أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - المنظور الاجتماعي في أدب سارة الصافي















المزيد.....

المنظور الاجتماعي في أدب سارة الصافي


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 3505 - 2011 / 10 / 3 - 23:48
المحور: الادب والفن
    


وديع العبيدي
المنظور الاجتماعي في أدب سارة الصافي
- قراءة في مجموعتيها (صلصال وماء) و (مرآة الريح)-

الكتابة نقطة (على ورقة). النقطة سؤال. والسؤال بداية بحث عن الذات. والذات هي العالم. الكتابة إذن علاقة بين الذات والعالم. بل هي صورة تلك العلاقة. والسؤال هنا.. إذا كانت الذات هي العالم، فكيف تكون العلاقة بين الذات – العالم، والممثلة بالكتابة؟..
سارة الصافي شاعرة.. والشعر أداته اللغة ، واللغة تعتمد على الخطاب. وقصيدة سارة الصافي هي قصيدة خطاب.. والخطاب هو ما يتجه للآخر. المفروض أن هذا الآخر يشار إليه مجردا من الألف واللام. لأننا قبل الخطاب لا نعرف هوية المُخاطَب. ولكن الانتماء للقصيدة يمنح الخطاب صيغة/ صفة التعريف.
قد يرى البعض أن الشعر –في جوهره- تجربة ذاتية، وهو ما يميزه عن سواه من أنواع الأدب والكتابة، ولكن هذا لا يتعدى الشكلانية. ليس لأن للشاعر، كما للكاتب، حرية اتخاذ الاسلوب والطريقة التي يوظفها للتعبير عن موضوعه، وانما لأنّ كلّ شيء في حياة الانسان، كل جوانب تفكيره ونشاطه الاجتماعي انما هو جزء أو تعبير عن تجربة ذاتية. ولا شكّ، ثمة، للكاتب مبرراته الفنية والموضوعية في اختيار موضوعاته وأساليبه التعبيرية.
(1)
خرائط لغوية..
لكن فكرة الخطاب عند سارة الصافي تتعدى جاتب اللغوية الأسلوبية لترتبط برؤية فكرية جوهرية تبدأ بها الشاعرة بمثابة تقعيد للفكرة. وهذا التقعيد يبدأ –قبل كلّ شيء- من غلاف كتابها الشعري (الأول). وقد جاء العنوان متكونا من كلمتين يفصل بينهما حرف الربط (و). والربط قد تكون له سمة قسرية أو عبثية، ولكنه على الاطلاق لا يكون حرف (جمع) أو (اتحاد). وهو ما يستدعي برهة من الصمت والتأمل والاستكناه قبل الدخول في القصيدة- الخطاب.
صلصال- و- ماء
ما هي العلاقة بين (صلصال) و (ماء)؟..
هل هما من طبيعة واحدة؟ أم يعبران عن حالة واحدة؟..
وهل العلاقة بينها علاقة ارتباط أم اتحاد، تكامل أم تنافر؟..
القصدية العالية زائدا دقة التعبير، لا غنى عنهما للقصيدة الناجحة أو الكاملة. وهما يتحققان بالفكر (آلة العقل) وليس بالشعور (دالة الانفعال).
مفردة الماء قد تبدو أكثر اسئئناسا وشيوعا بحسب التداول، بيد أن المعنى الشعري يغور بعيدا وراء المتداول العام. وللوقوف على معاني كلّ من المفردتين، يقتضي العودة إلى استعمالاتهما في الذاكرة التراثية، والتي تحتل أهمية خاصة في تشكيل قاموس الشاعرة وخرائط معانيها.
