب من إصدار مكتبة النافذة في مصر وترجمة ـ مختصرة ـ لهشام خضر.

بداية تشكيل غرفة العمليات الانجليزية

بدأت الفكرة من مكتب الاستخبارات الانجليزية لتشكل مجموعة من الأفراد العسكريين والمدنيين للتأثير على القيادة العسكرية والمدنية الانجليزية على دعم العرب والتعاون معهم، فهم أصحاب قضية، من هنا تم إقناع العناصر المؤثرة في القرار الانجليزي على هذه الخطوة،" كنا نسمي أنفسنا (العصابة المتطفلة) التي تريد أن تجتاز الأسوار وتدخل قاعات السياسية الانجليزية المخططة، وتؤسس شعبا جديدة في الشرق، بالرغم من العقبات والسدود التي أقامها أسلافنا في تلك الطريق، وهكذا كانت بداية عملنا في مكتب الاستخبارات المدنية والعسكرية في منطقتنا الكائنة في القاهرة، ومحاولين إقناع أغلب الرؤساء القريبين والبعيدين بضرورة تبني القضية العربية والعطف عليها، وكان السيد (هنري مكماهون) المندوب السامي البريطاني في مصر أول من توجهنا إليه، وقد تمكن السيد (هنري مكماهون) من خلال ما يملكه من ذكاء وعبقرية ورؤية ثاقبة أن يصف مشروعنا بالمفيد" ص18، وهنا لا بد أن نطرح سؤال حول هذا الأمر، هل كانت الإدارة البريطانية تعمل بطريقة مجزئة، بمعنى أن كل جهاز أو جهة تعمل بطريقة مستقلة عن البقية؟ أم أن هناك تعاون وتكامل في العمل؟ نعتقد من خلال هذا السرد، أن هناك جهة خفية وراء إقدام تلك الجماعة على إقناع الجهات المتنفذة الانجليزية على التعاون مع العرب، وهنا لا بد من التأكيد على هذا الأمر، حيث أن نتيجة التعاون والتحالف ما بين العرب والانجليز كان يخدم أولا وأخيرا الانجليز فقط ومشروعهم الاستعماري، وما حصل عليه العرب لم يكن إلا استبدال الحكم التركي بآخر استعماري غربي، وأيضا تم تمزيق الأرض العربية إلى أقسام متفرقة ومتناثر ـ سياسيا ـ ومن ثم كان هذا الواقع منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى الآن.

الشريف حسين يقدم للانجليز أكثر مما يتوقعون

العربي بطبيعته كريم جدا، وأيضا يندفع إلى الأمام بسرعة كبيرة منطلقا من العاطفة التي تتحكم به أكثر من العقل، كما أن العقل العربي الذي لا يرى إلا من زاوية واحدة جعلت الشريف حسين يقدم على عمل خطير جدا، دون أن يفكر بالعواقب المترتبة عليه "وكان القليل من الذين تسنى لهم مطالعة سير الأحداث على يقين بان شريف مكة سوف يقوم فعليا بقتال الأتراك، لاسيما للأحوال العسكرية غير المواتية، لذا كانت ثورة الشريف وفتحه لموانيه أمام سفننا مفاجأة بلغت حد الدهشة والذهول" ص20، هنا كان خطأ الشريف حسين، حيث أعطا صورة الانجليز عن طبيعة العربي، من خلال الإقدام على فتح الموانئ العربية أمام السفن الحربية الانجليزية، وإذا دققنا بكلمات لورانس نجده قد اخذ جرعة قوية ودفعة على الاستمرار في مهمته من خلال تماهي الشريف حسين مع مطالب الانجليز، وأيضا من خلال معرفة لورانس لطريقة التفكير عند القيادة العربية، وهذا الأمر قدم له الفائدة من جهتين، الأولى إقناع بعض الشخصيات الانجليزية المترددة بخصوص مهمة لورانس، والثانية امتلاكه واقع على الأرض ومن ثم معرفته لطبيعة العرب، مما جعل مهمته تحقق انجازات سريعة.
ومن خلال هذا الموقف العربي تم التعامل مع مشروع لورانس بطريقة مماثلة من القيادة العسكرية الانجليزية ".. وهنا أجابني الجنرال ليدن بل قوله المفاجئ أن الأسلحة والإمدادات متعلقة به شخصيا، وهو سيعمل حالا على إجابة طلبي هذا" ص54، نعتقد أن عملية لورانس من بدايتها، كانت لليد التي شكلت تلك (العصابة) دور هام وحيوي وعملت على دفع القيادة العسكرية الانجليزي في مصر على التعاون وتسهيل المهمة الموكلة للورانس، خاصة انه لم تكن لاتفاقية سايكس بيكو أن تنفذ دون إزاحة الأتراك تماما من المنطقة العربية، وما كان للانجليز أن يخوض حرب في مناطق صحراوية وضد قبائل عربية وجيش نظامي تركي في آنا واحد، من هنا كان لا بد من وجود وكيل يقوم بضرب الأتراك أولا، ثم يتم العمل على تنفيذ اتفاقية تقسيم للأرض العربية بين الانجليز والفرنسيين.

