أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نقولا الزهر - خيوط القمة العربية أوهى من الكلام على الإصلاح















المزيد.....

خيوط القمة العربية أوهى من الكلام على الإصلاح


نقولا الزهر

الحوار المتمدن-العدد: 838 - 2004 / 5 / 18 - 02:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حان موعد انعقاد قمة الحكام العرب في تونس، في وقت وصلت الاختناقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والوطنية والقومية داخل المجتمعات العربية إلى أوج مأسويتها، حيث لم تعد الأنظمة الحاكمة (التقدمية منها والرجعية، الملكية منها ونصف الجمهورية)، قادرة على تغطية أوضاعِها والتستير عليها إزاء الخارج. فلقد انكشف الغطاء.
-1-
وأهم ما تتسم به المرحلة الراهنة من التاريخ العربي، هو وصول المنظومات الإيديولوجية للطبقات الحاكمة إلى عجزها الكامل عن القيام بدورها؛ إذ لم يعد بمقدورها في الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة حمايةَ وتبريرَ القمع الذي تعتمده الأنظمة منذ أكثر من ثلاثة عقود كوسيلةٍ وحيدةٍ لإعادة إنتاجها. وقد استغرق هذا الإفلاس الإيديولوجي كلَّ خطابات الأنظمة العربية بمختلف أشكالها، بدءاً من الخطاب القومي الذي جرى تطعيمه بالماركسية السوفييتية و الديموقراطية الشعبية في كلٍ من سوريا والعراق وليبيا واليمن والجزائر، وانتهاءً بالخطاب الديني الأصولي في المملكة العربية السعودية، ومروراً بخطاب البين بين الذي طُعِّمَ بشيءٍ من الليبرالية، في كل من مصر والأردن وتونس والمغرب وموريتانيا وبعض دول الخليج. فكل هذه الخطابات لم يعد بمقدورها تشكيل ورقة التوت التي يمكن أن تُسَتِّرَ على قمع الأنظمة لشعوبها بهدف إعادة إنتاجها، وخاصة بعد أن سقطت مشاريعها الشعبوية منذ زمن بعيد سياسياً واقتصادياً وقومياً ووطنياً.
وهنالك عامل خارجي قد أسهم إلى حدٍ كبير في إفلاس أيديولوجيا السلطات العربية في (الدول التقدمية)، هو انهيار إيديولوجيا الأنظمة الشمولية على المستوى العالمي في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، والذي ولَّدَ بدوره العامل الخارجي الآخر الذي أوصل كامل النظام العربي الراهن إلى عنق الزجاجة، هذا العامل الآخر هو السياسة الجديدة للقطب الوحيد الذي أمسى بمفرده مسيطراً على العالم، التي اكتملت كل مظاهرها الاستعمارية والامبراطورية في عهد بوش الابن وخاصة بعد أحداث 11 أيلول في واشنطن ونيويورك.
وأهم عنصر في السياسة الاستعمارية الجديدة هو تحول العلاقة الأمريكية الإسرائيلية إلى حالةٍ من التحالف العضوي الكامل على أيدي المحافظين الجدد في واشنطن وتيار الزعيم الصهيوني الراحل(غابوتنسكي) في تل أبيب. والعنصر الآخر الذي لا يقل أهمية في سياسة هذا التحالف المقدس، هو كشف الغطاء ورفع الحماية عن الكثير من الأنظمة العربية الحليفة (اليسارية) و (اليمينية) في ظلال (الحرب المقدسة على الإرهاب)، وبالفعل فقد انطلقت مروحة التحالف الأمريكي الصهيوني إلى الهجوم بشكل متزامن وتم تقسيم العمل، فالكيان الصهيوني شن هجومه الشامل على ما تبقَّى من أرضِ فلسطين، والولايات المتحدة مع ذنبها البريطاني شرعت في شن هجومها الشامل على أي أهدافٍ أخرى يانعة للقطاف في الشرق الأوسط.
