في المعرفة والنقد العلمي المادي


امال الحسين
الحوار المتمدن - العدد: 7670 - 2023 / 7 / 12 - 14:16
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

تحية للرفاق والأصدقاء أقدم لكم كتابي الصادره في يونيو 2021 والقليل منكم تعرف عليه، وهو عبارة عما استنتجته في مجمل أعمالي النظرية والعملية في المجالات الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والإستراتيجية في صفوف الحركة العمالية والطبقة العاملة والفلاحين بالمغرب، ضنا منكم دعمه المادي والمعنوي باعتباره جزءا من حركتكم، موعدنا أمام البرلمان يوم السبت 15 يولوز 2023 على الساعة السادسة والنصف مساء للتنديد بالسياسات الاقتصادية الطبقية المتبعة من طرف الطيقة الحاكمة والمتحكمة في السياسة والاقتصاد ببلادنا.

محتــــــوى الكتاب
مقدمـــة النيوكانطية بـألمانيا، أوروبا وأمريكا
في المعرفة والديالكتيك الماركسي عند لينين
نقد منظور الدايالكتيك عند ماو
حول منظور الديالكتيك عند منظمة "إلى الأمام"
الأساس الاقتصادي للإستراتيجية الثورية
تطور الحركة الاحتجاجية بالمغرب والأمازيغية
خلآصـــــــة

مقدمــــــــة

من المعلوم أن جائحة "كورونا" غيرت مجرى الحياة في العالم، مما جعل الأوساط العلمية تتسابق نحو توقيفها، أو على الأقل الحد من تأثيرها الخطير على حياة سكان كوكبنا، وعمل اتحاد الاحتكاريين السياسيين والاقتصاديين على استغلالها للحد من انتفاضات الشعوب ضد سياساتهم الاستعمارية، لحصد مزيد من الربح على حساب استغلال قوة عمل البروليتاريا والفلاحين، مما عصف بأغلب صغار المستثمرين إلى صفوف الكادحين، وشرعن طرد العمال والسيطرة على أراضي الفلاحين، وتكبيل البرجوازية الصغيرة المثقفة، وكبح جماح الشعوب باسم سياسة الطوارئ، التي تم استغلالها لاسترجاع سيطرة الدول على الشعوب.
والكثير مما يروج حولها تلفه شكوك، نظرا لكثرة الأكاذيب التي تروجها الدوائر الإمبريالية الأمريكية والصينية، من منطلق الصراع السياسي والاقتصادي بينهما، من أجل التحكم في الإنسان والطبيعة، وتقسيم العمل عالميا، بعد الجرائم التي ارتكبتها في حق كوكبنا، الأرض، بعد خنقها بشتى وسائل الدمار، إلى حد تحويل ومسخ المادة الحيوية، التي تشكلت منذ سبعة ملايير سنة، عبر التعديل الجيني، من أجل كسب الربح.
وعملت الدول الاحتكارية على التملص من مسؤولياتها في انتشار هذا الوباء في أوساط الشعوب، ساعية إلى الخروج من أزمة الرأسمال المحدقة، بالهروب إلى الأمام، وارتكاب جرائم عميقة في تاريخ الإنسانية، عبر انتهاكات جسيمة في حقوق الإنسان، من أجل إعادة هيكلة الرأسمال المالي الإمبريالي، في شروط تم فيها وضع الشعوب وراء قطبان الحجر الاجتماعي وسيران الطوارئ الصحية.
إن تسلسل تاريخ الأوبئة في هذا القرن قد وصل مستوى عال، من سارس مرورا بإيبولا وصولا إلى أعمقها قساوة كورونا وبناتها وحفيداتها، مما يؤكد الشكوك حول روايات الرأسماليين حولها، كأن الإنسان عبر تاريخه الطويل لم يتعايش مع الفيروسات والبكتيريا، في الوقت الذي أصبح فيه علم الأوبئة يتحكم في الجراتيم ومكوناتها الجينية ADN و ARN، التي تشكلت منذ ظهور المادة الحيوية، وتطورت خلال 7 ملايير سنة مضت، لكن علم الوراثة تم توجيهه لتدمير هذه المكونات الحيوية، عبر تعديلها وتهجينها مما تسبب في فقدان المناعة لدى إنسان عصر الإمبريالية.
فهل هي حرب جرثومية تجريبية على الإنسان؟ سؤال مشروع، نظرا للحرب البيولوجية الدائرة في حق الطبيعة، على النبات والحيوان، التي مست حياة المجتمع البشري، حتى بلغت الجائحة حدا غير متوقع في تخمينات الإمبرياليين، ومست القصور وقيادات الدول الاحتكارية.
إن التناقض بداخل الإمبريالية اليوم قد حدده لينين بدراسته لأعمال ماركس وإنجلز، وطوره بشكل مادي في الواقع الموضوعي، لكن الأيديولوجيين والسياسيين الانتهازيين حولوا مجرى تاريخ البشرية، بعد تدمير التجارب الاشتراكية العالمية التي أحدثت توازنا في العالم، عبر التناقض في ظل الوحدة والصراع بين القطبين، وأوهموا الشعوب بقيادة التناقض ضد أمريكا، وقدموا روسيا والصين نقيضا لها، وطبل لتلك الأكاذيب الأساتذة البرجوازيون والبرجوازيون الصغار من أجل تضليل الشعوب ليسهل اضطهادها.
من المعلوم أن الفكر الرأسمالي مدمر، ولا يمكن مواجهته إلا بالفكر الاشتراكي البناء، الذي يجعل الإنسان مركز أي تغيير في العالم، بهدف تحسين أوضاعه المادية والمعنوية، عبر استثمار مؤهلاته بتطوير المخ البشري، باعتباره مادة حيوية في شكلها الأعلى، العضو القادر على حل جميع الإشكاليات، ولا يمكن لأحد أن يشك في هذه المسألة التي يؤكدها العلم المادي، ويقر بوجود التناقض الذي يحكم المادة والحركة، وفي أرقى تعبيراته التناقض الموجود في المخ البشري، الذي أكده علم التشريح منذ نشأته، وقسم المخ البشري إلى جزأين متناقضين، يتحكم كل جزء في الجزء المعاكس له في الجسم البشري، وهنا يبدأ التناقض.
ويقر علم التشريح بوجود تناقض عميق في وظائف جزأي المخ، وتكاملهما بالتفاعل والتناقض بينهما، عبر التناوب على قيام الجزأين بوظائفهما وبشكل فعال، في أرقى أشكال الدقة، وفي أقل جزيء في المئة من الثانية، حسب طلب حل نوعية الإشكالية المطروحة عليهما، وبقدر ما أن عملية اشتغال المخ معقدة، بقدر ما يسهل التحكم فيها بشكل كبير من الدقة، عبر التدريب والتحكم في وظائفه، مما يتطلب تمتيع الإنسان بحق التربية والتعليم، الوسيلتين الأساسيتين لمعرفة دور المراكز العليا للمخ البشري والقدرة على ترويضها.
لقد عملت الشعوب الأسيوية على التحكم في وظائف المخ في مستوى معين، خاصة بالصين، عبر رياضة التنفس، الاسترخاء والتأمل فيما يسمى "اليوغا"، التي يمكن لأي شخص ممارستها، عبر رياضة التحكم في أعضاء الجسم، في شروط مادية ومعنوية أهمها صفاء الذات، عبر التدريب على إخلاء الذات مما يلحق الأداء بالآخرين، والسيطرة على الاتجاه المتناقض له، عبر نزع العدوانية من الذات البشرية، كما فعل ماركس، إنجلز، لينين وغيرهم من الفلاسفة والعلماء.
تخلى ماركس عن مصالحه الذاتية، وتعلق بالمضطهدين من الناس في العالم، وسافر بعيدا في الزمان والمكان، وتخلى عن الثقافة السائدة في المجتمع الرأسمالي، وترسباتها التاريخية، عبر تراكم كمها الهائل وتحوله إلى كيف نوعي، طبع إنسان هذا العصر، واعتقد أن إلحاق الأداء بالآخرين جزء من طباعه، يورثها الآباء للأجيال القادمة، وهي ذات منحى عدواني تخريبي، تجلت بالأساس في مميزات النظام الرأسمالي، عبر نشر سياسة الفردانية لاستغلال إنتاج العمل الجماعي التعاوني التضامني، حتى اعتقد أغلب الناس أن الرأسمالية قدر محتوم.
لقد أثبت علم الوراثة أن الطفل ينمو حاملا معه أشكال معية من صفات أجداده وطباعهم، يتم تركيزها في سلوكه عبر الممارسات العدوانية الوراثية في عائلته، جماعته ومجتمعه، التي تتحول إلى ثقافة سائدة، لا يمكن أن يتخلص منها، إلا عندما يكتمل لديه الوعي بوجودها، وخطورتها على حياته وحياة الآخرين، ذلك ما قام به ماركس وإنجلز، وشرعا في التفكير في تغيير العالم، وشكلت معرفة العلوم الطبيعية أحد أهم الوسائل التي قاما بدراستها، وتحويل قوانينها من الطبيعة إلى المجتمع، عبر تعميق المعرفة الذاتية في علاقتها بالمادة، الواقع الموضوعي، من خلال ما يلي:
ـ في علاقات الذات الداخلية للشخص بذاته، في التناقض في علاقاتها الداخلية كمادة، في علاقتها بتفكيره، وتوظيف الأحاسيس، في علاقاتها بالمراكز العليا المتحكمة في وظائف المخ البشري، من أبسطها إلى أعقدها.
ـ في علاقة الذات بالمادة، الواقع الموضوعي، في التناقض الذي يحكم علاقاتها بالطبيعة، المجتمع والمعرفة.
ـ من البسيط إلى المعقد في المعرفة بمكانيزمات المادة والحركة، في الأشكال ذات أبعاد المنحى:
ـ إلى ما لا نهاية في العالم الصغير Le monde infiniment petit ، عالم الذرة ومكوناتها وتفاعلها.
ـ إلى ما لا نهاية في العالم الكبير Le monde infiniment grand، عالم المجرات، الشموس، الكواكب والأقمار.
ـ في السفر بعيدا في الزمان الكوني، الذي يقاس بسرعة الضوء، في تفعيل أعلى مركز في المخ البشري، الذي يحتوي على النسخة الأصلية لنشأة عالم المادة الحيوية وتطورها التاريخي.
ـ في التراكم التاريخي الكمي في علاقته بتحولات تراكمه الكيفي، والتحكم في تعبيراته الوظيفية، التي تكونت عبر تاريخه الطويل، خلال 7 ملايين سنة مضت على نشأة الذكاء لدى الإنسان، بعد تشكل كوكبنا قبل 7 ملايير سنة من ذلك التاريخ، من تكوين الكون منذ 14 ملايير سنة.
هكذا يكون السفر بعيدا عبر الزمان الكوني، الذي يقاس بالسنوات الضوئية، والفكر البشري قادر على وصول هذه السرعة، بل قادر على تجاوزها، عبر تحريك التفكير بسرعة فائقة، ولا يصل جميع الناس إلى هذا المستوى دفعة واحدة، حيث التراكم الكمي الذي يعطي التحول الكيفي لا يتم دفعة واحدة، كل إنسان حسب مستوى معرفته، قدراته وإمكانية توظيفها، هم قلة قليلة من الفلاسفة، المفكرين والعلماء يستطيعون إدراك هذا المستوى، التقرب منه ما أمكن وملامسته، مما يضع أمامنا أولوية تطوير حياة الإنسان، في مواجهة جشع الرأسمال، كما فعل ماركس وإنجلز وبعدهما لينين.
ومن أجل مقاومة جائحة كورونا، لا بد لنا من المناعة القوية، عبر التغذية السليمة من السموم المنشرة في المواد الغذائية، التي تم تحويلها جينيا، بعد القضاء على نسخها الأصلية، التي تكونت عبر تراكم كمي أعطى تحولات كيفية، جعلها تقاوم الفيروسات، وتم تلويثها بالمواد الكيماوية المصنعة، ولكسب المناعة لا بد من تناول المواد البيئية الطبيعية، من أجل ذلك لا بد من إرجاع الفلاحين إلى الأرض، وتقليص تمركز الرأسمال في الزراعة، في أفق تحرير الأراضي من تلوث الرزاعات الرأسمالية.
ويتجه العالم اليوم نحو التحول، إما في اتجاه إسعاد البشرية وهو مستبعد في نظري، أو العكس وهو مرجح إلى حد كبير، نحن في مفترق الطرق بعد الأزمة التي ضربت الرأسمالية في العمق، نتيجة التراكم الهائل لوسائل الإنتاج وسريان الملكية الخاصة لهذه الوسائل، يشكل فيها المجال الرقمي ووسائل الاتصال، التي بلغت جيلها الخامس، أداة خطيرة على حياة البشرية، فإما أن تنهض الشعوب لتحويل العالم في اتجاه إسعاد البشرية، أو تعيش في ظلام الإمبريالية التي ستعصف، على الأقل، بثلث سكان العالم نحو الفناء.
يرتكز هذا الكتاب على مقولة لينين الشهيرة "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية"، التي لطالما يرددها العديد من الشباب، لكن دون استيعابها من طرف جلهم، نتيجة ضعف التكوين والتثقيف العلمي المادي لديهم، في علاقته بالممارسة العملية، كما يتضمن قراءة تحليلية لمجموعة من التجارب الثورية العالمية، على ضوء إعادة بناء مفهوم النقد العلمي المادي للتاريخ.

النيوكانطية بألمانية، أوروبا وأمريكا

يعتبر كتاب "النقد الفلسفي للتاريخ"، للفيلسوف الوضعي الفرنسي ريمون أرون (1905ـ 1983)، مهما في إبراز اتجاهات الأساتذة البرجوازيين، الذين وضعوا أسس النيوكانطية بألمانيا، وامتداداتها بأوروبا، من أجل بناء تصور حول المهام الآنية للفلسفة الماركسية.
في مقدمة الكتاب، أشار أرون باختصار إلى موضوعه، الذي يتناول "هدفا واحدا محددا"، دون الإحاطة بمجمل ما تشكله "نظرية التاريخ بألمانيا المعاصرة". مع العلم أننا نعرف ما لعبته الفلسفة الألمانية، بمختلف اتجاهاتها، في تكوين الفكر الألماني وتأثيره على الفكر عالميا، وحدد ذلك في تأثير "منطق المعرفة التاريخي وكذا الرؤى الشاملة، الكثيرة وغير المؤكدة"، شبينغلر (1880ـ1936)، التي أثرت على وعي الألمان، مع بداية القرن 19، انطلاقا من المثالية الكلاسيكية، "على الرغم من رد الفعل ضد المنطق الهيغلي أو الفرضيات الميتافيزيقية".
ويشكل الكتاب بداية دراسة تشمل جزأين: الأول يتناول "النقد الفلسفي للتاريخ"، الثاني يهتم ب"L’historisme، فلسفة النسبية التاريخية"، بواسطة الميتودولوجيا، التي "استعادت الحق في الوجود"، بدل "فلسفة التاريخ الملوثة بالوضعية" في النصف الثاني من القرن 19.
وحدد لدراسته مظهرا ل"المسألة التاريخية" ومرحلة من "الفلسفة الألمانية".
واتسم منهجه في الاشتغال بالدمج بين "الفلسفة والسوسيولوجيا" عبر "منهج أكثر أو أقل سوسيولوجيا" و"منهج فلسفي".
واختار الفلاسفة الذين تناول أعمالهم بالدرس، وهم ليسوا من نفس الجيل: دلتاي (1874ـ1911)، ريكرت (1863ـ1936)، سيمل (1858ـ1918)، فيبر (1864ـ 1920)، لكنهم كانوا في نفس الوقت، "يفكرون ولديهم الوعي بالتفكير" في سؤال وحيد يعتبرونه محتملا لحل حقيقي (وواحد)، واعتبرهم الكاتب فلاسفة وجب معاملتهم كفلاسفة، لأنهم يفكرون في مسألة تعترض الجميع، ويتدارسون الحلول التي يقدمونها.
وأكد أنه لا يسعى إلى التعريف بالمذاهب المعروفة بفرنسا، لكن يريد "الاقتراب أكثر من الحقيقة"، هذه هي النظرة التي تؤطر هذا الكتاب، التي تفيد أن "الأصول" و"المناطق" ليس لها مكان في هذه الدراسة، ولهذا يتناول تحليله أربعة مذاهب، التي يعتبرها منفردة في محاولة تناول "نقد الحقيقة التاريخية".
ويقر أن هناك مناهج أخرى تم تطبيقها في أعمال تاريخ الفلسفة، لها الحق في ذلك طبعا، كمن يكتب "بيوغرافيا دلتاي" مثلا، لكنه يعتبر ذلك من عمل "هواة البيوغرافيا المثقفين"، مما دفعه لإنجاز عمل يجعلنا نفهم جيدا "طبيعة القرن 19 بألمانيا"، مع امكانية معرفة كذلك "الثقافة الألمانية عامة"، مع العلم أن دلتاي رفض هذه الطريقة في كتابة التاريخ، ويجهد نفسه من أجل "إحياء الأفكار وإعادة إحيائها"، بدل الأفكار التي مرت، نقوم بتقدير "أفكار صافية منفصلة عن المؤلفين"، دون متابعة تفاعلات "الفرد" و"المكان"، خبر "شخص" و"مذهب"، نعزل المفكرين، ونعتمد بشكل من الأشكال النظام، ذلك ما يدعو إليه دلتاي في التحليل.
واعتبر أرون دعوة دلتاي بعزل "الكاتب" عن "مؤلفاته" واعتماد "النظام" ونفي "المفكرين"، تعسفا، وتضحية بالناس مقابل المؤلفات، بينما "المؤلفات تنتمي لنفس العالم"، ولا يمكن مقارنة الإنسان بالمؤلفات، كما يقول الفيلسوف الهيغلي كويري (1892ـ1964)، عن هذا المنهج.
في هذه الدراسة، لا يعير الكاتب لهذا المنهج أي اهتمام، لأنه يعتقد أن عالم الاجتماع ومؤرخ الحضارة، يتناولان الفلاسفة الألمان على أنهم ألمانيين، وقرر دراستهم من خلال أربعة فلاسفة، لكون ذلك يشكل "مسألة آنية وضرورية"، لأن "القلق التاريخي" الذي يساوره يختفي أمام "الجهد" من أجل "الفهم الداخلي".
وحتى يكون منهجه شرعيا، تناول في دراسته هذه "مسألة فلسفية"، والمرحلة التي تناولها عبارة عن "وحدة مستقلة"، مما يتطلب تحديد المرحلة "الحرجة" في "تاريخ الفلسفة"، من أجل تحديد "هدف دراسته".
وأكد أن "انهيار الفلسفة الهيغلية"، قد سجل، في "نظام الفكر المضارب"، المنبثق من النظرية المجردة، "محطة تاريخية رئيسية" في القرن 19 بألمانيا.
واعتبر أن "الفلسفة الهيغلية" ممتدة عبر "الماركسية" من جهة، وعبر "المؤرخين، الاقتصاديين، القانونيين، مختصين في الدراسات التاريخية Philologues، فيما يسميه دلتاي علوم الروح"، من جهة أخرى.
كما أكد أن "الفلسفة بألمانيا" في وسط القرن 19، تبدو في "وضع مرهق"، بينما "علوم الأخلاق" و"العلوم السياسية" تتطور، ذلك ما وجده دلتاي لما وصل إلى برلين في 1850، ما جعله يشك في "نظام المثالية الكلاسيكية"، ولم يعد يعتقد بال"روح المطلقة"، و"تجاهل الماركسية"، فيما يتعلق ب"نظم الديانات"، وهو غير مبال، يطبق جميع الأنواع: يحب الغوص في "تفاصيل حياة نادرة"، لكنه بيوغرافي يطمح أيضا إلى "تاريخ عالمي".
وفي غياب "فلسفة واقعية" أو "ممكنة"، خطط دلتاي مشروع موسوعته "علوم الأخلاق"، مشابهة لموسوعة "كانط"، التي يعتبرها قيمة فقط في مجال "العلوم الطبيعية"، لكن "علوم الأخلاق"، التي يفكر فيها، يجدها في بقايا مفاهيم "الفلسفة الهيغلية"، ومن جهة أخرى ف"الحقيقة التاريخية" عنده، هي التي "تعترف بالماضي" والتي "تتطور عبر التاريخ".
وكذلك المسائل (علاقة الفرد بالمجموعة، المنبثقة من الشمولية) التي تعترض هذا المنهج، الذي يسعى إلى "الوضعية" أي التجريبية، تتجاوز إطار "دراسة خاصة"، وقد تتجاوز كذلك إطار "فلسفة التاريخ".
وما اعترض أيضا فلسفة دلتاي هذه، تلك "المفارقة المضاعفة"، المتجلية في تطبيق "منهج علمي" على "مصاعب ميتافيزيقية"، ذلك ما أرهقه طيلة حياته حتى نهاية القرن 19، حيث سيطرت "الوضعية العلمية" و"نيوكانطية" ماربورغ، على الجامعات الألمانية، حيث يسير "علم النفس" في اتجاه "تعويض الفلسفة".
ويقدر دلتاي ويؤمن بأساتذة العلوم الطبيعية أمثال Helmholtz، Ebbinghaus، Zeller، Sigwart، حيث كان يحلم ب"العلم الصارم، المنطق، المنهج التجريبي"، ويتنفس ب"الأدب، الموسيقى"، ورفض دلتاي تبديل "عمليات العلوم الفيزيائية"، لأنه كان يحترم "كل شيء حقيقي".
الشيء الذي أثار دالتاي ببرلين، هو مدى نفوذ "نتشه (1844ـ1900)، وماترلينك (1862ـ1949)" على الشباب والمجتمع، وهو يريد "التخلص من نير المادية"، ويسعى ل"كشف أصالة تاريخ الإنسان"، ولا يرغب في "إعادة إقحام الإنسان الملموس الكامل" كموضوع ل"التأمل الفلسفي".
لهذا عمل دلتاي على تعميق "علوم الأخلاق" و"إرث هيغل"، من أجل منافسة نتشه، دون أن يؤدي ذلك إلى "تشاؤم الفرد لوحده".
وأشار أرون إلى أن "النقد الفلسفي" ينبع من ال"نيو ـ كانطية"، بعد الانقطاع عن "المضاربة الفلسفية"، واسترجع أنفاسه بال"العودة إلى كانط".
ويشير إلى أن مذهب ريكرت مرتبط بهذه الحركة، وعملت المدرسة الألمانية بالجنوب الغربي بتكميل "عمل كانط" ب"النظرية النقدية للتاريخ".
تلكم مصادر الفلسفات، التي يريد أرون دراستها، وهي "علوم الأخلاق" من جهة، التي يسعى إلى أن يستخرج منها "ميتودولوجيا جديدة" و"مذهب الإنسان"، ومن جهة أخرى ال"نيو ـ كانطية"، المطروح لتحديد وتحقيق "علم الماضي" عبر التحليل التجاوزي Transcendantale (تجريد الحقائق الحسية عبر الجهد العقلي).
ويقول إن هذين الغرضين يلتقيان في موضوع "نقد الحقيقة التاريخية"، لكن نجد التعارض بينهما، حيث ينطلق ريكرت من "أنا" التجاوزي، ودلتاي من "أنا" الفردي.
ويطرح الكاتب السؤال التالي: هل يمكن من خلال هذه الشروط تحديدا استخلاص مفهوم "نقد الحقيقة التاريخية"؟ ألا يبدو أن هذا المفهوم ينطبق مع اهتمامات وأبحاث متعددة ؟ حتى أن المسائل المنطقية تختلف حسب المؤلفين. واستنتج ما يلي:
ـ يرغب دلتاي ب"موسوعة العلوم التاريخية"، ثم سيكولوجيا تصير "رياضيات عالم الأخلاق"، وفي الأخير يحاول تحليل "المفاهيم الأساسية لعلوم الروح".
ـ يريد ريكرت بلورة بشكل منطقي "مبادئ علم المفرد".
ـ يتساءل سيمل ما هو الفصل الزمني الذي يفصل "القصة" عن "الحياة".
ـ يجهد فيبير نفسه لتحديد حدود "الأحكام التاريخية" المحتملة ل"الحقيقة الكونية".
وأخذ الكاتب بعين الاعتبار هذا التعدد، لكن مع وجود موضوع مشترك بين المؤلفين الأربعة:
ـ دراسة طبيعة العلوم التاريخية.
ـ مبدأ فلسفي مشترك: معادي للفلسفة التقليدية للتاريخ.
يحاولون تجديد المسألة باستبدال الميتافيزيقيا بالتفكير الإيجابي.
لذلك وضع الكاتب فكرة "نقد الحقيقة التاريخية" في مركز دراسته، وتوجيه مداخلته نحو السؤال الأساسي: هل يمكن استبدال المنهج الكانطي، نسبة إلى كانط (1724ـ1804)، بشكل يجعل فلسفة التاريخ غير ضرورية وتعميق منطق أصيل للعلوم التاريخية.
يأتي تقديم هذا الكتاب في إطار الوقوف على الاتجاهات الفكرية المسيطرة في ألمانيا في النصف الثاني من القرن 19، وعبرها في أوروبا وأمريكا في القرن 20، كما جاء في مقدمة الطبعة الثانية في 1964، التي طرحت على الكاتب مراجعة ما تم نشره قبل ثلاثين سنة في 1934ـ1935، حيث أصبح يكتب بشكل مختلف، من أجل إبراز أهم الفلاسفة التجريبيين، الذين أسسوا النيوكانطية وأحيوا مبادئ الهيغلية، نسبة إلى هيغل (1770ـ1831)، واستمر تأثيرهم خلال القرن 20، في مستوى النقد الفلسفي للتاريخ، في مواجهة المادية، بعد وفاة ماركس وإنجلز ، في الصراع بين الماركسية والبرجوازية، ومن أجل فهم أسس النقد الفلسفي المادي عند لينين، والصراع الأيديولوجي الذي قاده ضد الوضعيين.
لقد كانت صرخة ماركس "انتقاد بلا هوادة لكل ما هو كائن"، تعبير على عزمه خدمة المادية والبروليتاريا، وصاغ مع رفيقه إنجلز بيان الحزب الشيوعي في 1848، وركز نشاطه في أوساط البروليتاريا ببلجيكا، وفي نفس السنة التي اندلعت فيها الثورة بفرنسا وانتشرت بباقي بلدان أوروبا، مما دفع الحكومة البلجيكية بطرده، وانتقل إلى باريس وتم طرده منها، وفي 1849 استقر بلندن، وعاش حياة بسيطة يدعمه رفيقه إنجلز.
وقاده لينين في صراعه ضد الماخيين الذي يحرفون الماركسية، واستمر هذا الصراع بعد وفاته، حول المسائل الأيديولوجية، السياسية وبناء الدولة الاشتراكية، وتعمق بعد بروز التحريفية بالحزب الشيوعي السوفييتي، مما ساهم في إخفاق الفلسفة الماركسية في مواجهة هجوم النيوـ كانطية والهيغلية، حتى تفكيك الاتحاد السوفييتي في 1990، وبرز المذهب التجريبي بأشكال متعددة من قبيل الحداثة وما بعد الحداثة.
وقامت البرجوازية الديمقراطية بنشر البيوكانطية بالجامعات، باعتبارها أيديولوجيا النيولبرالية في محاولة لتلميع وجه الرأسمالية، وتركيز منطلقات المثالية الذاتية في التعليم الرسمي، المدعوم من طرف البنوك للمناهج والبرامج التعليمية، التي تهدف إلى صنع نماذج بشرية تخدم الرأسمال المالي الإمبريالي بالبلدان المضطهدة.
وسارت الدول الحاكمة للشعوب المضطهدة على نهج الحكومة الرجعية بألمانيا في النصف الثاني من القرن 19، التي عملت على إقصاء لودفيغ فويرباخ (1804ـ 1872) من منصب الجامعة، خوفا من نشر المادية بين الطلبة، مما جعل ماركس يتراجع عن تقديم طلب الحصول على منصب بالجامعة بعد تخرجه في 1841، واتجه إلى الصحافة لنشر أفكاره خاصة بعد لقائه مع إنجلز بفرنسا، وشكلا ثنائيا في خدمة المادية بنشرها في أوساط البروليتاريا، وتعرض ماركس لمطاردة الحكومات الرجعية بألمانيا، فرنسا وبلجيكا، بعد نقده مذهب برودون في كتابه "بؤس الفلسفة" في 1847.
هكذا أسس ماركس وإنجلز المذهب الماركسي نقيض المذهب البرجوازي بنقدهما للرأسمالية والكانطية، التي ركزها دلتاي بالجامعة الألمانية، ونزعا من الديالكتيك الهيغلي صفته المثالية، وناضل لينين بعدهما ضد البيوكانطية في مواجهته للمذهب النقدي التجريبي، الذي عمل على تحريف مادية ماركس وإنجلز باسم تطوير الماركسية.
ويطرح علينا اليوم إعادة النظر في أشكال الصراعات الأيديولوجية والسياسية، من وجهة النظر المادية، على ضوء النقد الفلسفي للتاريخ عند لينين، في مواجهة المنهج النقدي التجريبي، الذي يسود في الجامعات البرجوازية، ويسيطرة على التحاليل السائدة في كتابات الماركسيين، الذين يجهلون النقد الفلسفي المادي، وطغيان النيوكانطية في تناول قضايا الفلسفة والتاريخ، حيث يهيمن المنهج التجريبي على فكر الشباب الماركسي المتخرجين من الجامعات، مما يطرح علينا إعادة بناء المذهب النقدي المادي، ونشره في أوساط الشباب الماركسي.
ذلك ما يطرح علينا اليوم المساهمة في دحض الفلسفة النيوكانطية وإبراز أهمية النقد العلمي المادي للتاريخ، عبر دراسة أعمال لينين المعرفية، عبر إبراز الصراع الذي قاده ضد الكانطية، عبر دحضه للأسس المعرفية للمذهب النقدي التجريبي، بالسير على خطى النقد العلمي المادي عند إنجلز، الذي واجه الكانطيين في النصف الثاني من القرن 19، بعد تأسيس المذهب الماركسي ببناء مشروع المادية في مواجهة مثالية هيغل.