القبائل المقاتلة

هناك العديد من المواقف تشير إلى طبيعة القبائل العربية، والكيفية التي تفكر بها وأيضا طريقة تعاملها مع الآخر ومع بعضها البعض، ".. كان اغلبهم فتيان في شرخ الشباب، ورغم ذلك كانت ملامح وجوههم تبرهن بغير شك عن القسوة والخشونة، وأجسادهم نحيلة وإن امتلأت قوة وخفة وحيوية.
... والواقع لم يكن في الإمكان تدبير وإيجاد رجال اصلب وأقوى عودا من هؤلاء الرجال، أنهم يعبرون المسافات الواسعة على متن خيولهم وجمالهم لأيام عدة، ويمشون حفاة لأقدام على الرمال الملتهبة والصخور الجامدة المدببة، بل ويتسلقون التلال كالأغنام وملابسهم أن هي إلا ثوب واسع وكوفية تستر رأسهم كمنشفة.. وكانت الحرب بالنسبة لهؤلاء الرجال أمتع الأوقات وأكثرها رخاء، فالشريف كان يسدد لهم رواتبهم كاملة فضلا عن الطعام، وكان كل واحد منهم يتقاضى جنيهين مذهبين كراتب شهري، ثم يستأجر الجمل منهم بنحو أربعة جنيهات، وكانت الطريقة الملائمة دون غيرها لإبقاء رجال العشائر لأشهر طويلة في ميادين القتال ... لقد كنا من قبل نسخر من حب أهل الشرق للأموال، بيد أن الأتراك كانوا يدفعون الرشاوي الكثيرة لكي يحصلوا على خدمات لا تذكر، وكانت العشائر ترضخ للرشاوي وتقبلها، وتشكر معطيها، ثم تذهب لجيش فيصل لتقاتل في صفوفه نظير مبلغ قليل من الدراهم، وكان الأتراك يقتلون أسراهم، أو بمعنى أدق يذبحونهم كذبح الإبل والنعاج، بينما كان الأمير فيصل يدفع جنهيا واحدا من الذهب لكل من يأتي إليه بأسير تركي حيا، كما انه كان يدفع جوائز من الذهب عن الأسلحة والخيول التي يتمكن الجنود من الاستيلاء عليها" ص48، هذا الفهم للواقع الاجتماعي الاقتصادي للرجال القبائل المقاتلة مع الشريف حسين سهل مهمة لورانس في القضاء على التواجد التركي من الجزيرة العربية وبلاد الشام بأسرع من توقعات القادة الانجليز بكثير، فعندما تعرف طبيعة الأداة التي تستخدمها ستجيد وتقن عملك تماما، ومن ثم سيكون هناك إبداع في نوعية العمل وشكل العمل معا.
الفقر وضعف الإمكانيات جعل من جنيهين بالإضافة إلى الطعام يشكل حافز للعربي لكي يستمر في القتال إلى جانب الشريف حسين، الذي يمثل بشخصه قائد أو رئيس عشيرة يجب إطاعته، فما بالنا إذا قدم تلك العطايا!.
كما أن طبيعة العربي يميل إلى بني جنسه، وأعمال الأتراك اتجاه الخارجين عليهم جعلت القبائل العربية تندفع إلى جيش الشريف حسين رغم تواضع إمكانياته المادية والعسكرية، كما أننا نجد الجوانب الأخلاقية عند الأمير فيصل في تعامله مع الأسرى الأتراك، على النقيض من الطرف الآخر، الذي لا يتورع عن قتل أي أسير أو معارض، وهنا بطبيعة الحال سيكون الجيش الأكثر أخلاقا وتسامحا هو الذي يستطيع إقناع المحايدين على الوقوف معه، والابتعاد عن الجيش الذي يستخدم البطش ضد المعارضين، وهنا لا بد من التذكير بان الحديث عن القبائل العربية في الجزيرة العربية.
هذه النواحي الايجابية عند القبائل لها ما يماثلها من السلبيات، فطبيعة النظام القبلي تحتم على الأفراد والجماعة أن تسير حسب العلاقة الاجتماعية، من هنا تبرز طبيعية التفكير القبلي التي تتميز عن المجتمعات الحضرية، والتي لا تستطيع أن تتجاوز واقعها " .. فالواقع أن هذا لا يمنع احد رجال العشائر من الأخذ ثائر قديم إذا سنحت له الظروف بذلك، ولهذا اتضح لي أن رجال العشائر لا يصلحون إلا للدفاع، وكانت تلك شجاعتهم التي بلغت حد التهور تجعلهم أكفاء ومتميزين في نسف وتدمير الخطوط الحديدية وسلب ونهب القوافل، لكنهم كانوا من غير الممكن عليهم أن يخضعوا لأوامر قيادة عامة، إذ كان هؤلاء الأبطال غير مستعدين للتدريب" ص49، اعتقد أن لورانس يستطيع من خلال فهم طبيعة الرجال الذين يتعامل معهم أن يحقق أهدافه بدقة، وإذا تتبعنا الأعمال العسكرية التي نفذت نجد معظمها كان نسف الخطوط الحديدية، أو ضرب قافلة أو مركز للجيش التركي، من هنا كان الأتراك يتعرضون لشل حركتهم وأيضا إرباكهم من خلال العمليات العسكرية التي تقترب من عمل العصابات، ومن ثم يسهل على الجيش النظامي العربي أن يقتحم المواقع ويسيطر عليها.
طبيعة الإنسان تدفع به للسعي وراء المصلحة المادية، فما بالنا إذا كان هناك حالة جمعية تعمل لتحقيق مصالحها! والمشاهدين لها يعيشون في شظف العيش! فلا بد أن نجد الازدحام على هذه الظاهرة وليس الركض ورائها وحسب، " بعدها رجعنا إلى رم لكي نعلن أن شرف قيادة الحملة قد رسا على قاسم وعشيرته، وفي التو بدأ الرجال يتدفقون علينا طالبين الانخراط في صفوف الحملة، يدفعهم لذلك ما ترامى لسمعهم عن الحملة السابقة وما شاهدوه بأعينهم من غنائمها، فاضررنا أن نرفض الكثيرين وأبقينا 150 رجلا وعدد ضخما من الجمال على أمل أن تعود محملة بالغنائم" ص173، هذه الصورة تبين بأن ليس كل القبائل كانت تعمل مع الشريف حسين من اجل القضية العربية والتخلص من الأتراك، بل هناك عامل آخر يمكن أن يكون أكثر تأثيرا على القبائل لدفعها للتعاون مع حركة الشريف، فالغنائم التي تشكل احد أهم موارد الرزق للقبائل، والتي أيضا تتفق مع طبيعة ترزقها، كان العامل الأهم في استمرار الحركة من اليمن إلى أن وصلت إلى دمشق.
فإهمال العامل العقائدي والفكري ـ عند بعض رجال القبائل ـ كان احد أهم الأسباب التي جعلت القبائل ومن ثم حركة الشريف حسين تتوقف عندما تم كشف حقيقة التآمر الانجليزي الفرنسي على العرب، ولم تبدي ذات المقدرة القتالية التي أبدتها ضد الأتراك، فقد كانت تلك القبائل قد حصلت على مقدار من الغنائم يجعلها في غنى عن تعرض رجالها للقتل أو للأسر، من هنا هذا احد الأخطاء القاتلة في حركة الشريف حسين، فلم يعطي الجانب العقائدي والفكري أهمية كما هو الحال بالنسبة للحوافز المادية التي يحصل عليها الرجال والقبائل من خلال عملية السلب والاغتنام من الأتراك، وهذا جعل من حركة الشريف حسين ـ في بعض وجوهها ـ ليست أكثر من عملية تتناغم مع طبيعة القبائل ورجالها، فهم ليسوا معنيين بالهم التحرري العربي بقدر اهتمامهم بالحصول على اكبر قدر من الغنائم، فتم وئد الحركة بمجرد أن شبع واكتفى هؤلاء الرجال مما اغتنموه، ومن ثم كانوا عامل مثبط ومحبط للآخرين الذين أرادوا الاستمرار في حركتهم ضد الغازي الجديد ـ الانجليز والفرنسيين.
ولتأكيد هذا الأمر يعطينا الكاتب هذا المشهد " وقد اضر الأمير فيصل إلى ملء صندوقه الحديدي بالحجارة ووضع حراسة مشددة حوله لكي يوهم رجال العشائر بان المال لا يزال متوفرا لديه" ص42 و43، إذن العديد من رجال القبائل يحاربون في سبيل المال والأجر والاغتنام، وليس في سبيل قضية قومية أو وطنية، بل قضية مال وقضية شخصية، ومن هنا انعكس هذا الأمر على الأمير فيصل وعلى علاقته بالمقاتلين العقائديين، فعندما كان يجد هناك من يقاتل مندفعا من خلفية عقائدية أو بسبب الشعور بظلم الأتراك كان يتلقفه ويكرمه بصورة تليق بالمقاتل، " ـ لقد جاء عودة، وشاهدت في التو رجلا يدخل الخيمة مفتول العضلات، وجهه متغضن ونظراته يكسوها الحزن العاطفي، واقبل يصافحنا وهو يقول السلام عليكم يا أمير المؤمنين.. جلس عودة بعد ذلك بالقرب من فيصل، ثم اخذ الأمير يقدمنا له،.. وقال انه يأمل مخلصا أن يرى الحرية تنتصر في بلاده ... جلسنا حول السماط وخلال الطعام رويت لفيصل بعض الطرائف عن معسكر عبد الله، وفجأة هب عودة واقفا على قدميه وهو يصرخ "سامحنى الله" ثم خرج خارج الخيمة، وبعد قليل سمعنا شيئا يتحطم فخرجت لأرى ما الذي يصنعه عودة، فوجدته ينحنى فوق صخرة ويحطم وجبة أسنانه الصناعية، وبعد أن انتهى من تحطمها استدار إلي قائلا : لقد نسيت أن جمال باشا كان قد أهداني وجبة أسناني هذه" ص117و118، هكذا كان المقاتل العربي المنطلق في قتاله بدوافع عقائدية، وإيمان بواقع الظلم والجور الذي أحدثه الأتراك، فنجد صورة مثلى لرجل مؤمن بحربه، حتى أن الأسنان التي تعتبر ضرورة جدا ولا بد منها للإنسان، تخلى عنها وبطريقة (ثورية) لكي لا يكون هناك أي شيء جميل اتجاه الأتراك.
المفارقة بين صورة السعي وراء المصلحة الشخصية وصورة المقاتل عودة، هي مربط الفرس، كان من المفترض تنمية الروح القتالية عند رجال القبائل بشرح وتوضيح ضرورة التحرر من الحكم التركي، وليس بترغيبهم في الغنائم والرواتب وأجرة الجمال، وهذا يدل على أن حركة الشريف حسين وأولاده كانت غير ناضجة اجتماعيا ولا فكريا، فهي حاولت أن تعوض النقص والفقر الفكري والعقائدي لديها بالاهتمام بالمسائل مادية، فكانت كمن يصب الزيت على النار، فما أن تم وقف تلك المكاسب حتى توقف رجال القبائل عن القتال، ولم يعد يهمهم أمر الحكم أن كان انجليزيا أو فرنسيا أو تركيا، فما أن توقف الدفع حتى توقف هؤلاء عن القتال، فضاعت الحركة في مهب الريح، وضاعة معها الوحدة السياسية التي كانت موجودة أيام الحكم التركي، وأمست الأرض العربية أشلاء متباعدة فعليا رغم تقاربها جغرافيا، فهناك السوري والفلسطيني والعراقي والأردني واللبناني والسعودي واليمني والكويتي والإماراتي والبحريني والقطري والعماني.
اعتقد يجب إعادة دراسة الحركة العربية التي انطلقت من مكة بقيادة الشريف حسين وأولاده، مرة أخرى لكي نتعلم منها كيفية القيام بحركة ثورية حقيقية، مبنية على الواقع ومدعومة بأساس فكري عقائدي، يكون رافدا مستديما لعناصر الثورة.