في وهج الإدانة والاستنكار العالميين لما قام به الإرهابيون في نيويورك وواشنطن، شنت الولايات المتحدة هجومها السهل على حكومة الطالبان في أفغانستان، و على ضوء النموذج الأفغاني أو ما اعتبره البعض الحرب التجريبية في أفغانستان، ضربت عرض الحائط بالإرادة الدولية، وقامت بغزوها للعراق الذي كانت تحضِّر له من قبل أحداث أيلول، وبطبيعة الحال في ظل غبار معمعان المعارك في أفغانستان والعراق كانت إسرائيل تواصل هجومَها البربري على الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبالإضافة إلى هذين الغزوين كان التحالف المقدس الاستعماري يلعب في ملاعبَ عربيةٍ أخرى مبارياتٍ هادئة نسبياً في كلٍ من السودان والسعودية واليمن وسوريا ولبنان بهدف السيطرة الكاملة على العالم العربي. وفي سطوةِ مناخ الهيمنة الأمريكية الصهيونية على المنطقة جاءت خطوة النظام الليبي بتقاليده الدراماتيكية المعروفة لتكْمِلَ حلقة يأس النظام العربي من إمكانية إعادة إنتاجه بشكله الراهن.
ثم يأتي (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، الذي أعلنه جورج بوش، ليكون بمثابة الصاعقة التي نزلت على رؤوس الحكام العرب. وهنا راحت (كرة الإصلاح الأمريكية) تتقاذفها الأيدي من المحيط إلى الخليج. وتجسد رد فعل الأنظمة العربية على المشروع الأمريكي في اتجاهين: الأول رفع شعار(الإصلاح من الداخل ورفض أي إصلاحٍ من الخارج) ويمثله بشكل رئيسي مصر وسوريا والسعودية، والتيار الآخر ضم بعض دول الخليج الصغيرة (قطر والبحرين وعمان) وبعض دول المغرب العربي(تونس وموريتانيا والمغرب) ورفع شعار (التعامل بعقلانية مع المشروع الأمريكي)، وهذا كان جلياً وصريحاً على لسان وزير الخارجية القطري الذي علق على الموضوع قائلاً : (من الخطأ رفض كل ما هو أمريكي ومن الحكمة رؤية ما عندهم ومناقشته فهذا أفضل..).
ثم جاء على غير انتظار (مؤتمر الإسكندرية) الذي رعاه الرئيس المصري ليضع مشروعا إصلاحياً قبل موعد طرح المشروع الأمريكي ولكن ما يؤخذ على مؤتمر الإسكندرية أنه لم يمثل الداخل الحقيقي لا المصري ولا العربي ؛ فلم تدع إليه القوى السياسية المعارضة في العالم العربي، بل اكتفِيَ ببعض المثقفين والتكنوقراطيين والإعلاميين؛ واختيار المدعوين لهذا المؤتمر كان من صنع جهات فوقية لا تمت بصلة للداخل التحتي، ولقد أشرف بشكل أساسي على هذا المؤتمر وزير الإعلام المصري صفوت الشريف.
في الواقع ما طرحته وتطرحه الأنظمة العربية من مشاريع للإصلاح حتى الآن لم تكن أكثر من محاولات التفاف على استحقاقات الإصلاح الموضوعية المطلوبة من القوى السياسية في الداخل منذ أكثر من عقدين من الزمن، ويشي شكلها على الأغلب بمناورات سياسية وقائية إزاء الضغط الآتي من الخارج، على أمل تغير الظروف الإقليمية والدولية وربما بشكل أدق كسباً للوقت بانتظار نتائج الانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية في الخريف المقبل.
في خِضمِّ هذه الظروف المعقدة جاء الموعد الدوري لانعقاد القمة العربية في تونس. وفي الواقع كان الشعور بالعجز الكامل تماماً عن مواجهة هذه الظروف الناشئة الشديدة التعقيد، هو الذي فرَط عقدَها. فقد آثر الكثير من الملوك والرؤساء العرب الغياب وعدم الظهور في المشهد كرافضين للمشروع الأمريكي. وما دفعهم إلى ذلك أيضاً الشعور بالضعف الشديد إزاء ما يحصل في فلسطين والعراق، بالإضافة إلى بعض الأوضاع الداخلية العربية القلقة والمحشورة أكثر من غيرها.