الثنائية في عنوان الكتاب الأول، تنتقل إلى عنوان كتابها الشعري الثاني (وشمُ الرّيح)، حيث يتكون من كلمتين، لكن العلاقة بين الكلمتين تتسم بالاتصال والتبعية (بالإضافة)، ولا يعني هذا اتحاد القطبين السابقين في هذا الكتاب، بقدر ما يعني الانتقال من الشيء/ الموضوع (object) إلى الصورة الناتجة بالانعكاس (reflection). فالوشم الذي (يمكن أن) تتركه الريح لن يتعدى تلك الصورة المتشكلة من نقاط غبار رمل علق بالريح. فالعنوان (الثاني) بقدر ما يشكل اختزالا للعنوان (الأول) من عنصرين إلى عنصر مركب ممتزج، فأنها تمعن في تذرية العنصر المتبقي (صلصال) كيمياويا إلى ذرات التراب الأولية (قبل أن تمتزج بماء فتتحول إلى طين يابس فخرته نار فصار صلصالا مجوفا يختون ريحا فيصدر صوتا كالصلصلة). فكرة الصلصال الشعرية بهذا المعنى قد تشكل إحالة غير منظورة إلى تعبير (الرجال الجوف) في قصيدة (أرض اليباب) للشاعر الانجليزي ايليوتّ. ويلحظ انتساب عناوين الشاعرة إلى مسميات ظواهر طبيعية مجردة كالماء والريح والتراب، تقابلها حالة من اختزال معالم المدينة والتطور، أو محاولة إدانة بعض مظاهر المدنية.
جوع وفقر النازح
من كلّ الأوطان
وكلّ الأجناس
والموت والدمار ما زال.. صلصال/ ص54
أيتها المدن التي لم يبق منها سوى عتمتها.. وشمُ الريح/ قص- أصدقاء الأمس
كلّما تولد فرحة بعينيه تموت
وأطراف المدينة ما زالت تسكبُ الوهمَ.. وشمُ/ قص- المغنّي
ونجد في المجموعة الثانية، أن اللغة تنتقل من التعبير عن الشيء/ العلاقة إلى توصيف الصورة المنعكسة على الريح/ الأفق فتتكرر كلمات السراب والغياب والوهم والانتظار والضياع والاكذوبة، حيث يصل الذهن إلى حالة من اللامعقول يختلط فيها الخيال بالحقيقة، لمراوغة الواقع. واختلاف تشكيلة عنوان الكتاب الثاني هي مؤشر لاختلاف المبنى والمعنى الحكائي لنصوصه الشعرية أيضا. وملاحظة أخرى تقتضي الذكر بخصوص العناوين، هي أن كلا منهما يمثل استقلالية في ذاته، كعنوان خاص للكتاب أو مجموعة القصائد. وكما أن لكل من تلك عنوانه الخاص، فأن مجموعة النصوص بين دفتي الكتاب تدخل تحت عنوان رئيسي يجعل لعناوين النصوص الداخلية أهمية فرعية، وهو مبرر آخر لتوجيه أهمية خاصة لدالة العنوان وصورته البنيوية.
التحديد المبكر لحالة طرفين (قطبين)، في عنوان الكتاب، يستمر في نصوص المجموعة وينعكس عليها في صورة الخطاب، أي صورة العلاقة المفترضة بين (طرفين).
(الذات) من خلال (الآخر)..
نادِني بكلّ اللغات/ وبكلّ صوت .. / ص5/ مج- صلصال وماء
أستلهم الشعر كي أناديك/ تحمل الريح صوتي/ فيبدو لك عويلا/ وعندما تحاول أن تناديني/
يسقط صوتك في واد سحيق.. / ص35/ مج صلصال وماء
لم يعد الخطاب يجدي/ الأذن صماء/ والتجليات تنكسر.. / ص41/ مج- صلصال و
أرى طيفك الغالي ببابي/ يسائلني/ ويسفك جنح خيالي/ وأسكب في غيابك/ دمعي/
وأرسل في أفق الهوى البعيد/ ندائي.. / ص52/ مج- صلصال
داوِ الجراح/ ما زال في جرحي / سؤال... / ص73/ مج صلصال
إروني ولو في الخيال/ وجها توارى/ خلف أسدال الغياب.. / ص74/ مج- صلصال
بين عيني وعينيك لغات/ سوف أحترف إذا تلك اللغات/ امنحني لو لحظة من سراب/
أو أملا من خيال/ امنحني المحال/ حتى أخرجك من صمتك/ هل يا ترى سوف أنجح.. / ص78/ مج صلصال
ماذا تراني أنتظر/ والصمت الجاثم والكلام الذي يختنق/ ها هي الذكريات تحترق/
..