في المعرفة والديالكتيك الماركسي عند لينين

اعتبر لينين أن جميع اتجاهات المذهب النقدي التجريبي عبارة عن مدارس صغيرة في علم الاجتماع البرجوازي، التي أعلنت الكانطية مصدرا لإلهامها في النصف الثاني من القرن 19، في مواجهة المادية الماركسية والديالكتيك الماركسي، وتناول أفكار الكانطيين بالنقد، وأوضح كيف انطلقوا من كانط (1724ـ1804)، في محاولة لبناء "نظريت"هم، مرورا بهيوم (1711ـ1776) وصولا إلى بركلي (1685ـ1753)، لينهوا مشروعهم المثالي الذاتي.
وعمل لينين على إبراز، مخلفات المثالية في المذهب النقدي التجريبي، في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، الذي أبرز فيه أعمال إنجلز (1820ـ 1895)، في النصف الثاني من القرن 19، موضحا دور الكانطيين، في تشويه الماركسية باسم تطويرها، في اتجاه الخلف، عبر إحياء الكانطية، منتقدا أساتذة العلوم الطبيعية، المسخرين في خدمة المشروع البرجوازي، في جامعات الدول البرجوازية بأوروبا وروسيا.

حول أزمة الفيزياء والمثالية الذاتية

في نهاية القرن 19 عاشت الفيزياء أزمة خانقة نتيجة الاكتشافات الجديدة في مجال العلوم الطبيعة، والمتسمة بصفة الثورة في العلوم الفيزيائية، التي دحضت استنتاجات الفيزياء الميكانيكية، وأصبحت الماركسية محط انتقادات الفيزيائيين الجدد، بعد انبهارهم بثورة الراديوم على الميكانيكا، محاولين دحض أطروحات إنجلز حول "المادة"، بمقارنة الاكتشافات الحديثة في الفيزياء، في مواجهة مضامين كتاب "ضد دوهرينغ"، خاصة مقولته "لا حركة بدون مادة" و"الحركة هي شكل وجود المادة"، ساعين إلى الوصول إلى نفي المادة، بقولهم ب"زوال المادة" مقابل "بقاء الطاقة"، من أجل "التهكم على روح المادية الديالكتيكية".(1)
وعكس ادعاءات الفيزيائيين المعاصرين، أعطت الثورة الحديثة في الفيزياء لاستنتاجات إنجلز العلمية بعدا أدق وأصح، انسجاما مع قوله:"عند كل اكتشاف يشكل عهدا حتى في ميدان تاريخ الطبيعة... ينبغي حتما على المادية أن تغير شكلها".(2)
ويوضح هنا أن على الماركسية أن تغير شكلها، وأن نعيد النظر في استنتاجات ماركس وإنجلز ولينين وستالين، لكن بأي شكل يمكن تطبيق مقولة إنجلز؟ ذلك ما أجاب عنه لينين في قوله :"ونحن لا نلوم البتة الماخيين على إعادة النظر هذه. بل نلومهم على أسلوبهم التحريفي الصرف. ومفاده خيانة كنه المادية تحت ستار نقد شكلها".(3)
ومحاولة ماخ (1838ـ1916) دحض مقولة إنجلز هذه حول المادة، ليس من باب تغيير الشكل، إنما من أجل تحريفها، وقام لينين بهذا العمل بتطبيقه للديالكتيك الماركسي على المستوى الفلسفي، مدافعا عن أطروحة إنجلز القائلة:"... الحركة غير ممكنة بدون المادة".(4)
وأوضح لينين وجود مدارس مختلفة بين الفزيائيين المعاصرين، وصلة مدرسة من هذه المدارس بانبعاث المثالية الفلسفية، وبين كنه الخلافات بين المدارس الفلسفية المختلفة، التي تكونت بعد الطفرة النوعية في مجال العلوم الطبيعية، خاصة الفيزياء.
لقد أعلن الفيزيائيون عن أزمة العلوم الفيزيائية، التي تجلت في دحض استنتاجات الفيزياء الكلاسيكية، واتجه انتقاد الفلاسفة نحو الفيزياء في انتقادهم للعلوم الطبيعية، محاولين ضبط مكامن هذه الأزمة وجوهرها، قبل ذلك كان الفيزيائيون يؤمنون بالتفسير الميكانيكي للطبيعة، ونمت بينهم النزعة الميكانيكية لفهم العالم الموضوعي، ولم يختلفوا إلا في أساليب التفسير، وأصبح لكل عالم ميوله الخاص، بعد الاختلاف الحاصل حول جوهر تفسير المادة.
فيما قبل كانت الميكانيكا هي الأسلوب الأوحد، الذي يمكن اتباعه للوصول إلى تحديد ميتافيزياء المادة، حتى أضحت نظريات الفيزياء الميكانيكية عبارة عن أنطولوجيا، هذه النظرة كانت ميكانيكية صرفة، إذ يعتقد الوضعيون أنه يمكن الوصول إلى ميتافيزياء المادة، باتباع خطوات الفيزياء الميكانيكية، مما يعتبر خروجا عن التجربة التي يؤمنون بها، وبالتالي ما فوق التجربة، ويرى الفيزيائيون الوضعيون أن أزمة الفيزياء مؤقتة، محاولين الاعتماد على روح الفيزياء المعاصرة، لفهم العالم لكن بشكل ميتافيزيقي، بإعطاء الأولوية للروح على العقل.(5)
إن الوضعيين يجهلون كنه المادية الذي حدده ماركس وإنجلز واعتمده لينين في دحضه لنظرياتهم الخاطئة حول المادة، حيث كانوا يعتمدون خلاصات هيوم حول المعرفة، في علاقاتها بالإحساسات، ويقعون في ورطة المثالية الذاتية، مما جعلهم يعتبرون المادية عقيدة وخارجة عن حدود التجربة، بالخلط بين المادية الميكانيكية والمادية الميتافيزيقية، الشيء الذي جعلهم لا يستطيعون بيان الفرق بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية، التي قال عنها لينين:"يستطيع التفكير البشري بحكم طبيعته أن يعطينا وهو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة إلى مجمل الحقيقة المطلقة هذا، ولكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة وتضيق طورا من جراء نمو المعرفة اللاحق."(6)
وجوهر أزمة الفيزياء المعاصرة في نظر لينين، هو أن الفيزياء الميكانيكية اعتبرت نظرياتها "معرفة فعلية للعالم المادي"، أي أنها "انعكاس للواقع الموضوعي"، الذي أكدته نظرية "الشيء في ذاته" عند إنجلز، باعتبار أفكارنا صور للمادة في أذهاننا، وأن المادة موجودة دون إرادتنا، والأشياء التي نسخرها بفضل المعرفة أي "الشيء من أجلنا" موجودة قبل اكتشافها.(7)
أما الفيزياء المعاصرة فقد حولت نظرة الفيزيائيين إلى العالم الموضوعي، وبرز تيار جديد "لا يرى في النظرية سوى رموز وعلامات وإشارات لأجل النشاط العلمي، أي أنه ينكر وجود الواقع الموضوعي، المستقل عن وعينا والذي يعكسه وعينا."(8)
وهكذا يستخلص لينين أن الفيزياء الكلاسيكية، قد تبنت نظرية عرفانية مادية بشكل عفوي، إلا أن أزمة الفيزياء المعاصرة قد حولت هذه النظرية إلى مثالية لا عرفانية، وهذا الانقلاب في التفكير لدى الفيزيائيين المعاصرين نتيجة أزمة الفيزياء المعاصرة، نتج عن عدم استيعابهم للديالكتيك الماركسي، وبالتالي سقوطهم في أخطاء علمية فادحة، تجلت أساسا في قولهم ب"المادة زالت"، لجهلهم للديالكتيك الماركسي الذي طوره لينين على مستوى المعرفة.
وأحدثت أزمة الفيزياء الجديدة صراعا بين الفيزيائيين المعاصرين، بين من يناصر الميكانيكا والمعارض لها، ورأى لينين وجود اتجاه ثالث، يعتبر وسطيا ويأتي بين الأول والثاني، باعتبارهما خطين أساسيين معارضين في العرفانية، بحكم نظرة الوضعيين إلى أزمة الفيزياء، مما يتعارض حقا مع كنه الأزمة التي نتجت عن تحطيم القوانين القديمة والمبادئ الأساسية القديمة، وبالتالي "نبد الواقع الموضوعي القائم خارج الوعي"، وذلك باعتناق الفيزيائيين المعاصرين للمادية بالمثالية واللاعرفانية.
وكان لأزمة الفيزياء الجديدة أثر كبير في الخلط الذي وقع فيه الفيزيائيون المعاصرون، بقولهم "المادة تزول"، انطلاقا من استنتاجاتهم حول خلاصات الفيزياء الجديدة، حول الصلة بين الذرة والكهرباء عبر حركة الإليكترونات، مما أوقعهم في خطأ فادح وهو "الذرة تفقد ماديتها" كما قال ل. هولفيغ في كتابه "تطور العلوم"، والفيزيائي الإيطالي أوغست ريغي الذي قال عن النظرية الإليكترونية "هي نظرية الكهرباء أقل مما هي نظرية المادة، فإن النظام الجديد يحل الكهرباء محل المادة".
هذا الخلط بين المادة والكهرباء ناتج حسب لينين عن عدم فهم "الصلة الفعلية بين المثالية الفلسفية و"المادة تزول". حيث أن "المادة تزول" التي يتحدث عنها الفزيائيون المعاصرون "لا يمت بأي صلة إلى التمييز العرفاني بين المادية والمثالية".(9)
إن التناقض بين المادية والمثالية تناقض في الجوهر، ويتجلى في التعارض بين الاتجاهين المعارضين اللذين يحكمان أسس المعرفة بصفة عامة، كما حدد إنجلز ذلك في كتاب "لودفيغ فورباخ": "المادية والمثالية هما الاتجاهان الفلسفيان الأساسيان... إن المسألة الأساسية الكبرى في كل فلسفة ولاسيما في الفلسفة الحديثة... هي مسألة علاقة الفكر بالوجود، علاقة الروح بالطبيعة".
ولكون معارفنا في علاقة جدلية باتجاهاتنا الفلسفية، فإن مصدر معرفتنا يتحدد حسب هذا الاتجاه أو ذاك، حسب النظرة المادية أو المثالية للأشياء، والقول ب "المادة تزول" يعني حصر عالم الطبيعة في الكهرباء والأثير، واستخلص لينين بأن قول "المادة تزول" يقود إلى القول أن الكهرباء تقوم مقام المادة، أي حصر المادة في الكهرباء، وبالتالي تزول "خواص المادة" التي تم اعتبارها فيما قبل مطلقة "الحركة غير ممكنة بدون مادة" كما قال إنجلز، والمادة حسب المادية الفلسفية موجودة خارج وعينا، وهي الواقع الموضوعي، العالم الفيزيائي الموجود دون إرادتنا.
وأحدثت الثورة في مجال العلوم الطبيعية وخاصة الفيزياء أزمة معرفية لدى الفيزيائيين المعاصرين، لكونهم يتجاهلون أسس المادية الفلسفية، فالاعتراف الذي حصل لديهم حول "جوهر الأشياء الذي لا يتغير"، ليس إلا مادية ميتافيزيقية، أي منافية للديالكتيك حسب لينين الذي يقول:"يجب أن نسأل: أتوجد الإلكترونات والأثير وما إلى ذلك خارج الوعي البشري بوصفها واقعية موضوعية، أم لا ؟ عن هذا السؤال سيتعين على علماء الطبيعيات أن يجيبوا وهم يجيبون دوما بدون تردد: أجل، كما يعترفون بلا تردد بوجود الطبيعة قبل الإنسان وقبل المادة العضوية".(10)
وهذا الإقرار من طرف الفيزيائيين يحل المسألة لصالح المادية، لكون المادة لا تعني في المادية الفلسفية غير "الواقع الموضوعي"، الذي يوجد "خارج وعينا"، الذي يعتبر في المعرفة المادية "الواقعية الموضوعية الموجودة بصورة مستقلة عن الوعي الإنساني والتي يعكسها هذا الوعي".(11)
وفي مجال العلم تقر المادية الديالكتيكية بنسبية كل موضوعة علمية عن "بنيان المادة وخواصها"، وعلى "انعدام الحدود المطلقة في الطبيعة"، وهي كذلك تقر بعدم استقرار المادة في حالة واحدة وهي في تحول دائم في حركة دائمة من حالة إلى حالة منافية معها، وإن عالم المجرات يتمدد.(12)
ويستنتج لينين من ذلك ما يلي:"مهما كان تحول الأثير العديم الوزن إلى مادة ذات وزن، والعكس بالعكس ، عجيبا من وجهة نظر "العقل السليم"، ومهما كان انعدام أية كتلة عند الإليكترون عدا الكتلة الكهرمغناطيسية "غريبا"، ومهما كان اقتصار القوانين الميكانيكية للحركة على ميدان ظاهرات الطبيعة وحدها، وخضوع هذه القوانين لقوانين أعمق هي قوانين الظاهرات الكهرمغناطيسية، وإلخ..، غير عادي، ـ فإن كل هذا هو مجرد تأكيد آخر على صحة المادية الديالكتيكية. فإن الفيزياء الجديدة قد انحرفت إلى المثالية، وذلك بصورة رئيسية للسبب التالي على وجه الدقة، وهو أن الفيزيائيين لم يكونوا يعرفون الديالكتيك".(13)
وقاد جهل الوضعيين بالديالكتيك الماركسي إلى إنكار "واقعية العالم الفيزيائي"، وبالتالي إنكار "الخواص الثابتة للمادة"، وانزلقوا إلى إنكار وجود المادة بقولهم "المادة تزول"، وهم بإصرارهم على نسبية معارفنا، انزلقوا إلى إنكار:"الموضوع المستقل عن المعرفة، والذي تعكسه هذه المعرفة بصورة صادقة تقريبا، بصورة صحيحة نسبيا، وهكذا دواليك، وهلم جرأ إلى ما لا نهاية".(14)
وعاش الفزيائيون المعاصرون في التناقض بين قوانين الفيزياء الميكانيكية واستنتاجات الفيزياء الجديدة، مما خلق لديهم أزمة معرفية حول كنه ما هو ثابت في الطبيعة، وما هو متحول لكونهم يجهلون الديالكتيك الماركسي، الذي يقر بثبوت شيء واحد فقط هو:"عكس الوعي البشري (حين يكون الوعي البشري موجودا) للعالم الخارجي الموجود والمتطور بصورة مستقلة عن الوعي البشري".(15)
ولا يوجد في نظر ماركس وإنجلز أي "ثابتية" أخرى، أو أي "كنه" آخر، أو أي "جوهر مطلق" آخر، بالمعنى الذي يتصوره الفيزيائيون المعاصرون. يقول لينين:"فإن "كنه" الأشياء أو "الجوهر" هما أيضا نسبيان، وهما يعربان فقط عن تعميق المعرفة البشرية للمواضيع، ولئن كان هذا التعميق لم يمض أمس إلى أبعد من الذرة، واليوم إلى أبعد من الإليكترون والأثير، فإن المادية الديالكتيكية تلح على الطابع المؤقت، النسبي التقريبي لجميع هذه المراحل من معرفة الطبيعة من قبل العلم المتطور المتقدم لدى الإنسان".(16)
إن الصراع القائم بين المتشبثين بخلاصات الفيزياء الكلاسيكية وغيرهم من المقتنعين بخلاصات الفيزياء الجديدة، هو صراع بين الميول إلى المادية بشكل عفوي والنزعة المثالية الذاتية الحديثة، وكنه هذا الصراع ناتج عن جهل هؤلاء للمادية الفلسفية، التي تقر بوجود المادة خارج وعينا عكس المادية الميتافيزيقية، التي تقر بوجود المادة بشكل عفوي.
وفي نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن 20، سعى بعض الأساتذة البورجوازيين إلى مناصرة الفلسفة الوضعية ضد المذهب الماركسي، بتبنيهم ما يسمى "الفلسفة الوضعية الحديثة" أو "فلسفة العلوم الطبيعية الحديثة"، التي يتخذونها وسيلة لدحض الديالكتيك المادي الماركسي، بعد انبهارهم بما لحق العلوم الطبيعية من تطور هائل، دون أن يستطيعوا فهمه وتفسيره وعلاقته بالواقع الاجتماعي، معتقدين أنه من السهل عليهم تجاوز المذهب الماركسي المادي على المستوى الطبيعي والاجتماعي، وفي اجتهاداتهم هذه أصبحوا منحرفين بأفكارهم عن آراء ماركس وإنجلز في مجال المعرفة والطبيعة والتاريخ، واعتبروا الماركسية عبارة عن "تصوف" وأنها أصبحت "شائخة" وذلك نتيجة انحرافهم نحو الميتافيزيقا، التي لازمت الصراع بين قطبي الفلسفة المادية والمثالية.
وكان لابد للماركسيين من دحض مثالية القرن 20 في المجال المعرفي، وكانت هذه المهمة ملقاة على عاتق لينين، الذي قام بدحض مقولات هؤلاء المثاليين الجدد عن مفهوم المادة وعلى رأسهم أتباع إرنست ماخ (1838ـ1916)، مما ساهم في تطوير الديالكتيك الماركسي في مجال المعرفة، عبر المقاربة بين فلسفة الماخيين في القرن 20 وفلسفة بركلي في القرن 18، وتوجيه انتقادات صارخة لهم، واستنتج لينين أن الماخيين لم يقوموا إلا بإعادة إنتاج نفس أفكار بركلي المثالية، في محاولتهم لدحض مقولة "الشيء في ذاته" أو "المادة" خارج التجريد، خارج إدراكنا، واتهموا الماديين بأنهم متصوفون حين يقرون ب"شيء غيبي قائم خارج حدود التجربة والمعرفة".(17)
وذهب لينين أبعد من ذلك في نقده للماخيين، حيث عمل على التحقق من آرائهم، باعتبارها ليست آراء جديدة كما يدعون، لكون أسسها ترجع إلى بداية القرن 18، عندما قاد جورج بركلي نفس الحملة العدائية ضد الماديين الذين لم يسميهم في كتاباته، وأقروا أن المادية الفلسفية الحديثة لا تعترف بمفهوم "المادة" و"الجوهر"، ويعتقد هؤلاء الأساتذة أن ماخ قام بإنجاز عظيم في مجال المادية الحديثة، جاهلين أنهم يتفقون مع بركلي في قوله أن "المادة لا شيء وهي جوهر لا وجود له"، متنكرين لوجود الثنائية بين الجوهر والمادة، الأشياء والأفكار، محاولين دحض الفلسفة المادية الماركسية بالرجوع إلى الوراء والأخذ بمقولة "الفكرة".(18)
لقد سبق أن واجه إنجلز المذهب المثالي وقسم الفلاسفة إلى اتجاهين كبيرين في مؤلفه "لودفينغ فريوباخ"، إلى فلاسفة ماديين وفلاسفة مثاليين وحدد الفرق الكبير بينهما، لكون الماديين يعتبرون المادة هي الأصل عكس المثاليين، الذين يعتبرون الروح هي الأصل والطبيعة الفرع، و بين هؤلاء وأولئك يوجد أنصار هيوم وكانط، الذين ينكرون إمكانية معرفة العالم أو على الأقل معرفته معرفة تامة وسماهم "اللاعرفانيين"، وفي كتابه "المادية التاريخية" يتحدث عن "اللاعرفاني الكانطي الجديد" ويقصد إنجلز هنا هيوم.
لقد اهتم إنجلز كثيرا بالقضايا ذات الصلة بالعلوم والتاريخ، وتكلم كثيرا عن "فظاظة المفاهيم" عند علماء الطبيعيات المعاصرين، واعتبرها متحجرة، ونعت نظراتهم بالميتافيزيقية المنافية للديالكتيك المادي، حيث لا يفرقوا بين النسبية والديالكتيك، وأكد لينين نفس الملاحظات عند ماخ، الذي حاول انطلاقا من "الأحاسيس" تكوين "العناصر الفيزيائية"، ومن "العناصر نفسها ينسج كلاما فارغا بعيدا عن الديالكتيك المادي" ، وقصد ماخ بذلك الدعاية للمثالية ضد المادية، واعتنق الكمونيون الذين يعتبرون من المثاليين المتطرفين، آراءه إذ يجدون فيها لذتهم في معارضة المادية.(19)
وأكد لينين أن عمل ماخ حول استنتاج "الأحاسيس" من "حركة المادة" مناقض تماما لمادية ديدرو، الذي "دحض أقوال الماديين المبتذلين"، الذين يدعون أن "الدماغ يفرز الأفكار" كأي عضو من أعضاء الجسم، الذي يفرز مادة معينة، وتجاهل ماخ استنتاجات ماركس وإنجلز، كما تجاهل استنتاجات هيكل وفويرباخ، مثله في ذلك مثل باقي الأساتذة المدرسين للفلسفة الرسمية.
وحسب منظور ماخ عن عناصر العالم، قال لينين:"يتلخص اكتشاف عناصر العالم (حسب ماخ)من:
ـ إن كل موجود يعلن إحساسا.
ـ إن الإحساسات تسمى عناصر.
ـ إن العناصر تنقسم إلى فيزيائي ونفسي، الأخير هو ما يتوقف على أعصاب الإنسان وعموما على العضوية البشرية، الأول لا يتوقف.
ـ إن صلة العناصر الفيزيائية وصلة العناصر النفسية تعلنان غير موجودتين بصورة منفردة أحدهما عن الآخر، فهما لا توجدان إلا معا.
ـ إنه لا يمكن التجرد عن هذه الصلة أو تلك إلا مؤقتا.
ـ إن النظرية "الجديدة" تعلن خالية من "أحادية الجانب".
و علق لينين على هذا المنظور:"لا وجود هنا بالفعل لأحادية الجانب، ولكنه يوجد خلط ما بعده خلط بين وجهات نظر فلسفيتين متضادة. فما دمت تنطلق من الإحساسات فقط. فإنك لن تصلح بكلمة "عنصر" "أحادية الجانب" مثاليتك".(20)
وفي مؤلفه "تحليل الأحاسيس" صدق بوغدانوف أقوال ماخ جاهلا أن ما أكد عليه مناقض تماما للحقيقة، وأكد لينين أن مثالية بوغدانوف تظهر حقا في مؤلفه هذا، وهو يقر بأن الإحساس هو الوحيد الذي يمكن اعتباره موجودا مما يتناقض مع وجود الجوهر، وقوله بالأحاسيس مستقلة كالقول بوجود الأفكار بدون دماغ.
ونعت لينين فلسفة بوغدانوف (1873ـ1928) ب"النصف مادية تاريخيا طبيعيا"، حيث لا يعتبر الإحساس الصلة المباشرة للإدراك مع العالم الخارجي، مع الواقع، من خلال "تحويل طاقة التهييج الخارجي إلى واقع الوعي"، وهو يضع بذلك الإحساس حاجزا وليس صلة بالعالم الخارجي، ويفصل بالتالي الوعي عن الواقع، وهو يعيد ما قاله بركلي منذ زمن بعيد، ونجد زعماء هذا التيار بإنجلترا كارل بيرسون، الذي يقر بموافقته على آراء ماخ، وبفرنسا نجد دوهيم وهينري بوانكاره الفرنسيين.
ويقول بوغدانوف أنه لا يعتبر نفسه ماخيا في الفلسفة، إذ أخذ من ماخ فقط عملية فصل ما هو فيزيائي عما هو نفسي وتبعيتهما للتجربة، ويقول عنه لينين "إنه ينسى أنه أخذ منه جوهره الخاطئ"، معتقدا أنه باستطاعته التخلص من منطلقاته المثالية الذاتية، وكذلك هو حال كل نقاد المذهب التجريبي، حيث لا يفهم بوغدانوف أنه يشترك مع الماخيين فيما هو أساسي.(21)
وقام لينين بدحض المذهب النقدي التجريبي ذي الأسس المثالية الذاتية، الذي حاول من خلاله الماخيون العصف باستنتاجات المذهب الماركسي نحو المثالية، خاصة منها الديالكتيك المادي، الذي يريدون أن يتجاوزوه معتمدين في ذلك على استغلال العلوم الطبيعية بشكل فج.
وقد حاول ماخ وأفيناريوس (1843ـ1896) الخوض في مجال المعرفة على مستوى العلوم الطبيعية، من أجل إسقاط استنتاجات التجربة في هذا المجال على مستوى النفس، ولكن عدم قدرتهما على فهم العلاقة بين الأحاسيس والأشياء، جعلهما يتخبطان في تناقضات المثالية الذاتية، ذلك لجهلهما بأسس المادية الديالكتيكية الماركسية على مستوى الحركة، مما جعلهما لا يدركان الصلة بين المادة والفكر، وهم بذلك يجهلان مبدأ التناقض داخل الحركة، التي وضع أسسه كل من ماركس وإنجلز وطوره لينين، بإعطائه لمفهوم المادة بعدا أدق وأشمل في قوله:"المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي".(22)
وقد استعمل هذا المفهوم خلال نضاله في مجال المعرفة ضد الماخيين، واستطاع تطوير المذهب الماركسي، من أجل معرفة العالم معرفة علمية ضد المثالية الذاتية واللاعرفانية، وأوضح كيف أن "الديالكتيك هو نظرية المعرفة الماركسية"، مما ساعده في استنتاجاته حول النفس التي اعتبرها ذات البعد المادي بقوله:"إن الأحاسيس هي صورة ذاتية عن العالم الموضوعي".(23)
واستطاع لينين تطوير المذهب الماركسي في مجال المعرفة، بتطوير الديالكتيك الماركسي في مواجهته لأفكار الماخيين، الذين يريدون إنهاء نظرياتهم المثالية بالماركسية، وقام بدحض المذهب النقدي التجريبي، الذي شوه عبره الوضعيين مفهوم "الواقعية"، حتى أصبح مفهوما مبتذلا، مما جعل لينين يتخذ مفهوم "المادة" الذي وضعه إنجلز، للتعبير عن الواقع الموضوعي في مجابهته لأعداء الديالكتيك المادي الماركسي.
وطور لينين الديالكتيك الماركسي على مستوى المعرفة، في ظل أوضاع روسيا القيصرية، التي يسود فيها الاستبداد بارتباطها بأوربا عصر الإمبريالية، التي "تراجعت فيها الديمقراطية إلى الرجعية على طول الخط" كما يقول عن ذلك، في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والمعرفية، حيث انتشر في أوربا المذهب النقدي التجريبي بزعامة ماخ.(24)