ما حدث في تونس لم يكن مفاجئاً، فما حدث في عشية المؤتمر كان يمكن أن يحدث في ظهيرتِه أو في عصرِه عند (صياغة القرارات). طبعاً هنالك وجهات نظر أخرى تتعلق بتأجيله، فبعض المحللين، راح يربط بين فرط عقد المؤتمر ولقاء الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بجورج بوش قبل أيامٍ قليلة من عقده، هذه الأطروحة لا تصمد كثيراً أمام واقع الأمور، فمعظم الدول العربية ليست بمنأى عن العلاقات الخلفية مع واشنطن، والفروق بسيطة بين هذه الدولة وتلك. في اعتقادنا أن القمة العربية العتيدة سوف لن تؤخر أو تقدم كثيراً بالنسبة لاستحقاقات المرحلة التاريخية الراهنة. والكرة الآن ليست في تونس أو القاهرة وإنما في كل عاصمةٍ عربية، فيما إذا كانت تريد هذه العاصمة الاستجابة لنداء الإصلاح من الداخل أم لا؟؟ هذا هو مربط الفرس ومفترق الطرق الراهن؟؟
يتكلمون على إصلاح للجامعة العربية في أجندة مؤتمر القمة القادم، وعلى برلمان عربي منتخب، ومحكمة عدل عربية، ومجلس أمن عربي؛ لكن لا نعرف إلى الآن كيف سينتخب هذا البرلمان العربي وأي سلطاتٍ ستشرف على انتخابه؟؟ أليس من الأولى أن تجرب كل سلطة عربية القيام بتقاليد انتخابات حرة ونزيهة في ساحتها، ليتيسر حينئذ الانتقال إلى انتخاب برلمان عربي يمثل الشعوب العربية؟ ويتكلمون على محكمة عدل عربية في الوقت الذي لم يقيموا إلى الآن قضاءً نزيهاً وعادلاً وسيادة للقانون في بلدانهم؟
والورقة الأخرى المطروحة للنقاش في مؤتمر القمة العربي القادم تتعلق بالإصلاح العربي العام وبناء الديموقراطية وتكريس المشاركة السياسية وتفعيل دور المرأة في المجتمعات العربية، وهنا أيضاً احتد النقاش وبرزت المواقف الانفعالية من مفهوم الإصلاح إلى العلن؛ فذهب كلام معظم الرسميين العرب يركز على نقطتين أساسيتين:الأولى تتكلم على إصلاح من الداخل وليس إصلاح من الخارج، وفي الواقع هنا يوجد التباس لابدَّ من تبيانه، إذ لا يوجد إصلاحٌ إلا من الداخل، وكل خلاف في هذا الإطار يتعلق بمفهوم وشكل هذا الداخل الذي تقع على عاتقه مهمة القيام بالإصلاح، فيما إذا كان يشمل الفوق والتحت في المجتمع أم ينحصر في الفوق فقط، وفي اعتقادي أن الخلاف حول هذه النقطة هو محور الاستعصاء و(الكربجة) في الوضع العربي الراهن.
والنقطة الثانية التي يطرحها بعض الرسميين العرب هو حل قضية الصراع العربي الإسرائيلي كشرطٍ للقيام بالإصلاح الداخلي، في الواقع في هذا الطرح يكمن تناقض كبير إن لم نقل فضيحة معرفية. ففي هذا الكلام خروج عن العلم والتجربة والمنطق وطبيعة الأمور؛ فمن يتأهب لسلوك طريق شاق ووعر وشائك لابد من أن يصلح حالَه ووسائلَه ومطاياه أولاً؛ و إلا فكيف يمكن حل قضية الشرق الوسط والمجتمعات العربية في حالةٍ مأسوية من الفساد والاهتراء؟ فالقوة ورباط الخيل قبل أن تكون معداتٍ عسكرية وأجهزةٍ أمنية ضخمة، هي بنية اجتماعية قادرة على الإنتاج والفعل.
