أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد شرينة - اللغة والفقه مع قليل من الويسكي















المزيد.....


اللغة والفقه مع قليل من الويسكي


محمد شرينة

الحوار المتمدن-العدد: 2488 - 2008 / 12 / 7 - 09:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


فاجئني قول مدرس اللغة العربية في الصف الثاني الإعدادي واصفا المادة التي يدرسها ب: علم لا ينفع وجهل لا يضر، ومنذ أيام وعلى أحد المواقع التي تهتم بنشر المواد الأدبية وجدت تعليمات موسعة حول الأخطاء الإملائية الشائعة و كيفية كتابة الهمزة وإلى ما هنالك.
بين هاتين الحادثتين مررت بفترة أصبت فيها بما يشبه الوسواس النحوي بما يخص ما هو صحيح وما هو خاطئ لغويا، ولطالما لاحظت أثناء قراءتي لكتب الفقه التي غالبا ما تتكون من متن( النص الأساسي وعادة يكون مختصر) وشرح( شرح مفصل على المتن)، يقوم الشارح في مثل هذه الحالة بشرح نصا كُتب من قبل فقيه معروف في زمن سابق، ومن الطبيعي وفق نسق علاقات الخلف بالسلف المعروف لدى فقهائنا أن يكون الشارح شديد التبجيل لكاتب المتن، ولما كانت هذه المتون تحوي كماً لا ينتهي مما لا يتوافق مع قواعد اللغة، فان أحد أهم مهام الشارح عادة، تبرير هذه الأخطاء، فالمبتدأ المنصوب يبرر على أنه مصدر لفعل محذوف وهكذا، وهذه سبيل واسعة قلما يحتار فيها شارح بتبرير خطأ في نص معلمه.
بالطبع كنت أتعجب من ذلك، إلى أن بدأت يوما في قراءة كتاب(إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن) لمؤلفه العكبري، وفي الصفحة الأولى وعند حديث المؤلف عن أول آية في الفاتحة(الحمدُ لِله ربِ العالمين) قال العكبري: أن كلمة (الحمدُ ) تقرأ بالنصب على تقدير أنه مصدر فعل محذوف(أحمدُ الحمدَ) و بالكسر إتباعا لكسرة اللام من كلمة(لله) ، كما أن كلمة ( ربِ) تقرأ بالنصب على إضمار أعني(أعني ربَ) وقيل على النداء(سبب النصب) وبالرفع على إضمار هو(أي أنها خبر) كما أن اللام من (لِله) تقرأ بالرفع إتباعا للدال من (الحمدُ)[المصدر المذكور الجزء الأول - ص 5 ، الطبعة الأولى – إصدار دار الكتب العلمية – بيروت].
عندها خطر في ذهني الآيتان (ليس البرَ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق أو المغرب..) البقرة 177 ،, (.... وليس البرُ بأن تأتوا البيوت من ظهورها..) البقرة 189. ورغم أن كلمة البر في نفس الموقع من الجملة فهي منصوبة في الأولى مرفوعة في الثانية. وكل التفسيرات التي تتحدث عن الخبر المقدم وغيره لا تستقيم، ذلك أن كلمة البر في نفس الآية(البقرة 177) قُرأت بالفتح(قراءة حفص) وبالضم(قراءة ورش).
طبعا لولا طريقة التفكير التي احتلت أذهان فقهاء اللغة والدين عندنا، لكان الأسهل هو أن يُقال أن الحالتين جائزتين وهذا هو الحل الوحيد الممكن، بالطبع نحن ندري أنهم يخافون مما يجر إليه هذا التساهل، فكيف يمكن التحكم برقاب عباد الله عندها. وإلا لكان منطلقهم كما يجب أن يكون: ما جعلنا عليكم في الدين من حرج، كما فعل النبي عندما وقف للناس يوم الأضحى( في حجة الوداع) فما سئل عن شيء من أمور الحج إلا قال: لا بأس.
من الواضح أن أكثر من 90% من قواعد اللغة لا حاجة لها البتة،ولطالما استمعنا إلى الخطباء يكسرونها جميعا ولم يؤثر تكسيرهم ذلك على فهمنا لما يقولون، ولن تجد المعنى يتأثر بحركة آخر الكلمة إلا في حالتين:
الأولى تاء الفاعل: فأكلتُ تعني أنني أنا الآكل بينما أكلتَ تعني أنك أنت الآكل.
