أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عذري مازغ - رسالة غرام، وجحيم المدرسة القروية














المزيد.....

رسالة غرام، وجحيم المدرسة القروية


عذري مازغ

الحوار المتمدن-العدد: 2967 - 2010 / 4 / 6 - 19:13
المحور: الادب والفن
    


1

عندما كان الطفل برددوش يافعا في المدرسة الإبتدائية، كان مغرما بفتاة من نفس قسمه، كانت قد بدأت تتنضج بالتدريج مفاتنها الأولى، وكان ذلك الإنجذاب الساحر عنده مبهما إلى حد كان يرنو فقط أن يضع رأسه بين ذراعيها لتوقع هي بأناملها الرقيقة لمستها الساحرة، كان عشق طفل يتوق أن ينام في حضن أمه.. عشق لم يغادر بعد حنان الأمومة إلى مايشعل جوارحه عشقا بالفاحشة.. كان كل عشق برددوش هو أن يكتب رسائل غرامية صغيرة بصغر الاحساس فيها، رسائل يملأ بها جيوبه الصغيرة ليقرأها على صديقيه الحميمين في الصف، دون أن تصل نهائيا إلى معشوقته التي لأجلها كتبت، ويعلق عليها الصديقان بأنها رائعة الأسلوب والتعبير وتضاهي كتابات الكبار، وأن طفلته الصغيرة، ستفتتن بها وستموت فيه. كانت متعته في تللك الرسائل هي انطباعات الأصدقاء حولها أكثر من أن تصل إلى صاحبة الجلالة، بسبب من خجله الدفين الذي انغرس في دواخله منذ استوعب سلطة الأسد من زئير والده الذي ما أن يدخل إلى المنزل حتى ينغلق الكل على نفسه بما فيهم والدته المسكينة، لا أغاني في المذياع، لاصياح ولا لهو ولاشيء آخر. كان المسكين يكتبها لنا أكثر مما كان يكتبها لفتاته، وكان يشرح لنا فيها شعره الكبير الذي لم نفهمه آنذاك، يرصعه بكلمات كبيرة وقديمة قدم التاريخ، لا نفهم منها سوى إقاعاتها الجملية (من الإبل) التي تنقع الغبار عند شعراء الجاهلية..
وحدث أن أحد الأصدقاء كان معجبا بتلك الرسائل، فطلب منه استعارة واحدة منها ليستعين بها في كتابة رسالة لمعشوقته هو الآخر، ولم يمانع برددوش في منحه واحدة ممن كانت تملأ جيوبه، على أن لاينقلها حرفيا حتى لا تعرف محبوبته هو على أنها نفس الرسالة التي تلقتها، وما كان من هذا الصديق، بسبب من كسله أن منح الرسالة ذاتها لمعشوقته، الشيء الذي لم تستصغه الفتاة التي بدأت بتوبيخه، فما كان منه أن اعترف لها بأن الرسالة ليست منه، وأنه فقط نقلها إليها، فما كان منها أن شكت برددوش إلى المعلم ليقيم له محاكمة تاريخية هزت كيان المدرسة، جنايتها الكبيرة أنه كتب رسائل غرامية تصف صديقته وجارته عبوزان بأجمل الصفات... ومضت المحاكمة في جو رهيب رفعت الفتاة الواشية إلى مقام الصديقين بينما برددوش الخجول المنكمش على ذاته نال خمسين جلدة من سلك اللامبا القوي ونال توبيخ التلاميذ، كما وصل انحطاطه إلى مسامع والده الأسد، فيما كان المعلم الذي أقام الدنيا وأقعدها بسبب محاكمة طفل صغير كان يكتب رسائل ليفاخر أصدقاءه، كان هو يكتب رسائل يدسها في طحين العجين الذي يمدنا به لتصنع له أمهاتنا وأخواتنا الكبيرات خبزا، رسائل لأخواتنا اللاتي لم يكن يعرفن لا الكتابة ولا القراءة.