صورة المقاتل العربي

هناك العديد من المشاهد التي قدمها لورانس عن المقاتل العربي، فنجده أحيانا مستبسلا، ونجد آخر لا يعرف لماذا من يحمل البندقية ولا يستطيع أن يفكر بطريقة موضوعية، فهو أسير لحالة التفكير البدوية، التي تجعله غير صالح للقتال المنظم أو الانطواء تحت أي قيادية، كل ذلك يؤكد حقيقة الضعف والإهمال الفكري عند بعض لمقاتلين العرب "كان (مولد مخلص) يستمع إلى حديثنا.. فصاح وقالا لي: .. أن ما نبتغيه هو الحرب، والحرب لا غيرها حتى نقضي عليهم، أعطني بطارية من مدفع شنايدر الجبلية، وبعض الرشاشات وأنا اكتب لك نهايتهم بيدي" ص44 هذا الاندفاع في القتال كان احد عوامل الحسم في المعارك مع الجيش التركي، ف (مخلص وعودة) كانوا رأس الحربة في قتال الأتراك، وكانوا يشكلون مثالا يحتذى به الآخرين.
"كانوا يقفون في صفوف غير مستوية، .. كانوا يحافظون على سلاحهم حتى يبقى في حالة جيدة، وكان بعضهم بارعا في إصابة الأهداف على مسافات بعيدة، وإذا كان رجال العشائر غير قادرين على القتال في جماعات بسبب فقدانهم للنظام، إلا أنهم أقوياء حين يحاربون بجماعات صغيرة، وكلما نقص عدد الرجال في الوحدة ازدادت مقدرتهم على انجاز ما يعهد إليهم من المهام، فعلى سبيل المثال كان الألف منهم يفشل في مقاومة سرية تركية واحد، بيد أن ثلاثة أو أربعة رجال كان بوسعهم التصدي في وجه عشرات من الأتراك" ص76، تركيبة البدوي تجعله بهذه الصفات، فهو لا ينتمي للنظام ولا للتنظيم، يعمل بشكل جيد إذا أعطيه حرية الحركة، ويفشل حين يطالب منه التقيد بأمر معين، يستدل من هذا الكلام على أن رجال العشائر يركنون على بعضهم كثير، إلى حد أن يتكاسلوا في معظمهم، وعند الشدة نجدهم حازمين مستبسلين، هكذا هي تركيبة رجال القبائل.
"... ووقفنا نترقب إطلاق المدفع الرشاش الذي نصبناه ولكن بغير جدوى، فقد نما لعلمنا بعد ذلك بوقت وجيز إن الرجال قد خشوا الوحدة، فحملوا مدفعهم وجاءوا به إلينا" ص109، صورة عن الكيفية التي يتعامل بها رجال القبائل في المعركة، فهم يتصرفون وكأنهم في نزهة وليس في حرب، ولا يعرفون خطورة عدم التقيد بالأوامر العسكرية، خاصة أثناء المعركة، من هنا كان هؤلاء الرجال يشكلون ضررا فادحا على حركة الشريف حسين، لأنهم وصلوا إلى حد كان من الممكن أن يكون لصالحهم، لو كانوا يملكون التنظيم العسكري وأيضا الإيمان الفكري والعقائدي، لكنهم كانوا رجال مرحلة وأصحاب أمزجة خاصة، لا يمكن لأي كان أن يطوعهم.