الثانية الفاعل والمفعول ورغم أن لغويينا يحبون صيغة ضرب زيدٌ عمراً، فلنستعمل بدلا عنها صيغة: نصح زيدٌ عمراً، فالاسم المرفوع هنا هو الناصح بينما الاسم المنصوب هو المنصوح بحيث لو أصبحت الجملة: نصح زيداً عمرٌ، لأصبح زيد هو المنصوح. في غير هاتين الحالتين فان القول ركب الرجل على الحمار، وبغض النظر عن حركة الرجل والحمار، فالمعنى لا يتغير إذ الراكب هو الرجل والمركوب هو الحمار.
فلم كل هذا العناء إذاً؟ في المرحلة الإعدادية كان عندنا 6 حصص لغة عربية من أصل 30 حصة أسبوعيا، أي ما يعادل 20% من جميع الوقت المخصص للدراسة، ألم يكن من الممكن الاستفادة من هذا الوقت لتعلم العلوم التي يضيق الوقت بتعلمها؟ وحتى لو بقيت هذه الحصص للغة ، أفلم يكن من الممكن أن ينفق جزء أكبر منها في تدريس الأدب بدلا من القواعد؟ هذا الأدب الذي بالكاد يتعلم الطالب في مدارسنا النزر اليسير منه، وهذا النزر في جله من الأدب الرديء، والغريب أن الأدب العالمي كامل الغياب، مع ما لهذا الأدب من أهمية لا تخفى على عالم ولا على جاهل.
وبمناسبة الحديث عن الأدب العالمي فمن المهم الإشارة إلى أن الأدب العالمي المترجم بطريقة جيدة يجب أن يعتبر في مقام رفيع للغاية من أدبنا، ويحضرني هنا مثالين الأول إحدى الترجمات المشهورة لشكسبير، فلدى قراءتي لهذا العمل؛ لكنت اعتقدت أن كل ما يقال عن روعة مسرحيات شكسبير كلام فارغ، لولا أنني كنت قد قرأت هاملت لشكسبير بأحد نصوصها الانكليزية، وأطربتني لحد السُكر، هذه الترجمة أقل ما يقال عنها أنها غير جيدة، و تترجم المسرحيات كأنها تترجم إعلان تجاري بدون أي شروح للأساطير والحوادث والشخصيات التي تذكر في المسرحية. المثال الثاني هو ترجمة السيد حسن عثمان لكوميديا دانتي، عندما تقرأ هذا العمل تحس أنك تعيش في فلورتنزا (فلورنسا) فبالإضافة إلى الترجمة المبدعة بكل ما في الكلمة من معنى، لا يدع السيد حسن شاردة ولا واردة إلا توقف عندها وأضاءها، من الأمكنة إلى الشخصيات إلى الأساطير والحوادث التاريخية وحتى المواقع الجغرافية وصعوبات الترجمة(عندما لا يكون هناك مكافئ عربي للتعبير الايطالي)، بالطبع يشرح السيد حسن في مقدمته لتلك الترجمة أنه أنفق عمره في دراسة دانتي والكوميديا، وزار معظم الأماكن التي تدور فيها الأحداث.
إن قدرا واسعا من الإضاءة على الشخصيات والأحداث التاريخية والمواقع والأساطير في عمل أدبي رفيع هو ضرورة لابد منها لتذوق هذا العمل. مثال آخر: كانت منشورات وزارة الثقافة السورية المترجمة تعد غاية في الروعة مثل ترجمات د. أدهم السمان و د. فايز فوق العادة، للكتب التي تتناول الرياضيات والفيزياء الحديثة للعموم(لغير المختصين) بينما نلاحظ أن كثير من الترجمات الحالية ليست في نفس المستوى. وهل كان لرباعيات الخيام أن تصل لكل قارئ بل وسامع للعربية دون الترجمة المبدعة للشاعر أحمد رامي، دور المترجم لا يقل أبدا عن دور المؤلف إذا أردنا أن نقدم الثقافة العالمية للقارئ العربي بزهوها وجمالها. عندما يُراد ترجمة نص رفيع فلا بد من مترجم على درجة عالية من الكفاءة في كلا اللغتين المترجم منها والمترجم إليها إضافة إلى موضوع الترجمة. لا بد من التأكيد أننا إذا افترضنا أننا مصابون بنوع من الجدب الإبداعي، فلا أقل من أن نهتم بترجمة عيون الأدب والفلسفة والعلوم العالمية، بشكل جيد، وهذا أمر في غاية الأهمية بشقيه: أن نقوم بالترجمة وأن تكون هذه الترجمة جيدة.