وعلى المدى / في اتساع الألم نشتاق/ ننتظر.. نتوق/ وشوقا نحترق.. /ص106/ مج صلصال
أنا لست مثلك/ وأنا بعض بعضك/ جفّ ذاك الجرف في حلق الكلام/ حين أصبحت منك مدانا/
تدمع الأدلة ضدّي/ وتنكر البرهان.. /ص108/ مج صلصال
يد من السراب تمتدّ لي/ صافحتها/ فإذا السراب/ يجدد العهد.. / ص111/ مج صلصال
هات ظلك/ وخذ ظلي/ هما يتشابهان/ وإن أردت خذهما معا/ الظل والظليل. / من مج (وشم الريح)
من أي تعب أتيت/ والتفاصيل صرعى/ وهذا الهاجس المأسور يقتلني ببطء/
أحبك وما بيننا أكذوبة وضياع/ وهذا الجمر لا يكف عن الصراخ/ امنحني لحظة احتضار/
كي أسقط صوتا ضائعا بين الأصوات/ أعدّ النجوم والقناني/ أسكب فوق الغضب غضبا/
من أين جئت تراوغ وجعي/ وتغرس بردي/ أعطني الأمل واتركني أغني/ اترك للكلمات ميلادها للحلم انبثاقه.. / مج- وشم الريح
وأنت ما زلت كحبّات الندى/ تنتفض بين البنفسج والصهيل.. / مج- وشم الريح
سجل عند الصمت غيابك/ انفر كظلّ الغزال الشارد من جنون ميلادك / انظر حولك/ ماذا.. لو كنت أختبئ في دمك/ وحولك دوائر الخوف/ والسماء مفتوحة خلف ظهرك... / مج وشم الريح
عيناك صامتتان/ صمت السواحل.. / مج- وشم الريح
الصمت يعتذر/ الشوق يعتذر/ والرحلة ما زالت انتظارا... / مج- وشم الريح

(2)
صورة الآخر في قصيدة المرأة..
القصيدة الحديثة قصيدة ذاتية، قصيدة ذات مشتبكة ومنهمكة في ذاتها، وفي بحثها عن احتمال حل عقلي لإشكالية الوجود. لكن القصيدة الذاتية هي أيضا قصيدة الآخر، منظوراً إليه من زاوية الذات. الآخر في صورة التواصل والعلاقة الاجتماعية بين قطبي الوجود البشري. وفي مجموعة –صلصال وماء- تتخذ هذه الثيمة مركزية واضحة، كما لو أنها تسعى جاهدة لتأسيس إطار لعلاقة مرتقبة في مماحكة الذهن – الواقع، أو تساؤلها المفجع عن مدى احتمالية التحقق!.
يدٌ منْ سَرابٍ تمتدّ لي/ صافحتُها/ فإذا السراب/ يجدّدُ العَهدَ../ وكأنما في كلِّ عام../
بيعةٌ لي مع الحزنِ/ وتجديدُ مقام..! / قصيدة سراب- ص111
الحزن المتقطر في هذه الأحرف مادة عضوية تدخل في تكوين لبنات واقع اجتماعي مغرق في التاريخ إلى حدّ الغرور.. حزن يجبرنا على قبوله ، سيما وهو يلوّح بما وراء ذلك "السراب". وليس السراب هنا غير شارة يأس تتحكم في نواصيه عدمية قاحلة. ليست عدمية اللامعقول أو الاستثناء، انما التضادّ، الذي يجمعها و(العاديّة) تحت مظلة واحدة، تنساب بغنائية ناعمة خلل أصابع غبش ما..
للبائسينَ عَلى المدى/ وَعَلى الدَّوام/ سؤال/ يؤمُّهم جرحُ المحال/ وينطوي/ تحتَ الحنايا/
مبهَمَ القسَماتِ ذاك الأملُ/ أنى ارتحلتُ عَلى مدى الأيّام.. / قصيدة سراب- 110
يقال أن الجرح القديم تعتاده النفس.. والواقع أن هذا الجرح ليس قديما فحسب وانما هو عميق.. بعمق خصيلات جذور النخل.. لذلك امتزج بأحشاء الأرض وتلوّن أو تلوّث بلمف الدم وانساب عبر الشرايين والأوردة. ويكفي أن نتخذ في هذه الزاوية مفردات (بائس- حزن- سراب)، مقابل (جرح- محال- يأس) لنستكمل بقيّة تفاصيل اللوحة.