التحريفية والمذهب التجريبي

وكان عدد كبير من الاشتراكيين الديمقراطيين قد انبهروا بهذا المذهب، الذي رأوا فيه آخر ما يمكن أن يتوصل إليه الفكر المادي بعد ماركس، معتبرين أن الماخية هي التي ستقوم مقام الديالكتيك المادي الماركسي، ومن ضمن هؤلاء المناشفة وبعض البلاشفة، مما وضع أمام لينين هذه المهمة الصعبة، التي تجلت في الدفاع عن الفلسفة المادية الماركسية، وقام ببلورة المنظور الديالكتيكي المادي الماركسي في مجال المعرفة، الذي يميز الماركسية اللينينية عن غيرها من المذاهب، ليعطي للديالكتيك المادي الماركسي نفسا جديدا.
وحاول الماخيون محاكمة أفكار بليخانوف (1856ـ1918) حسب فهمهم لمسألة الطبيعة والإنسان، وطرحوا مسألة الزمان والمكان والسببية، لدحض قول بليخانوف:"وجود العالم قبل الإنسان"، الذي استنتج عبره أن:
ـ فلسفة كانط لا تفيد في هذا الشأن.
ـ المثالية تقر بعدم إمكانية وجود الموضوع بدون ذات.
ـ تاريخ الأرض بين وجود الأرض قبل الذات بزمن طويل، قبل وجود المواد العضوية التي تملك درجة معينة من الوعي.
ـ التاريخ إعترف بالمادة والشيء في ذاته.
وأكد أن فلسفة كانط المتسمة باللاعرفانية لا تملك جوابا عن إشكالية الذات والموضوع، لأنها لا تتوافق والعلم المعاصر. ويقول بليخانوف عن موضوع الطبيعة والإنسان:"لا موضوع بدون الذات بنظر المثالية وأن الموضوع يوجد بنظر المادية بصورة مستقلة عن الذات ومعكوسا بقدر متفاوت من الصحة في إدراكنا".(25)
وأكد لينين أنه لا يمكن لأي مادي أن يكذب قول بليخانوف هذا لكون:
ـ المادة والطبيعية موجودتان قبل الإنسان.
ـ المثالية الذاتية هي منطلق المذهب النقدي التجريبي من خلال مقولة أن العالم هو عبارة عن أحاسيس.
و يتم لف مقولة الأحاسيس بمجموعة من الكلمات التي يستعملها أفيناريوس وماخ، من أجل التغطية عن تناقضاتهما مع العلوم الطبيعية، واستطاع المذهب الماركسي اللينيني دحض هذا المذهب وجميع المذاهب التي تصب في بحر المثالية الذاتية والسوليبسيسم.
وفي نقده للمذهب النقدي التجريبي يستخلص لينين أن هذا المذهب تلازمه على طول الخط المسائل العرفانية الرجعية التامة، باستعمال جديد للكلمات الحاملة للأخطاء القديمة للمثالية واللاعرفانية، ولا يمكن الحديث عن الجمع بين الماركسية والمذهب النقدي التجريبي، وهذا المذهب لا يشكل إلا مدرسة صغيرة من بين المدارس الفلسفية الصغيرة في العصر الحديث، حيث انطلاق رواده من كانط محاولين الوصول إلى المادية ليعصف بهم نحو اللاعرفانية الهيومية والبركلية، وعملوا على تكريس مذهب الماخية الغارق في المثالية في وحدته مع الكمونية أشد إغراقا في الرجعية.
وأكد لينين أن الماخية مرتبطة ببعض العلماء الطبيعيين المنزلقين عبر نظرية النسبية إلى المثالية خاصة في العلوم الفيزيائية، بعد الاكتشافات العلمية العظيمة، التي حطمت النظريات القديمة الكلاسيكية، والتي بينت نسبية معارفنا، مما كرس انتشار المثالية الفيزيائية على غرار المثالية الفيزيولوجية في الماضي في أوساط العلماء الطبيعيين.
وعمل الأساتذة البورجوازيون على تكريس صراع الأحزاب الفلسفية، عبر "السكولاستيك العرفاني للمذهب النقدي التجريبي"، لكون الفلسفة الحديثة حزبية كالفلسفة منذ ألفي سنة مضت، حيث المادية والمثالية حزبان متصارعان على طول تاريخ تطور الفلسفة منذ اليونان، هذا الصراع يعبر عن ميول الطبقات المتناقضة وعن أيديولوجيتها، عبر "جوهر الأمر المستور" كما قال لينين، ودور المذهب النقدي التجريبي دور طبقي، يسعى إلى خدمة "الإيمانية" ضد "المادية" عامة، والمادية التاريخية خاصة، والمذهب النقدي التجريبي أيديولوجية التحريفية في العصر الحديث.
ففي المجال المعرفي العام يصف لينين التحريفية بأنها "النزعة الفكرية لاشتراكية ما قبل ماركس"، حيث يسعى الأساتذة المدرسون إلى تمرير الفكر الكانطي، عبر البرامج التعليمية الرسمية، في محاولة لإحياء الفكر المثالي، زاعمين أن المادية قد تم دحضها، وهم في محاولاتهم لمهاجمة الديالكتيك الهيكلي، يحتقرون الفلسفة المادية، حيث لا يستطيعون فهم الديالكتيك الماركسي، الذي حاولوا تعويضه بالفلسفة المثالية للقرون الوسطى، و جعلوا "الدين ليس قضية الدول بل كذلك قضية الطبقة الثورية" كما قال لينين، في محاولة فاشلة لإدخال التعديلات على المذهب الماركسي.(26)
وتعتبر مرحلة ماركس مرحلة تطوير المفهوم المادي للتاريخ والديالكتيك المادي، عبر عمله على مراجعة فلسفة هيغل، التي اعتبرها مهمة باكتشافها للصيرورة الجدلية، لكنها بقيت حبيسة "الفكرة المطلقة"، التي جعلتها ذات أبعاد مثالية، مما تطلب جعل الجدلية مادية، وذلك بإخراجها من الفكرة إلى الواقع الملموس، وأسس الديالكتيك الماركسي بعد إزالة صفة المثالية من جدلية هيكل، منتقدا مفهوم الدولة عند هيغل، واعتبر "إنسان" فويرباخ إنسانا مجردا، لأنه لم يعمل إلا على تغيير "الفكرة المطلقة" ب"الإنسان"، دون الخروج من دائرة المثالية.
لقد قاد ماركس الصراع ضد المناهضين للديالكتيك المادي من البرودونيين واللاساليين، الذين أثارهم المذهب الماركسي محاولين تحريفه، ووضع أسس الثورة الاشتراكية باعتبار الصراع الطبقي هو المحدد لحركة التاريخ، وقطع الصلة بالمثالية في صراعه ضد البورجوازية، التي ترى في المثالية الملاذ الآمن من أجل استغلال البروليتاريا، حيث لم تستطع البورجوازية التخلص من أوهام المثالية. ويقول ماركس عن الثورة الاشتراكية في القرن 19:"إنها لا تستطيع أن تبدأ بنفسها قبل أن تصفي نهائيا كل خرافة ووهم حيال الماضي، إن الثورات السابقة كانت في حاجة إلى ذكريات التاريخ لكي تخفي عن نفسها محتواها"، ويقصد هنا الثورات البرجوازية. (27)
وعمل لينين على تطوير الديالكتيك الماركسي على مستوى المعرفة، من خلال الدفاع عن الفلسفة المادية الماركسية، في ظل هجوم المثالية الذاتية على المذهب الماركسي، وبلور الديالكتيك المادي الماركسي في مجال المعرفة، مما يميز الماركسية اللينينية عن غيرها من المذاهب، وذلك بإعطائها للديالكتيك المادي الماركسي بعدا أدق وأشمل، على جميع المستويات الأيديولوجية، السياسية، الاقتصادية، التنظيمية، النضالية وبناء الدولة الاشتراكية.
لقد وجه إنجلز لمنظور كانط حول "الشيء في ذاته"، نقدا صارخا ونعت الكانطية باللاعرفانية، فبعد أن صنف الفلاسفة إلى معسكرين اثنين أحدهما مادي والثاني مثالي أكد على وجود فلاسفة متذبذبين، وهم يتأرجحون بين هذا المعسكر وذاك من منطلقات لاعرفانية في عجز تام عن تحديد الموقف الصريح من المادية والمثالية، ولا يستطيعون تحديد العلاقة بين الفكر والواقع الموضوعي. ويقول إنجلز عنهم:"لكن هناك، إلى جانب ذلك"(أي إلى جانب الماديين وإلى جانب المثاليين المنسجمين) "عدد من الفلاسفة الآخرين ممن يشكون في إمكانية معرفة العالم أو، على الأقل، معرفته معرفة كاملة، وفي عداد هؤلاء، نجد بين الفلاسفة الحديثين هيوم وكانط اللذين قاما بدور على جانب كبير من الأهمية في تطوير الفلسفة...".(28)
وأكد إنجلز أن اللاعرفانية الكانطية تتجلى في كونها لا تعترف بإمكانية معرفة الواقع الموضوعي رغم التسليم بوجود "الشيء في ذاته"، وذلك لكونها لم تستطع التخلص من منطلقاتها المثالية الذاتية، مما جعلها تقول بعجزنا عن معرفة المادة، التي يعتبرها كانط غيبية، بإنكاره لإمكانية معرفة الواقع الموضوعي بواسطة فكرنا، هكذا قام كانط فقط بالتسليم بوجود "الشيء في ذاته"، دون التوصل إلى تحديد أثره المادي وعلاقته بالفكر.
ويطرح إنجلز مجموعة من التساؤلات التي عجزت الكانطية عن الإجابة عنها:"... ما هي العلاقة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا، وهذا العالم نفسه ؟ وهل يستطيع فكرنا أن يعرف العالم الواقعي ؟ وهل نستطيع في تصوراتنا ومفاهيمنا عن العالم الواقعي أن نكون انعكاسا صادقا عن الواقع ؟".(29)
وحسب إنجلز فإن أكثرية الفلاسفة الكبار قد أجابوا عن هذه التساؤلات بالإيجاب، لكن ليسوا جميعهم مؤكدين لإمكانية معرفة الواقع الموضوعي عن طريق فكرنا، وليس فقط اللاعرفانيين منهم بل كذلك "المثاليين الأشد انسجاما" كما يقول لينين، وعلى رأسهم هيكل الذي يؤمن ب"الفكرة المطلقة" التي "وجدت في مكان ما منذ الأزل".
وجاء إرنس ماخ وأفيناريوس ليعيدا إحياء الفلسفة المثالية البركلية مرورا بلاعرفانية هيوم محاولين نقد اللاعرفانية الكانطية، في جهل تام بمنطلقاتهما المثالية الذاتية التي جعلتهما يكرسان مبدأ اللاعرفانية، الذي تتسم به فلسفة كانط.(30)
واستخلص لينين أن أفيناريوس الذي سبق له أن اعتقد أنه قام ب"تطهير الكانطية" من الاعتراف ب"الضرورة والسببية" والتسليم ب"الجوهر أي بالشيء في ذاته"، قد اعتقد في هذا النص أنه طهر "التجربة"، التي قام كانط ب"تطهيرها بشكل غير كاف" حتى تصبح "تجربة خالصة" ولأول مرة، وهو يجهل أن شولتسه (1761ـ1833) نصير لاعرفانية هيوم وفيخته نصير بركلي، قد قاما قبله بنقد تسليم كانط ب"القبلية" أي "الشيء في ذاته"، إلا أنهم جميعهم يجهلون أنهم لم يقوموا إلا بتطهير الكانطية من اللاعرفانية، حتى تصبح فلسفة كانط لاعرفانية خالصة. ويقول لينين:"وهكذا ، ضل أفيناريوس ضلالا شديدا حين توهم أنه يقوم "للمرة الأولى" "بتطهير التجربة" عند كانط من القبلية ومن الشيء في ذاته. وحين توهم أنه يخلق بذلك اتجاها "جديدا" في الفلسفة. أما في الواقع، فإنه واصل خطا قديما هو خط هيوم وبركلي وشولتسه ـ إينيزيدم وأي. غ. فيخته. لقد توهم أفيناريوس أنه "يطهر التجربة" على العموم، أما في الواقع، فإنه لم يفعل غير أنه طهر اللاعرفانية من الكانطية"كما يدعي.(31)
وأكد لينين أن أفيناريوس قد ناضل ضد كانط من منطلق الاتجاه اليميني، وليس من الإتجاه اليساري، فهو مثله في ذلك مثل الريبيين والمثاليين عكس الماديين المنسجمين أي الماركسيين، ولم يستطع الوصول إلى ضبط منظور كانط الفلسفي اللاعرفاني، الذي يتسم بمحاولة التوافق بين المادية والمثالية.(32)
إن التذبذب الحاصل في فكر كانط وضع الكانطية في موقف حرج بين الاتجاهين المادي والمثالي معا، فتعرضت للنقد من طرف الفلاسفة الماديين والمثاليين على السواء، نتيجة عدم قدرته على حسم اتجاهه الفلسفي حيث حاول الخلط بين فلسفتين متناقضتين متعارضتين، عاشتا منذ بروز الفكر الفلسفي صراعا مريرا حول سيادة تفكير أحد الاتجاهين وهما المادية والمثالية.
إن الفكر اللاعرفاني استمد أصوله من فلسفة بركلي المعادية للمادية مرورا بفلسفة هيوم اللاعرفانية وصولا إلى الكانطية، وحاول ماخ وأفيناريوس ترسيخ هذا الفكر عبر نشر "المذهب النقدي التجريبي" المعادي للماركسية، وسار أتباعهما من أساتذة التعليم الرسمي في القرن 20 على خطى هذا المذهب ضد المادية، وحوله التحريفيون في القرن 21 إلى مرشدهم ضد الماركسية اللينينية، عبر محاولة التوفيق بين الفكر البورجوازي والماركسية في نضالهم ضد الماركسية اللينينية.(33)
فالماديون المنسجمون أي الماركسيون يقرون بإمكانية معرفة الشيء في ذاته وعلاقته بالظاهرة بواسطة فكرنا، عكس المثاليين واللاعرفانيين العاجزيين عن تحديد العلاقة بين الفكر والواقع الموضوعي، اللذان حاربا مادية كانط، حيث وجهوا له النقد على اعترافه ب"الشيء في ذاته"، لكن من وجهة نظر اليمين، عكس ما قام به لينين من نقد من وجهة نظر اليسار.(34)
وكلا الاتجاهين (المثالي واللاعرفاني) ينسجمان لكونهما يحاربان المادية في فكر كانط، الذي عصف بالمثالية نحو المادية في نظرهما، في قوله ب"الشيء في ذاته" ولو بشكله الغيبي، وقام الماخيون/أتباع ماخ وأفيناريوس بارتكاب نفس أخطاء اللاعرفانية (الريبية) والمثالية، وهم لا يعرفون أنهم يدحضون مادية كانط، ويزعمون أنهم يطهرون الكانطية، من انزلاقاتها نحو المثالية جاهلين أن الشيء في ذاته قائم خارج وعينا.(35)
ويعتقد الماخيون أن ما قام به الماديون الماركسيون اتجاه "الشيء في ذاته" إنما هو خلط بين المادية والكانطية، وذلك ناتج عن جهلهم التام بالديالكتيك الماركسي، الذي بدون معرفته لا يمكن محاكمة فلسفة كانط محاكمة مادية، كما فعل الماديون المنسجمون/الماركسيون عند تناولهم ل"الشيء في ذاته" من وجهة يسارية، محاولين تطهير الكانطية من معالم المثالية، وبالتالي دحض ادعاءات أنصار المذهب النقدي التجريبي حول تطهير الماركسية وتطويرها، وهم يجهلون أنهم انطلقوا من الكانطية مرورا بالهيومية ليصلوا إلى البركلية وأسسوا الفكر اللاعرفاني الحديث، باعتباره أساس منطلقات التحريفية الحديثة في نضالها ضد الماركسية اللينينية.
ولابد من معرفة نقد الماديين لفلسفة كانط حتى نكون على علم بأسس منطلقات التحريفية، ومادية ما قبل ماركس وإنجلز التي حظيت باهتمام كبير في هذا الشأن، باعتبارها وجهت النقد للكانطية من وجهة نظر يسارية، فقد لام فورباخ كانط على ما شاب فلسفته من مثالية، ووصفها بأنها "المثالية على أساس التجربة"، وقام بمحاكمة الكانطية باتخاذها الإحساسات أساس منطلقاتها لتحديد "الشيء في ذاته"، الذي اعتبره كانط مجرد تصور وليس واقعا.(36)
ويقول لينين أن فويرباخ لا يلوم كانط على تسليمه ب"الشيء في ذاته" بل لعدم تسليمه ب"فعليته أي بواقعيته الموضوعية"، الذي اعتبره كانط مجرد فكرة "جوهر تصوري" وليس "جوهرا يملك وجودا"، باعتباره موجودا فعلا في الواقع الموضوعي، وهو يلومه لكونه تراجع عن المادية في اتجاه اللاعرفانية والمثالية، في اتجاه هيوم وبركلي، وهو بذلك رجعي حسب فورباخ.
ودافع فورباخ عن "المذهب الحسي الموضوعي" أي عن المادية، إلا أنه لم يستطع التخلص من نواقص منظوره المادي، وعمل إنجلز وماركس على تطهير المادية من شوائب المثالية، وأسسا معا الديالكتيك الماركسي.
وقد سبق لماركس وإنجلز أن قاما بنقد أفكار فورباخ المادية وبالتالي الفلسفة الألمانية الكلاسيكية، وذلك بإدخال "مقياس الواقع العملي في أساس النظرية المادية للمعرفة" كما قال لينين، حيث يقول ماركس عن العلاقة بين النظرية والممارسة:"إن اعتبار التفكير البشري يتطابق مع الحقيقة الملموسة (أي الموضوعية) في معزل عن الواقع العملي إنما هو سكولاستيك".(37)
ويقول إنجلز عن الممارسة العملية:"إن أفضل دحض للاعرفانية الكانطية والهيومية، وكذلك لشتى الشعوذات الفلسفية إنما هو الواقع العملي".(38)
وأكد لينين على أهمية جدال لافارغ ضد الكانطيين وهو تلميذ إنجلز، الذي انتقد كانط من اليسار انطلاقا من المشترك بين كانط وهيوم، ليس فقط بانتقاده لمنظوره حول "الشيء في ذاته"، بل كذلك على "النظرة المادية الناقصة إليه" لدى كانط، وحاول البورجوازيون دحض مادية ماركس من منطلقات الكانطية.(39)
وخلال القرن 19 عمل البورجوازيون على محاولة دحض المذهب الماركسي بعد قيام الثورات البروليتارية بألمانيا، وبروز التناقضات بين الرأسمال والعمل، وانكشاف أكاذيب البورجوازية حول الحرية والديمقراطية، ولم تجد البورجوازية إلا فلسفة كانط للجوء إليها، من أجل محاربة الماركسية.(40)
وعملت البورجوازية بعد سيطرتها على السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية على محاربة الماركسية باعتبارها مذهب البروليتاريا الثورية، الذي بإمكانه كشف زيف ادعاءات الشعارات البورجوازية، التي تم رفعها أثناء الثورة البورجوازية، والتي سرعان ما انكشفت مع بروز الرأسمالية كنظام يسعى إلى الربح بشكل جشع عبر استغلال البروليتاريا، مما دفع باحتداد التناقضات بين الرأسمال والعمل التي أسفرت عن قيام الثورات البروليتارية خلال القرن 19، التي ساهمت بشكل كبير في وضع أسس المذهب الماركسي، عبر تطور الحركة العمالية الثورية التي أفرزت الفكر الماركسي، خلال النصف الثاني من القرن 19، والذي طوره لينين في العقديين الأول والثاني من القرن 20، عبر نقده للرأسمالية الجديدة/الإمبريالية، التي اعتبرها "أعلى مراحل تطور الرأسمالية"، وبرزت الماركسية اللينينية باعتبارها النظرية المادية لعصر الإمبريالية والثورة البروليتارية.
وحقق لينين انتصارا باهرا على المذهب النقدي التجريبي الذي حاول عبره الماخيون الألمان والروس دحض المادية الجدلية، وأسس النظرية الماركسية اللينينية ببلورة المنظور الديالكتيكي الماركسي في مجال المعرفة.
وحاول الماخيون دحض الماركسية عبر نقد المادية التاريخية لماركس سعيا إلى تفنيد استنتاجاته حول الاقتصاد السياسي، التي باشر فيها نقد المنطلقات الأخلاقية في الاقتصاد السياسي عند ريكاردو، والتي سماها "تطبيق الأخلاق على الاقتصاد السياسي"، مما جعلها "غير صحيحة شكلا من الناحية الاقتصادية"، وقال عنها إنجلز:"لقد باشر ماركس دراسة الاشتراكية الفرنسية والاقتصاد السياسي انطلاقا من العقيدة الاشتراكية، وكان هدفه العرفاني إعطاء هذه العقيدة "تعليلا نظريا" لأجل "تأمين" قيمتها الانطلاقية. ولقد وجد ماركس عند ريكاردو قانون القيمة، ولكن...استنتاجات الاشتراكيين الفرنسيين من ريكاردو لم يكن بوسعها أن ترضي ماركس لأجل "تأمين" قيمتها الانطلاقية، الموضوعية في حالة التنوع الحياتي، أي في حالة "عقيدة"، لأن هذه الاستنتاجات قد دخلت كقسم في مضمون قيمتها الأولية، بصورة "الاستياء من سرقة العمال"، وإلخ...(41)
ويقول لينين عن الماخيين وعلى رأسهم ف.بلي الذي تناول في كتابه "الميتافيزيقا في الاقتصاد السياسي"، ما جاء في القول السابق لإنجلز، ومن أجل دحض استنتاجات ماركس المادية التاريخية، عمل الماخيون على:
ـ نعت ماركس ب"الميتافيزيقي" وغير ملم بالعرفانية وبالتالي فالماركسية "ميتافيزيقا" مثل علم الطبيعيات/الفيزيولوجيا.(42)