بالطبع يمكننا التخلي عن أكثر من 90% من قواعد اللغة دون أي خسارة وتوفير الوقت والجهد والمال لما هو أهم، وبالعودة إلى الموقع الأدبي المذكور فان مما ينبه إليه هو عدم استخدام كلمات أجنبية، مع أن التطور السريع والواسع للمعارف البشرية والذي يجري كله بعيدا عن لغتنا العربية، يجعل المفردات العربية المتوفرة لا تفي بأي غرض أدبي حقيقي، ناهيك عن كون الفصحى ظلت للقرون العشرة المنصرمة لغة للفقه والأدب النخبوي مما أضاع الكثير من قوتها. في إحدى المرات سُالت عن كلمة تعبر عن الجزء من الشجرة الذي يعلو الساق، في علم النبات نسميه تاج الشجرة وهي ترجمة عن الانكليزية، إلا أن هذه الكلمة غير معبرة كونها لا تستعمل في هذا المعنى بالعربية العادية، ولم أجد، من الممكن أن هذا عائد لقلة معرفتي ولكنني ككل من يكتب بالعربية لا تتوفر لدينا معاجم للمرادفات، وفي الوقت الذي يجلدنا فقهاء اللغة فهم لا يفعلون شيئا ليوفروا قوة للغة التي يدعون الدفاع عنها. فأين هي المعاجم الجامعية التي تواكب التطور مثل معاجم أكسفورد و ويبستر الانكليزية، إذا احتجت لمرادف لكلمة انكليزية فالكثير من المعاجم متوفرة لتسد حاجتك هذه. ومع أننا لا نكاد نجد مفردات مناسبة للتعبير عن أشياء قديمة ومألوفة لدينا، ورغم أن كل يوم يمر تزداد فيه مفردات اللغات الحية، فهم لا يريدوننا أن نستعمل كلمات أجنبية!
دعوني أنقل هذه الفقرة من مقدمة معجم المصطلحات العلمية والفنية والهندسية، تأليف السيد أحمد شفيق الخطيب، الطبعة السادسة، إصدار مكتبة لبنان( صفحة ه)، يقول السيد الخطيب (إن اللغات التركية والفارسية والعبرية قطعت في ميدان العلوم العصرية أشواطا بعيدة ..... وقد تسنى لها ذلك بإدخال آلاف الكلمات العلمية والتقنية ذات الطبع العالمي ضمن مفرداتها، وهو أمر سبقتها إليه العربية في عصر النهضة والانفتاح أيام كان مترجمو دار الحكمة يعربون من ألفاظ اليونانية والسريانية والهندية والفارسية الشيء الكثير... ونحن اليوم لا نعتبر ألفاظا مثل أسطورة وأسطول وأوقيانوس ونافورة وبند وهندسة وقلنسوة وسواها(وكلها معربة) ألفاظا خارجة على الذوق العربي أو محطة بقدر اللغة - بينما تقيدنا في بداية عصر النهضة الحديثة بمحاولة ترجمة الألفاظ والأسماء والمصطلحات العلمية والحضارية بألفاظ عربية وذلك تحت تأثير القائلين بأن في لغتنا لكل شيء مقابل، فهي المحيط الشامل كل منتجات الحضارة ما ظهر منها وما سيظهر، فما على الباحثين إلا الغوص في هذا المحيط لاستخراج درره ). أليس هذا ما يقال عن نصوصنا الدينية في الوقت الحاضر؟ عندما قرأت هذا الكلام للمرة الأولى وجدته ينطبق تماما على فقهاؤنا الدينيين وأن ما كان سببا في تخلف لغتنا أضحى هو السبب في تخلفنا الكامل، و تساءلت متى سيتحرر هؤلاء من هذا الهذر كما فعل فقهاء اللغة؟ وإذا بالأخيرين لما يفعلوها بعد.
أما لو تساءلنا لماذا يحق لهم أن يخطئوا، بل أخطاؤهم لا تعتبر أخطاء، ذلك أن هناك من هو جاهز دائما لتبريرها، بينما يعد كل ما نقول خطأ، لمجرد أنه ليس من قول السادة؟ و لماذا لا يتقبل هؤلاء اللغويون الحقيقة الواضحة، ويصرون على تعقيد ما هو بسيط أصلا؟ لعل الجواب الوحيد هو: ماذا سيفعلون هم وفقهاؤنا الدينيين إذا انحلت هذه العقد؟ وهنا يخطر ببالي سيدين محترمين، الأول سيد من بلد عربي صادف أن جلسنا في مقعدين متجاورين في الرحلة من تورنتو إلى أبو ظبي الصيف الفائت، وقد أطال الرجل مدح طريقة التعليم القديمة التي تعتمد على حفظ المتون، ولم يكف عن ذم طرق التعليم الحديثة، معظم حديثه كان منصبا على قواعد اللغة والجهل المتفشي بها، قبل ذلك كنت قد تعرفت على سيد آخر هنا، حائز على شهادة الأدب العربي منذ زمن طويل(كلا الرجلين في الستينيات من العمر)، والآخر حدثني وأطال حول الأخطاء اللغوية، والمفارقة أنني وبقصد المعرفة لا الاختبار وبكل صدق، كنت أحفظ بيت شعر رائع للغاية ولا أدري تتمة القصيدة وهو بيت شعر مشهور:( تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار)
فبحثت عن تتمة القصيدة ولما لم يفدني من أعرف، لجأت إلى النت فوجدتها ولكن في تتمة القصيدة هذه، كلمات لم أعرف لها معنى، و قد سالت كلا السيدين عن معاني هذه الكلمات، فما أفادني أي منهما شيء وأحالني الأول على معاجم اللغة، ولكنني لجأت إلى النت ثانية. والمهم في كل المسألة هو أن ما يهم هؤلاء القوم هو قواعد اللغة وذلك ليُقرعوا الناس ويُخطئوهم، أما الأدب الذي هو روح وجوهر أي لغة بما فيها العربية فثانوي.