تأثر الأتراك بالحالة الدينية

الجيش التركي معظم أفراده من المسلمين، وكما أن فيه عدد كبير من العرب الذين ينتمون للدين الإسلامي، من هنا نجد هذا الجيش يراعي حرمة المصلين "...ولما وصلنا ترجلنا عن ظهور جيادنا وتقدم منا دخيل الله وقد صلى فينا إماما، وعندما رآنا الأتراك نصلي استولى عليهم الذهول واستبدت بهم الدهشة، وتوقفوا عن إطلاق النيران" ص113، مشهد يعطي اندهاش الجنود الأتراك كان ناتج عن اعتقادهم بان من يقاتلهم هم كفار غير مسلمين، وهذه طبيعة أي جيش متخلف، يعمل على بث الأكاذيب والمعلومات غير الصحيحة عن الخصم، مما يجعله مسخا بعيون إفراده، لكن في حقيقة الأمر هذا الموضوع بحاجة إلى إعادة النظر فيه.
فعندما قدم النظام العربي الرسمي الجيش الإسرائيلي على انه جيش يقاتل مجبرا، ويتم تقيد الجنود في الدبابات حتى لا يفروا من المعركة، وجدناهم يحققون النصر على ثلاث جيوش عربية في وقت واحد، مما أعطى انطباعا بان القيادة العربية تمارس عين السلوك الذي استخدمه الأتراك.


الفكر التحرري والوحدوي العربي

لا شك أن هناك فكر تحرري كان يتكون عند العرب، ناتج عن سياسة التتريك التي مارستها الدولة التركية بحق العرب، خاصة عندما تولى جمال باشا الحكم في بلاد الشام، فعمل فيها العجائب بحق المواطنين العرب، فهناك مشاهد عديدة تأثر بها القائد الفعلي للحركة العربية الأمير فيصل عندما شاهد العديد من العرب يقادون إلى المجهول أو إلى المشنقة، فقط لمطالبتهم باحترام الدولة التركية لحقوقهم الإنسانية والوطنية،" فقد شاهد بعين رأسه عددا من أصدقائه ورفاقه يساقون إلى المشانق في طوابير غفيرة لا تنتهي" ص12، عادة الأنظمة المتخلفة ممارسة اشد أنواع القمع لرعاياها، تحسبا من قيامها بأي عملية يمكن أن تشكل خطورة على النظام، لكن في الواقع تكون هذه الدولة كمن يقتل نفسه بيده، فعندما تجد تلك العناصر و الجماعات أول منفذ لها ستقلب الطاولة على رؤوس حكامها، وهذا ما فعله العرب أيام الأتراك ومن خلال الحركات الحالية في الدول العربية.
هذا كان احد العوامل على تشكيل فكر وطني وقومي تحرري عربي، فلم تكن مسألة المكاسب المعنوية لها تأثير عند القبائل العربية، بقدر تخلصها من الظلم التركي "لقد أدهشني رجال العشائر ذو الثياب المتهرئة بسعة وشمولية وعمق أفكارهم للمفاهيم القومية التي يتعذر على الطبقات المثقفة هضمها... طرحت عليهم هذا السؤال محاولا فهم حقيقة مشاعرهم: ترى من الذي سيفرض سيطرته على الآخر : دمشق أم الحجاز بعد أن تنتصر الثورة؟ ..وقد كانت الإجابة تتلخص في أن مثل هذا الأمر لا يعنيهم كثيرا، فالأولوية تتلخص في هؤلاء المتطفلين الذين يتحكمون بهم" ص46، في بداية الحركة العربية ضد الأتراك كان الدوافع في الأساس ناتجة عن الظلم والجور الذي وقع على العرب من الحكم التركي، لكن وصولهم المناطق الشمالية، ورغم وجود هذا الظلم عليهم، إلا أن تحركهم ضد الأتراك كان بدوافع المال والغنائم، أكثر مما هو بدافع رفع الظلم عنهم، وهذا يعود إلى عدم وجود قائد في تلك المناطق بحجم فيصل أو الشريف حسين، يستطيع أن يعبئ القبائل بعدالة قضيتهم، ومن هنا كانت دوافع القبائل تقع ضمن هاتين الحالتين، وفي أحيان كثيرة كانت القبيلة فيها نماذج من الحالتين، بمعنى هناك من يعمل مع الثورة من اجل المال فقط، وهناك من يعمل معها لرفع الظلم التركي، أو بسبب قرب العرب للعرب أكثر من الأتراك، ومنها من يعمل بسبب المال ورفع الظلم معا، وهذا ما وجدناه في الحديث الذي تناوله لورانس عن القبائل العربية.
ويكمل الكاتب فكرته عن العرب وعن الوحدة العربية التي يسعون إليها قائلا "أما بالنسبة إلى العراقيين والسوريين المنضمين للجيش العربي فقد كانوا على يقين بأهمية المشاركة في ثورة الحجاز: .. والآمر بالنسبة لهم سواء كانت الدولة المنتظرة دولة وحدوية لو اتحاد كونفدراليا، وكانوا ينظرون إلى دمشق وبغداد برغبة دفعهم إلى الأسرة العربية، لم أجد لدى العرب سوى اثر ضعيف للتعصب الديني، فقد رفض الشريف مرات عديدة أن يصقل ثورته بالطابع الديني، فحقيقة ثورته كانت قومية، والعشائر كانت تدرك أن الأتراك من المسلمين، والانجليز مسيحيون، وعلى الرغم من ذلك فقد ثاروا على الأتراك وقبلوا صداقة المسيحيين والتحالف معهم، فالعرب يريدون حكومة مستقلة تدافع عنهم وعن حقوقهم وقوميتهم وتفسح لهم مجال العيش بسلام" ص47، المنطلق للحركة العربية الظلم التركي بالإضافة التي وجود حالة من القومية بدأت تظهر لديهم بسبب سياسة التتريك. فالمسألة الدينية كانت بالنسبة لهم محسومة سلفا فهم مسلمون عرب، من هنا كان العامل الديني غير مهم بالنسبة لهم، فالشريف حسين معروف بمركزه الديني في مكة، ومع هذا لم يحاول أن يستثمر هذا العامل لصالح الحركة العربية، وكتفت حركته بتناول الجانب العربي إضافة إلى الجور والظلم التركي عليهم.
" وقد نجحنا في إتمام بعض الغايات من وراء تلك القيادات الهامة التي جاءت إلينا لاسيما وأن جمعهم قد اقسموا اليمن على القرآن على مسمع من فيصل بان يكونوا حيث يكون، ويتقدموا حيث يتقدم، وألا يطيعوا الأوامر الصادرة من الأتراك، وعلى أن يعاملوا كل ناطق باللغة العربية معاملة حسنة، سواء كان ذلك المرء من حلب أو من بغداد أو من الشام، وان يقدموا قضية الاستقلال لتكن على رأس قائمة المطالب والأولويات، بل وفي قلب الصدارة وفوق أية قضية وعشيرة وغاية" ص101، نجد في هذا القول الفكر الوحدوي بكل معانيه، فنجد وكأن هناك تنظيم سياسي ينظم الأفراد ضمن شروط فكرية محددة، فرغم عدم وجود برنامج سياسي مكتوب وكامل، إلا أن مثل هذه المعلومات كافية لكي يتفق علينا المتعاقدون ـ تنظيميا ـ وكانت عملية الحلف على القرآن الكريم كتوثيق العهد بين الأفراد والقائد والتنظيم، ونجد أيضا الفكرة الوحدوية موجودة وحضورها مميز في القسم الذي يتم، فكل من يتكلم العربية هو أخ أو رفيق، يجب احترامه وتقديم المساعدة له إن أمكن، كما نجد في القسم المصلحة العربية أخذت واحتلت المرتبة الأولى، وهي فوق المصالح الشخصية أو القبيلة.