الديالكتيك الماركسي اللينيني

قام لينين بتطوير الديالكتيك الماركسي على مستوى المعرفة، مما ساهم في تطوير المادية الجدلية والمادية التاريخية، وتمت بلورة الديالكتيك الماركسي في أوساط العلماء الروس، الذين حققوا بفضله إنجازات باهرة على مستوى البحث العلمي، الشيء الذي أهل الإتحاد السوفييتي ليصبح قوة اقتصادية عالمية، نتيجة تطور الصناعة وتصنيع الفلاحة وتطوير بلدان الاتحاد في ظل النظام والاقتصاد الاشتراكي.(43)
واللينينية تطوير للماركسية على جميع المستويات الفلسفية والاقتصادية، السياسية والتنظيمية، لهذا سماها ستالين "ماركسية عصر الاستعمار والثورة البروليتارية"، لكونها نتاج الحركة البروليتارية الثورية في مواجهة الإمبريالية، في علاقتها بحركة التحرر الوطني العالمية بالبلدان المستعمرة، وتعتبر تطويرا لماركسية ما قبل الثورات الاشتراكية، تطوير في اتجاه البناء الاشتراكي وبناء المجتمعات الاشتراكية وعهد السوفيات.(44)
فاللينينية تطوير للماركسية و ليست فكرا جامدا كما يدعي الماخيون الجدد في القرن 21، أو الماركسية التقليدية كما يقول التحريفيون الجدد وضمنهم "الماويون"، وقد عمل ستالين على تطبيقها وتطويرها في الإتحاد السوفييتي نظريا وممارسة، في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا باعتبارها الممارسة العملية للينينية، من خلال البناء الاشتراكي وتطوير قوانين الاقتصاد الاشتراكي ووضع الدستور الاشتراكي.
لقد عمل لينين على استكمال بناء نظرية الثورة الاشتراكية انطلاقا من دراسته للواقع الموضوعي للرأسمالية في عهد الاستعمار، وفي مرحلة متقدمة منه، وليس انطلاقا من أوضاع روسيا الخاصة، حتى يمكن نعت اللينينية بالتطبيق العملي للماركسية بروسيا، كما يدعي التحريفيون الجدد. وساهم الصراع الأيديولوجي والسياسي الذي خاضه لينين ضد الماخيين الألمان والروس في ترسيخ أسس اللينينية.(45)
في المجال الاقتصادي سعى التحريفيون إلى التأثير على الجماهير بما كانوا يسمونه ب"المعطيات الجديدة في التطور الاقتصادي"، زاعمين أن تمركز الإنتاج وإزاحة الإنتاج الكبير للإنتاج الصغير لا يظهر في الزراعة، في الوقت الذي يجري ببطء في مجال التجارة والصناعة، واعتبروا أن الكارتيلات والتروستات تخفف من حدة أزمات الرأسمالية، إلى حين زوال الأزمة تماما، والتناحر داخل النظام الرأسمالي أخذ يقل، مما جعل نظرية الإفلاس خاطئة، لذا وجب إدخال تعديلات على النظرية الماركسية وفق هذه المعطيات الجديدة بما في ذلك نظرية القيمة في نظرهم.
وواجه لينين البرنشتينيين بصرامة بدءا بالاقتصاد الذي يحاولون من خلاله تركيز الآراء البورجوازية لبوهم- بافيرك، معتمدا على الوقائع والأرقام التي تبين ضعف نظريتيهم، حيث أن الإنتاج الضخم يتفوق على الإنتاج الصغير في جميع المستويات الزراعية والصناعية والتجارية، إلا أن الإنتاج البضاعي في الزراعة ضعيف بالنسبة للإنتاج الصناعي لذا لا يظهر التمركز في الزراعة بنفس الحدة كالصناعة، فالتقدم العلمي المطرد يؤثر تأثيرا سلبيا على الإنتاج الصغير في المجتمعات الرأسمالية، وكان على علم الاقتصاد الاشتراكي أن يوضح ذلك بالتحليل المادي، وأوضح لينين أن الإنتاج الصغير لا محل له في النظام الرأسمالي، وعلى الفلاح تبني النظرية البروليتارية الثورية، عكس دعوة التحريفيين للفلاح بتبني وجهة نظر الملاك التي تعتبر نظرية بورجوازية.
إن ما دفع التحريفيون إلى محاولة تعديل المذهب الماركسي هو انبهارهم أمام ما حققته الصناعة من تقدم خلال السنوات الأخيرة من القرن 19، جازمين من أن الأزمات قد تجاوزتها الرأسمالية بذلك المستوى الطفيف من تطور وسائل الإنتاج، غافلين أن وراء كل ازدهار للرأسمالية أزمة باعتبار الرأسمالية تلازمها الأزمات، وتوحيد إنتاج الكارتيلات والتروستات لم يزد إلا فوضى الإنتاج وتفاقم الأوضاع المزرية للبروليتاريا في ظل طغيان الرأسماليين، والرأسمالية في تطورها تسير نحو الإفلاس عبر مختلف الأزمات السياسية والاقتصادية للوصول إلى الانهيار التام، ووضع الأسس العلمية للرأسمال المالي المهيمن على الرأسمالين التجاري والصناعي في ظل الرأسمالية الإمبريالية التي سماها أعلى مراحل تطور الرأسمالية.
لقد شكل الاستعمار والحرب في الأطروحة اللينينية عنصرين ملازمين للرأسمالية الإمبريالية، ويتجلى ذلك في اعتماد دراسة لينين لعصر الإمبريالية على هذين العنصرين، وذلك لتحديد ملامح تطور الرأسمالية خلال العقدين الأولين من القرن 20 والأزمات التي تلاحقها، والتي شكلت فيها سيطرة الرأسمال المالي على التجارة العالمية عنصرا أساسيا في الاقتصاد، وذلك انطلاقا من الديالكتيك الماركسي الذي يحدد تطور المجتمعات انطلاق من العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة، التي يشكل فيها الاقتصاد الأساس المادي للتطور.
واعتبر لينين أن أساس الصراع بين الإمبرياليات ليس دبلوماسيا إنما يرتكز على التنافس الاقتصادي، الذي أفضى إلى الاحتكارات الكبرى واستعمار الدول الفقيرة، وبالتالي بروز الاحتكار الاقتصادي الذي يرتكز على تصدير الرساميل وتقسيم العمل عالميا، والحرب الإمبريالية ما هي إلا نتيجة هذا الصراع، واكتشف أن الإمبريالية ما هي إلا أعلى مراحل تطور الرأسمالية، التي لا يمكن لها أن تحقق هذا الكم الهائل من وسائل الإنتاج إلا باضطهاد الشعوب الفقيرة، واعتبر أن تطور وسائل الإنتاج في الدول الإمبريالية، أدى إلى اضطهاد الشعوب الأخرى وتعتبر السكك الحديدية من بين هذه الوسائل، التي سخرتها الإمبرياليات لاضطهاد الشعوب خاصة في ذلك العصر.(46)
إن التطور الهائل لوسائل الإنتاج المادية والثقافية، تسخره الرأسمالية الإمبريالية للظفر بمزيد من الاحتكارات، عن طريق تصدير الرساميل وجلب المواد الخام من البلدان الفقيرة، الذي نتج عنه سيطرت المال على التجارة العالمية، التي تعتبر فيها السكك الحديدية "حاصل جميع الفروع الرئيسية في الصناعة الرأسمالية" كما يقول لينين، نظرا للدور الذي تقدمه للرأسمالية الإمبريالية، عبر تسهيل الاتصال بين جميع فروع الصناعة الرأسمالية وتطور التجارة العالمية.
وناضل لينين ضد تحريف المادية التاريخية من طرف الماخيين وعلى رأسهم بتسولدت(1862ـ1929)، الذي استعمل كلمة "الاستقرار" لتفسير علاقات الإنتاج، في كتابه "مقدمة إلى فلسفة التجربة الخالصة"، محاولا إرجاع كل ما يقوم به الناس أثناء الإنتاج إلى السعي وراء "الاستقرار"، معتبرا أن "التطور البشري ينطوي على هدفه" وهو يسير نحو "الحالة المستقرة الكاملة".(47)
وتناول لينين منظور بوغدانوف الذي يسميه تطوير الماركسية محاولا كشف العلاقة بين الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي، في مقال له تحت عنوان "تطور الحياة في الطبيعة وفي المجتمع" يقول فيها بوغدانوف عن ماركس:"العالم لااجتماعي الأعظم، أسس المادية التاريخية"، متهكما على خلاصات ماركس حول التطور الاجتماعي وعلاقته بالأساس الاقتصادي.(48)
وهكذا يعتقد أنه طور الماركسية، وقد طورها بتشويه استنتاجات ماركس التي تقول بأن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وأن مصدر أفكارنا هو الصراع بين القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة، وما أن يتغير الأساس الاقتصادي حتى تتغير البنية الفوقية أي أفكارنا.(49)
ويسمي لينين هؤلاء الأساتذة خدم الرأسمالية، ويوصي كل الماركسيين بمعرفة كيفية معاملة هؤلاء الخدم باستيعاب ومعالجة مكتسباتهم، وذلك بالقطع مع كل ما تحتويه من "ميل رجعي" بتطبيق الخط الماركسي ضد جميع "خطوط القوى والطبقات المعادية"، ذلك ما لم يستطع الماخيون القيام به وساروا وراء "الفلسفة الأستاذية الرجعية".
واعتبر لينين أن الماخيين بإنكارهم "الواقع الموضوعي المعطى لنا من خلال أحاسيسنا"، إنما يغرقون في الإيمانية وينزلقون إلى اللاعرفانية أو الذاتية، لأن العالم مادة متحركة ويجب دراستها "إلى ما لا نهاية"، إذ لا يمكن أن يكون ثمة شيء آخر خارج هذه المادة، والعداء الرائج ضد المادية في أوربا "المتمدنة والديمقراطية"، ما زال قائما حتى يومنا هذا، ويخفيه الأساتذة الرجعيون على الجماهير باعتبارهم خدما للرأسمالية.(50)
وقام لينين بالمقاربة بين الأسس النظرية للمذهب النقدي التجريبي اللاعرفانية والديالكتيك الماركسي المادي، وأجرى محاكمات فعلية للفلسفة الماخية، ووقف على "المسائل العرفانية الرجعية التامة"، التي تلازم هذا المذهب الذي استعمل كلمات سماها ب"الجديدة"، وارتكب عبرها الماخيون الأخطاء القديمة للمثالية واللاعرفانية، حيث لا يمكن الجمع بينه وبين المذهب الماركسي، كما سعوا للوصول إلى ذلك بطريقة لاعرفانية لجهلهم بالديالكتيك الماركسي مدعين أنهم يطورون الماركسية.
وحدد لينين موقع المذهب النقدي التجريبي باعتباره مدرسة فلسفية صغيرة بين المدارس الفلسفية الأخرى، حيث انطلق ماخ وأفيناريوس من كانط في الاتجاه المعاكس للمادية نحو هيوم وبركلي، في محاولة فاشلة لتطهير "التجربة"، ولم يقوما بغير تطهير اللاعرفانية من الكانطية، ورسخا المنظور المثالي في الفلسفة الماخية، في وحدة مع الكمونية الأشد إغراقا في الرجعية.
وأقر لينين أن الماخية في صلة وثيقة مع مدرسة في فرع من فروع العلوم الطبيعية الحديثة، التي تضم مجموع علماء الطبيعة خاصة في الفيزياء، الذين عجزوا أمام أزمة الفيزياء فانزلقوا عبر مفهوم النسبية نحو المثالية، بحكم جهلهم بالديالكتيك الماركسي، وتشبثوا بالمثالية الفيزيائية شأنها شأن المثالية الفيزيولوجية فيما قبل.
وأكد لينين أن المذهب النقدي التجريبي يتسم بالسكولايستيك العرفاني، الذي يحدد صراع الأحزاب في الفلسفة، من خلال صراع الطبقات المتناقضة في المجتمعات المعاصرة عبر أيديولوجيتها المتناقضة، واعتبر الفلسفة الحديثة حزبية مثلها مثل الفلسفة منذ القدم باعتبار المادية نقيض المثالية وهما في صراع دائم إلى الأبد.(51)
واستنتج لينين عبر نقده للمذهب النقدي التجريبي منظوره حول الديالكتيك الماركسي، الذي أعطاه بعدا أدق وأشمل، بتحديد أسس "الحركة الذاتية" عبر منظوره التالي:
"ـ إن ازدواج ما هو واحد ومعرفة جزأيه المتناقضين يشكلان جوهر الديالكتيك.
ـ إن تماثل الأضداد هو إقرار بميول متناقضة، متضادة، ينفي بعضها بعضا في جميع ظاهرات الطبيعة والمجتمع وتفاعلاتها.
ـ إن إدراك "الحركة الذاتية" لتفاعلات العالم، من حيث تطورها العفوي، من حيث واقعها الحي، ينبغي إدراكها من حيث هي وحدة من الأضداد، ويعطينا التاريخ مفهومين أساسيين للتطور:
ـ إن التطور هو نضال الأضداد، التطور بوصفه نقصانا وزيادة، بوصفه تكرارا.(المفهوم الأول).
ـ إن التطور بوصفه وحدة الأضداد ( إزدواج ما هو واحد، إلى ضدين ينفي أحدهما الآخر، وعلاقات بين الضدين). (المفهوم الثاني).
ـ المفهوم الأول جامد، عقيم، جاف، والمفهوم الثاني طافح بالنشاط و الحياة، وهو يعطينا مفتاح "الحركة الذاتية" لكل ما هو موجود (القفزات، الانقطاع في الاستمرار، تحول الشيء إلى ضده، تدمير ما هو قديم، ولادة ما هو جديد).
ـ إن وحدة الأضداد مشروطة، مؤقتة، نسبية، و نضال الأضداد التي ينفي بعضها بعضا، هو مطلق، كما هو عليه التطور، كما هو عليه الحركة.
ويقول لينين عن النسبية والمطلق :"إن الذاتية (الريبية والسفسطائية، إلخ) تختلف عن الديالكتيك، فيما تختلف عنه، بما يلي:
ـ إن الفرق بين النسبي والمطلق هو أيضا نسبي بنظر الديالكتيك (الموضوعي).
ـ بنظر الديالكتيك الموضوعي يوجد مطلق في النسبي.
ـ بنظر الذاتية والسفسطائية، فالنسبي ليس سوى نسبي، وهو ضد المطلق."(52)
وأكد لينين أن ماركس تناول في كتابه "رأس المال" أدق الجزئيات في الحركة داخل المجتمعات الرأسمالية، أبسط الأشياء، الأشياء العادية، أكثرها شيوعا، الأشياء الأساسية، تبادل البضائع، وقام بتحليلها وبين لنا "في هذه الظاهرة البسيطة جميع تناقضات المجتمع المعاصر"، وكذلك يجب أن يكون الديالكتيك بشكل عام في تناوله لجميع القضايا، تناول أبسط الجمل العادية، وأكثرها تواترا، لكن المادية "الميتافيزيقية" تعجز عن تطبيق الديالكتيك "على مجرى المعرفة وتطورها" كما قامت بذلك المادية التاريخية. ويقول لينين عن الديالكتيك :"الديالكتيك، بوصفه معرفة حية، متعددة الجوانب (إذ أن الجوانب تتكاثر بلا انقطاع)، مع ما لا حد له من الأشكال والألوان، بغية مجابهة الواقع، بغية الاقتراب من الواقع (مع نهج فلسفي ينبثق من كل شكل ولون ليشكل كلا واحدا)، ذلك هو محتوى فائق الغنى بالنسبة للمادية "الميتافيزيقية"، التي مصيبتها الكبرى أنها غير أهل لتطبيق الديالكتيك على Bildertheorie(نظرية الانعكاس )، على مجرى المعرفة و تطورها".(53)
وسار ستالين على نهج لينين في تناوله للديالكتيك الماركسي، وتطبيقه على طبيعة الحركة الذاتية في الحزب الشيوعي، في التعاطي مع تناقضاته الداخلية، في تطوره عبر تطبيق المادية التاريخية، ومن خلال دراسة وتحليل الإرث النظري الذي خلفه لينين، وأعطى تعريفا أبعد للديالكتيك في علاقته بالتطور التاريخي للحزب الماركسي اللينيني.(54)
وأكد ستالين أقوال لينين حول الحركة الذاتية وعلاقتها بالواقع الموضوعي، في علاقتها بقوانين العالم الموضوعي، بأحد أهم هذه القوانين أي "التناقض" في ظل الوحدة، في علاقتها بالخاص والعام، النسبي والمطلق، الذاتي والموضوعي.(55)
واعتبر ستالين أنه لا يمكن تناول الظواهر بمعزل عن الواقع الموضوعي، ولا يمكن فهم هذه الظاهرة عندما نأخذها بذاتها ، فهي في ترابط مع غيرها من الظواهر المحيط بها، مع الظروف المحيطة بها.(56)
وكما أن الظواهر غير مستقلة عن بعضها البعض، فإنه لا بد من اعتبار حركتها وتغيرها وتطورها، في نشوئها وزوالها بارتباطها مع تناقضاتها وعلاقاتها، وتناقض الأضداد في صراعها ونضالها من أجل نفي بعضها لبعض.
وتناول ستالين مفهوم التطور الذي أعطاه لينين بعدا أدق "التطور هو نضال الأضداد... التطور بوصفه وحدة الأضداد"، وهو ليس عملية بسيطة باعتباره يجري في ظل الحركة.(57)
والديالكتيك الماركسي هو نتاج الحركة المعرفية للمادية الجدلية والمادية التاريخية في صراعهما مع المادية الميتافيزيقية، التي ترى في نظرتها الذاتية للوقائع التاريخية باعتبارها نتاج الفكر، مستقلة عن الواقع الموضوعي، باعتبار الظواهر مستقلة عن الجوهر، عكس الديالكتيك الماركسي الذي ينطلق من المادة باعتبارها الواقع الموضوعي للوصول إلى الفكر، وأن قياس المعرفة غير ممكن إلا عبر العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع الموضوعي، ومعرفة قوانين التطور الطبيعي والاجتماعي أمر ممكن التوصل إليه، كما يمكن تطويع هذه القوانين وتسخيرها في سبيل تطور الأنظمة الاجتماعية.(58)
والمادية التاريخية تستند إلى العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، بين الواقع الموضوعي والإدراك، باعتبار أفكارنا وتصوراتنا انعكاسا للواقع الموضوعي عبر إحساساتنا، التي يمكن أن تعكس الوجود الاجتماعي في وعينا بشكل يقترب من الحقيقة، إذا كان هناك وجود للوعي، والبحث عن الحقيقة لا يتم عبر الأفكار والتصورات السياسية والأيديولوجية، إنما يكون انطلاقا من الوجود الاجتماعي ومعرفة هذا الوجود بواسطة الديالكتيك.(59)
وهذا لا يعني عدم أهمية الأفكار في التطور الاجتماعي، فالعلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة لها أهمية قصوى في حركة المجتمع. ويقول لينين:"لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية".(60)
وأكد ستالين أن مصادر الأفكار والنظريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والفلسفية والفنية وغيرها، يكمن في شروط الحياة المادية للمجتمع/شروط الوجود الاجتماعي.
وتعتبر الأفكار والنظريات انعكاسا لشروط الحياة المادية للمجتمعات البشرية وهي تمارس بدورها تأثيرها على تطور شروط الحياة المادية للمجتمعات البشرية/الوجود الاجتماعي والقاعدة الاقتصادية للمجتمع. ويقول ماركس:"إن النظرية تصبح قوة مادية عندما تتغلغل في الجماهير".(61)
وللنظرية دور فعال في تحريك التاريخ عبر الصراع الطبقي، عندما تكون هذه النظرية في مستوى المهام المطروحة على قوى التغيير الاجتماعي، وحينما يتم بلورتها نضاليا وتنظيميا في أوساط الجماهير.(62)
وعلى الحزب البروليتاري البحث عن القوة الرئيسية في تطور المجتمع، ذلك ما يمكن أن يحدده عبر تحريكه للصراع الطبقي، باعتبار هذا الأخير المحرك الأساسي للتاريخ، وهو يكمن في التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.(63)