انّ السؤال الذي نسيناه في السطر الثاني من القصيدة هو.. أين هو الآخر هنا؟..
*
(صلصال وماء)..
العنوان الرئيس للمجموعة يجيب على السؤال بوضوح ومن غير مواربة.. وحرف العطف الممثل بالواو انما هو حاجز لا يقلّ صلابة وارتفاعا عن جدار برلين أو أسوار بابل أو أشور أو أريحا أو رباطات القيروان وفاس أو قصر قُلَيْص في اليمن. ويعود سبب هذا التشدّد في التأويل إلى الدور الذي تلعبه لفظة (صلصال) ذات المرجعية الموغلة في ثنيات لاوعي الفرد.. باعتباره (طين صخري يحتوي على مادة لاحمة هي السليكون/ ويتميز بلزوجة شديدة حين يبتلّ)، أو هو (طين مخلوط برمل)، أو (طين يابس لم تصبه النار)، أو (طين يابس كالفخّار)، أو (طين يابس تسمع له صلصلة). ولفظة (صلصال) دالة ميثولوجية على مادة خلق الانسان الأول (آدم) من تراب. واستخدامها من قبل الشاعرة يحقق عدّة غايات على صعيد سيميائية اللغة.
يابس هو الصلصال إذن، يابسة هي حرارة الصحراء، يابسة هي حضارة الكونكريت وتكنولوجيا العبيد، ويابسة هي قسمات وجهك.. أيها الآخر.. الرجل!
كأنّ نقرات ريح القيظ تقرعه قرعا فيصرخ الفراغ والباب لا يفتح.. هل ثمة باب في هذه الفرضية..
"ها أنا واقف على الباب وأقرع، من يفتح أدخل وأتعشى معه". حزن.. يأس.. سراب.... أبجدية صمت فاغر..
من ذا يُعلّمُهُ الحرفَ/ يلقنُهُ أبجديّاتِ الكلمة / ويحرّك في فمِهِ الأخرس/ الكلمـــــــــــــــــــــات!..
من يعلمُهُ أنَّ الحبَّ كلماتٌ عطرةٌ/ تحيي القلبَ/ تبعثُ فيه الفرحةَ/ تنمي الحبَّ حتى يغدو شجرة/ أصلها ثابتٌ وفرعها (في السّماءِ)/ من يؤمنُ مثلي أنَّ الحبَّ/ بلا ماء يموتُ/ كالشجرة. / كلمات عطرة- ص79-80
لا توجد شجرة في صحراء، لأنّه لا يوجد في الصحراء ماء.. الموجود هو سراب.
والماء هو عقدة الصلصال و(الحمأ المسنون) أي الطين المتغيّر لونه إلى سواد، من العطش. ضرورة الماء الأساسية هنا تقود إلى الدالة الثانية في العنوان، والمرتبطة أو المنفصلة عن سواها بواو.
الحجر اليابس بلزوم ماء كي يتنعّم ويرطب، ويكفّ عن التشقق والصراخ الصامت.. هل توفر الصحراء مبرّرا ليكون جلدُ آدم يابسا (كالفخار). الماء هو الحياة. بلا ماء تموت الشجرة.. فتعلّم يا آدم أين تجد الماء فتكون لك حياة..
"فدَعا آدمُ بأسماءٍ جَميعَ البَهَائمِ وَطُيورَ السَّمَاءِ وَجَميعَ حَيَواناتِ البرِّيَّةِ، وَأمَّا لِنفسِهِ فلم يجدْ مُعيناً نظيرَهُ". " وَقالَ الرَّبُّ الإلهُ ليسَ جيِّداً أنْ يكونَ آدمُ وَحْدَهُ، فأصنَعُ لهُ معيناً نظيرَهُ". "وَدعا آدمُ اسمَ امرأته حوّاءَ لأنَّها أمُّ كلِّ حيٍّ". هذه الصلة الجدلية بين قطبي الوجود عندما تصاب بالجفاف واليبوسة يلزمها ما يعيد إليها طراوة النعومة ودفء ندى الفجر.