الشخصيات الواردة في الكتاب
الأمير فيصل بن الحسين
يتناول لورانس العديد من الشخصيات التي تعامل معها، فمنها الفاعل المؤثر في الأحداث، ومنها من كان على الهامش، أكثر شخصية كان لها حضورها في مذكرات الكاتب شخصية الأمير فيصل بن الحسين، الذي كان فعليا هو القائد للحركة العربية، وهو يحتل المحور الثاني من الاهتمام في الكتاب بعد شخصية الكاتب، وسنحاول تسليط الضوء على هذه الشخصية لكي نعلم ما لها وما عليها، فيصل هو الذي أوصل العرب إلى ما هم عليه، فهو يتحمل بطريقة أو بأخرى نتائج حركته، "وحمل فيصل على كاهله أعباء الحرب فيما كان شقيقه الأمير عبد الله يلهو في جدة، أما شقيقاه زيد وعلي فقد كانا حينئذ يستمتعان بالحياة في رابغ" إذن الشخصية التي تحملت كل ما يتعلق بحرب الأتراك كان فيصل، فهو المحرك للحرب وهو من شن الحرب على الأتراك، وسنحاول تناول الدوافع الحقيقية وراء موقف فيصل من محاربة الأتراك، فيحدثنا لورنس عن فيصل بأنه قد تعرض لضغط نفسي هائل عندما كان جمال باشا يعلق أحرار العرب أصدقاء فيصل على المشانق على مرى من فيصل، وهذا الأمر جعل منه يتحامل وبشدة على السياسية التركية، فما إن وجد أول فرصة حتى انقض على الأتراك، رغم معرفته بصعوبة، ويمكن باستحالة الانتصار عليهم، هذا الأمر وهو أيضا احد العوامل التي جعلت فيصل والشريف حسين يتعاونا مع الانجليز بهذه الطريقة غير مدروسة.
السمات القائد غير متوفرة عند الجميع، وإن وجدنا بعض هذه الصفات إلا إن طريقة استخدامها من قبل القادة تكون متميزة، هكذا كان فيصل القائد " كان مجلسنا يضم حشدا لافتا، فقد كانت تضم عددا من أشراف ووجهاء وشيوخ القبائل من(جهينة) وعتيبة، وأخذت أتطرق إلى قضايا ومسائل خلافية جرت فيما بينهم، وكنت حاولت تفجيرها وإثارتها بدعوى معرفة آرائهم ومعتقداتهم، وقد كان الأمير فيصل ـ الذي يدخن تبغا كثيرا ـ يقود المحادثات ويهيمن حتى حين تصل إلى أوج عنفها، وقد بدا لي رجلا عظيما يتحلى بقدرة هائلة على الإمساك بخيوط الحديث وتوجيهه كيفما شاء وأينما أراد، يمكن القول أن الأمير فيصل رجل محبوب، وقد استولى بذكائه وطيبة قلبه على أفئدة الجميع التي سكنها واستقر بها" ص45، الصفات الفريدة التي يتمتع بها القائد تجعل منه موضع لجمع الفرقاء، فهو كالأب الذي يجمع أولاده حوله، وهم أيضا يجدون فيها الحنان والحب الذي يجمعهم، هكذا كان فيصل القائد والمقاتل عند جنوده.
خصائص القيادة لا تكمن بهذا الحب والاحترام من الجنود وحسب بل لها صور أخرى " أما بخصوص مسألة قدرته على كبح جماح نفسه فقد كان ذلك أمرا غريبا وعجيبا، عندما وصل إلى خيمته رجل يدعى منصور الكحيمي ينقل إليه خبر هزيمة أخيه زيد انفجر ضاحكا وسط جمع غفير وطلب منه أن يخرج بعيدا عن الخيمة، وكان يتحدث إلى شيوخ عشيرة حرب وعقل الذين كانوا هم المسئولين عن وقوع مثل هذه الهزيمة النكراء، ولم يتجاوز كلامه معهم أكثر من عتاب رقيق، بيد أنه استدعى مرزوق أستدل ستار الخيمة خلفه بعد أن انصرف الشيوخ من الخيمة" ص63، ضبط النفس والتحكم بها، وعدم إظهار الغضب والعصبة ـ رغم أن الدوافع كثيرة وتبررها ـ يمثل سمة القادة ، فهم ليسوا كالآخرين، سريعي الغضب وتظهر انفعالاتهم العصبة لأي موقف، بل الضبط والتحكم بالمشاعر والأعصاب يعد احد أهم سمات القائد.
من هنا لم يكن فيصل ليغضب أحدا مهما كان ومهما فعل "وطوال فترة إقامتي معه لم أر رجلا عربيا واحدا يغادر خيمة فيصل آسفا أو غضبان حزينا، وهذا مرده إلى ذاكرته الحديدية وحكمته وذكائه الحاد" ص65، رضاء الجمع مسألة في غاية التعقيد، خاصة في مجتمع قبلي يعيش في حالة من الصراع والخلاف بشكل دائم، ومع هذا كان فيصل شخصية محورية للجميع ويرضي الجميع، وهناك ميزة أخرى تتمتع بها شخصية فيصل يتناولها الكاتب تتمثل في " فقد كان فيصل مولعا بالشعر العربي وينصت إليه بشغف" ص66. إذن نستطيع القول بان فيصل شخصية قيادة استطاع أن يجمع القبائل رغم ما بينها من عداوات وخلافات على موضوع جامع وموحد ـ القضاء على الحكم التركي، واستبداله بحكم عربي.