والتناقض الآخر في كلام الرسميين العرب، يكمن في وضعهم الإصلاح كشرطٍ وثمنٍ لحل قضية الشرق الأوسط، وهذا اعتراف ضمني بأن الإصلاح في نهاية المطاف هو خارجي وليس جدلاً داخلياً. لكن متى كان إصلاح البيت يتطلب شروطاً من الآخرين ؟؟؟
-2-
ولو أن التاريخ لا يعيد ذاته تماما، لكن بعض العلاقات والمقولات المنطقية الجدلية فيه لا تستنفذ راهنيتها. فمنذ تشكل المجتمعات السياسية تاريخياً كانت السلطات تغطي دائماً قمعها العاري بسلاحها الإيديولوجي. ودائماً كان تقادم واهتراء هذا اللبوس الإيديولوجي، وانقطاعه عن القيام بوظيفته التاريخية، يعتبر مؤشراً زمنياً موضوعياً على لزومية التغيير والإصلاح، ودلالةً على عجزِ السلطة عن مواجهة هذا الاستحقاق التاريخي. وهذا ما نراه بأم أعيننا الآن في العالم العربي، فالأنظمة في حالة رهابٍ من مفهوم الإصلاح، ورهابها هذا يدفعها للالتفاف حول مضمونه ومتطلباته، لذلك نراها تلجأ إلى مفاهيم أخرى ومشاريع متنوعة سطحية وقشرية لا علاقة لها بجوانية مفهوم الإصلاح التي هي إعادة تشكيل البنية الاجتماعية سياسياً وفكرياً واقتصاديا.
واللحظة العربية التاريخية هذه، تظْهِرُ للعيان الفروق بين مفهوم الفكر و مفهوم الإيديولوجيا؛ وتمكِّننا من رؤية صيرورةَ فكرِ النخب العربية الحاكمة قبل استلامها للسلطة وخلال ممارستها الحكم، وعملية انتقاله من كونِه فكراً مستقبلياً كان يهدف إلى تغيير واقعٍ سابق مأزوم، إلى مجرد ايديولوجيا وظيفتها الوحيدة الدفاع عن راهنٍ مأزومٍ آخر ربما هو أكثر فساداً من سابقه. وهكذا فالفكر، أي فكر، لا يمكن أن يدخل إلى حيز التطبيق في الواقع إلا عبرَ السلطة؛ وبالتالي فالسلطة تلعب دوراً رئيساً في تحويل أي فكر مهما كان فذاً وعظيماً إما إلى إيديولوجيا أو إلى فكرٍ متجدد ذو علاقة مستمرة مع الواقع المتغير. وكم هنالك من فكرٍ سياسيٍ تغييريٍ معارض في التاريخ العربي المعاصر قد خرج من التاريخ وافتقد عقلانيته وواقعيته وتقدميته حينما أضحى فكراً للسلطة. وإذا كانت السلطة تلعب في كثير من الأحيان دوراً مؤدلجاً لفكِرها، في المقابل يمكن أن تلعب دوراً عقلانياً خلال الممارسة، وأن تبقيه فاعلاً وداخل التاريخ، وهذه العملية التي هي فَكْرُ الفكر وعقلنته أو بالأحرى وقعنته لا يمكن أن تتم دون أن تطرح السلطة فكرَها للنقد؛ على ذاتِها وعلى معارضيها. نقد السلطة ونقد فكرها يفسح في المجال لانتهاء شخصنتها، و جعلها مفهوماً اجتماعياً وليس تعبيراً عن سلالة أو عائلة أو مذهب أو عشيرة أو حزبٍ واحد أو أقلية أو طبقة. فتحول السلطة إلى مفهوم اجتماعي وخروجها من شخصنتها وفئويتها وتمثيلها الأقلوي هما المدخل إلى تداولها بين الأطراف الاجتماعية المختلفة.
وبالنسبة إلى أهل السلطة، أي النخب الحاكمة، فهم بشكلٍ عام لديهم الميل دائماً للبقاء على متن دفَّتِها والتمتع بمنافعها وخيراتها، وهذه سمة تاريخية لأي سلطة؛ وأي تنازل من قبلها لطرح أفكارها على مشرحَة النقد لم يجرِ تاريخياً إلا بفضل نضالات قوى المعارضة في المجتمع، وقدرتها على توصيل أفكارِها إلى المجتمع المدني وبمدى هيمنتها عليه. وفي هذا الإطار بالذات يمكن استعادة ما قاله غرامشي عن دور الفكر ودور (المثقف العضوي) في تغيير المجتمع المدني. وهذه مسألة مركزية في مجتمعاتنا العربية فالأنظمة والحكومات قامت بتاميم مؤسسات المجتمع المدني بشكل شامل. في هذا الإطار يمكن تفهم هذا الاستعصاء المعند للإصلاح في المجتمعات العربية. فهنالك حلقة مفرغة حقيقية، فموضوعياً الوضع العربي هو بأمس الحاجة إلى الإصلاح والتغيير، ولكن الأنظمة الحاكمة بسبب بنيتها وعوامل نشوئها وتكونها التاريخية لا تريد الإصلاح، حفاظاً على مصالحها الخاصة ومكتسباتها، وكذلك المعارضات العربية لم تستطع لأسباب عدة، منها (القمعيةً) ومنها (غير القمعية)، أن تفرض تنازلاتٍ على الأنظمة. وبالتالي فهذا الفراغ السياسي الهائل هو الذي دفع باستعماريين من نمط بوش ورامسفيلد وبول وولفوويتز وشارون وغيرهم لأن يتراكضوا على ظهور دباباتهم لملئه. وهذه هي طبيعة الأمور، في الفيزياء والبيولوجيا وفي السياسة، فإذا حلَّ الفراغ في داخل الشيء تغدو أغلفته قابلةً للتمزق أمام القوى المحيطية.