فاليباس والصمت ، انما هي دوال توصيف صلة تعاني من الافتقاد .. هي صرخة مجتمع يصطرع بالنزعة المادية وثقافة الاستهلاك حتى يكاد يغيب عن نفسه أو عن وعيه. فقد أودى اللهاث المستميت وراء الذهب والمادّيات إلى تحطيم أسس العلائق الاجتماعية والأسرية إلى ما يدعى بأزمة الاغتراب الذي كان أفدح نتائج الثورة التكنولوجية والالكترونية، إذ سادت فيها الرموز والأرقام ولغة الاشارات، بديلا للغة الانسانية ودفء العلاقات الحميمة.
ليس من الغريب أن يلتقي عواء الصحراء بعواء ذروة التكنلوجيا، وفي المجتمع المعاصر من النزيف الاجتماعي ما يقتضي حلولا ومعالجات لا تقلّ خطورة في تهديدها لمستقبل الانسان.
*
(3)
خلاصات الخطاب..
من خلل هذه القراءة السريعة لتجربة سارة الصافي الشعرية والتي اعتمدت مستويات ثلاثة في بنائها.. اللغة- الخطاب- الآخر.. أحاول هنا استقراء مصير خطابها الشعري عبر بعض عيّنات من نصوصها المنشورة.
ويمكن القول.. أن فكرة (المصير) هذه، زردت كمقابل موضوعي لأساس قدحته الشاعرة عندما قررت منذ بدء، أن يكون تناولها لموضوع الآخر (نظير/ معين/ ندّ/ نصف ثانٍ/ مكمّل/..) عبر دراسة منهجية ذات أصول فلسفية تعود بالشيء إلى بداياته ثم تنمو معه وصولاً إلى نقطة المبتغى.. بكلّ ما يمكن أن يترتب على هذه الطريقة من رغبة في التجريد أو طابع نظري أو قصور التجربة الحسيّة أو رغبة في كتمانها وتغليفها بسيلوفان اللغة المجردة..
لكنني قد أرى في مثل هذه الطريقة امعانا في تأمل عميق في جوّانيات الصلة الرئيسة.. أن كثيرا من أشهر الشعر أو الأدب العاطفي/ الغزلي، حيث توصف أدب العلاقة بين قطبي الجنس البشري، انما تغرق أو تتكلف الاغراق في الحسيّات وتنسب لنفسها ما يتجاوز مكنتها في سبيل اقناع القارئ بوهم العاطفة أو جبّ الحبّ..
نكتب قصائد موشاة/ تذوب/ في وصف الحبّ/ هوية الكلمات/ وتبقى دون معان/ كلمات غريبة.. صلص-97
وقد أحسنت الشاعرة هنا عندما جرّدت العلاقة من التكلف أو المبالغة، وسحبتها إلى أرضية الواقع..
ها نحن ننكر بعضنا/ خلف ظهورنا يد بها سلاح/ ويد/ أخرى تصافح.. صلص/ 51
في اتساع الألم نشتاق/ ننتظر/ نتوق/ وشوقا نحترق/
ألم يغب الرحيل إلى ما وراء الشفق/ ماذا تراني أنتظر.. صلص- 106
هذه الواقعية الهادئة المتأملة.. البعيدة عن الانفعال.. ليست غير رماد تجربة استهلكت نفسها عبر تكرار المحاولات وتغيير الوسائل رغبة في استنقاذ الطفل أو تحقيق فكرة حياة جديدة.. لكنّ ممانعة الصلصال لقطرة الماء قادت تلك التجربة إلى محال وسراب ووهم.
في قصيدة (سئمت الانتظار) من مجموعتها الأولى تقول..
طال ليل السهد/ بيني وبينك ألف باب...
دم وطب وانعم/ بما تختار/ وجادل كيفما كان (شئت) الجدال/ قد تعلمت أن أهادن/ أن أجتهد في لغة الحوار/ أن أكسر الخوف في صمتك/ أنا لست مثلك... صلص- 107/108
لا تتنكر القصيدة لواقعها الثقافي أو ظرفها الاجتماعي، ولا تتظاهر بالتمرد أو الرفض ولكنها لا تتنازل عن حقها الوجودي وانسانيتها..
