أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - إيمان البغدادي - قطعة سمك في متحف الشمال















المزيد.....

قطعة سمك في متحف الشمال


إيمان البغدادي

الحوار المتمدن-العدد: 3775 - 2012 / 7 / 1 - 20:32
المحور: المجتمع المدني
    


في زيارة دراسية لأحد المتاحف الموجودة في العاصمة ستوكهولم و المسمّى "متحف الشمال" رحّبت بنا عند مكتب الاستقبال سيدة في الستينات من عمرها اسمها كريستينا و هي دليل تعليمي و سياحي في المتحف. بعد عدّة خطوات جلسنا معها في البهو حيث بدأت تروي لنا قصة بناء المتحف الذي بدأ في العام 1888 و عن عظمة و فرادة الرجل الذي فكّر ببناءه و صمّم أن يجمع به تاريخ الثقافة لبلاد الشمال منذ زمن الملك غوستاف فاسا (1521) حتى يومنا هذا. كانت كريستينا تتحدّث بصوتٍ واثق و عتيق و كأنّه صوت قادم من عراقة شعوب عمرها آلاف السنين. حيث وقفتْ بيننا بقامتها القصيرة التي بدت أطول و أطول عندما بدأت بسرد تاريخ المتحف و قصصه، حتى تخيلتُ أنّني سأرى آثاراً قد تكون أقدم من حضارة سومر أو حضارة شعوب المايا. بعد ذلك الشرح المشوّق اصطحبتنا للطابق الأول عبر درج دائري، فوصلنا لغرفة مظلمة على طرفيها زجاج سميك يحجب عن الزائرين لمس المعروضات.

وما إن بدأت كريستينا بالحديث حتى لمحتْ أحد الشباب ينظر من عدسة كاميراته و ينوي أن يلتقط صورة لشيء ما، فقفزتْ برشاقة فراشة و قالت له: انتبه أن تأخذ أي صورة مع الفلاش لأن الضوء سيؤذي الآثار! بصراحة شعرت بدهشة، و رعشة غريبة غزت كلّ أعصابي و خلايا جسدي. ففي الحقيقة تلك الآثار التي خافت عليها كريستينا وكأنها طفلها الرضيع كانت عبارة عن طاولة خشبية بسيطة قد تجدها في أي بيت أو مقهى رصيف، عليها قالب حلوى و بجانبه بعض الصحون و الملاعق. و في الطرف المقابل للطاولة وقفت بعض زجاجات النبيذ و صحنٌ أبيض يحتوي قطعة سمك مجففة و ثلاث حبات بطاطا صغيرة و بجواره سلة ممتلئة بحبات الفراولة. هذا الأشياء المعروضة في المتحف "و كأنها قطع أثرية" قد تراها في أي مكان في العالم. لكنها كانت موجودة في المتحف لأنها مائدة الاحتفال "بليلة منتصف الصيف" رغم أننا هنا في السويد نأكل على الغالب نفس هذا الطعام لأكثر من مرة في الأسبوع خارج هذه الاحتفالية التي حدثتنا كريستينا عنها!
بينما أكملتْ كريستينا شرحها عن تلك المعروضات الأثرية الهامة " و التي لم أشعر صراحة بأثريتها، حيث بدت لي كريستينا أهم منها و أكثر إثارة و قِدماً" شرّدت بذهني و سافرت إلى سوريا. و تنقّلت بذاكرتي بين قلعة حلب المهيبة و التي تعتبر واحدة من أكبر القلاع في العالم، إلى معبد عمريت الفينيقي و ملعبها الأولمبي والذي يعتبر أقدم المنشآت الرياضية في العالم، ثم من قلعة شهبا ومسرحها وشوارعها الرومانية المرصوفة في زمن الامبراطور فيليب العربي، إلى مدرج بصرى الشام والذي يعتبر من أحد أعظم المدرجات الرومانية. من مدرّج تدمر تلك المدينة الأثرية المتكاملة بمعبدها وسوقها وحماماتها ومدافنها وقصرها، إلى قلعة الحصن الفريدة و التي سُجّلت هي وقلعة صلاح الدين الايوبي على لائحة التراث العالمي، من قصر البنات في الرقة، إلى متحف أدلب الأثري الذي يضم الرُقم المكتشفة في مملكة إيبلا. من نواعير حماة الشهيرة، إلى آثار درعا حيث يكاد لا يخلو مكان في حوران إلا وبه الآثار الشاهدة على تواصل الثقافة والحضارة، ومن هناك إلى قلعة المرقب في بانياس، ثم تنقّلت بين أبواب دمشق السبعة و قلعتها الرائعة و سورها العريق. دمشق التي هي أقدم عاصمة في العالم مأهولة بالسكان. و هكذا دواليك من مدينة إلى أخرى، من مسجد إلى معبد و كنيسة ، من شارع إلى قلعة بدأ عقلي يتنقّل بجولاته السريعة والممتعة يستعرض حضارات سوريا و ماشاهدته عيني من روائع و آثار ستبقى محفورة في القلب و العقل و الوجدان. وماهي إلاّ دقائق حتى اجتاحت هذا المشهد الجميل أصوات القصف على قلعة تلبيسة و أحياء حمص و دير الزور و درعا و دوما و الحفة و سراقب و حماة ... ، ذلك الدمار الذي تجرّأ على مدن بأكملها وأجبر ساكنيها على النزوح منها و حوّل مبانيها و شوارعها إلى ركام و خراب وكأنها قبر مفتوح مليئ بالأشلاء و الجثث والدماء. شعرت بغصّة اخترقت أضلاعي كخنجر مسموم فهنا يقلقون أنّ نخرّب "آثارهم" بلقطة كاميراتنا و في سوريا تُقصفُ مدنٌ بأكملها و تُهدّمُ فوق رؤوس أصحابها و لا تستثني بشراً ولا حجراً ولا أثراً، تُهدّم المساجد و الكنائس و المتاحف و المدن و الأسواق الأثرية العريقة دون أن يرف لعين القتلة و المخرّبين من جفن. سوريا التي شهدت قيام العديد من الحضارات القديمة و الممالك العريقة كالحضارة الآرامية و السومرية و الآشورية و الكنعانية و الفينيقيية و العثمانية و الصليبية و الأموية و العباسية و البيزنطية و الرومانية و السلوقية. سوريا بكل حضاراتها و سكانها تُدكّ بالمدفعية و تُنهب آثارها بشكل يومي دون أن يؤرق هذا الفعل الإجرامي أي جهة موجودة على هذا الكوكب الأزرق!! شعرت بالاختناق يقبض على أنفاسي و كم تمنيّت أن تُعاملَ آثارنا النادرة بتلك العناية والرُقي الذي تُعامل بها قطعة السمك الموجودة خلف الزجاج في متحف الشمال هذا.