عبد الله بن الحسين

شخصية عبد الله تختلف عن فيصل القائد المنتمي لفكرة التحرر، فيبدو عبد الله وكأنه واكب الحركة العربية على مضض أو لأنه ابن الشريف حسين ليس أكثر، فهو لم يكن ليتحمل الضغط ويواجه الصعاب كما هو الحال بالنسبة لفيصل فهو يمثل شخصية إشكالية في الأحداث التي تناولها لورانس، والأحداث التي أعقبتها، خاصة بعد معرفة العرب بالخيانة التي نصبت لهم، من خلال الاتفاق الانجليزي الفرنسي على تقسيم الأرض العربية بينهما، فكان عبد الله بعد انتهاء الحركة العربية ليعب دورا أساسيا وحيويا في المنطقة على العكس تماما من عدم فاعليته أثناء الحركة العربية، وهنا لا بد من التأكيد على أن عبد الله كان على علم بالمخطط الانجليزي الفرنسي من خلال اتفاقية سايكس بيكو، لكنه لم يكن يجرؤ على التكلم بذلك لفيصل أو للشريف حسين، فهل تعمد أن يكون موقفه سلبيا من الحركة العربية لكي لا يقعوا فيما هو أسوء؟ خاصة إذا علمنا بأنه الرجل المسؤول عن العلاقات الخارجية في الحركية العربية !
"وكان إيماني القوي بان عبد الله لا يصلح لكي يكون زعيما أو قائدا لتلك الثورة، وذلك لبرودته المفرطة ومزاحه الكثير ومنطقه القوي، وكنت ازداد إيمانا بهذا الرأي كلما مضى بنا الحديث في ذلك الاجتماع" ص25، من هنا كان العبء الأكبر على كاهل فيصل الذي لو وجد في إخوته من يقف معه موقف حازم وفاعل، لكان قد تفرغ لأمور أخرى، ومن ثم يكون أكثر حكمة واتزان في التعامل مع كافة المستجدات، إن كانت عسكرية أم سياسية، خاصة فيما يتعلق بالعرض التركي بعد أن استطاع تجاوز الجزيرة العربية إلى الشمال، فقد عرض عليه الأتراك الاستقلال بالجزيرة العربية، ورفض ذلك، فتم إضافة بلاد الشام والعراق للجزيرة العربية وأيضا رفضها، وهنا كان القرار القاتل للعرب والذي ما زلنا ندفع ثمنه، من خلال التجزئة ودول الطوائف التي أوجدها الاحتلال الغربي.
"وما أن جلسنا لكي نتناول الطعام حتى بدأت الجوقة تحت تهديد عبد الله تعزف ألحنا تركية مزعجة خالية من أي تنسيق أو انسجام، بل كانت تسبب أذى للقلب وللأذن معا، وراح عبد الله يتأملنا وهو يبتسم قائلا في زهو: هذه موسيقاي. لقد كان مجلسنا يدعو للغرابة في تلك الليلة، حيث كان خليطا من الرجال، فعبد الله هو النائب السابق لرئيس مجلس المبعوثان التركي ووزير الخارجية الحالي للدولة العربية" ص29، شهادة أخرى على عدم أهلية عبد الله ليكون في أي منصب أو مركز، فهو يبدو من خلال الموقف السابق كشخص غير سوي، وبحاجة إلى الكثير من التعليم والمعرفة لكي يقوم بأعمال وأفعال منطقية، إلا إذا أراد من وراء هذا السلوك (تطفيش) لورانس من الجزيرة العربية أو انه أراد أن يقطع التواصل والتعاون ما بين العرب والانجليز لكي يجنبهم ما هو قادم، حيث أن هناك موقف آخر يذكره لورانس يؤكد عدم جدية وعدم اهتمام عبد الله بالأحداث الجارية "لم يكن عبد الله يولي للشأن العسكري العام أية اهتمامات، بل كان يعتبر أن هذا من أهم الواجبات أخيه فيصل، ولذا فقد قرر أن يقيم بصفة نهائية في وادي عيسى، وكان لا يقوم بأي نشاط ضد الحاميات التركية، وكان لا يشجع غيره على أن يقوم بشن هذه الغارات إلا فيما ندر، ولقد علمت أن عبد الله يضمر في نفسه حسدا وغيرة لفيصل وغير فيصل، ولهذا السبب كان لا يسعى إلى القيام بأية عمليات عسكرية حتى لا تكون هناك أية مقارنة بين ما يقوم به هو وبين ما يقوم به فيصل. واشتدت بي الرغبة في مغادرة معسكر عبد الله الخامل" ص115 هناك حرب طاحنة في العالم والعرب يقومون (بمغامرة) لا تحمد عقباها، وعبد الله في لهو وعدم مسؤولية اتجاه ما يحدث، فهل كان هذا الأمر مقصودا؟ أم مجرد نزوة؟ أم أن تركيبة عبد الله بهذا الشكل؟، أم انه يخشى القادم الاسوء؟.
لورانس يقدمه كرجل مهم جدا في الحركة العربية، وهنا نحن نؤكد على تورط عبد الله فما حدث للحركة العربية من خلال الغدر والخيانة الانجليزية والفرنسية، فهو الرجل المسؤول عن العلاقات الخارجية في الحركة العربية، وكان مطلوب منه أن يستقصي الحقائق عن اتفاقية سايكس بيكو، لا أن يجعل من هب ودب يتكلم بها. من هنا سير الأحداث ألاحقة تشير إلى علم عبد الله بالاتفاقية الانجليزية الفرنسية، ومن ثم ـ كان سكوته ـ يمثل مساهمة في تقويض الحركة العربية، وتراجعها السريع إلى الخلف. وهنا نطرح تساؤل ماذا فعل عبد الله بعد أن أكشفت الخيانة الانجليزية للعرب؟ وماذا كان دور القوات التي في يده، ولماذا وافق على إقامة إمارة في شرق الأردن وليس في مكان آخر، فلسطين مثلا؟ لماذا وقف متفرجا ومتواطئا عندما كانت فلسطين تشتعل في ثورة 29 البراق وفي ثورة 36 بعد مقتل القسام. موافقته على ضم الجزء المتبقي من فلسطين حيث تم إلغاء فلسطين من الخريطة السياسية، ثم حمايته لحدود دولة إسرائيل حتى مقتله في القدس، وهنا أيضا نضع علامة استفهام كبيرة، أيهما كانت من المفترض أن تكون العاصمة للمملكة الناشئة، عمان أم القدس؟ وأيهما أكثر حضورا البلدة الفقيرة أم المدينة المقدسة؟.

