|
العالم عندما القصيدة نثرا _ 1
عبد العظيم فنجان
الحوار المتمدن-العدد: 2774 - 2009 / 9 / 19 - 11:22
المحور:
الادب والفن
سومري في ساحة الميدان ، في بغداد
الى الشاعر جمال محمد امين
ها أني أكتبُ قصيدة نثر لا تقول شيئا ، ذلك أن أقصى ما اريدُه هو هذا ، رغم أنني اطمحُ أن تكون عنوانا لمجموعتي الشعرية : اريدُها أن تشي بلحظة حزينة ، و بوعي مضطرب ، متلاطم الأمواج : لا قعر له ، فيما اللؤلؤة هي سطحه ، لكن هل من الضروري أن تقول القصيدة شيئا ما ، كي تكون عنوانا ؟!
وحدي في ساحة الميدان ، بلا سجائر أو نقود ، مثل نسر جائع : ممنوع من التحليق حول أسوار الكلام ، أبحثُ عن فريسة اثرثرُ معها ، كي أتلافى السقوط في كمائن التفكير بهذه الهواية الحزينة ، فالشِعر مسألة شخصية جدا ، لا تعني أحدا : إنه مرضٌ كلما تقدم به العمر صار وكرا لألم لا يطاق ، لكنه مما يرفع الانسان فوق ذاته ، أما التصفيق فليس الا سلّم الهبوط نحو الدرك الأسفل من العافية : ما الشاعر، في هذا الزمن الكافر ، إن لم يكن غائبا في حضوره ، مثل ساعة يأوي اليها الوقتُ ، حتى وإن كانت محطمة ، تحت الأقدام ، وعاطلة ؟! مَن سنّ قوانين النشر؟ مَن أوكل اليه أن يضع الأوسمة ، بأية مناسبة ، وأي معدن يعادل الكنز المخبوء تحت طبقات الكتابة ؟ و لماذا يجب على الشاعر أن يُصدر مجموعة شعرية ، كي يتم الاعتراف به من لدن شعراء لا يعبأ بهم أصلا ، كأن تجربته في تخريب قصائده ، قصيدة بعد قصيدة ، ليست مجموعة شعرية فريدة ، لا تقول أو تقول شيئا ؟!
ـ " يا للسخافة ! صار الصبيانُ شيوخا ، دون أن يصحبوا الطوسي في محنته ، وهاهم يـُثقلون ظهرقصيدة النثر بمتاع القريض ، لكن إذا كانوا لا يرون أن رامي السهام ، في الكهوف ، هو نفسه الواقف خلف المنجنيق ، عند أسوار بغداد ، إذا كانوا لا يرون أن رامي المنجنيق هو نفسه رامي البندقية ، وإذا كانوا لا يرون أن رامي البندقية هو نفسه كما يتجلى الآن ، على شاشة التلفاز ، بهيئة ذئب ، يرسلُ ، بلا توقف ، سيل لعابه في نهر الوعي الجمعي للخروف ، فكيف يفهمون العالم عندما القصيدة نثرا ؟! "
أقولُ ، وأنا أهزُّ رأسي ، ثم أتلفتُ ، يمينا ويسارا ، خشية أن يكون قد سمعني الشعراءُ الكبار المسموحُ لهم بالتحليق حول الأسوار .
ـ " لقد شحبتْ هذه المهنة .. "
تعلـّق فاكهة ٌعجوز تدخنُ سيجارة ، على الرصيف ، أجلسُ الى جوارها : تضربني على كتفي ، ضاحكة بصدق ، فتطفرُ أسنانها الاصطناعية ، وأنا أقترحُ عليها بجدية مَن قرأ الماضي والحاضر والمستقبل :" لقد أفـلِتْ شمسُ جَمالكِ ، التي كانت تشرقُ في سماء هذه الأزقة ، يا صديقتي ، فلِمَ لا تجرّبي العملَ في سوق السياسة ؟ ".
حقا .. إنني أستغربُ من النساء اللواتي فقدن الأملَ ، لِِمَ لا يشعلن الشموعَ للعيـّارين ، ولشطّار بغداد ، بدلا من الأمين أو المأمون ؟ ومادام تيمورلنك سيصل ، بعد هولاكو ، كما هو مكتوب في الصفحة التالية من كتاب التاريخ ، لِمَ لا تترقبُ الامهاتُ الخائباتُ ظهورَ المخلّص بهيئة شاعر مفلس ؟
لا نقود ، لا خمر ، لأحسمَ هذه المسألة : الساحة تقفرُ ، والباعة يعودون ، من شارع المتنبي ، متأبطين خواطر مفخخة بحشرجات من سطور الكتب : تنفجرُ مع أول كأس هناك بعيدا ، في الضواحي ، فيما الساعة تشيرُ الى عشتار: تنظرُ اليَّ من الشُرفة ، وأنا أتسكعُ وحيدا : بيدي دمعة ، هي كل ما أملكُ من زادٍ لقطع المسافة التي تفصلني عن الصباح . آه ، عشتار ، هذه الألهة الشبقة ، التي تطاردني أين ما حللتُ . لا أعرفُ حضارة لم تضعها في المقدمة من فاتناتها ، لا أعرفُ بلادا خالية من ضحاياها ، لكنني سأشربُ الدمعة ، وأسكرُ على نباح الكلاب الذي ينتشرُ في الساحة ، فعشتار لن تختلط بالشعراء اليائسين ، الذين لا يبحرون في العالم الا على متن زوارق مصنوعة من أوراق قصائدهم .