وبمقارنة بسيطة تجد الحال ذاته لدى فقهاء الدين عندنا، فمن حق الأكابر أن يختلفوا حول كون المُسكر الذي لم يصنع من العنب(البيرة أو الويسكي مثلا) غير محرم شرب المقدار الذي لا يُسكر منه( يقول ابن رشد في كتابه– بداية المجتهد ونهاية المقتصد –) : أما الخمر فاتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها أعني التي هي من عصير العنب. وأما الأنبذة(المقصود المشروبات المُسكرة التي لا تصنع من العنب) فإنهم اختلفوا في القليل منه الذي لا يُسكر واجمعوا على أن المسكر منها حرام، فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام. وقال العراقيون، إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصريين: أن المحرم من سائر الأنبذة المُسكرة هو السُكر نفسه لا العين) ثم يسوق ابن رشد أدلة الطرفين باستفاضة[بداية المجتهد ونهاية المقتصد – ابن رشد – المجلد الأول ص 471،الطبعة الرابعة، إصدار دار المعرفة – بيروت] ويقول عبد الرحمن الجزيري في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة[ الجزء الثاني – ص 7 - الطبعة السابعة – دار إحياء التراث العربي] (ثالثا: ما يُؤخذ من الشعير والحنطة ونحوهما مما ذكر إذا أسكر كثيره لا قليله فأبو حنيفة وأبو يوسف يقولان أن الذي يحرم هو كثير هذا لا قليله) .
وماذا عن نكاح المتعة الذي تقوم الدنيا حوله ولا تقعد؟ ويستعمله فريق ليغمز من قناة فريق آخر، مع أن الرواية باستمرار إباحته موجودة عند الجميع، حيث يروي ابن كثير في تفسيره للقرآن إباحة نكاح المتعة للضرورة عن ابن عباس وطائفة من الصحابة و يقول: وهو رواية عن الإمام أحمد ثم يضيف : وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي يقرؤون(فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة) [ تفسير القرآن العظيم – ابن كثير، طبعة دار المعرفة ،بيروت – الجزء الأول ص 485-486]. وفي بداية المجتهد لابن رشد:( وأما نكاح المتعة ....وأكثر الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها واشتهر عن ابن عباس تحليلها وتبع ابن عباس على القول بها أصحابه من أهل مكة وأهل اليمن) [بداية المجتهد ونهاية المقتصد – ابن رشد – المجلد الثاني ص 58،الطبعة الرابعة، إصدار دار المعرفة – بيروت] .
ومن الملفت ما يرويه ابن كثير في تفسيره المذكور، عند حديثه عن تفسير الآية( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم..) حيث يقول(ابن كثير) قال ابن عمر: في الدبر، ثم يتابع الرواية التي في صحيح البخاري: وعن عبد الصمد قال: حدثني أبي حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر(فأتوا حرثكم أنى شئتم) قال أن يأتيها في ؟ ثم يضيف(ابن كثير) هكذا رواه البخاري. ثم يروي ابن كثير الحديث كاملا كما هو عند ابن جرير و بدون إشارة الاستفهام بل تذكر كلمة(الدبر) [ تفسير القرآن العظيم – ابن كثير، طبعة دار المعرفة ،بيروت – الجزء الأول ص 269] . أنا هنا ولا بأي حال من الأحوال لا أقول بصواب ولا بخطأ أي من الأقوال السابقة، وما يهمني فقط هو تبيان أن الأمر كان أهين بكثير مما هو عليه الآن، مع أن أحد الفريقين لا محالة مخطئ و بشكل فادح في كل المسائل السابقة فلم يكفر أحد حدا و لم يفسق أحد أحدا.
ومثال آخر: تحريم النكاح بسبب الرضاعة ولما كان مالك وأبو حنيفة يعتبران التحريم واقع بمجرد الرضاعة مهما قلت أو كثرت بينما يقول الشافعي إن التحريم إنما يقع نتيجة خمس رضعات مشبعات، مما يعني أن الطفلة سعيدة التي رضعت رضعتين من حميدة زوجة حميد، ثم كبرت وتزوجها لاحقا حميد إضافة إلى زوجته( وهذا يحدث فالرجال يتزوجون بأكثر من واحدة وفارق السن لا قيمة له) فيكون حميد إذا كان مالكيا أو حنفيا ناكحا لابنته وجامعا بين الأم وابنتها في ذات الحين، فاللبن للفحل عند جميع أولئك الفقهاء(أي إذا أرضعت حمده زوجة سعيد الطفل فؤاد كان هذا الطفل ابنا لسعيد تماما كما هو ابن لحمده وبالتالي يحرم على فؤاد الزواج من ابنة سعيد التي من زوجته الثانية هدية مع أن هدية لم ترضع فؤاد)، أما إذا كان شافعيا فلا الابن ابنه ولا هو ابن زوجته، حيث لم يتحقق شرط عدد الرضعات.
وهنا أنا أيضا لا أنوي مطلقا تصويب أحد أو تخطئة أحد، ولكن مكمن دهشتي هو: هل يحق لهؤلاء القوم أن يختلفوا في هذه المسائل الخطيرة(وأنا أعتقد أنه يحق لهم ذلك بل هو دليل صحة عندهم) ولا يحق لنا أن نختلف في قطعة قماش على رأس امرأة تسمى الحجاب وهي كما سبق أن قلت في مقال آخر شيء تقليدي يقصد منه اتقاء البرد والحر، كان يضعه الرجال والنساء في معظم الأماكن والأزمان ولم يختلف الذي سبقونا حوله لأنه كان كذلك، مسألة زي يستعمله كل الناس لا علاقة له بالدين، والأمر شبيه بالعمامة فكل الرجال كانوا يتعممون بشكل أو آخر، ثم تبدل الحال.