جفّ ذاك الحرف في حلق الكلام/ حين أصبحت منك مدانا (مدانة)/ تجمع الأدلّة ضدّي/ وتنكر البرهان..
هذه اللغة دعوة للانصات إلى عمق الهدوء الفاضح لا يكتم رغبته أو دعوته لاستعادة منطق الأشياء..
هذا الشخص المتظاهر بالصمت/ المتهم بالصمت في الشعر.. انما مستغرق في جمع الأدلة لإدانة ضدّ من لا يوجد أو يقدر أن يعيش بدونها.. فتنظر إليه بنعومة الأنثى وسلاسة الماء لتخرجه من صمته.. الرجل في قصيدة الصافي هو صامت.. لا يستخدم اللغة ولا يميل للخطاب.. هذه الملاحظة الدقيقة والخطيرة تتضمن إشارة غير مباشرة للجانب العنفي داخل الرديف..
أفيك إذا أحتار/ قد كسرت فيّ الكبرياء/ فما عاد لذاك السؤال/ جواب...
فلا غرابة بعدها أن يصل الخطاب إلى آخره..
ما عاد لذاك السؤال جواب/ وطويت يا أنت/ صفحة من كتاب/ ليس له عنوان/ فاهنأ بما تختار..
لكن المرأة لا تيأس.. لذلك لا تحرق كلّ الخيوط ولا تلقي الأوراق في سلة النفايات.. فجاءت الورقة (صفحة من كتاب) وليس كتابا كاملا أو ورقة منزوعة ليس سواها.. أمر آخر يرشح خلل القصائد هو سعي الشاعرة لتوسّل العذر للشريك/ الندّ...
فتيان وكهول/ يقودهم/ الشيخ أو العريفة/ وما ذاك الغريب/ سوى علامة فارقة تمتصه الأرض..
هنا تنتهي الجملة في صورة التراب.. الغبار- الصلصال...
حين ينبت....
والنبات إحالة للأرض.. التراب الحي المروي بالماء.. في خلافه عن صلصال محمي بالنار..
هاكم الأرض تبكي/ لن تعتق المأسور/ لن تنجي الوصل من القطيعة/ هاكم الأرض/ يابسة العروق..
هنا يجري افتقاد الماء... التراب من غير ماء يفقده حتى تماسكه في ذاته ويعود حالة رملية تتفتت ذرات فتأخذها الريح وتنقلها من كثيب إلى كثيب إلى ياقة قميص...
هاكم الأرض/ يابسة العروق/ بلا عرى وطيدة (ماء)/ ستسكنها الأجداث (هياكل من غير حياة)...
هذه الأرض التي / نقيسها بالذراع/ نبتاعها بالخديعة.....
فالمقابلة هنا بين رمل ينقصه ماء وصلصال تيبّس إلى درجة حجر.. بين بشر بلا جذر وبين نبتة تتعرش في أرض.. بين أرض بلا ماء وبين هياكل بلا حياة...
من يؤمن مثلي أنّ الحبّ/ بلا ماء يموت/ كالشجرةّ... صلص- 80
وديع العبيدي
لندن في الثالث من اكتوبر 2011
ــــــــــــــ
• صلصال وماء- سارة الصافي/ مجموعة شعرية- ط1/2010- منشورات دار المفردات للنشر والتوزيع، الرياض.
• وشم الريح- سارة الصافي/ مجموعة شعرية- تحت الطبع.



#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وردة أوغست..
- كلّ عام وأنت..!
- استقبال....
- لامُن ياؤن سين
- ((حضارة عكسية))
- منفيون من جنة الشيطان 40
- منفيّون من جنَّة الشيطان 39
- منفيون من جنة الشيطان38
- الاتجاه الاجتماعي في أدب يوسف عزالدين
- منفيون من جنة الشيطان37
- منفيون من جنة الشيطان 36
- منفيون من جنة الشيطان35
- منفيون من جنة الشيطان34
- منفيون من جنة الشيطان33
- منفيون من جنة الشيطان32
- منفيون من جنة الشيطان31
- منفيون من جنة الشيطان30
- منفيون من جنة الشيطان29
- منفيون من جنة الشيطان28
- منفيون من جنة الشيطان27


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وديع العبيدي - المنظور الاجتماعي في أدب سارة الصافي