هنا كان عقيل علي ، في أحد الأزقة ، يسكرُ في حانة حنين : يغمسُ قصائده في صحن صحته الرديئة ، ويتلو على السائرين في نومهم تمائم تصدُّ عن حامليها كل شيء الا الأمان ، و .. ذات ليلة طردونا ، أنا وحسين الصعلوك ـ كما لم يطردوا الأمين والمأمون ـ بعد معركة طائشة بالقناني والمسدسات ، استمرتْ طويلا ، ولم تتوقف ، حتى بعد أن وصل المغول ، حتى بعد أن سحلوا بغداد في الشوارع : طردونا من الحانة ، من الحانة طردونا ، فخرجنا محمولين على أكتاف الافلاس ، لنقابل جان دمو في حديقة اتحاد الادباء ، عائدا من استراليا بعشبة الخلود ، وقد حفر خندقا عميقا من الضحك المرير، ثم جلس فيه مدافعا عن أملاكه بشجاعة المحارب الخاسر منذ أول معركة : يملكُ دمعة واحدة .
ـ " إنها دمعتي التي شيـّدتـُها بدموعي . أعمالي الشعرية الكاملة هي ، وحياتي " كان يهتف . " هي مختصر ألواحي الطينية ، التي ضمّنتها أسفاري الى أتونابشتم ، و لم أكتبها كلها ، لأن الخلودَ لا يساوي كل هذا الحنان " .
فيما كانوا يرمون سلة عظامه ، بالمنجنيق ، الى السماء ، وخلفها ، حتى آخر نجمة مضيئة ، يقفز موكبٌ شاسع من الكلاب ، ثم يهبط نابحا في ساحة الميدان ، حيث أمشي وحيدا ، أبحثُ عمّن يطرد الاسئلة ، كي أتلافى السقوط في كمائن التفكير بهذه الهواية الحزينة : كتابة الشِعر، و لا أفهم ، الآن ، كيف خطر لي أن أنتقم من الشيوخ والصبيان معا ، من التاريخ ومن المناهج ، بأن أكتبَ هذه القصيدة فوق جلد لحظتي التي شوّهت خارطتها السياط ُ ، لكنني أذكر أن حكمة جان اخترقتني عميقا ، فلم أسكر، لكنني ثملتُ حتى الصباح ، ممّا أتاح لي أن أرى سركون بولص عن قرب : يمشي وحيدا في الصحراء ، وفي مخيلته سربٌ من العبيد ، منهكين خلف الاسوار، وهم ينقلون حسرات امهاتهم لتشييد زقورة اور ، عند ذلك رأيتـُني أفرُّ من بين يدي أبي طفلا ، ألهو بضرب العظام ببعضها في المقابر الملكية ، حيث عشتار تحوم من حولي ، مثل طيف ، تخطفني مع أثمن ما حفظتُ من ترانيم ٍ سمعتـُها ، وأنا مازلتُ نطفة في رحم المعابد السومرية .
" هذا حال مَن تهرّأتْ شرارة فيضه ! "
أقولُ مع نفسي ، وأنا أبسط ُ يدي لأطمئن على سلامة الدمعة .
..................................
يتبع ..
#عبد_العظيم_فنجان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
احبكِ عدة مرات في حب واحد .. ( 2 )
-
احبكِ عدة مرات في حب واحد ( 1 )
-
اغنية متأخرة الى سدوري ..
-
اغنية من قعر زجاجة
-
اغنية التحليق بريش النثر ..
-
اغنية أمشي ضائعا في جمالكِ ..
-
اغنية كيف يكون الجمال صاعقا
-
ملف : جان دمو الساطع كصلاة صباحية / رؤيا اخرى وقصائد ضائعة
-
صورة كمال سبتي في شبابه
-
اغنية عندما يعود السندباد الى بيته
-
اغنية البلبلُ المشرَد
-
كيف خسرتَ الوردة ، كيف ربحتِ العاشقَ ؟
-
بورتريه المخلّص
-
أغنية لتحطيم أنف العالم
-
كمشة فراشات
-
اغنية جمعية الشعراء الموتى
-
اغنية عقيل علي
-
ساحر من ألف ليلة وليلة
-
أغنية حب بغدادية ومدينة الاشارة
-
بورتريه الخطر
المزيد.....
-
نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم
...
-
هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية
...
-
بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن
...
-
العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
-
-من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
-
فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
-
باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح
...
-
مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل
...
-
لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش
...
-
مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|