الأساس الاقتصادي والتحولات المعرفية

إن للأساس الاقتصادي أهمية قصوى في التحولات المعرفية، فكلما طرأ عليه تغيير إلا وتغيرت المعرفة التي تلازمه، ولا يمكن البحث عن جذور حدث فكري معين وعن مصادره الاجتماعية بالاكتفاء بمستوى تطور القوى المنتجة، بل يتم ذلك بالمعرفة الكاملة للنظام الاقتصادي للمجتمع ككل، وذلك بالبحث عن التوافق أو عدم التوافق بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، ويجب البحث عن مصادر الأفكار الجديدة في الصراع بين القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة. ويقول ستالين:
ـ الأفكار التقدمية مصدرها القوى المنتجة الجديدة في صراعها مع علاقات الإنتاج القديمة.
ـ التناقض بين علاقات الإنتاج في النظام الاقتصادي السائد والقوى المنتجة الجديدة، هو مصدر النزاعات الاجتماعية وتنامي الصراع الطبقي وبالتالي مصدر الثورات الاجتماعية.
لقد عبد لينين الطريق للماركسيين اللينينين بتطويره للديالكتيك الماركسي على مستوى المعرفة برفعه إلى مستوى أعلى، وسار ستالين في نهجه بتطبيق خلاصاته حول الديالكتيك الماركسي على مستوى تطوير الحزب الماركسي اللينيني، وقيادته للثورة الاشتراكية والحرب ضد الإمبريالية، واستفاد ماو من أعمال ستالين حول الديالكتيك وأسس اللينينية، وأكد على ضرورة إخراج مسألة الديالكتيك الماركسي من إطاره الفلسفي، ليصبح أداة للتحليل في متناول الجماهير الشعبية.
يقول ماو:"برأيي يجب أن يبتعد الجدل عن حلقة الفلاسفة ليتجه نحو أوسع الجماهير الشعبية".(64)
وعمل ماو على تيسير الديالكتيك الماركسي حتى يصبح في متناول الجماهير الشعبية التي لا تحمل ثقافة عالية، محاولا ربط خلاصاته بإدماج الثقافات الشعبية الصينية التي يتداولها أوسع الجماهير الشعبية، من أجل بلورة الديالكتيك الماركسي في الحياة اليومية للطبقة العاملة والفلاحين، خاصة داخل الحزب الشيوعي الصيني الذي يجب أن ينفتح على أوسع الجماهير.
ويقول ماو:"من الضروري الدخول في حملة إعلامية واسعة النطاق حول مفهوم وحدة المتناقضات وحول الجدل".(65)
ولكن بعض الماركسيين اللينينيين لا يدركون كنه أعمال ماو وعلاقتها بالمستوى الأعلى للديالكتيك الماركسي عند لينين، وهو هذه الصيغة الجماهيرية لممارسة الديالكتيك الماركسي التي يسعى إليها ماو، التي أكد عليها لينين في كتاباته، وهناك من يريدون تحميل أعمال ماو أكثر مما هي عليه، وبذلك يعملون على قلب الديالكتيك الماركسي ويسمون أنفسهم "ماويين"، حيث لم يفهموا مقولة ماو حول الحزب التي استنتجها من أعمال لينين "في مسألة الديالكتيك"، ويقولون أن ماو دفع بالديالكتيك إلى مستوى أعلى من المذهب الماركسي اللينيني، وبذلك خرجوا عن نطاق الحركة الماركسية اللينينية إلى الحركة التحريفية الحديثة، حيث لم يخرج ماو عن نطاق الديالكتيك الماركسي ولم يدعي أنه طوره إلى أعلى مستوى، بقدر ما حاول تبسيطه لكن في تبسيط ما لا يمكن تبسيط في العلم يوقع صاحبه في الأخطاء.(66)
إن مقولة ماو هذه هي من صلب خلاصات لينين حول الديالكتيك الماركسي، وقد سبق لماو أن استشهد بهذه الخلاصات في أعماله حول فهم العالم، باعتبار الديالكتيك الماركسي أداة لضبط قوانين الطبيعة والمجتمع.(67)
وكان هاجس ماو مثله في ذلك مثل ستالين، هو تطوير الحركة داخل الحزب الشيوعي، الذي يعتبر أداة لتنظيم البروليتاريا وحلفائها وبالتالي تنظيم الجماهير الشعبية وقيادة الثورة، من خلال ضبط التناقضات داخل الحزب التي تلعب دورها في تطوير حركة الحزب، في علاقاتها بالتناقض الذي يحكم الصراعات بالواقع الموضوعي، في علاقتها بالصراعات بالحزب، وهي نتاج الصراعات الموضوعية في المجتمع، لذا وجب على الحزب أن يطور أيديولوجيته وفق تطور التناقضات داخل المجتمع، على اعتبار أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي كما قال ماركس.(68)
لقد حدد لينين صراع الأضداد في ظل الوحدة ودورها في تطور الحركة الذاتية في علاقاتها بالحركة الموضوعية، وتجليات الديالكتيك في الطبيعة والمجتمع تتضح في الأشياء البسيطة كما تتجلى في الأشياء المعقدة، ومهمة الماركسيين اللينينيين هي تطبيق الديالكتيك الماركسي على أوسع نطاق من البسيط إلى المعقد، في الحياة الخاصة والعامة، في ممارساتنا اليومية الشخصية والسياسية والتنظيمية، في الطبيعة والمجتمع، لضبط أسس التطور داخل الحزب البروليتاري الثوري في علاقته بالمجتمع.(69)
وعمل على دحض مزاعم التحريفية حول تفوق المفاهيم البورجوازية على التصورات الماركسية اللينينية، التي اتخذت هذه المفاهيم لشن حربها ضد النضال الطبقي، الذي حاولت تعويضه بممارسة "الحرية السياسية" و"الديمقراطية" و"الاقتراع العام"... ونفت صفة السيطرة الطبقية عن الدولة، وجعلت من البورجوازية والاشتراكية الإصلاحية حلفاء ضد الرجعية، ما دامت الديمقراطية تتيح المجال لإرادة الأغلبية حسب زعمهم، وهم في دعايتها لمفاهيم البورجوازية تنسى أن هذه المفاهيم معروفة منذ أمد طويل، ولا يمكن للبرلمانية البورجوازية أن تقضي على الطبقات.
والتحريفيون يعتقدون أن الطبقات ستزول عندما يتمتع "المواطنون" ب"حق التصويت" وب"حق المشاركة في تسيير شؤون الدولة"، وتاريخ الثورات الأوربية خلال النصف الأخير من القرن 19 والثورة الروسية في بداية القرن 20 يكذب أقوالهم هذه.
وأكد أن النزعة التحريفية ظاهرة عالمية تستقي جذورها الطبقية من المجتمع المعاصر، الذي تسود فيه الرأسمالية بكونها نظاما تناحريا يحتوي على الطبقة الوسطى، فإلى جانب الطبقة البروليتارية توجد مختلف فئات البورجوازية الصغيرة، خاصة صغار أرباب العمل، الذين يعتبرون عماد الإنتاج الصغير، الذي انبثقت منه الرأسمالية ولا زالت تنبثق منه إلى يومنا هذا، والرأسمالية تعمل على خلق فئات جديدة من البورجوازية الصغيرة تعتمد عليها لتجديد نفسها، والتي ينتظرها حتما العصف بها إلى صفوف البروليتاريا عندما تشتد أزمة الرأسمالية، وهذه الفئات تكون قائمة في أطوار الثورة البروليتارية حيث لا يمكن تحويل غالبية السكان إلى بروليتاريا لكي تتحقق الثورة.
لهذا نادى لينين بالتحالف بين البروليتاريا والفلاحين الصغار والفقراء من أجل إنجاز الثورة الديمقراطية البروليتارية.
لقد صاغ لينين نظرية الحزب الثوري ببلورة المفهوم الثوري للحزب في كتابه "ما العمل؟"، وأسس الحزب البلشفي الذي قاد الثورة الديمقراطية البروليتارية في أكتوبر 1917، و قاد نضالا مريرا ضد التحريفية في الأممية الثانية داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، واستفاد كثيرا من الثورة الأولى بروسيا في 1905، لترسيخ نظرية الحزب الثوري بعد انقسام الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي إلى بلاشفة ومناشفة، حيث تراجعت جميع الأحزاب عن النضال الثوري بعد هزيمة الثورة إلا الحزب البلشفي، الذي صمد في وجه قمع القيصرية للمناضلين الثوريين، في الوقت الذي ساد فيه التراجع عن المبادئ الثورية داخل جميع الأحزاب اليسارية.
لقد شكلت هذه الفترة لحظة الفصل بين الأزمة الفكرية للبورجوازية الصغيرة المثقفة، التي يسيطر عليها الفكر التحريفي، والنضال الثوري البروليتاري بقيادة البلاشفة، وككل مرحلة ما بعد أزمة ثورة يعيش الفكر الذي ينبثق عن هذه الأزمة انحطاطا صارخا إلا الفكر الثوري. كما قال لينين عن ظروف أزمة ما بعد ثورة 1905.(70)
لقد تعلم لينين دروسا عظيمة في فشل هذه الثورة واستخلص منها عبرا عظيمة من أجل البناء الحقيقي للحزب الثوري ورسخ أسسه النظرية، وذلك من خلال العلاقة الجدلية بين السرية والعلنية، بين العمل الثوري للمحترفين الثوريين والعمل الجماهيري للمنظمات العمالية، وكانت نتائج هذه الثورة من جهة أخرى عظيمة حيث أرغمت القيصرية على الاستعجال بالقضاء على جل مظاهر ما قبل الرأسمالية، مما فرض البناء الديمقراطي البورجوازي للدولة القيصرية الشيء الذي ساهم في إبراز الصراع الطبقي بشكل واضح، وأول درس في الحرب مع البورجوازية استخلصه لينين هو كيف تعلمت البروليتاريا قبل الثورة كيفية الهجوم وتعلمت بعد فشل الثورة كيفية التراجع الصحيح. يقول لينين:"إنه يستحيل الانتصار بدون تعلم علم الهجوم الصحيح والتراجع الصحيح". كتاب: ضد الجمود العقائدي والانعزالية في الحركة العمالية.
وكان الحزب البولشفي هو الوحيد الذي استطاع الخروج من هزيمة الثورة قويا عكس الأحزاب التي تقودها التحريفية الانتهازية، وانتصر البلاشفة على المناشفة الذين استغلتهم القيصرية ضد الثورة منذ 1905 كعملاء للبورجوازية داخل الحركة العمالية، وكان انتصار البولشفية نتيجة تاكتيك استعمال فن العلاقة الجدلية بين السرية والعلنية، واستطاع البلاشفة بذلك احتلال جميع المقاعد العمالية بالدوما الرجعية.
واستفاد لينين من حوادث "لينا" التي تم فيها إطلاق النار على العمال المضربين في مناجم الذهب، التي نتج عنها التضامن العمالي الذي أسفر عن المظاهرات في الشوارع والإضرابات والاجتماعات المنظمة في جميع أنحاء روسيا.
وقاد نضالا مريرا ضد التحريفيين الانتهازيين داخل الأممية الثانية خاصة أثناء الحرب الإمبريالية الأولى التي كشفت زيف ادعاءاتهم التي يقودها كاوتسكي، وذلك بالدعاية للحرب باسم الدفاع عن الوطن في الوقت الذي يناضل فيه البرلمانيون البلاشفة بالدوما ضد الحرب مما دفع النظام القيصري إلى نفيهم إلى سيبيريا. وناضل لينين ضد المناشفة الذين اتخذوا الكولاك/الملاكين العقاريين حلفاء البروليتاريا ضد الرأسماليين ودافع عن التحالف البروليتاري مع الفلاحين الصغار والفقراء والبورجوازية الصغيرة الثورية.
وكان للحزب البلشفي دور هام في بلورة مفهوم النضال الثوري بالحد بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي، بالحد بين المهام الثورية للمناضلين الثوريين المحترفين والنضال الجماهيري. يقول لينين:"ينبغي لمنظمة الثوريين أن تضم بالدرجة الأولى وبصورة رئيسية أناسا يكون النشاط الثوري مهنتهم (ولذلك أتحدث عن منظمة الثوريين، وأنا أعني الثوريين-الاشتراكيين-الديموقراطيين). وحيال هذه الصفة المشتركة بين أعضاء مثل هذه المنظمة ينبغي أن يمحى بصورة تامة كل فرق بين العمال والمثقفين فضلا عن الفروق بين مهن هؤلاء وأولئك على اختلافها. ينبغي لهذه المنظمة بالضرورة أن لا تكون واسعة جدا، وأن تكون على أكثر ما يمكن من السرية".(71)
وركز لينين في كتابه "بم نبأ؟" على أهمية العمل في الوقت نفسه، في جميع الجوانب ذات البعد الثوري، لبناء المنظمة التي يحتاجها الماركسيون اللينينيون، ولن يتم ذلك إلا ب"الانفصال التام عن الاقتصاديين" وأن الممارسة الثورية تتطلب منظمة المحترفين الثوريين الذين تكون مهمتهم الأولى هي الممارسة السياسية في إطار منظمة ثورية، وقد أجاب عن هذا السؤال في كتابه ما العمل؟ الذي تناول فيه مسألة حرية النقد باعتبارها الأسلوب الأمثل في متناول قضايا الاشتراكية ـ الديمقراطية، هذا الأسلوب الذي كثر الحديث عنه في أوساط المثقفين والمنابر السياسية والجامعية والذي يتخذ شكل النقد البورجوازي للماركسية، للسعي إلى بناء أحزاب ليست للثورة الاجتماعية ولكن أحزاب ديمقراطية للإصلاحات الاجتماعية. يقول لينين:"وقد أعلن برنشتين وأظهر ميليرإن بما يكفي من الوضوح فحوى الاتجاه "الجديد" الذي يأخذ من الماركسية "القديمة، الجامدة"، موقفا "نقديا". ينبغي للاشتراكية-الديموقراطية أن تتحول من حزب للثورة الاجتماعية إلى حزب ديموقراطي للإصلاحات الاجتماعية.(72)
وانتقد موقف برينتشتين هذا حول الحزب الثوري الذي يستهدف إلغاء دوره في الحركة الثورية من أجل الاشتراكية انطلاقا من نقده لموقفه من المادية التاريخية التي لا يرى فيها برينتشتين أساسا للنظرية الثورية، مما جعله يتنكر لفكرة ديكتاتورية البروليتاريا والصراع الطبقي والتنافض بين الليبرالية والاشتراكية سعيا إلى إلغاء الثورة الديمقراطية البروليتارية، هذا الموقف من الحزب الثوري جعل برينتشتين يركز هجومه على الماركسية بخلق اتجاه معاد للديالكتيك الماركسي.((73
وفتح برينتشتين الباب للنقد البورجوازي في أوساط الماركسيين باسم "حرية النقد"، التي لا تعني لدى التحريفية إلا "حرية الاتجاه الانتهازي"، من أجل بناء أحزاب إصلاحية، "حرية إدخال الأفكار البورجوازية على الماركسية" من أجل إدخال "العناصر البورجوازية" على الاشتراكية، لتكريس استغلال الرأسمال للعمل، حرية الصناعة التي تنشر حروب النهب والسلب ونهب الشغيلة باسم حرية العمل، من أجل تحويل الحركة العمالية الثورية إلى "ذيل لليبرالية"، وتركيز مفهوم الاقتصادية في صفوفها من طرف البرينتشتينيين، في أفق دمج المثقفين الماركسيين مع الليبراليين، في العمل السياسي البورجوازي، الذي يحارب النقد الماركسي للرأسمالية.
وكانت الحرب الإمبريالية ما بين 1914 و1918 مناسبة هامة لإشعال الحرب بين البلاشفة والقيصرية، من خلال مناهضة النواب البرلمانيين البلاشفة دخول روسيا الحرب الإمبريالية الأولى، والذين رفضوا التصويت لصالح الاعتمادات الحربية، وقاموا بالدعاية ضد الحرب في أوساط الجماهير، مما دفع القيصرية إلى اعتقالهم ومحاكمتهم ونفيهم إلى سيبيريا، في الوقت التي باركت فيه التحريفية خوض هذه الحرب الاستعمارية.(74)
لقد امتدت مرحلة التهيئ للثورة البولشيفية منذ تأسيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي، إلى حين انتصار البلاشفة على القيصرية والتحريفية في أكتوبر 1917، وكان للحزب البلشفي دور هام في إنجاح الثورة الديمقراطية البروليتارية، والذي أعطاه لينين أهمية قصوى، وذلك بتعزيز ما أسماه العمل في "المؤخرة"، بنشر العمل السياسي بين الجماهير الشعبية، حيث لم يقتصر فقط على إعطاء الأهمية للدعائية السياسية للحزب، بل ساهم بشكل شخصي في الأنشطة السياسية عبر الخطب في اجتماعات العمال والجنود الحمر ونشر المقالات في الصحف، وكان لينين يؤكد على أهمية "المؤخرة المتماسكة" و"التنظيم الانضباطي الواعي"، باعتبارهما من أهم الشروط الأساسية لانتصار الثورة الديمقراطية البروليتارية.
وللحفاظ على مكاسب الثورة الديمقراطية البروليتارية كان لينين يلح على الأهمية القصوى لتدقيق قوانين وتوجهات السلطة السوفييتية بقيادة البروليتاريا، والعمل على مكافحة المضاربين والمخربين والجواسيس، الذين يعملون لصالح الجيش الأبيض في المؤخرة السوفييتية، كل ذلك من أجل مواجهة رأسمالية قوية.(75)
وقاد الحزب البلشفي الحرب ضد اللصوص الملاكين العقاريين والرأسماليين، عبر بناء الجيش الأحمر من العمال والفلاحين، وكانت مجابهة قيادة الضباط القدماء الذين يتعاطفون مع الملاكين العقاريين والرأسماليين، مهمة صعبة تعرضت المهام الثورية، بعد تسجيل الخيانات في صفوف هؤلاء الضباط القدماء.
واعتبر لينين أن "نظام الطاعة" داخل الجيش الأحمر الذي اعتنقه العمال والفلاحون عن وعي، هو السلاح الأساسي ضد أي مؤامرة تحاك ضد الثورة الديمقراطية البروليتارية.
لقد استفاد لينين كثيرا من الحرب الأهلية وجعلها مناسبة تاريخية لتعزيز مكانة الحزب البلشفي، حيث قررت اللجنة المركزية للحزب تمتين "الوحدة العسكرية بين الجمهوريات السوفييتية وبين الجمهورية الروسية الاتحادية"، من أجل ترسيخ بناء الوحدة داخل الحزب خدمة للحرب الدفاعية عن الثورة الاشتراكية، والوطن الاشتراكي.
وعمل لينين على المتابعة اليومية لأطوار الحرب الأهلية في "جميع الجبهات" وفي "المؤخرة"، أي في أوساط الجماهير الشعبية، وكان ل"التربية على الخصال والأخلاق الشيوعية" لدى الجيش، دور هام في الانتصار على الأعداء الطبقيين، والذي تم بفضل البناء الحزبي المتين الذي مكنه من قيادة "حرب الدفاع عن المجتمع الاشتراكي".
وخاض لينين صراعا مريرا ضد التحريفيين حول كيفية الرد على الحرب، الذين يزعمون أن "الإضراب والثورة" هو الرد الصحيح، وعملوا على نشر زعمهم هذا في أوساط الطبقة العاملة.
واعتبر لينين أن "الإضراب والثورة" أمر مستحيل في الحرب ضد الإمبريالية، التي تستهدف إسقاط الثورة الاشتراكية، ذلك ما أثبتته نتائج الحرب الأهلية، التي انتصرت فيها البلشفية، لكون التنظيم العادي للبروليتاريا يعجز عن الرد الحاسم على الحرب المضادة للثورة، التي تتطلب الدفاع عن الوطن الاشتراكي.
واعتبر أن "التنظيم السري طويل الأمد ضد الحرب" ضروري لقيادة الثوريين لهذه الحرب والانتصار فيها.
وقد سبق للنواب البرلمانيين البلشفيين أن قاوموا بالدعاية والتحريض ضد الحرب الإمبريالية الأولى، وكان مصيرهم الاعتقال والمحاكمة والنفي، مما أكد عدم إمكانية مجابهة أعداء العمال والفلاحين ب"الإضراب والثورة" في الحرب الأهلية، الشيء الذي ركز مفهوم "الدفاع عن الوطن الاشتراكي"، عبر بناء "القدرة الدفاعية"، التي تطلبت سياسة "السلام الدولية"، بالنضال ضد الحروب الإمبريالية.
وقام لينين بإرسال وفد إلى مؤتمر لاهاي ل"الدفاع عن النضال ضد الحرب" عبر فضح الرأسماليين الذين يدعون أنهم ضد الحرب، مما فضح ادعاءات التحريفيين حول السلام في ظل الإمبريالية.(76)
إن الأحداث التاريخية التي تلت ثورة 1905 قد شكلت مقدمات إنجاز الثورة الثانية، التي استولت فيها التحريفية على السلطة في فبراير 1917، مما جعل لينين يناضل من أجل استرجاع السلطة بقيادة البروليتاريا، في ظل دولة دكتاتورية البروليتاريا في أكتوبر 1917، وحارب التحريفية والإمبريالية معا دفاعا عن الثورة الاشتراكية، والوطن الاشتراكي في الحرب الأهلية.(77)
هكذا بدأ الحزب البلشفي تدخله بعد إنجاز مهمة الثورة الاشتراكية التي لا تعتبر إلا لحظة تاريخية، حققها التحول الكمي في القوى المنتجة بروسيا، التي أعطت التحول الكيفي، الذي أعطى فجر المجتمع الاشتراكي، ولكن هذا الإنجاز العظيم ليس بالمهمة السهلة في ظل الحرب الإمبريالية الأولى، التي يمكن أن تكون عائقا أساسيا أمام البناء الاشتراكي.
والحرب كانت من بين عوائق نجاح الثورة الاشتراكية، حيث اضطر لينين من باب الدفاع عن الوطن الاشتراكي إلى أن يضع جميع القوى والموارد بالبلاد في خدمة هذا الغرض، كما عمل على استنفار جميع المنظمات الثورية في جميع بقاع البلاد، من منظمات السكك الحديدية، السوفييتات والمواصلات لحماية جميع احتياطات الحبوب، المأكولات وجميع الأموال التي تتهدد بالسقوط في يد العدو، وتجنيد جمع العمال والفلاحين في كتائب وكذا الطبقة البورجوازية الصغيرة القادرة على العمل، رجالا ونساء، كل هذا الاستنفار من أجل الدفاع عن الثورة الاشتراكية، فكيف يمكن للحرب الإمبريالية أن تكون عونا لإنجاح الثورة الاشتراكية ؟
بالإضافة إلى ذلك هناك مهمة القضاء على الأعداء الداخليين من البورجوازية المحلية بتحالف مع التحريفية، التي سخرت أقلامها ضد سياسية الدفاع عن الوطن الاشتراكي، والواقفة إلى جانب البورجوازية الألمانية، التي سعت إلى استغلال الحرب الإمبريالية من أجل الاستيلاء على السلطة، إنها حرب داخلية وخارجية تنبأ لينين لوقوعها منذ فشل الثورة الأولى في 1905، التي تم التهيئ لها منذ قرار تأسيس الحزب البلشفي في 1900.(78)
وعمل لينين على دحض ادعاءات زعماء الأمية الثانية وعلى رأسهم كاوتسكي، الماركسي المرتد قائد الانتهازيين، الذي قام بتحريف مفهوم الثورة لتعويضها بالإصلاحية البرلمانية، حين كانت أحزاب الأممية الثانية هي السائدة في خدمة الدعاية للبرلمانية ضد الثورة، واعتبر كاوتسكي الأحزاب أدوات للسلم، والأحزاب الإصلاحية في نظر لينين لا تصلح لخدمة البروليتاريا، لكونها تعمل لخدمة مصالح البورجوازية، وهي تقوم بالدعاية المفرطة للبرلمانية، وهي أجهزة انتخابية يشكل أعضاؤها كتلا داخل البرلمان، مما جعل هذه الأحزاب ذيلية لهذه الكتل في عجز تام عن خدمة مصالح البروليتاريا.(79)
وفي مرحلة المد الثوري التي شكل فيها القضاء على الاستعمار والسيطرة على الحكم من طرف البروليتاريا المهمتين الأساسيتين، أصبح الحزب الماركسي اللينيني هو المنظمة الأساسية في الصراع الطبقي، يعمل على تثقيف البروليتاريا وإعدادها للسيطرة على الحكم، وأصبح من الضروري بناء حزب ثوري باستطاعته إنجاز المهام الجديدة، في ظل شروط جديدة، في ظل تهيئ البروليتاريا لخوض معركة الثورة، من أجل بناء دولة ديكتاتورية البروليتاريا.
وأكد لينين على أهمية قيادة الحزب البروليتاري للثورة الديمقراطية البروليتارية دفاعا عن مصالح الطبقة البروليتارية، خاصة في حالة الحرب، حينما يكون تنظيما للطبقة برمتها ضد الأعداء الطبقيين، ضد الرأسماليين الإمبرياليين.(80)
وهذا الحزب هو الحزب الماركسي ـ اللينيني وهو فصيلة الطليعة الثورية للبروليتاريا متسلح بالنظرية الثورية، ملم بقوانين الحركة الثورية، يستطيع قيادة البروليتاريا، لا يكون تابعا للحركة العفوية للجماهير، بل يكون قادرا على الرفع من مستوى الجماهير لمعرفة مصالحها. ولا يمكن للحزب أن يقوم بهذا الدور إلا عندما يكون فصيلة الطليعة، و أكثر من ذلك فصيلة من الطبقة، جزءا من الطبقة ، باستطاعته توطيد العلاقة مع باقي الجماهير غير الحزبيين ، وأن تقبل الجماهير القيادة الحزبية.(81)