في الأساس لا يوجد إصلاح إلا من الداخل؛ وأي كلام على إصلاح من الخارج ليس إلا ذريعة من أجل السيطرة والهيمنة وإملاء الفراغ. وفي أواخر الخمسينات حينما رحل البريطانيون عن المنطقة العربية خرج الرئيس الأمريكي السابق ايزنهاور بمشروعه الشهير لسد الفراغ الحاصل. لذلك يمكننا الكلام هنا على تغيير من الخارج وليس على إصلاح، وفي الواقع الإصلاح يعبِّر عن تغيير ولكن ليس كل تغيير يعبر عن إصلاح. وهذا ما رأيناه بأم أعيننا في العراق في السنة الماضية؛ فالذي حدث تغيير دراماتيكي هائل للراهن الذي كان مأسوياً، ولكن إلى الآن لم يتضح اتجاه السفينة العراقية إلى الأمام أم إلى الخلف، ستغرق في البحر أم ستتمكن من أن تمخر عبابه؛ فكل الخيارات مفتوحة، وحتى في هذه الحالة العراقية التي نتجت عن التغيير من الخارج فإصلاحها لن يتم إلا بجدل الداخل العراقي. ومنذ القديم تقفز قوى الخارج إلى الداخل المهترئ الخاوي والفارغ وهذا ما حدث في عام 1516 حينما غزا السلطان العثماني سليم الأول سوريا ومصر حينما كان الوضع المملوكي الداخلي يترنح في أيام (قانصوه الغوري) وكبير البصاصين الشهير(الزيني بركات)؛ وهذا ما حدث حينما قام نابوليون بحملته في عام 1798 على مصر حينما كان الوضع الداخلي في مصر في أسوأ حالاته في ظل حكم الرجل المريض(السلطنة العثمانية) الذي لم يبقى منه إلا اسمه، وتحت سيطرة بقايا المماليك الذين ما كان لديهم من هم في أواخر أيامهم إلا أن يعيثوا فساداً في الأرض.
وشعار الإصلاح في العالم العربي مرفوع في المجتمعات العربية منذ فترة طويلة؛ ولكنه بقي مكبوحاً طوال هذه الفترة بفضل دعم الخارجَيْن السوفييتي والأمريكي للأنظمة العربية في وأد أية معارضة لها. ولكن حينما انتهت الحرب الباردة وسقطت التوازنات الدولية، انتهت وظيفة الأنظمة العربية المدعومة من الشرق ومن الغرب، وهذا أدى بدوره إلى شروع ظهيرِها الخارجي في الاستغناء عنها وهي الفاقدة لظهيرها الداخلي منذ زمن طويل. ولذلك فهي محشورة الآن و تبحث عن نجاتها بأي ثمن.
وفي الواقع خيارات الأنظمة مرتبطة بمصالحها كطبقاتٍ حاكمة سلطانية بعيدة كل البعد عن الحكم الجمهوري الديموقراطي الوطني، لذلك فهي إلى الآن لا تزال تبحث عن الخيار الأقل خسارة فيما يتعلق بمصالحها ومكتسباتها ومصائرها الشخصية. وهي تعاني لأول مرة من مثل هذا القلق والخوف على مصيرها، ولم يكن ما حدث في تونس إلا تعبيراً حقيقياً عن الحال التي هي فيه. في رأينا، لا يمكن الخروج من هذا الاستعصاء العربي إلا بالخيار الأسلم وطنياً وقومياً والذي يخدم مصالح الشعوب العربية وحتى مصالح الأنظمة ذاتها، فهذا الخيار هو التصالح الداخلي مع الشعوب، وأي خروج أخر من الأزمة المستعصية سيفتح المجتمعات العربية على الفوضى والمجهول.