علي بن الحسين وزيد بن الحسين

يتحدث لورانس عن علي على أنه الرجل الثاني في الحركة العربية، ورغم قلة الحديث عنه، إلا انه كان كافا لكي يعطينا صورة عن هذا الرجل " لقد أسرني شعور بالإعجاب البالغ بالأمير علي صاحب القامة المربوعة والعينين الواسعتين والأنف الدقيق والشفاه الرقيقة والأيدي الناعمة، وأما بشأن أخلاقه فقد كان يتسم بالهدوء والرزانة وعفة اللسان، فصلا عن كونه مولعا بالقراءة والاطلاع على كتب الدين والقانون، وقد عاب عليه البعض أنه كان مندفعا إلى درجة يتعذر عليه الرجوع أو الإقرار بخطئه إذا بدا أنه قد أخطأ، لذلك فقد أدركت أن الثورة على يد هذا الشاب المتحمس سوف تحقق خطوات كبيرة إلى الأمام إذا اتضح لي فشل الأمير فيصل عن القيام بدور القائد، فالأمير علي في تقديري كان أكثر أصالة في عروبته من أخويه عبد الله وزيد" ص31، إننا أمام رجل يستطيع أن يخلف فيصل في القيادة إذا ما ترجل أو تنحى، ورغم هذا الوصف العاطفي والمنحاز لعلي، إلا أن الكاتب لم يعد يشير أو يتحدث عن علي بشكل شبه تام، وكأنه يريد من القارئ أن يتجاهل هذه الشخصية، وهذا الأمر أيضا ينطبق على زيد بن الحسين.
"وكان زيد يتصف بالهدوء والخجل والتردد، وفي ربيعه التاسع عشر، وقد لاحظت على الفور على انه غير متحمس للثورة" ص31، زيد الشاب السلبي اتجاه الأحداث، يقوم بعمل يؤكد ما قاله لورانس، فعندما يعطيه لورانس 30000، ثلاثين ألف جنيا ذهبيا، يقوم بصرفها خلال فترة وجيزة، وعندما سؤل عنها قال: أنفقتها، لقد كنت مديونا، مما جعل المقاتلين الذي تحت قيادة يقعون في ضائقة مالية، ومن ثم الحد من الفاعلية القتالية، من خلال هذين المشهدين يتم تناول شخصية زيد، وبعدها يتم ـ اختفاء ـ زيد من الأحداث.

نوري السعيد

هذه الشخصية التي لعبت دورا موازيا لدور الأمير عبد الله بعد انتهاء الحركة العربية، فهو الذي رسم السياسية العراقية لفترة طويلة، فقد كان له صولات وجولات في ضرب القوى المناهضة للانجليز في العراق، حتى أن دوره تفوق على دور الملك، ورغم عدم استمراره في رئيسة الوزراء إلا انه استطاع أن يكون (الأب الروحي) أو اليد الخفية التي تتحكم بكل مجريات الحكم في العراق، يتحدث عنه لورانس في أكثر من موضع "وقد قام الأمير علي بكافة الخدمات الإضافية بمباركة من نوري السعيد الضابط الركن العراقي الذي كنت قد التقيت به مؤخرا في القاهرة، حيث كان يخضع للعلاج في إحدى مصحاتها، وكان نوري السعيد الرجل الثاني بعد عزيز علي المصري في قيادة الجيش العربي" ص30، وصف عادي لرجل خدم مصلحة العرب، لكن تناول الحديث عن تواجده في القاهرة واللقاء لورانس به هناك يضعه في موضع التساؤل والاستفهام!.
" وكانت مهمة رئاسة هذا الهجوم قد أوكلت للشريف ناصر المحفوظ الذي كان بصحبة نوري السعيد رئيس أركان حرب جعفر... ومع تباشير الصباح الأولى باغتت قنابل مدفع نوري السعيد المركز التركي الحصين فوق التلة القريبة وأرغمت المدفع التركي على السكوت للأبد" ص197و198، دور فاعل ومؤثر في أحداث المعارك ضد الأتراك، كما يستدل من الكلام انه رجل عسكري نظامي وصاحب رتبة عسكرية رفيعة.
"كان غزوة نوري السعيد هذه المرة هي الضربة القاضية على الأتراك، فلم يحاولوا بعد ذلك اليوم إصلاح الخط بين درعا وعمان مطلقا" ص215، من هنا يستدل على فاعلية نوري السعيد في الحركة العربية، لكن ما يثير الاستغراب، هو انخراط نوري في المشروع الانجليزي حتى انه كان انجليزيا أكثر من الانجليز، فهل هذا الأمر كان صدفة؟ أم أن الانجليز بعد انتهاء الحركة العربية لعبوا على التأثير عليه لصالح مشروعهم في المنطقة؟ أم انه كان مرتبطا بهم من خلال تواجده في القاهرة ومن ثم تم تطوير دوره في العراق؟.