من المهم ملاحظة أن خلع العمامة وحلق اللحى هما أمران يرفضهما كثير من الفقهاء ولكن كون المسألة هذه المرة تخص الرجل القوي لا المرأة الضعيفة، فصوت فقهاؤنا هنا خفيض.
ما سبق يمكن تفسيره بإحدى تفسيرين: فإما أن من سبقونا كانوا أكثر عقلانية منا على تقدم زمانهم، مما يدل أن تقدم الزمان وتطور المعارف لم يزدنا إلا جهلا و هذا التفسير صحيح. أو أن ما يجوز للأكابر يحرم على الناس العاديين وهذا السبب الآخر صحيح، ويدل عليه ما سبقت الإشارة إليه من التساهل في حلق اللحى لكون الأمر يتعلق بمن هو أقوى في المجتمع، كما يدل عليه بشكل أكبر التساهل بكل ما يخص السلطة، فمع كون الربا من الكبائر بعكس كشف رأس المرأة إلا أنه يمرر بيسر ولا يتم الحديث عنه بكل هذه القوة، فهذا شأن يفعله علية القوم. فهل نحن نتبع أمر الله و رسوله أو ما يأمرنا به فقهاؤنا.
ما من شك أن المعركة الدائرة حول الحجاب ليست مسالة حلال أو حرام فما هو أشد حرمة كالقتل، مثل قتل البكر الزانية، والذي هو بنظر الشرع الإسلامي قتل لنفس حرم الله قتلها، يتركه الفقهاء يمر دون ضجة، إذا لم يحثوا الناس على ارتكابه بشكل مباشر أو غير مباشر.
إثبات الزنا يتطلب شهادة أربع رجال يرون العملية رأي العين وبشكل لا لبس فيه بحيث لا يكون لدى ولا واحد منهم أدنى شك في دخول الأعضاء التناسلية ببعضها كما يدخل المرود في المكحلة – وهذا مستحيل وقوعه – بغير هذه الحالة تكون تهمة الزنا ساقطة من أصلها، كما أسقط الخليفة عمر الحد عن المغيرة بن شعبة، لأن ثلاثة شهدوا على العملية بالوصف السابق والرابع شهد ولكنه لم يكن متأكدا من دخول المرود في المكحلة. ولكن حتى لو ثبت ما يستحيل ثبوته فالعقوبة المجمع عليها والمنصوص عليها صراحة في كتاب الله هي مائة جلدة لا غير، وبحيث يكون الجلد بطريقة معينة تمنع إحداث ضرر جسدي كبير. ولكنهن يُقتلن ومع أن القتل هو الجريمة الأعظم في الإسلام دون نقاش ففي الحديث(لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يُصب دما حراما – أخرجه البخاري) بمعنى أنه مهما ارتكب المرء من ذنوب فهو يرجو المغفرة ما لم يسفك دما حراما، كما هي حال قتل البكر حتى لو ثبت عليها الزنا بالطريقة الموصوفة آنفا. وهو شيء يستحيل إثباته إلا على رجل وامرأة يمارسان الجنس في ملأ من الناس وبوضع يقصدان فيه إظهار ما لا يظهر في عملية الجماع العادية( في الحالة العادية حتى لو توفر مائة شخص يشاهدانهما فإن كل ما يمكن مشاهدته هو رجل فوق امرأة ومن المستحيل مشاهدة مرود يدخل في مكحلة) ولعل هذا ما أراد منعه الإسلام لا شيئا آخر.