طبعاً في الأفق هنالك التفافات حول الإصلاح المطلوب من الداخل عبر مساوماتٍ مع الخارج للحفاظ على المصالح والبقاء في الحكم. على أية حال، لا تبدو لوحة التغيير من الخارج براقةً على الإطلاق، فالسيناريو العراقي كان مدمراً وكارثياً، ولا نعتقد أن السيناريو الليبي مضموناً لصاحبه، فهو سيبقى مؤقتاً ومحفوفاً بالمخاطر، ولا نعرف إذا كنا بانتظار سيناريوهات أخرى تتراوح بين الحالة العراقية والحالة الليبية.
ولكن يبقى يحدونا الأمل، بأن تتمكن الشعوب العربية من منع النخب العربية الحاكمة أن تذهب مذهب الرئيس العراقي الأسبق، الذي عبر عنه تمام التعبير وبكل صراحة وزير خارجيته (طارق عزيز) حين طالبه بعض المثقفين السوريين، في اجتماعٍ عقد في دمشق عشية الغزو الأمريكي على العراق، بالتصالح مع القوى الديموقراطية الوطنية المعارضة، هذا التصالح الذي كان يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في سحب البساط من تحت أقدام الأمريكيين والصهاينة؛ فكان جوابه: "نحن في العراق لا يوجد لدينا معارضة بل خونة!!!!! فهذا الدبلوماسي (البارع) لم يفهم من مفهوم النفي الخلاق إلا نفي الآخرين، لذلك فهو نفى بكل بساطة نفياً قاطعاً وجود أي معارضةٍ للحكم، ولم يستطع الخروج للحظة ورغم كل الظروف الدقيقة والصعبة التي تمر بها بلاده من برزخ الهلوسة الإيديولوجية السلطوية القمعية البعيدة كل البعد عن العقلانية.
دمشق في/25/4/2004



#نقولا_الزهر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة :دموع ليست من ماء
- مقاربة حول الديموقراطية في العالم العربي
- الأعمدة الزانية
- قصائد صغيرة
- رسالة إلى المهندس المعماري الفنان رفعت الجادرجي
- همسة في واد
- دوافع أوربا والولايات المتحدة من الإصلاح في العالم العربي
- عرس المطر
- الطوفان الرمادي
- طبق القش
- شجرةٌ من جبالِ قَلْمونْ
- حارس الطريق الجنوبي - قصة قصيرة جداً
- مصباح جديد
- سرابٌ في حلمٍ نيساني - قصة قصيرة جداَ
- حكاية كلمة صغيرة
- مداخلة في موضوعات المؤتمر السادس - الحزب الشيوعي السوري /الم ...
- دستور العراق المؤقت.... يقسِّم أكثر مما يجْمع
- مداخلة حول الإصلاح والتصليح
- صور متقاطعة من شرقِ المتوسط
- ليلة أحلام وثلوج وشموع في البرج السادس


المزيد.....




- بوركينا فاسو: تعليق البث الإذاعي لبي.بي.سي بعد تناولها تقرير ...
- الجيش الأمريكي يعلن تدمير سفينة مسيرة وطائرة دون طيار للحوثي ...
- السعودية.. فتاة تدعي تعرضها للتهديد والضرب من شقيقها والأمن ...
- التضخم في تركيا: -نحن عالقون بين سداد بطاقة الائتمان والاستد ...
- -السلام بين غزة وإسرائيل لن يتحقق إلا بتقديم مصلحة الشعوب عل ...
- البرتغاليون يحتفلون بالذكرى الـ50 لثورة القرنفل
- بالفيديو.. مروحية إسرائيلية تزيل حطام صاروخ إيراني في النقب ...
- هل توجه رئيس المخابرات المصرية إلى إسرائيل؟
- تقرير يكشف عن إجراء أنقذ مصر من أزمة كبرى
- إسبانيا.. ضبط أكبر شحنة مخدرات منذ 2015 قادمة من المغرب (فيد ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نقولا الزهر - خيوط القمة العربية أوهى من الكلام على الإصلاح