عبد الرزاق السويراوي
الحوار المتمدن-العدد: 2327 - 2008 / 6 / 29 - 07:03
المحور:
الادب والفن
يُفترض برواية علي بدر الأخيرة ( الركض وراء الذئاب )أنْ تكون قد أجابتْ عن التساؤل الذي حمل عنوان المقال , وفي حال تمّ ذلك , فأنّ هذه الإجابة ستحيل بدورها الى تساؤل آخر : مَنْ هي هذه الذئاب المركوض وراءها ؟؟ .
في الحقيقة , ليس عسيراً إكتشاف المشتركات بين أولى روايات علي بدر ( بابا سارتر ) والرواية التي بين أيدينا ( الركض وراء الذئاب ) , لعلّ أوضحها , روح التهكم وإسلوب السخرية اللاذع الذي كُتِبتْ به الروايتان , وهو إسلوب يكاد يميّز أعمال علي بدر . ( جورج باركر ) هو الإسم المستعار الذي أختاره البطل لنفسه وهو في اميركا والذي لم يردْ ذكره إلاّ مرة واحدة , بينما ظلّ إسمه الحقيقي مجهولاً تماما . وأحسب أن الكاتب تعمّد ترك الاسم الحقيقي مجهولاً للإيحاء بوجود فجوة زمنية أو نفسية , أو كلاهما معا , تفصل هذه الشخصية عن بلدها الأم الذي غادره قبل خمسة وعشرين عاما هربا من السلطة . وأصبح يحمل الجنسية الأمريكية ويعيش في نيويورك , وقد تزوج من أميركية وله منها ولد وبنت ليس لهما " علاقة بالشرق الأوسط أبداً " ,ولكي يغلق سبل الوصال بين بلده الأم وولديه فقد جعلهم " يرتعبون من كل شيء قادم منها " . كان في العراق يساريا, لكنه تحوّل في أميركا , الى متحمس لأفكار ليو شتراوس الذي يؤمن بتعميم الديموقراطية بالقوة . وعقب سقوط صدام حسين , تكلّفه الوكالة الصحفية التي يعمل فيها , بالذهاب الى أديس أبابا , للكتابة عن الشيوعيين العراقيين , الذين إنخرطوا في صفوف الجيش الاممي الذي شكله الضابط الشيوعي منغستو , , وقبل ذلك , كانوا قد خاضوا معارك الكفاح المسلح في أهوار جنوب العراق في الستينيات . من هنا تبدأ رحلة البحث عن هؤلاء في أديس أبابا . حيث يتركز بحثه بشكل خاص , عن ثلاثة من هؤلاء العراقيين .
الأول هو " الصحفي جبر سالم ... ثوري معروف جاء من الناصرية الى بغداد في الستينيات ". والثاني , أحمد سعيد , شاعر ثوري , عاش طفولته وشبابه في بغداد ثم التحق بمعارك الاهوار وكذلك في حرب العصابات في الجبال .. اما الشخصية الثالثة فهي ميسون عبد الله رفيقة احمد سعيد والمرتبطة به عاطفيا . يبدو لي ان الكاتب إعتمد رؤية إسقاطية مسبقة إنتقد من خلالها ولو ضمنيا ,بعض الممارسات التي صدرت أو تصدر من هؤلاء , وهذا ما أراد إيصاله الى المتلقي ليشاركه في عملية الرفض لهذه الممارسات , كونها ــ الممارسات ــ لا تنسجم مع ما يتبنّاه هؤلاء من رفض للواقع الفاسد . فميسون مثلا , والتي عُرفتْ بنشاطها السياسي ايام كانت في العراق , تسللتْ الى دمشق لتصل الى بيروت , فتلجأ " الى الدعارة لأغراض مادية " , في محاولة منها لإيجاد معادلة فحواها , " إصلاح ضرر الإغتصاب السياسي وإعادة ما سُلب منها بالقوة , فجسدها ملكها ويمكنها تأجيره مرات ومرات " .إذن فميسون تتحول في بيروت الى بائعة هوى , بعدما كانت في العراق محسوبة على شريحة الثوريين الرافضين لمنطق الإستبداد الذي تمارسه السلطات الحكومية , وهذا ما لا ينسجم مع شخصية نذرتْ نفسها لخدمة قضية وطنية , فكيف تتحوّل من مناضلة الى بائعة هوى ؟؟ ولكن على ما يبدو , أنّ علي بدر يستبطن رؤية مسبقة ويتعمد إسقاطها , على مرحلة سياسية مرّ بها العراق وخصوصا في ستينيات القرن الماضي بل وحتى السبعينيات وما تلاها , كاشفاً عن بعض السلوكيات لناشطين محسوبين على تلك المرحلة , فأراد ان يعرّي بعض شعارات هذه المرحلة وما رافقها من سلوكيات لهؤلاء ثم لاحقهم الى أديس أبابا . وما يؤكد هذا الإستنتاج , هي التصريحات التي أدلى بها جبر سالم , ذلك الصحفي اللامع والثوري المعروف " لقد خدعوني ... لم أكن أعرف أنّ إفريقيا كلها زبالة لا وجود لثورة ولا لثوار ولا أيّ شيء من هذه التفاهات .. أنّ هؤلاء الذين تسميهم ثواراً ــ ويعني بهم , بعض الرفاق الذين عمل معهم ــ لم يكونوا غير قوّادين وعاهرات " . ولكي يستكمل علي بدر رؤيته الإسقاطية التي جزّأها ليعطي كلّ شخص من شخصياته جزء منها , فأنه يزجّ بشخصية أخرى , وهي شخصية جمال وحيد الذي يعيش في أديس أبابا منذ عام 1983 ويعمل في شركة أجنبية لحماية الحيوانات البرية. هذه الشخصية تعاني من أزمة نفسية كبيرة , تمتد جذورها أيام كانت في العراق , حينما تعرّض في ذلك الوقت , للإعتقال ثم أُطْلِق صراحه ثمناً لوشايته برفاقه وأصدقاءه ,فأدّتْ بهم هذه الوشاية الى الإعدام , وخوفا من أنْ تعاود السلطة القبض عليه من جديد , فانّه يهرب من العراق ليستقرّ في إثيوبيا . أمّا الفصل الثالث وهو الأخير , فقد خُصّص للتقرير الذي أنجزه الصحفي لوكالته عن الثوار المذكورين . ولأنّه لم يلتق أصلا بإثنين من هؤلاء الثلاثة, وهما ميسون واحمد سعيد كونهما رحلا الى أوربا بعد سقوط منغستو , فقد قام بفبركة صحفية,إدّعى فيها بأنه إلتقاهما , وكأنّي بعلي بدر , يفضح أو يدين الإعلام الغربي في تزييفه للوقائع خصوصا في تعامله مع شؤون الشرق الأوسط .
ثمة ملاحظات أخرى تستحق الإشارة أيضا . فالشخصية الرئيسية في الرواية, عرفنا فيها إندماجها بواقعها الجديد /أميركا , لكن الكاتب , بعث في سطورالرواية بإشارات,توحي بأن هذه الشخصية لم تنصهر كليّا داخل واقعها الجديد , أي المجتمع الغربي والأميركي بشكل خاص , ذلك ما نلمسه من خلال متابعاته القليلة عبر الفضائيات لما يحدث في بلده الأم , من أحداث وأعمال عنف , لا تثير لدى ولَدَيْه شيئا طالما هما أميركيان وهي إشارات أعتقد بأنها تثير اللوعة والحزن في نفس علي بدر شخصيا قبل تأثيرها على أبطاله . وعلى الجانب الآخر من التوجه السايكولوجي للشخصية الرئيسية , فأنها سعت للبحث عن إيجاد سبل لتجْسير بعض الإنشدادات النفسية الكامنة في داخله إزاء الخواص العامة لمجتمعه الأم /العراق رغم خضوع هذا المجتمع لآفة الإستبداد السياسي الذي تمارسه السلطة .
( الركض وراء الذئاب ), رواية تثير إشكالية مهمة , وتعكس ما يتمتع به علي بدر من مهارة في صنعته , خاصة في براعته السردية الواضحة في إختيار الزاوية الأفضل لما يريد إيصاله للمتلقي . ومن جانب آخر , يمكن القول عن هذه الرواية , بأنها أسبغت على نفسها طابعا توثيقيا بنسبة معينة , وأعتقد بأنّ الجانب التوثيقي في أيْ عمل روائي , يتطلب من الكاتب أنْ يكون موضوعيا وحياديا أيضا في تعامله مع أحداث دخلت نطاق التاريخ , ولا أعني هنا بالطبع أن يسرد هذه الوقائع بطريقة السرد التاريخي البحت , وانما يحافظ ما إستطاع , على نسيجها
العام الذي إصطبغت به .
#عبد_الرزاق_السويراوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