لقد ولدت في دمشق و ترعرت فيها و لم يمضى يوماً واحداً إلا و شاهدت آثارها العظيمة و تنقّلت بين أبوابها الشامخة و أخذت عشرات الصور عند بقايا معبد جوبيتر و الجامع الأموي و كنيسة حنانيا. وانتظرت أصدقائي عند قوس النصر أو قصر العظم، لم يمضى يوم إلا و لمست جدران سور المدينة القديم و التصقتْ به بينما تمر سيارات الأجرة الصفراء من جانبي. جميعنا عاش بين الآثار و في أحضان حضارات عريقة. نحن أبناء و أحفاد هذه الحضارات لذلك يجب أن لا نرضى بأنّ يتم تدميرها و سحقها تحت حذاء الديكتاتورية كما فعلوا في حماة قبل ثلاثين عام.

و في العودة إلى "متحف الشمال" فإنّ أقدم شيء قد تجده هناك لن يزيد عمره عن 600 سنة، بينما هناك الكثير من بيوت العائلات السورية يقارب عمرها عمر هذا المتحف!! في سوريا لكل حجر قصصٌ يرويها، و حضارات يتحدّث عنها، و آثار تُذهل البشر و علماء التاريخ و الآثار. و مع ذلك يتعامل هؤلاء الفجرة معها بلصوصية و حقد و تخلّف. لم يكفيهم تدمير إنسانيتنا و الحدّ من إبداعاتنا و سرقة أصواتنا و أقلامنا و أعمارنا...و لم يكفيهم سرقة و نهب آثارنا على مدار خمسين عام بل هاهم اليوم يدمرون ويحرقون و يسرقون و يتاجرون و يبيعون و يشترون و إذا بيعت هذه الآثار و هُدمت أو تم العبث بها فماذا سيبقى لنا من جذور؟