هنري مكماهون

هذه الشخصية لها دور مهم وحيوي في مجرى الأحدث التي عصفت بالمنطقة العربية، فهو صاحب المراسلات الشهيرة مع الشريف حسين، وهنا لا بد من إعطاء الصورة الحقيقية لما جرى لهذا الرجل، فقبل إقرار الانجليز التعاون مع العرب وخوض الحرب مع الأتراك في الجزيرة العربية وبلاد الشام، تم اللقاء به من قبل لورانس لإقناعه بضرورة التعاون مع العرب لضرب الأتراك في الجبهة الشرقية "ومحاولين إقناع أغلب الرؤساء القريبين والبعيدين بضرورة تبني القضية العربية والعطف عليها، وكان السيد (هنري مكماهون) المندوب السامي البريطاني في مصر أول من توجهنا إليه، وقد تمكن السيد (هنري مكماهون) من خلال ما يملكه من ذكاء وعبقرية ورؤية ثاقبة أن يصف مشروعنا بالمفيد" ص18، ومن هنا بدأ العمل على (التحالف) بين العرب والانجليز، وكانت المراسلات بين مكماهون والشريف حسين التي تعهدت بها انجلترا على قيام دولة عربية في المشرق كاملا، لكن ما جرى بعد إن استطاع العرب يحققوا الانتصار وان يستولوا على مزيد من الأرض في الجزيرة العربية، تم عزل هذه الشخصية وترحيلها إلى انجلترا، ".. وكانت تلك المرة التي أقابل فيها كلا من الضابطين (جويس)و(دافبورت) اللذين شاركا في ثورة العرب بادوار شديدة الأهمية، وقد أعجب وينجيب بنظرتي المتفائلة هذه، فالثورة العربية كانت أمله الأكبر منذ سنوات عديدة، ولحسن الطالع لعب القدر لعبة هامة للغاية حيث نقل مكماهون من القاهرة بسبب الدسائس التي نسجت حوله، فاستدعي إلى بريطانيا وعين مكانه وينجيت" ص52، عملية واضحة وضوح الشمس، الاتفاقيات التي تم الاتفاق عليها بين مكماهون والشريف حسين، ألغيت بالنسبة للانجليز بمجرد نقل مكماهون إلى انجلترا، وكأنهم يتهربون من الاتفاق بهذه الخطوة، وهنا نطرح سؤال: لماذا تم نقل مكماهون؟ ولماذا نجد لورانس فرحا سعيدا وكأنه وجد كنزا بهذا النقل؟ وهل المبررات التي يقدمها لورانس ـ دسائس ـ مقنعة؟، لقد كانت هناك خيانة للعرب تحاك وكان لورانس احد أقطابها، وسيقوم لورانس بنفس الفعل ـ الهروب إلى انجلترا ـ لكي لا يواجه العرب الذين خدعهم.
التوقف قليلا عند كلام لورانس وتحليه بطريق عقلانية نجده يعترف ـ ضمنا ـ بالمخطط الذي حاكه الغرب ضد العرب، ولورانس كان رأس الحربة فيه، فالكاتب رغم أنه في فترة معينه ـ وهذا طبيعي جدا ـ قد تماهي مع الحركة العربية، حتى انه تعاطف وحاول أن يقدم شيئا للعرب من خلال الطلب الذي قدمه للقائد الفرنسي (شوفيل) البقاء لمدة يومين " ولما وصلنا في تجوالنا جهة الناحية الجنوبية قيل لي بان شوفيل قد وصل إلى طرف المدينة، فقصدته وطلبت إليه البقاء خارج الأسوار مدة يومين ريثما تهدأ حال المدينة، وعندها توجه إلى مكتبه للبحث في حاجاته وحاجتنا معنا، وتعهدت له بان أتحمل مسئولية الأمن العام في أثناء ذلك" ص219، لكي يفرح العرب بهما بعد تحرير دمشق من الاحتلال التركي وقبل أن يحتلها الفرنسيون، فاليومين بنظر لورانس يكفيان العرب ليفرحوا، وكأن اليومين هذين يعطيان العرب دفعة كبيرة جدا على تحمل الظلم والاحتلال الفرنسي، الذي سيكون علهم اشد وبالا من الاحتلال التركي.



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ( النص القرآني) السحر والدين
- جزر منعزلة أم جغرافيا واحدة
- النص القرآني) يعقوب واولاده عليهم السلام
- النص القرآني (اول الكتب السماوية)
- ( النص القرآني ) عدم نضوج علم الكتابة
- مدخل الى النص القرآني
- أيهما خطر الكيماوي العربي أم النووي الإيرني؟
- الدين بين التطور والنزول من السماء
- الماركسية والدين
- الثورة العرابية لرفعت السعيد
- السادات والبحث عن الذات
- غطاء العقل العربي
- الثابت والمتحرك والعقل العربي
- أوراق بعيدة عن دجلة
- المسألة الطائفية في مصر
- الفدائي الصغير بين الشكل الأدبي والمضمون
- ماركو فالدو والتقديم الهادئ
- عمارة يعقوبيان والفساد الطاغي في مصر
- التشدد والتكفير
- استنساخ قرطاج في بغداد ودمشق


المزيد.....




- قصر باكنغهام: الملك تشارلز الثالث يستأنف واجباته العامة الأس ...
- جُرفت وتحولت إلى حطام.. شاهد ما حدث للبيوت في كينيا بسبب فيض ...
- في اليوم العالمي لحقوق الملكية الفكرية: كيف ننتهكها في حياتن ...
- فضّ الاحتجاجات الطلابية المنتقدة لإسرائيل في الجامعات الأمري ...
- حريق يأتي على رصيف أوشنسايد في سان دييغو
- التسلُّح في أوروبا.. ألمانيا وفرنسا توقِّعان لأجل تصنيع دباب ...
- إصابة بن غفير بحادث سير بعد اجتيازه الإشارة الحمراء في الرمل ...
- انقلبت سيارته - إصابة الوزير الإسرائيلي بن غفير في حادث سير ...
- بلجيكا: سنزود أوكرانيا بطائرات -إف-16- وأنظمة الدفاع الجوي ب ...
- بايدن يبدى استعدادا لمناظرة ترامب


المزيد.....

- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين
- السودان - الاقتصاد والجغرافيا والتاريخ - / محمد عادل زكى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - رائد الحواري - اعمدة الحكمة السبعة