حول التاكتيك والإستراتيجية

ولابد للحزب الثوري من إستراتيجية وتكتيك منسجمتين ومدروستين في علاقتهما بالحركة الثورية. وبالرجوع إلى أعمال ماركس وإنجلز قام لينين بكشف أهم ما أنجزته الماركسية في هذا المجال، والتي تم طمسها من طرف انتهازية الأممية الثانية، وطور مفهوم الحزب، ودفع به إلى الأمام وصاغ المبادئ الأساسية للحزب الثوري، التي يجب اتباعها من أجل السيطرة على الحكم من طرف البروليتاريا، وأسس بذلك علم قيادة نضال البروليتاريا الثوري، الذي استفاد منه ستالين في قيادة الحزب في البناء الديمقراطي البروليتاري في الاتحاد السوفييتي.(82)
ولتعميق بعد التناقض في التعاطي مع المهام الثورية في علاقتها بتطور الحزب البروليتاري، تناول لينين مسألتي الإستراتيجية والتاكتيك كأسلوبي العمل في الحرب في علاقتهما بالإصلاحية والثورة، في علاقتهما بدور الحزب في قيادة الثورة، وصاغ أسس القيادة الثورية في ارتباطها بالشروط الأساسية لخوض معركة الثورة، من خلال العلاقة بين القيادة الإستراتيجية والقيادة التاكتيكية في كل مرحلة من مراحل الثورة.
و حدد لينين شروط استخدام قوى الثورة إستراتيجياً كما يلي:
ـ ينبغي عدم اللعب أبداً بالثورة المسلحة، وعند البدء بها، ينبغي العلم بقوة ووضوح أن من الواجب السير بها إلى النهاية.
ـ من الضروري حشد قوى متفوقة كثيراً على قوى العدو، في المكان الحاسم وفي اللحظة الحاسمة، وإلا فإن العدو، وهو أحسن استعداداً وتنظيماً، يبيد الثائرين.
ـ حين تبدأ الثورة المسلحة ينبغي العمل بأعظم عزيمة وحزم، والانتقال من كل بد، وبصورة مطلقة، إلى الهجوم. الدفاع هو موت الثورة المسلحة .
ـ ينبغي السعي لأخذ العدو على حين غرة، واختيار اللحظة التي تكون فيها جيوشه مبعثرة.
ـ ينبغي الحصول على نجاحات، حتى ولو كانت صغيرة، كل يوم (ويمكن القول كل ساعة، إذا كانت القضية تتعلق بمدينة واحدة)، والاحتفاظ، مهما كان الثمن، بـ التفوق المعنوي.(83)
ويمكن اعتبار اللحظة قد حانت للمعركة الحاسمة إذا:
ـ كانت القوى الطبقية المعادية لنا قد غرقت بصورة كافية في الصعوبات، ومزق بعضها بعضاً إلى حد كاف، وأضعفت نفسها إلى درجة كافية، بنضال هو فوق طاقتها.
ـ كانت جميع العناصر المتوسطة، المترددة، المتخاذلة، المترجرجة ـ أي البرجوازية الصغيرة، الديمقراطية البرجوازية الصغيرة، بوصفها مختلفة عن البرجوازية ـ قد افتضحت بصورة كافية أمام الشعب، واكتسبت الخزي والعار بإفلاسها العملي.
ـ بدأت في صفوف البروليتاريا، وأخذت ترتفع بقوة، حالة فكرية جماهيرية لتأييد أشد الأعمال حزماً وعزماً وجرأة ثورية، ضد البرجوازية. عندها تكون الثورة قد نضجت.
وعندها، إذا أخذنا بعين الاعتبار جميع الشروط المذكورة أعلاه... وإذا اخترنا للحظة اختياراً صحيحاً. يكون انتصارنا مضموناً.(84)
ولابد للحركة الثورية من القيادة التكتيكية التي تعتبر ضرورية لإنجاز مهما القيادة الإستراتيجية، وهي التي تعمل على تيسير عمل البروليتاريا في كل مرحلة من مراحل الثورة، من حيث هي أداة لضبط السير النضالي والتنظيمي للبروليتاريا وضبط أشكالها ومهماتها.(85)
ـ في كل لحظة معينة، العثور في سلسلة التطورات، على الحلقة الخاصة التي يسمح الإمساك بها، بالتمكن من كل السلسلة وتهيئة الشروط للنجاح الإستراتيجي.(86)
وميز لينين بين التكتيك الإصلاحي والتكتيك الثوري بحيث الأول يخدم مصالح الانتهازية، التي تسخر الإصلاحات خدمة لمصالحها الانتهازية، أما التكتيك الثوري، فهو ليس ضد الإصلاحات، ولكن شريطة أن تخدم مصلحة الثورة والبروليتاريا، فالانتهازية تضع الإصلاحية في المقام الأول، تستعيض بها عن الثورة، تسخرها ضد الثورة خدمة للبورجوازية، والحزب الماركسي ـ اللينيني يضع الثورة في المقام الأول، باعتبارها مسألة إستراتيجية، والتكتيك الثوري يضع الإصلاحية في خدمة الثورة.(87)
واستفاد ستالين من دروس علم الإستراتيجية والتكتيك الذي وضعه لينين وقاد البناء الثوري في الإتحاد السوفييتي، بكل حزم الانضباط والطاعة الحديديين للحزب البروليتاري الثوري، وبذلك استطاع سحق قوات الفاشية والنازية الاستعماريتين خلال الحرب الإمبريالية الثانية، واستطاع منعها من التغلغل في اتجاه الشرق الذي نمت فيه شروط الثورة الديمقراطية البروليتارية. ونجح ستالين في بلورة مفهوم العلاقة الجدلية بين قيادة الحرب وبناء الحزب الثورة الذي يقود الانتصارات ضد الإمبريالية.
وعمل ماو على تطبيق خلاصات لينين حول الديالكتيك الماركسي على مجريات الثورة الصينية، خاصة في أحلك مراحلها وهي أثناء المعركة المسلحة، مستفيدا من خلاصات لينين حول الحزب والحرب، والتي حدد فيها لينين شروط النجاح لكسب المعركة خاصة في أعلى مراحلها وهي المعركة المسلحة "شروط استخدام قوى الثورة إستراتيجياً" كما سماها لينين.
وطبق ماو هذه الشروط في العلاقة بين الحرب النظامية وحرب العصابات، واستطاع كسب الثورة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي الصيني لمعركة حرب التحرير الشعبية، ضد الإمبريالية والانتهازية، مستعينا في ذلك بالعلاقة بين الإستراتيجية والتكتيك، التي أعطاها ستالين بعدا أدق وأشمل في قيادته للحرب ضد الفاشية والنازية.(88)
وتناول ماو ظروف الحرب في علاقاتها بالتناقضات الذاتية والموضوعية، في علاقاتها بالإستراتيجية والتكتيك، مؤكدا على دور الحزب في قيادة معركة حرب التحرير الشعبية، ووضع الأهداف الأساسية لحرب العصابات استراتيجيا وتكتيكيا، في بلد شاسع جغرافيا ومتخلف تكنولوجيا ضد دولة إمبريالية صغيرة جغرافيا ومتقدمة تكنولوجيا، في علاقاتها بين المعركة في الداخل والخارج، في علاقتها بين الحرب النظامية وحرب العصابات.(89)
وانطلاقا من الديالكتيك الماركسي في علاقته بين النظرية والممارسة بالاستفادة من علم الإستراتيجية والتاكتيك الذي استنتجه لينين، انطلاقا خلال الحرب الأهلية في علاقتها ببناء الحزب البروليتاري الثوري، وتعميق هذا العلم من طرف ستالين خلال الحرب الإمبريالية الثانية، واستنتج ماو الشروط الأساسية لحرب العصابات تكتيكيا، في علاقاتها بالشروط الإستراتيجية في الحرب التي صاغها لينين حول المعركة في ظروف الثورة، في العلاقة بين الهجوم والتراجع، في العلاقة بين الخطوط الداخلية والخارجية، في العلاقة بين الحرب الإمبريالية وحرب التحرير الشعبية، في العلاقة بين الثورة الديمقراطية البروليتارية والثورة الديمقراطية البورجوازية.
وحسب ماو فإن السياسات الرئيسية تنحصر على العموم في المبادرة والمرونة والتخطيط في القيام بالعمليات الهجومية في الحرب الدفاعية، وفي القيام بالعمليات السريعة في الحرب الطويلة الأمد، وفي خوض القتال في الخط الخارجي في نطاق عمليات الخط الداخلي.(90)
لقد عمل ستالين وماو على بلورة خلاصات لينين حول الحرب في الواقع الموضوعي للثورتين السوفييتية والصينية، في الواقع الموضوعي للثورتين الديمقراطية البروليتارية والديمقراطية البورجوازية، في الحرب ضد الإمبريالية وحرب التحرير الشعبية، واستطاعا معا بلورة العلاقة بين النظرية الماركسية اللينينية الثورية والممارسة العملية للماركسيين اللينينيين الثوريين في ظل القيادة التاريخية للحزب الماركسي ـ اللينيني، من خلال تحقيق نتائج باهرة في حربهما ضد الإمبريالية والانتهازية، على مستوى أعلى وهو المعركة المسلحة، وشكلت الثورتين السوفييتية والصينية تكاملا، في ظل الوحدة بين التناقض الذي يشكل جوهر الديالكتيك الماركسي، في ظل التناقض بين الحرب النظامية بالاتحاد السوفييتي وحرب العصابات بالصين ضد الإمبريالية والانتهازية.
وإذا كانت الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية فإن المذهب الماركسي اللينيني أعلى مراحل الديالكتيك الماركسي باعتباره نتاج الثورة الاشتراكية/عشية الإمبريالية، ولا يمكن تجاوز المذهب الماركسي اللينيني إلا بتجاوز المرحلة الانتقالية بين الإمبريالية والشيوعية أي الاشتراكية وبالتالي تجاوز الدولة "نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية"، لهذا أكد لينين على أهمية بناء دولة ديكتاتورية البروليتاريا في علاقتها بالثورة والديمقراطية الثورية، الديمقراطية البروليتارية نقيض الديمقراطية البورجوازية، فما هي العلاقة بين الديمقراطية البورجوازية والديمقراطية البروليتارية ؟(91)
ولا يتوانى المثقفون البورجوازيون الصغار عن تشويه الاستنتاج الذي توصل إليه ماركس في نقده للدولة عند هيكل، وهم يعتبرون أن الدولة تعمل على التوفيق بين الطبقات، في ظل المجتمعات الرأسمالية، معتمدين على الاستنتاج المشوه للدعاية للديمقراطية البورجوازية، وبناء الجمهوريات البورجوازية الديمقراطية، وسار جميع الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة على نهجهم بعد ثورة 1917، باعتبارهم ديمقراطيين بورجوازيين صغار، يرددون "دور الدولة في التوفيق بين الطبقات المتناقضة"، متجاهلين استنتاج ماركس على أن الدولة "هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينها وبين نقيضها (الطبقة المضادة لها)"، في نقده لكاوتسكي.(92)
وأكد إنجلز أنه، مع تطور المجتمعات البشرية، نشأت الدولة ك"قوة" قاهرة فوق المجتمع الذي انبثقت منه، فبعد تجاوز مرحلة "التنظيم القديم على أساس القبائل أو العشائر"، الذي كان يعتمد على "منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها"، أصبحت الدولة تعتمد على"تقسيم رعايا الدولة بموجب تقسيم الأراضي" وأسست الطبقات الظالمة "مؤسسات القسر" التي تعتمدها في قهر الطبقات المضطهدة وظهرت "السلطة العامة في الدولة"، وهي "لا تتألف فقط من رجال مسلحين، بل كذلك من ملاحق مادية، من السجون ومختلف مؤسسات القسر" كما قال إنجلز.
لقد عمل إنجلز على توضيح دور الدولة باعتبارها أداة قهر الطبقات المضطهدة من طرف الطبقات المسيطرة على السلطة السياسية، الاقتصادية والعسكرية، فالدولة إذن أداة الاضطهاد الطبقي، وليست أداة للتوفيق بين الطبقات كما يدعي الديمقراطيون البورجوازيون الصغار، فالدولة إذن في ظل الديمقراطية البورجوازية ما هي إلا أداة سيطرة الطبقة البورجوازية على البروليتاريا، ولا يمكن إزالة هذا الاضطهاد إلا ببناء الديمقراطية البروليتارية أي الديمقراطية الثورية كما سماها لينين.
وقام لينين بتوضيح أهمية الديمقراطية البروليتارية بسيطرة البروليتاريا على السلطة، بعد إنجاز الثورة البورجوازية الديمقراطية والشروع في البناء الاشتراكي، ذلك ما لم يدركه الديمقراطيون البورجوازيون الصغار، الذين يعتقدون أن المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي خلفتها قرون من "تقاليد القنانة" يمكن أن تحل ب"روح البورجوازية الديمقراطية".(93)
وهكذا يتضح أن الديمقراطية في ظل الثورة البورجوازية لا تسمح إلا باضطهاد الطبقة البورجوازية للبروليتاريا، عكس ما يعتقده الديمقراطيون البورجوازيون الصغار الذين يحاولون تلميع وجه الديمقراطية البورجوازية، وهم ينسون أن بقايا القرون الوسطى وأساسها "الملكية الخاصة القداسة" تحول دون إعطاء الشعارات البورجوازية، المرفوعة خلال الثورات البورجوازية الديمقراطية، مضمونها الإنساني، في حقوق الإنسان، والمساواة بالنسبة للمرأة.
والدولة الوطنية الديمقراطية لا يمكن أن تكون إلا شكلا من أشكال الاضطهاد الطبقي، تسيطر فيه البورجوازية، وتسود فيه الديمقراطية البورجوازية، عكس سيادة الديمقراطية البروليتاريا في ظل ديكتاتورية البروليتاريا.(94)
هنا استطاع لينين توضيح العلاقة بين الثورة البورجوازية الديمقراطية والثورة البروليتارية الاشتراكية بصورة فائقة، باعتبار سيطرة البروليتاريا على السلطة أساسي في الإنتقال السلس من الأولى إلى الثانية، وفي إنجاز المهام الثورية الرئيسية، وفي تجاوز المهام الثورية الثانوية، وفي القدرة على بلورة مفهوم الديمقراطية البروليتارية، الديمقراطية الثورية، الديمقراطية الاشتراكية، في ظل ديكتاتورية البروليتاريا، في دولتها، في اضطهادها للطبقة البورجوازية، المهمة الرئيسية للثورة البروليتارية الاشتراكية.
وأكد لينين على أهمية العلاقة الجدلية بين الثورة البورجوازية الديمقراطية والثورة البروليتارية الاشتراكية، على اعتبار أن مهام الأولى لا يمكن إنجازها كاملة إلا في ظل الثانية، وأنه بدون ديمقراطية كاملة لا يمكن الحديث عن الديمقراطية البروليتارية.(95)
فالثورة البورجوازية الديمقراطية عندما تقودها البروليتاريا تعطيها معنى الديمقراطية البروليتارية، الديمقراطية الاشتراكية، الديمقراطية الثورية، عكس قيادة البورجوازية للثورة، التي تكرس الديمقراطية البورجوازية، واستنتج لينين ذلك من تجربة الثورتين البورجوزيتين في 1905 و فبراير 1917، كمقدمة للثورة البروليتارية في أكتوبر1917.(96)
ورغم تعدد وتنوع الطبقات والفئات التي تشارك في الثورة البورجوازية الديمقراطية، فإن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة التي تستطيع، إذا أدركت ذلك، أن تقودها إلى مستوى الديمقراطية الكاملة، الضرورية في البناء الاشتراكي، والأساسية في الثورة البروليتارية الاشتراكية، فبدون ذلك تبقى الثورة البورجوازية الديمقراطية غارقة في الرجعية، بحكم أوهام الديمقراطية البورجوازية الصغيرة.(97)
وحدد لينين العلاقة بين الديمقراطية البورجوازية والديمقراطية البروليتارية وكيف تنتقل الأولى إلى الثانية، عبر سلطة البروليتاريا في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا، وأن الديمقراطية البورجوازية ما هي إلا مرحلة عابرة بين الثورة البورجوازية الديمقراطية والثورة البروليتارية الاشتراكية، وأن بقاء الأولى بعد الثورة ما هو إلا تكريس للدولة البورجوازية الديمقراطية، التي تعج بأوهام البورجوازية الديمقراطية الصغيرة، وأكد على ضرورة استكمال الديمقراطية كاملة، بسيادة الديمقراطية البروليتارية، في ظل قيام النظام السوفييتي.(98)
وبحكم إسهام تنوع وتعدد الطبقات والفئات في الثورة البورجوازية الديمقراطية، يصبح الديمقراطيون البورجوازيون الصغار الطبقة غير المستقرة على حال، فرغم نداءاتهم وشعاراتهم ضد الرأسمال إلا أنهم متذبذبون في مواقفهم، فهم يتفننون في ابتداع المصطلحات الفضفاضة، لتبرير نزعاتهم البورجوازية الصغيرة، خاصة في مسألة الدعاية "للمعادلة المفضلة" لدى البورجوازية "البورجوازية والديمقراطية"، أي البورجوازية مقرونة بالديمقراطية، فلا ديمقراطية بدون بورجوازية، كما فعل الاشتراكيون ـ الثوريون والمناشفة بعد ثورة أكتوبر، الذين يقولون: "هناك بورجوازية ديمقراطية" وهناك "ديمقراطية بورجوازية"، من أجل التستر على وضعهم المتأرجح بين البروليتاريا والبورجوازية.(99)
لقد أكد لينين على أهمية قيادة الثورة من طرف البروليتاريا في عصر الإمبرالية الذي تسود فيه الاحتكارات الكبرى، ويتم فيه اضطهاد الطبقة البورجوازية للبروليتاريا، وأكد على قيادة البروليتاريا للثورة الاشتراكية عكس ادعاءات الاشتراكيين ـ الثوريين والمناشفة الذين يقولون أن روسيا لم تنضج بعد من أجل الاشتراكية، وذلك لجهلهم معنى "الاستعمار" و"الاحتكارات" ودورهما في بناء الدول الإمبريالية، وذلك بحكم وضعهم البورجوازي الصغير.(100)
وقد أوضح لينين أن روسيا ما هي إلا دولة إمبريالية تعيش أطوار عشية الثورة الاشتراكية، وقد استكملت مرحلة الثورة البورجوازية الديمقراطية، وهي في حاجة إلى ديمقراطية كاملة تقودها البروليتاريا، عن طريق الديمقراطية البروليتارية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا، "في ظل دولة ديمقراطية ثورية فعلا"، التي تعني "خطوة أو خطوات نحو الاشتراكية"، وشدد على أهمية الديمقراطية الثورية في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا، التي تجعل احتكاريات الدولة في صالح الشعب كله.(101)
يعتبر لينين الأساس الاقتصادي مهما في تحديد صفة علاقات الإنتاج، فمهما يكن الأساس الاقتصادي متجها نحو الاشتراكية، تحدث في القوى المنتجة ثورة تحولها إلى قوة قادرة على تحطيم علاقات الإنتاج الرأسمالية، ولا يمكن للأساس الاقتصادي أن ينتقل من هيمنة الاقتصاد الرأسمالي إلى سيادة الاقتصاد الاشتراكي دفعة واحدة، ذلك ما لم يفهمه المناشفة الجدد عندما يقولون بعدم إمكانية زوال الاقتصاد البضاعي في التجربة الاشتراكية بالاتحاد السوفييتي، شأنهم في ذلك شأن المناشفة في عهد ستالين.(102)