2

كانت المدرسة أشبه بسجن صغير تختمر فيه أجسادنا الصغيرة المنذورة لغضب الآلهة برياحين الأحذية البلاستيكية، وكان التعذيب سمة تلك المرحلة من الدراسة الإبتدائية، تعذيب مشرعن اجتماعيا ودينيا، لأن موقع سياط الفقيه والمعلم على أجسادنا الصغيرة، لا تحرقه نار الآخرة كما كان يقول الآباء، وكان كل من يعيش معنا في البيت يستبيح ذلك السياط ويعلنه علينا حين نشاغب، لم نطمئن يوما إلي مرحنا أو لعبنا إلا في أيام العطل حين يسافر المعلمون إلى ذويهم أو حين يغيبون لأسباب معينة وكنا نعرفهم بأسمائهم المناسبة، الذي كان يتساهل معنا بالساهل والذي كانت تنزعج منه فرائسنا بالواعر (القاسي) . وكان برددوش، شاعر الغراميات الصغير، من يوم المحاكمة الرهيبة إلى أن وافته المنية ضحية استفزاز كل طفل يريد أن ينال منه في شيء، كانت الرسائل تهمة ثابتة في حقه بدليل المحاكمة، وكان أي منا يستطيع إعادة صك الإتهام كلما أراد إخضاعه، ولم تنفعه معنا قوة بنية جسمه، فهو كان أطولنا وكان أقوانا أيضا، لكنه كان أخضعنا بسبب من ذلك، أصبح منزويا تحوم حوله ملامح اليتم الذي حمله، في مرض عضال، إلى أن ينفث أخر انفاسه في أحد أيام الجمعة، بعد شهر من محاكمته.
كان كما لو أنه رفض العيش في مجتمع تسوده قوانين الجحيم، وذهب ليكمد جراحه بسكينة الجنة كما يقول الآباء... وكانت الطفلة عبوزان أكثر من باكاه في ذلك اليوم الحزين..

3

حملت فينا مظاهر العزاء في وفاة برددوش حقدا دفينا للمرأة الفتاة التي وشت به إلى المعلم لتوقعه في أول محاكمة علنية تشهدها طفولتنا في التاريخ، وتكرست في دواخلنا تلك الصورة النمطية لهذا الكائن الوديع الذي رسمته الكتب المدرسية، تلك الشخصية الغرة التي تنفزع في المطبخ ما أن يتمظهر لها فأر صغير يلوذ بروحه، أو مرور حشرة تائهة في التقاط الفتاة، طفلة تجمع الزهور في الحديقة وتنام محاطة بملائكة من الدمية في السرير، وهي صور في كل تجلياتها تفرز إيحاءات وظيفية تحدد بدئيا مصيرها المعلوم ، وبعد كل هذا كان ملبسها القصير في كل كتب المطالعة يشكل صورة نمطية لما يريده القائمون على التعليم أن تكونه، في الفزع أمام فأر، في انحنائها لاقتطاف الزهور، في نومها الوديع بين الملائكة، نمطية إيحائية تختزلها في كل صورة أطرافها العارية.
ما أن ودعنا برددوش حتى بدأت ملامح أخرى تظهر في تصرفات المعلم الجليل، كان كمن شعر بعقدة الذنب نحو قضائه الجهنمي لتصبح فتاة العفة والطهر ضحية أخرى من ضحاياه، حيث ما أن تفشل في تحصيل درس ما حتى يناديها لتقف أمامنا ليثير درسا آخر من نمطية ساديته كما لو كان ينتقم لنفسه من تداعيات المحاكمة البليدة التي أقامها على طفل شاعر، كان يمد يده إلى صدرها ليشد على رأس ثديها الصغير الذي لم ينضج بعد، ثم يبدأ يحكي علينا قصص خرافاته التي تعلمها على النسوة، كان يناديها أمامنا باسم عائشة قنديشة التي ألهمت الذاكرة الشعبية بما يديم علينا أبشع الأوصاف التي امتطت ركب مخيلتنا الصغيرة، مما اضطر الطفلة الجميلة للهروب هي الأخرى من جحيم المدرسة الابتدائية وتقبل على أول زوج لم يكن جسدها الصغير يستوعب لهفة الذكورة المتعطشة للإغتصاب.
إلى روح برددوش الشاعر أهدي هذه الذكرى وإلى تلك الفتاة التي أصبحت أما قبل الأوان، وبئس مدرسة قروية حملت إلينا نشيد الهمجية، ونحن أطفال.



#عذري_مازغ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكايا من المهجر: ساحة وليلي
- حكايا من المهجر: صراع الهيمنة 3
- حكايا من المهجر: صراع الهيمنة 2
- حكايا من المهجر: الموضولو 3 وصراع الهيمنة
- حكايا من المهجر: هلوسة عبابو 3
- حكايا من المهجر: هلوسة عبابو 2
- هل يعيد التاريخ أحداث إيليخيدو مرة أخرى إلى الواجهة
- حكايا من المهجر - هلوسة عبابو
- الدرس الثاني ديالكتيك البراءة
- الدرس الأول لأطفالنا في الديالكتيك
- مقاربة تصورية حول الحتمية الاشتراكية
- نحو تأسيس مزبلة إلكترونية
- بمناسبة 8 مارس
- من وحي ألميريا
- حول تأصيل اللغة الأمازيغية
- كولن ولسن وتجريد اللامتجرد
- أحلام دونكشوت مغربي4
- أحلام دونكشوت مغربي3
- لي في عينيك
- أحلام دونكشوت مغربي2


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عذري مازغ - رسالة غرام، وجحيم المدرسة القروية