في الحقيقة إصبع طفل صغير يساوي عندي آثار الدنيا كلها. فحياة الإنسان و سلامته و بقاءه هي بالنسبة لي أسمى و أغلى من أي شيء آخر. لكن هذه الأثار هي من صنع الإنسان أيضاً و هي توثيق لحياته، لحكاياته و مشاعره، لنتاجه الفكري و الثقافي و الفني الإنساني، لإبداعاته، لحضاراته التي بناها، و للغاته التي تحدّث و كتب بها. ومن هنا تكمن أهمية الآثار لأنّها تعكس لنا حياة و جهد ملايين البشر و تخبرنا عنّهم قدرالإمكان. للآثار قيمة معنوية لا تثمّن، فهي إرثٌ إنساني ليس فقط للسوريين بل للجنس البشري أجمع. ومن المفترض أن نحافظ جميعنا على هذه الإرث الهام و النادر. لو كان قد تمّ الاهتمام بالآثار السورية بدل سرقتها و نهبها و تدميرها لكان لدينا اليوم مصدرٌ اقتصادي عظيم لا ينضب، كفيل لوحده بأن ينهض باقتصادنا الأعرج.

خرجت من المتحف و أنا أشعر بالإعجاب والمرارة في نفس الوقت، لم يكن إعجاباً بمحتويات المتحف بل كان إعجاباً بالإنسان السويدي الذين يحترم حضارته مهما كان عمرها. ويوثّق تاريخ الشعوب القديمة التي قطنت بلاده بشرّها و خيرها، و يحافظ على إرثه التاريخي و الثقافي و يعتز و يفتخر به. و شعرت بالمرارة لأننا بالمقابل و بذات الوقت يُجتث كل يوم جزءٌ جديدٌ من جسد وطننا و أرضنا و تٌطمس معالمها و حضاراتها... و تدكّ بالمدفعية ذكرياتنا و إرثنا الإنساني و الثقافي .
علينا جميعاً مسؤولية حماية بعضنا البعض و الحفاظ على آثارنا و ممتلكاتنا. فهذه الآثار " أو ما تبقّى منها" هي ملكٌ لنا و للأجيال القادمة أيضاً، ومن يسرقها اليوم ويعبث ببنيانها إنما هو إنسان منفصل عن هذه الأرض لا ينتمي لها ولتاريخها الطويل الحافل. هم في الحقيقة حفنة من المجرمين و قطاع الطرق الذين ضلوا طريقهم فعاشوا كالغجر والقراصنة بعيدين عن أي انتماء إنساني أو حضاري أو وطني .أعود و أكرّر بأن الأولوية للإنسان لكن الآثار هي جزء منّا وهي صلة الوصل بيننا وبين من عاشوا قبلنا على نفس هذه الأرض و نحن لن نسمح بأن تٌمسح ذاكرتهم أو ذاكرتنا.



#إيمان_البغدادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هلاّ نزعتم عني هذا الرداء؟
- حيّ على الحياة
- إلى أمي
- السوريون بين فجور النظام و خجل العالم
- أمي و شجرة النارنج و رشة كمون
- ثورة إنسان لا ثورة د.برهان
- لا مجال للمراهقة السياسية
- إلى متى ستستمرون بقتلنا ؟؟
- نحن البحر
- فلتخرجوا من هذه القوقعة
- انتهى زمن صناعة الآلهة
- أسماء لامعة إعلامياً و معتمة إنسانياً وأخلاقياً
- ميثاق شرف بين المعارِضين السوريين (قوى سياسيّة و مستقلين)
- فلنجهض هذا الجنين
- ماذا سنفعل بعد الثورة؟؟
- إذا الشعب السوري أراد الحياة
- أجنحة الذاكرة
- كفى عاراً أيها المثقفون
- هل أسماء الأسد هي السيدة الأولى؟؟
- ربيع الأصابع المقطوعة


المزيد.....




- الاحتلال يشن حملة دهم واعتقالات في الضفة الغربية
- الرئيس الايراني: ادعياء حقوق الانسان يقمعون المدافعين عن مظل ...
- -التعاون الإسلامي- تدعو جميع الدول لدعم تقرير بشأن -الأونروا ...
- نادي الأسير الفلسطيني: عمليات الإفراج محدودة مقابل استمرار ح ...
- 8 شهداء بقصف فلسطينيين غرب غزة، واعتقال معلمة بمخيم الجلزون ...
- مسؤول في برنامج الأغذية: شمال غزة يتجه نحو المجاعة
- بعد حملة اعتقالات.. مظاهرات جامعة تكساس المؤيدة لفلسطين تستم ...
- طلاب يتظاهرون أمام جامعة السوربون بباريس ضد الحرب على غزة
- تعرف على أبرز مصادر تمويل الأونروا ومجالات إنفاقها في 2023
- مدون فرنسي: الغرب يسعى للحصول على رخصة لـ-تصدير المهاجرين-


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - إيمان البغدادي - قطعة سمك في متحف الشمال