حول الحروب الوطنية الثورية

كتب لينين في تعليق على مواقف البرجوازية والانتهازية حول الحرب: "تفحصوا من قريب موقف المدافعين عن نزع السلاح."، لينطلق لتقديم "البرنامج العسكري للثورة البروليتارية"، الذي بناه انطلاقا من فضح مقول الانتهازيين "الدفاع عن الوطن"، التي اتخذوها لتبرير الحرب الإمبريالية الأولى التي شاركت فيها بلدانهم الإمبريالية، وهم يستهدفون تغيير النقطة القديمة في الحد الأدنى للبرنامج الاشتراكي ـ الديمقراطي : "ميليشيات" أو "تسليح الشعب"، بنقطة جديدة بعنوان : "نزع السلاح".
ومن أجل ذلك أطلقوا بروباكندا انتهازية بحجة "نزع السلاح" التي اعتبروها تستهدف "أي حرب"، وهم يرتكبون، حسب لينين، خطأ كبيرا، إذ لا يمكن للاشتراكيين الموافقة على "نزع السلاح" دون اتخاذ موقفهم المحدد حول الحرب الإمبريالية وكيفية مواجهتها، مما يحيلنا إلى تحديد موقفهم من "الحرب الثورية".
وأكد لينين أن الاشتراكيين "لن يكونوا أبدا ضد الحروب الثورية" كما لا يمكن أن يكونوا في صف برجوازية القوى الكبرى الإمبريالية الغارقة في الرجعية، واعتبر أن هذه الحروب التي تقودها البرجوازية هي "حروب رجعية، عبودية وإجرامية"، وبالمقابل هناك حروب ضد البرجوازية وهي حروب ثورية، حروب الشعوب المضطهدة ضد الاستعمار من أجل التحرر من نير المستعمرين البرجوازيين.
ومن أجل تسويق مقولة "نزع السلاح" يتم تبرير منطلقات الانتهازية بأن "في هذه الحقبة التي أطلق فيها عنان الإمبريالية، لم تعد أي حرب وطنية ممكنة"، هذا الحكم الذي وصفه لينين بالكذب، واعتبر أن القرن 20 عبارة عن قرن "الإمبريالية المطلوقة العنان"، لكون الحروب الاستعمارية تنتشر فيه، لهذا وجب على الاشتراكيين الأوروبيين أن يواجهوا الدعاية للحرب الاستعمارية التي تطلقها "الشوفينية الأوروبية"، فهذه الحروب تواجهها غالبا حروب وطنية وانتفاضات وطنية ل"هذه الشعوب المضطهدة" من أجل التحرر من اضطهاد البرجوازيين لهم.
ورغم أن الإمبريالية في البلدان المضطهدة تعمل على تسريع "التنمية الرأسمالية بهذه البلدان جد المتخلفة" فإنها بالمقابل، تقوم بقمع "النضال ضد الاضطهاد القومي"، وهكذا تقوم الإمبريالية بإشعال الحروب الوطنية في غالب الأحيان من أجل خدمة مصالحها.
ويلجأ الانتهازيون في الدفاع عن أطروحاتهم الشوفينية إلى مقولة جينيوس:"في حقبة الإمبريالية أي حرب وطنية ضد إحدى القوى الإمبريالية الكبرى تتدخل قوة كبيرة أخرى منافسة للأولى وأيضا إمبريالية، وفي كل حرب كونية تتحول إلى حرب إمبريالية"، وقام لينين بدحض هذه المقولة الرجعية واعتبرها خاطئة، حيث يمكن أن يحدث ذلك ولكن "ليس في هذه الحالة"، في الحرب الإمبريالية الأولى، واستشهد في ذلك بالعديد من الحروب "التي اتخذت مسارا آخر" في سنوات ما بين 1900 و 1914، ونفى عدم امكانية اندلاع "حروب وطنية تقدمية" لما تبلغ الحرب الإمبريالية الأولى "حدها الأقصى في الدول المتحاربة"، حيث تندلع "حروب وطنية" تجريها البلدان المضطهدة ضد الدول الإمبريالية وهي حروب ثورية.
ووصف نفي إمكانية حدوث حروب وطنية في عصر الإمبريالية بالخطأ "نظريا وتاريخيا"، وهو موقف تروجه الشوفينية الأوروبية، وهو كذلك "خطأ واضح : ممارسة"، لكون انتماء الاشتراكيين إلى أمم إمبريالية تضطهد "مئات الملايين من الناس بأوروبا، إفريقيا، أسيا، إلخ ..."، فمن الواجب عليهم أن يتضامنوا مع هذه الشعوب المضطهدة، ولا يمكن أن يروجوا لعدم إمكانية حدوث حروبهم/الحروب الوطنية ضد حروب أممهم الإمبريالية على هذه الشعوب.
يأتي تناول لينين لمسألة الحرب ضمن نضاله الأيديولوجي ضد الانتهازية التي تسعى إلى تجريم كل الحروب بالخلط بين الحروب الإمبريالية باعتبارها وسيلة أساسية لنشر الاستعمار، عبر اضطهاد القوى الرأسمالية الكبرى لشعوب البلدات التي مازالت لم تتخلص من رواسب العصور القديمة، وحروب هذه الشعوب ضد الاستعمار هي كذلك حروب وطنية ثورية للتخلص من الأنظمة الردعية التي تفرض عليها القوانين القديمة/الإقطاعية التي تحولها إلى عبيد في خدمة الاستعمار، واستنتج لينين أن الحروب والاستعمار سمتان أساسيتان تلازمان الإمبريالية في ظل تطور الرأسمالية اللامتكافئ.
وناضل لينين ضد الحرب الإمبريالية الأولى من أجل إخراج روسيا من هذه الحرب الاستعمارية وتحرير الشعوب التي استعمرتها روسيا القيصرية عبر قيادة الثورة الاشتراكية في بلد واحد، من أجل بناء نقيض يغير موازين القوى لصالح الشعوب المضطهدة قادر على إيقاف دمار الحروب الإمبريالية وزحف الاستعمار بالبلدان المضطهدة، ولم يسلم الوطن الاشتراكي من هجوم تحالف الإمبريالية والانتهازية ضد البناء الاشتراكي في بلد واحد فنشبت الحرب الأهلية بروسيا التي علمت لينين الكثير حول الحرب وحرب الدفاع من أجل الدفاع عن الوطن الاشتراكي.
وأكد لينين أن كل من يعرف الصراع الطبقي لا يمكنه "أن يقبل الحروب الأهلية" إذ لا يمكن هدر القوى الثورية في حرب داخلية في "مجتمع منقسم إلى طبقات" وهذه الحروب استمرار وامتداد للتدهور الطبيعي في المجتمعات الطبقية، إنها من مخلفات الحروب الإمبريالية واستمرارية لها وهي تغذيها من أجل القضاء على مقاومة الشعوب المضطهدة لمنع تطورها نحو التقدم والرفاهية، وهي كذلك "لا يمكن تفاديها" عندما تحتد شروط الصراعات الطبقية وتسعي الشعوب إلى التحرر من الأنظمة الرجعية التي تقيد بلدانها وتضع خيراتها في يد الاستعمار، ذلك ما أكده تاريخ "الحروب الكبرى"، ومن ينسى وجود الحروب الأهلية إنما يكون غارقا في "الانتهازية المتطرفة ونبد الحروب الاجتماعية"، فالحرب الأهلية واردة في كل الثورات الاجتماعية التي تحولها الإمبريالية في غالب الأحيان إلى أداة لتدمير القوى الثورية.
واستنتج لينين أن "انتصار الاشتراكية في بلد واحد لا يستبعد، فورا، كل الحروب عامة" بما فيها الحرب الامبريالية على الوطن الاشتراكي التي تستهدف تدمير القوى الاشتراكية الناشئة، ونشوب الحروب يفرضها "تطور الرأسمالية اللامتكافئ" الذي يسود في جميع الدول وبداخل دولة واحدة بعينها، كما أن نظام "إنتاج السوق"، الذي يفرض التجارة والتنافس التجاري بين الدول الرأسمالية من أجل السيطرة على السوق التجارية العالمية، يفرض الحروب، لهذا فنظام إنتاج السوق الذي يميز الرأسمالية إنما هو كذلك أداة للسيطرة على الشعوب المضطهدة، ولا يمكن أن يسود هذا النظام دون اندلاع الحروب.
وهكذا فإن انتصار الاشتراكية في بلد واحد ممكن لكون انتصارها في جميع البلدان لا يمكن أن يحدث دفعة واحدة، وقاد لينين الثورة الاشتراكية في بلد واحد من أجل إيقاف الحروب الإمبريالية على الشعوب المضطهدة، وتعلم الكثير حول البناء الاشتراكي في بلد واحد عبر قيادته للحرب الأهلية ضد الانتهازية المدعومة من طرف الإمبريالية، وانتصر فيها عبر التحالف الحربي بين العمال والفلاحين، ومن أجل استمرار البناء الاشتراكي قاد التحالف الاقتصادي بين العمال والفلاحين من أجل القضاء على نظام إنتاج السوق، الذي يتطلب سيادة الشركات الخاصة والبنوك، عبر بناء نظام "التبادل السلعي" بين العمال والفلاحين عبر التعاون بين المدن والبوادي من أجل القضاء على المجاعة.
لهذا تنتصر الاشتراكية في بلد واحد أو في مجموعة من البلدان بينما تبقى البلدان الأخرى وقتا طويلا "بلدانا برجوازية أو ما قبل ـ برجوازية" مما يفرض اندلاع الحروب الإمبريالية تقودها البرجوازية لسحق البروليتاريا المسيطرة على السلطة في هذا البلد، مما يحتم وجود الحروب التي تقودها البروليتاريا وهي شرعية و"ستكون حربا من أجل الاشتراكية" وهي حروب دفاعية كما سماها إنجلز في رسالة له إلى كاوتسكي في 12 شتنبر 1882، من منطلق "دفاع البروليتاريا ضد برجوازية البلدان الأخرى" وهكذا قاد لينين الحرب الدفاعية ضد البرجوازية دفاعا عن الوطن الاشتراكي.
ولا يمكن القضاء نهائيا على الحروب إلا لما تتحقق الاشتراكية في جميع البلدان بعد انتصار البروليتاريا على البرجوازية في "العالم أجمع" آنذاك "تكون الحرب مستحيلة"، مما يفرض الإقرار بضرورة "كسر مقاومة البرجوازية" من طرف البروليتاريا، هذه العملية التي لا يمكن السكوت عنها ب"حجب ما هو مهم جدا"، وهي عملية صعبة جدا، مما يتطلب جمع القوى الثورية بالتحالف الحربي بين العمال والفلاحين "أثناء المرور إلى الاشتراكية"، وهناك من يحلم من "الكهنة الاشتراكيين" والانتهازيين الذين يظلون وقتا طويلا يحلمون ب"الاشتراكية السلمية"، وهم متميزون عن الاشتراكيين ـ الديمقراطيين الثوريين، بكونهم يرفضون أن "يحلموا بالنضال الطبقي الصلب والحروب الطبقية الضرورية" من أجل المستقبل الاشتراكي.
تعلم لينين كثيرا من قيادته للصراع ضد الانتهازية خلال الحرب الأهلية التي أشعلتها الإمبريالية لتكسير شوكة الثورة الاشتراكية في بلد واحد، وانطلاقا من مبدأ "الدفاع عن الوطن الاشتراكي" ومن كون الثورة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها لا تستحق أن تكون ثورة، خاض الحرب بنجاح باهر، حيث بلور فكرة الدفاع عن الوطن التي كانت فيما قبل تزعج الانتهازية، وبلورها في الواقع الموضوعي بشكل ملموس وعلى أدق وأشمل تفاصيلها المادية في تناقض تام مع منظور الانتهازية إليها التي اتخذتها "لتغطية وحجب اجترار كذب البرجوازية حول الحرب الحالية"، فأصبحت هذه الفكرة حقيقة تاريخية ملموسة لا يمكن تجاوزها على عكس ما عرفته من تشويه من طرف الانتهازية التي تلوح بها خلال الحرب الإمبريالية الأولى للدفاع عن حرب الأمم الإمبريالية على الشعوب المضطهدة.
هكذا رفض لينين الشعارات السياسية الفضفاضة التي رفعتها الانتهازية برفضه لما سمته "الدفاع عن الوطن" من منطلق اشتراكي ـ شوفيني يعتبر الحرب الإمبريالية حربا عادلة، وهي في الحقيقة حرب ضد ـ ثورية تضرب في الصميم مصالح البروليتاريا التي بدون الدفاع عنها لا يمكن أن تكون أي حرب حربا ثورية، فالحرب الإمبريالية الأولى انعكاس لتناقضات البرجوازية في المجتمعات الرأسمالية وفي أعلى مراحلها في عصر الإمبريالية، فلا يمكن للاشتراكيين تأييدها باسم "الدفاع عن الوطن" بل يجب عليهم مناهضتها والدفاع عن حق الشعوب المضطهدة في تقرير مصيرها الذي تناضل من أجله عبر حروبها الوطنية الثورية التحررية.
ولأن أي حرب "لا تستبعد الغزو" فهي ليست حربا وطنية، ولأن أي دفاع عن الوطن لا يضع في مشروعه تحرير الشعوب المضطهدة ليس إلا دفاع عن حروب الأمم الإمبريالية على الشعوب المضطهدة، وحروب الشعوب المضطهدة ضد الدول الكبرى الإمبريالية حروب مشروعة يجب على البروليتاريا أن تقودها ضد "نبلاء الدول البرجوازية"، الذين لم يتخلصوا بعد من مخلفات عبودية العالم القديم التي عوضوها بعبودية الرأسمالية الحديثة في عصر الإمبريالية.
واستنتج لينين العلاقة بين الحرب والسياسة لكونهما لا يفترقان من حيت الأهداف المسطرة في برامج الدول الإمبريالية التي تلجأ إلى تنفيذها عن طريق القوة العسكرية، فأي حرب لا يمكن تناولها بالدرس والتحليل خارج إطارها السياسي الذي يؤطرها وخارج صفة الدولة أو الدول التي تقودها، ومن الغباء السياسي أن لا يدرك الاشتراكيون أن الحروب ما هي إلا "استمرار للسياسة بوسائل أخرى"، فالسياسة الإمبريالية تضع في برنامجا استعمار البلدان الفقيرة التي تسود فيها أنظمة ما قبل ـ رأسمالية من أجل فتح أسواق خارجية لمنتوجاتها الصناعية التي حولت عبر تجارتها الرأسمال الصناعي إلى رأسمال مستقل، الرأسمال المالي، الذي يميز عصر الإمبريالية وسخرته الأمم الأوروبية الإمبريالية في بسط استعمارها عبر العالم للسيطرة على مصادر المعادن والأسواق التجارية العالمية، مما اضطرها إلى شن الحروب الإمبريالية على البلدان التي تواجهها شعوبها بالحروب الوطنية الثورية في ظل عدم التكافؤ بين العتاد الحربي المتطور لدى الدول الكبرى الإمبريالية والأسلحة التقليدية للشعوب المضطهد التي يتم سفك دمائها، مما يفرض عليها العيش تحت نير الاستعمار المفروض عليها بالقوة العسكرية في حروب استعمارية تعبر عن السياسات الاستعمارية للدول الأوروبية الإمبريالية.
إن العلاقات التي تربط الحروب بالاستعمار لا تخرج عن نطاق تنفيذ السياسات الاستعمارية في عصر الإمبريالية التي ترتكز على سمتين أساسيتين هما الحروب والاستعمار، مما يولد ويشعل "النضال ضد الاضطهاد" عبر المقاومة المسلحة للشعوب المضطهدة ويفرز "سياسة النضال البروليتاري ضد البرجوازية" التي تمر عبر "الانتفاضات والحروب الوطنية الثورية" وصولا إلى "ثورات البروليتاريا ضد البرجوازية" الثورات الاشتراكية، إن دمج هذين الشكلين من الحروب الثورية ضروري لانتصار مقاومة الشعوب المضطهدة على الحروب الإمبريالية وبناء الدول الوطنية الديمقراطية الشعبية تقودها البروليتاريا إلى بناء الدول الاشتراكية من أجل الشيوعية.

نقد منظور الديالكتيك عند ماو

شكل كتاب "في التناقض"، الذي كتبه ماو تسي تونغ في 1937، أداة أيديولوجية، اعتمدها اليسار الماركسي السبعيني، في الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، خاصة منظمة "إلى الأمام"، في تناولها للقضايا الأيديولوجية، التنظيمية، النضالية، السياسية والاقتصادية، في صراعها ضد الدولة، باعتبارها أداة لتمرير السياسات الإمبريالية بالمغرب، كغيره من البلدان المضطهدة.
وكان للحزب الشيوعي الصيني في صراعه ضد التحريفية بالحزب الشيوعي السوفييتي، بعد وفاة ستالين، أثر كبير في اعتناق أفكار ماو من طرف الماركسيين اللينينيين، خاصة بعد انتفاضة 1968 بفرنسا التي لعب فيها "الماويون" دورا كبيرا، مما جعل فكر ماو حول الثورة ينتشر بشكل كبير في صفوف الماركسيين اللينينيين.
وبعد تأسيس المنظمات الماركسية اللينينية المغربية، تم اعتبار الثورة الصينية نموذج الخلاص من سيطرة الإمبريالية، ذلك ما كان واضحا في أدبيات منظمة "إلى الأمام" خاصة في وثيقة "الثورة في الغرب العربي في مرحلة تصفية الإمبريالية"، التي صدرت في 1971، ووثيقة "المرحلوية أو النيومنشفية"، التي صدرت في 1976.
وكان تاريخ المنظمات الماركسية اللينينية المغربية مليئا بنكسات عميقة، إن على مستوى التنظيم والصراع فيما بينها، أو على مستوى قمع الدولة لها، مما جعلها تعطي الكثير من التضحيات دون إنجاز المهمة الأساسية، التي وضعتها في أفقها الثوري، بناء الحزب الماركسي ـ اللينيني المغربي، الكفيل بقيادة الثورة المغربية.
فبعد 50 سنة من الصراع والإحباط، مازالت هذه المهمة لم تتحقق، بعد استشهاد القائد الثوري عبد اللطيف زروال في 14 نونبر 1974، الذي ساهم بشكل كبير في بناء تصور الطريق الثوري للثورة المغربية، الذي يتجلى في العديد من الوثائق التي تناولت مسألة التنظيم في علاقته بالنضال الثوري، في استراتيجية الثورة في علاقتها باستراتيجية بناء الحزب الثوري.
إن الوضع المأساوي الذي تعيشه الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، كما هو الشأن في جميع البلدان المضطهدة، التي تتواجد بها أنوية ماركسية ـ لينينية، يستوجب الوقوف على مكامن الخلل، التي تعمق أزمة التنظيم في أوساط الماركسيين اللينينيين المغاربة، نتيجة انتشار الجمود العقائدي في صفوفهم، عبر مغالاة من يحاولون انتساب الحركة الماركسية ـ اللينينية إلى "الماوية"، وخاصة منظمة "إلى الأمام"، وبشكل تعسفي، مما يركز الانعزالية في صفوفهم، الشيء الذي يطرح تناول القضايا الأيديولوجية في الثورة الصينية بالنقد العلمي المادي، في علاقته بإعادة بناء الطريق الثوي للثورة بالغرب الإفريقي، في علاقتها بالحروب الوطنية الثورية بالبلدان المضطهدة، ضد الحروب الإمبريالية، في علاقتها ببناء الأحزاب الماركسية ـ اللينينية بهذه البلدان.
ذلك ما نتوخاه في هذه المحاولة التي لا نعتبرها متكاملة، بقدر ما تشكل مجالا حيويا لطرح عدة تساؤلات عميقة نحاول حلها النسبي، عبر فهم الحركة الفكرية داخل الحزب الشيوعي الصيني.