لكن الأصوات في ارتداء الحجاب أعلى منها في منع قتل الأنفس التي حرم الله. والسبب واضح فالحجاب كان في الزمان الأول مجرد غطاء للرأس يرتديه الرجال والنساء بطرق مختلفة، ولكنه اليوم علامة لخضوع المرأة. وخلعه هو أول الطريق إلى خلع فكرة كونها إنسان من الدرجة الثانية، وما أن تُخطى الخطوة الأولى في طريق التحرر النفسي حتى تستمر المسيرة إلى نهايتها وبشكل آلي، وهذا هو بالضبط مصدر القلق والضجة التي يثيرونها. المسألة كالزي العسكري فهو لا يُفرض على العسكريين من أجل ذاته، بل من أجل تذكير العسكري بكونه عسكري، وبالتالي المحافظة عليه في وضع نفسي وفكري متقبل لتلقي الأوامر وتنفيذها، وهذا شيء صحيح ولابد منه في حالة العسكري، والأصوليين يفهمون هذه النقطة ولا ينفونها، فصراحة لديهم المرأة أقل من الرجل، ولكن من يسمون بالمسلمين الأكثر حداثة، يتهربون كعادتهم من الحقائق ويواربون، تماما مثل ما يتحدثون عن كون المواطنين غير المسلمين يتمتعون بنفس حقوق المسلمين في دولة الإسلام.

كل ما تقدم يقودني إلى نتيجة واحدة شديدة الوضوح: وهو أن المسألة برمتها في اللغة والدين لا يُقصد بها وجه الله وإنما الخوف من فقدان السيطرة على الأمة التي ما يزال هؤلاء القوم من فقهاء اللغة والدين يمسكون بها منذ أكثر من عشرة قرون. ما هو الضرر الذي سيلحق بالإسلام لو إن المسلمات الفرنسيات لم يغطين رؤوسهن؟ الواقع انه ضرر سالب بمعنى أن نفعا عظيما كان سيحققه الإسلام. و لكن هذا لا يهم ، فلو خلعت مسلمات فرنسا الحجاب اليوم، من يدري لعل مسلمات الهند يفعلن ذلك غدا، أما بعد غد من يدري إلى أي حد يمكن للمسلمين في أنحاء الأرض التحرر من سلطة هذا الكهنوت المزمنة، لقد جاء الإسلام لمحاربة الكهنوت وإذا بإسلامنا المعاصر اشد نظم الدنيا كهنوتا.
الأمر في غاية الوضوح، كيف يمكن أن يكون مبررا الاختلاف حول ما هو محرم من أنواع ما نسميه اليوم بالمشروبات الروحية أو الكحولية، وما هو ليس كذلك. حول نكاح المتعة، حول مسالة الدبر تلك، حول أن تكون المرأة ابنتك أو أمك أو أختك وبنفس الوقت زوجتك. ولكن أبدا لا يجب أن نختلف حول قطعة قماش تضعها المرأة على رأسها(وأذكر أنني لست أبدا ضد ذلك الخلاف بل هو دليل صحة)، انه ليس الدين، انه ليس الإسلام، إنها سلطة الكهنوت التي كلما تقدمت الأمة خطوة إلى الأمام، ازداد ذعرها من أن تفقد سلطتها، فصبت على الأمة سيلا من الفتاوى الميتة المميتة. وما سبب ذلك إلا طأطأت رؤوسنا لهم، فإنما هم بضعفنا وعجزنا وجهلنا يقتاتون ويسمنون، ولولا ذلك لاضمحلوا و تلاشوا من تلقاء أنفسهم.



#محمد_شرينة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد الحكمة
- الله والبشر والفيزياء
- علاقة الخوف الديني و الجنسي بالعنف
- النار التي تنضج الطعام ولا تحرق، الثقافة غير قابلة للتجزيء
- هل المواطن العربي العادي غائب فعلا؟
- الحرية والعمل
- زيارة شيطان
- تأملات في الماركسية
- الحجاب الخارق
- ها قد ظلل العالم الحائر المساء
- النوم ليلة العطلة
- لماذا يتشبث الناس بالأيديولوجية؟
- مدينتي الغافية
- الحرية و المطر
- لماذا لم تحقق العلمانية العربية الحديثة أهدافها حتى الآن
- الأديان الشمولية و تأليه الإنسان – النبي
- أيديولوجيا و حتمية


المزيد.....




- بالخيام والأعلام الفلسطينية.. مظاهرة مؤيدة لغزة في حرم جامعة ...
- أوكرانيا تحوّل طائراتها المدنية إلى مسيرات انتحارية إرهابية ...
- الأمن الروسي يعتقل متهما جديدا في هجوم -كروكوس- الإرهابي
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 1005 عسكريين أوكرانيين خلال 2 ...
- صحيفة إسرائيلية تكشف سبب قرار -عملية رفح- واحتمال حصول تغيير ...
- الشرطة الفلبينية تقضي على أحد مقاتلي جماعة أبو سياف المتورط ...
- تركيا.. الحكم بالمؤبد سبع مرات على منفذة تفجير إسطنبول عام 2 ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لقتلى وجرحى القصف الإسرائيلي
- -بلومبيرغ-: إسرائيل تجهز قواتها لحرب شاملة مع -حزب الله-
- بلينكن يهدد الصين: مستعدون لفرض عقوبات جديدة بسبب أوكرانيا


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد شرينة - اللغة والفقه مع قليل من الويسكي