مقدمة كتاب "في التناقض"

قام الأستاذ سلامة كيلة في تقديمه لكتاب "في التناقض" لماو تسي تونغ، بتناول مسألة التناقض باعتباره أحد قوانين الديالكتيك الماركسي، وقال عن هذا الكتاب:"هذا نص مهم، لأنه يبحث في مسألة التناقض."، ويقدم لنا الكاتب في تقديمه هذا ماو على أنه أدخل إضافات على أحد أهم القوانين الأساسية للديالكتيك الماركسي، الذي وضعه ماركس وإنجلز وطوره لينين على مستوى المعرفة والفلسفة، في قول الكاتب:"ولا شك أن ماو تسي تونغ قد قدم إضافات مهمة في هذا البحث، أي تعدد التناقضات."، وهذه المقولة ليست علمية حيث لا وجود ل"تعدد التناقضات" في الواقع الموضوعي، إنما تعدد أشكال الصراعات التي يحكمها التناقض، مع تعدد مكونات المادة والحركة ومجالاتهما، فالتناقض كقانون لا يتجزأ حتى يصبح متعددا لا نهائيا كجميع الأشياء، فهو قانون يحكم جميع الأشياء في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة.
ولتأكيد قوله حول إضافات ماو، يقول أنه "ميز، من ثم، بين الرئيسي والثانوي فيها، كما أنه دخل في تفصيلات عن الطرف الرئيسي في كل تناقض، ومركز التداعي فيه، إضافة إلى الإشارة إلى عمومية التناقض وخاصيته، وإلى الوحدة والصراع بين طرفي التناقض نتيجة تعدد التناقضات."، وأكد أنه يجب اعتبار الرئيسي والثانوي فيه "وبالتالي من الضروري فهم الرئيسي والثانوي فيها، وكيفية التعامل مع كل منها ومن أجل حسم التناقض الرئيسي."، كما جاء في تقديمه.
إن اعتبار الكاتب عمل ماو هذا "إضافات مهمة"، إنما يدخل في مجال محاول توسيع رقعة الكتابة في هذا الشأن، في تراكم من الكلام الذي لا يفضي إلى تراكم كيفي، في انعدام تام للقدرة لدى الكاتب على تحريك ما هو أساسي في خلاصات ماركس حول الديالكتيك، وفي هذا القانون بصفة خاصة، أما القول ب"إدخال إضافات" على هذا القانون فهو يأتي نتيجة جهل الكاتب لمعنى القوانين الأساسية، في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، التي لا يمكن تحريكها، لكن يمكن فقط اكتشافها وتطبيقها في الطبيعية والمجتمع، في المادة والحركة، ليس من أجل تغيير هذه القوانين في حد ذاتها، إنما من أجل إحداث التغيير في الطبيعة والمجتمع، عبر تحريك التناقض داخل الحركة، مع العلم أن لا حركة بدون مادة كما قال إنجلز.
والقول ب"إدخال إضافات" على هذا القانون الأساسي هو جهل بطبيعة هذا القانون التي لا تتغير، لكن الذي يتغير هو مجال تطبيقه في علاقته بالقانونيين الآخرين: النفي ونفي النفي والكم والكيف، مما يحدد تفعيل التناقض في كل مجال على حدة، لكن ضمن الحركة التي تميز المادة، أما الحديث عما هو رئيسي فيه وما هو ثانوي، إنما يأتي ضمن اللعب بالكلام حول جدلية الأشياء، والتناقض بصفته قانون الحركة الموجودة في المادة، الواقع الموضوع، في الطبيعة والمجتمع، موجود على شكل العملية الجدلية، التي تجري في جميع تفاصيل المادة والحركة، وفي جميع مجالاتهما، ويمكن تناول مجال معين حددناه سلفا للدراسة باستعمال الجدلية، من أجل تحديده في ما هو رئيسي في الحركة وما هو ثانوي فيها، ومن منظور قانون التناقض، في علاقته بالقانونيين الأساسيين الآخرين، وهنا لا تجري عملية الجدلية في حد ذاتها على التناقض بعينه، فالرئيسي والثانوي موجودان سلفا في كل شيء، وقانون التناقض يشملهما، كما يشمل جميع مكونات المادة والحركة، وهما ليسا معطيين مطلقين، إنما الرئيسي والثانوي موجودان في علاقة جدلية، ويحكمهما التناقض في الصراع بينهما، وفي الصراع داخل كل واحد منهما، بحكم العلاقة بين العام والخاص الموجودان في كل الأشياء، في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع.
والعلاقة الجدلية التي تربط العام بالخاص، الجوهر بالظاهرة، الرئيسي بالثانوي ...إلخ، موجودة في كل شيء في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، وليس هناك خاص مطلقة وعام مطلق، ففي كل خاص عام كما أن في العام يوجد الخاص، وفي الخاص يوجد العام، في علاقة جدلية لا متناهية، كما قال لينين في كتابه "حول الديالكتيك" :"... فالخاص غير موجود إلا في العلاقة التي تؤدي إلى العام. والعام غير موجود إلا في الخاص، عبر الخاص. كل خاص له طابعه العام )بهذه الصورة أو تلك(. وكل عام هو )جزء أو جانب أو جوهر( من الخاص. وكل عام لا يشمل جميع الأشياء الخاصة إلا في وجه التقريب. وكل خاص لا يشترك تمام الاشتراك في العام، إلخ، إلخ .. كل خاص يرتبط عبر آلاف الدرجات الانتقالية بعناصر خاصة من طبيعة أخرى )أشياء، ظاهرات، تفاعلات(، إلخ ..".
أما تناول مفهوم التناقض في علاقته بالرئيسي والثانوي، إنما يندرج ضمن الجدلية الموجود في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع، أما القول بأن هناك تناقض أساسي أو رئيسي أو مركزي والتناقضات الثانوية، ليس باكتشاف علمي، لكون التناقض في ما هو رئيسي يختلف في ما هو ثانوي، وتجمعهما العلاقة الجدلية في ظل الوحدة بينهما، في التناقض والصراع، التي تنطبق على كل الأشياء في الطبيعة، من عالم الذرات إلى عالم المجرات، أو ما يسمى في الفيزياء Le monde infiniment petit et le monde infiniment grand، العالم الصغير إلى ما لا نهاية والعالم الكبير إلى ما لا نهاية، وفي المجتمع من أبسط العلاقات الاجتماعية اليومية إلى أعقدها في حالة الثورات الاجتماعية.
والكاتب يريد أن يحول عمل ماو، من مستواه البسيط في الديالكتيك، الموجود أصلا في جميع الأشياء، في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، إلى مستوى عال من الاكتشافات العلمية في المعرفة الماركسية، وبهذا يحدث تشويشا في ذهن القارئ، عبر اللعب بموقع الرئيسي والثانوي في المادة والحركة، وإخراجهما من الواقع الموضوعي، وإسقاطهما على أحد القوانين الأساسية للحركة في علاقتها بالمادة، ويقول أنه يقوم بإزاحة التشويش، الذي تم نشره في صفوف الشيوعيين بالصين، وفي الحركة الماركسية ـ اللينينية عامة، لكنه لم يفعل غير تعميق هذا التشويش.
والتناقض باعتباره قانونا أساسيا في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، موجود في الرئيسي، كما هو موجود في الثانوي، في العلاقة الجدلية بين الرئيسي والثانوي، وليس في "التناقض الرئيسي" و"التناقض الثانوي"، وهنا يكمن الخطأ، ويحصل التشويش في ذهن الكاتب، فالتناقض قانون، وهو موجود بشكل أساسي، من بين القوانين الثلاثة الأساسية، في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع، التي حددها العلم المادي الماركسي، أما إضافة صفة الرئيسي والثانوي لقانون التناقض، فهو عمل يحمل معه مغالطة ولبس وجب كشفهما، من أجل إزاحة التشويش في ذهن القارئ، إزاحة القول غير العلمي في المعرفة الماركسية، كالقول ب"التناقض العام" و"التناقض الخاص"، و"التناقض الجوهري" و"التناقض الظاهري"،...إلخ، فنقول إنه اكتشاف جديد في علم الماركسية.
أما القول بالوحدة في ظل التناقض والصراع بين الأضداد، فهو مسألة بديهية وليست اكتشافا، فالذرات، الجزيئات، الأجسام ... الأقمار، الكوكب، الشموس، المجرات ... أو بصفة عامة المادة، كما قال عنها لينين: "المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي"، فالوحدة موجودة في الشكل، الوحدة في ظل التناقض والصراع بين مكوناتها، وكل مكون موجود في شكل الوحدة، في ظل التناقض والصراع بين أجزائه المتناقضة ... هكذا إلى ما لا نهايته.
إن الكاتب من خلال هذه المقدمة يبحث عن طريق للتميز، في ظل الحركة الماركسية ـ اللينينية، وبشكل فج، من أجل الوصول إلى هدفه الأساسي، وهو أن البلشفية تم تجاوزها من طرف الثورة الصينية، وبالتحديد في أعمال ماو المتقدمة في المعرفة الماركسية، في مستوى عال من المعرفة والفلسفة، في محاولة انتهازية لتجاوز أعمال لينين، التي لم يستطع الإحاطة بها، في مضمونها العلمي وتراكمها الهائل على جميع المستويات المعرفية، السياسية، الاقتصادية، والتنظيمية، في أعلى مستوياتها، في العلاقة بين الحزب، الطبقة والجماهير، وفي البناء الثوري للاشتراكية.
ويسعى الكاتب لوضع أسس، تسديد الضربة القاضية للديالكتيك الماركسي عند لينين، عبر توجيه انتقاداته لأعمال ستالين حول المادية الجدلية، ذلك ما أشار إليه في آخر المقدمة، في محاولة فاشلة لضرب النظرية الماركسية اللينينية، عبر ضرب التجربة الاشتراكية بالاتحاد السوفييتي، مما قاده إلى الوقوع في الديالكتيك الميتافيزيقي، عبر اعتناقه للمنهج المثالي الذاتي والسوليبسيسم.

عن مفهوم الديالكتيك عند ما تسي تونغ

حدد ماركس القوانين الأساسية الثلاثة في الديالكتيك، وأزال عنها صفة المثالية، وحدد ما يحكم الحركة من تناقض في ظل وحدة الأضداد، عبر الصراع بينها، من أجل نفي بعضها لبعض عبر التراكم الكمي، الذي يعطي التراكم الكيفي، مما يحدث القفزة النوعية، والتحول في الصراع من مستوى معين إلى مستوى عال من الصراع، في ظل صراع جديد يحكمه التناقض، في مستوى متقدم لأحد الضدين، وهكذا، في ظل "التطور بوصفه نقصانًا وزيادة، بوصفه تكرارًا، والتطور بوصفه وحدة الأضداد"، كما استخلصه لينين.
وفي ما سماه ماو، في هذا الكتاب "نظرتان إلى العالم"، جاء فيه ما يلي :"النظرتان إلى العالم، وعمومية التناقض، وخاصية التناقض، والتناقض الرئيسي والطرف الرئيسي في التناقض، والوحدة والصراع بين طرفي التناقض، ومركز التعادي في التناقض."، يتم فيه التلاعب بالكلمات، في تناقض صارخ، لا يمت بصلة بالديالكتيك الماركسي.
ونرى في هذا الجزء عبارتين متناقضتين : "التناقض الرئيسي" و"الطرف الرئيسي في التناقض"، وانسجاما فيما جاء في مقدمة الأستاذ سلامة كيلة، الذي يتماها مع مضمون هذا الكتاب، يؤكد الكتاب ذلك، خاصة في إضافة صفة "الرئيسي" إلى قانون "التناقض"، وهذا ما يسميه أنصار ماو، أو "الماويون" كما يحلوا لهم تسمية أنفسهم بذلك اللقب، في شكل من التباهي والتماهي، للتميز عن باقي تيارات الحركة الماركسية ـ اللينينية، التي ينعتونها بالتقليدية، كناية فيهم باعتبارهم، كما يظنون، أن فكرهم لم يرق إلى مستوى عال، من المعرفة الماركسية والماركسية اللينينية، التي أحدث فيها ماو ثورة علمية، وفعلا هي ثورة علمية لكن في اتجاه الخلف، في اتجاه قلب الديالكتيك الماركسي، بل والافتراء على لينين، بتحريف أقواله، وتفسيرها تفسيرا فجا.
أما قول ماو ب"التناقض الرئيسي" و"الطرف الرئيسي في التناقض"، الذي يعتبره دربا من تطوير الديالكتيك، واللعب بالكلمات وقلبها، في جمل غير منسجمة، والقول بأن ذلك، من صلب عملية الديالكتيك الماركسي، إنما هو ضرب من الكلام.
وكما جاء في تقديم ماو لهذا الكتاب، الذي أقر فيه أن "التناقض" هو قانون، وليس صفة، أي أنه يحكم جميع الأشياء، في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، في "صراع الأضداد"، كما حدد لينين ذلك، ويحكمها التناقض، وهنا أكد ماو هذه الخلاصة، إلى هنا، ليس هناك تناقض بين لينين وماو.
ولكن أضاف ماو فيما سماه "الطرف الرئيسي في التناقض"، هنا يحدث تشويش على قانون "التناقض"، في عملية "الصراع بين الضدين"، الذي أقره لينين في كتابه "حول الديالكتيك"، ولتركيز هذا التشويش عمل ماو على إضافة "الصراع بين طرفي التناقض" أي "بين الضدين"، ذلك ما ينسجم مع خلاصة لينين في الصراع في ظل "الوحدة"، ولتعميق هذا التشويش أضافة ماو ما سماه "مركز التعادي في التناقض"، هنا يتم التلاعب بالكلمات، وقلبها، من أجل القول بأن هناك اجتهاد في الديالكتيك الماركسي، حسب أصدقائنا "الماويين"، في نزعتهم نحو الديالكتيك الميتافيزيقي.
لقد حاول ماو، هنا، تفسير خلاصات لينين في "حول الديالكتيك"، لكن هذا التفسير يشوبه خلط، بين "التناقض" كقانون أساسي في الديالكتيك الماركسي عند لينين، و"التناقض" كمجال لعملية الديالكتيك لدى ماو، حيث القول ب"التناقض الرئيسي"، ليس هو القول ب"الطرف الرئيسي في التناقض"، وفي الصراع يوجد دائما طرفان متناقضان، ويوجد قانون "التناقض" الذي يحكم العلاقة بينهما في الصراع في ظل الوحدة، سواء أكانا طرفين أساسيين في الصراع، أو طرفين ثانويين في الصراع، أو الصراع بين الطرف الرئيسي والطرف الثانوي، أو الصراع في مجال رئيسي، أو مجال ثانوي، ويبقى قانون التناقض هو الذي يحكم هذه الحركة المعنية، في مجال من المجالات، السياسية، الاقتصادية، العسكرية، الثقافية، المعرفية، من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى، ومن البسيط إلى المعقد... وهكذا، دواليك.
وأضاف ماو كلمة "التعادي"، نسبة إلى العدو، والصراع ضد العدو، أي الصراع بين الضدين، مما عمق التشويش، والقول ب"مركز التعادي"، لا يعدو أن يكون تفسيرا لتمركز الصراع، في نقطة معينة، أو مكان معين، أو حالة معينة، أو زمان معين ...إلخ، وهنا لا وجود لاجتهاد، إنما هو، تنزيل للديالكتيك من المستوى العالي، إلى مستوى تبسيطي، في حركة معينة، أو معركة معينة، أو عمل معين، أو عملية عسكرية معينة، محددة في مكان معين، أو زمان معين، يرى فيه طرف في الصراع وليس "طرف التناقض"، أهمية مركزة الصراع فيه، أو جعل هذه النقطة مركز التناقض، وليس "التناقض" المركزي، أو الرئيسي، إلى هنا لا يوجد شيء يمكن أن نسميه مستوى عال في المعرفية الماركسية، فبالأحرى تطويرها إلى مستوى أعلى.
إن ما يوجد هنا، هو دخول في التفاصيل المملة، في أشكال عملية الديالكتيك، من البسيط إلى المعقد، من المسائل اليومية لدى الإنسان البسيط، إلى المسائل اليومية لدى المناضل الثوري، المحترف الثوري كما سماه لينين، من التكتيك إلى الاستراتيجي، وتحويل التكتيك إلى الاستراتيجية، لما يكون مركز الصراع هو عملية التكتيك، في العلاقة بين العام والخاص، كما أوضحه لينين، في كتابه "حول الديالكتيك".
أما الهدف، الذي من أجله وضع ماو هذا الكتاب، كما جاء في تقديم الناشر، في قوله :"تصحيح التفكير المتسم بالجمود العقائدي الذي كان رائجا في الحزب بشكل خطير"، فإنه لم يتحقق إلى حد الآن، سواء في مقدمة الأستاذ سلامة كيلة، أو في مقدمة ماو والفقرة الأولى من كتابه، بقدر ما عمق هذا الجمود العقائدي، والانعزالية في الحركة العمالية كما سماه لينين.
إن التشويش، الذي يحمله مضمون هذا الكتاب، قد عمق الصراعات في الحركة الماركسية ـ اللينينية، وزاد في تعميقها، الجمود العقائدي، لدى أصحابنا "الماويين"، الذين يؤمنون بشكل أعمى، إلى درجة القدسية، بأقوال ماو، التي يضعونها فوق النقد، مما يجعلهم ينحون منحى، التجريبيين، والوضعيين، الذين بقوا حبيسي المذهب التجريبي، المثالي الذاتي، ويدعون أنهم يطورون الماركسية.
والأخطر في مضمون هذا الكتاب، هو، اختزال خلاصات لينين الديالكتيكية، بل وبطرها، وتفسيرها تفسيرا خاطئا، كما جاء في قول ماو "إن وجهتي النَّظر الأساسيّتين (أو الممكنتين؟ أو المُشاهدتين تاريخياً؟) عن التطوُّر (الارتقاء) هما: التطور كنقصان وازدياد، كتكرار؛ والتطوُّر كوحدة الضدَّين (انقسام الواحد إلى ضدَّين متعارضين تربط بينهما علاقة متبادلة)."، التي سماها أنها قول لينين في "حول الديالكتيك"، وفي هذا القول تشويه لمنظور لينين حول الديالكتيك الماركسي، عبر قول ماو بأن لينين يقصد هنا "النظرة إلى العالم" من وجهة نظر "المادية" و"الميتفيزيقية"، بل وتحريف أقوال لينين، وتأويلها وتنسيبها إليه ؟
ومن خلال ذلك، اختزال خلاصة لينين، التي استخرج منها ماو مقولته السابقة وأنسبها إلى لينين، لتفسير ما سماه "نظرتان إلى العالم"، في تحريف صارخ لخلاصة لينين، التي تحدث فيها حول "حركة العالم"، من وجهة نظر الديالكتيك الماركسي عند لينين، في تطويره للمعرفة الماركسية، إلى مستوى عال، في نقده للمذهب التجريبي، عبر صياغة نظرته إلى حركة العالم، أو نظرة الديالكتيك الماركسي إلى المادة والحركة.
وخلاصة لينين في "حول الديالكتيك"، في نظرته إلى الحركة والمادة، يتناقض تماما مع تأويل ماو لأقواله، بل وتحريف هذا النص الوارد في كتابة "حول الديالكتيك"، الذي جاء فيه:"ولأجل إدراك جميع تفاعلات العالم من حيث حركتها الذاتية، من حيث تطورها العفوي، من حيث واقعها الحي، ينبغي إدراكها من حيث هي وحدة من الأضداد. إن التطور هو "نضال" الأضداد. إن مفهومي (أو المفهومين الممكنين؟ أو المفهومين اللذين يعطيهما التاريخ؟) التطورين الأساسيين هما: التطور بوصفه نقصانًا وزيادة، بوصفه تكرارًا، والتطور بوصفه وحدة الأضداد (ازدواج ما هو واحد، إلى ضدين ينفي احدهما الآخر، والعلاقات بين الضدين(."، هذا النص، الذي يوضح فيه لينين التناقض في حركة العالم، يختزله ماو، في كون لينين يقصد به النظرة المادية والنظرية المثالية للعالم، في اختزال تعسفي لأهم خلاصاته حول الديالكتيك الماركسي، بل وتحريفها عن اتجاهها العلمي المادي.
لا ندري، في النص المنسوب إلى ماو، في كتاب "في التناقض"، هل هو فعلا ماو، هو الذي قام بهذا التحريف؟ أم الناشر؟ أم المترجم؟ سؤال مطروح أمام أصحابنا "الماويين" !
إن دراستنا لكتاب "في التناقض"، تقودنا إلى اكتشاف، مدى التناقض الصارخ بين خلاصات ماو وخلاصات لينين، والتناقض الصارخ، الذي يوجد في أقوال ماو التبسيطية، التي يسميها أصحابنا "الماوييون" مستوى عال من الديالكتيك الماركسي، يقودنا إلى التوصل، أن ماو لم يقم إلا بتحريف الديالكتيك الماركسي عند لينين، من الديالكتيك المادي إلى الديالكتيك الميتافيزيقي.
حاول ماو إنتاج أفكار جديدة عن التناقض ولم يستطع تجاوز خلاصات لينين، بل عمل على تحريف بعضها، لكون أسلوبه في التعامل مع الديالكتيك، لم يتجاوز المستويات الابتدائية في تعليم تعاليم الماركسية، ونحن ننتقد ذلك المنحى في التعامل مع الديالكتيك الماركسي.
وحاول تبسيط الديالكتيك بالبدء بالأفكار الأولية عن العالم، وهو يتحدث عن الشيء، باطن الشيء، علاقته بالأشياء الأخرى، وتطوه، من أجل تفسير معنى الذاتي والموضوعي والعلاقة الجدلية بينهما، في قوله :"والواقع أنه حتى الحركة الميكانيكية المسببة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم بباطن الأشياء. وكذلك فإن النمو للنباتات والحيوانات وتطورها الكمي مسببان بصورة رئيسية عن تناقضاتها الباطنية. وينطبق نفس الشيء على المجتمع، فإن تطوره مشروط، بصورة رئيسية، بالأسباب الباطنية، لا الخارجية. فإن ثمة بلدانا عديدة تتسم بالعوامل الجغرافية والمناخية المتماثلة تقريبا، ومع ذلك فهي تختلف في تطورها اختلافا بينا، وتتفاوت درجات تطورها اختلافا عظيما، وإن تبادلات اجتماعية هائلة قد تجري في ذات البلد الواحد، بدون أن يطرأ أي تبدل على جغرافية هذا البلد ومناخه."، هنا يوجد التناقض، التشويش، بالخلط بين ما لا يجب المقارنة بينه وبين غيره.
هذا النص يبين بشكل واضح، مدى صحة ما أكدناه عن تبسيط الديالكتيك عند ماو، الذي أوقعه في خلط بين ما يجري في الطبيعة وما يجري في المجتمع، فما يجري بباطن الأشياء في الطبيعة، لا يماثل ما يجري بباطن المجتمعات البشرية، في أوساط المجتمعات البشرية، فالأشياء في الطبيعة قد تتأثر بالجغرافية والمناخ، وتتأثر بذلك طبعا بشكل كبير، أما الإنسان فلا يتأثر بالطبيعة إلا بشكل نسبي، هنا وقع الخلط لدى ماو، في محاولته مقارنة ما يجري في الطبيعة، مع ما يجري في المجتمع، وبشكل تبسيطي للديالكتيك.
إن الإشكالية التي تعرضت ماو في الحزب الشيوعي الصيني، هي أن مناضلي الحزب لم يكونوا ماديين فكريا بالمعنى الماركسي، مما أضطره إلى إعطائهم دروسا ابتدائية في تعليم تعاليم الماركسية، ولم يقم هنا بتطوير الديالكتيك الماركسي، كما يدعي "الماويون"، إنما أعاد ما تجاوزه الفكر البرجوازي، الفلاسفة البرجوازيون في عصر الأنوار، بل ذهب إلى إبراز الأفكار البدائية، التي تعتبر أن الطبيعة هي التي تحدد مجرى المجتمع، فالإنسان البدائي يعتبر الطبيعة هي مركز حركته، لما يصور لنا حدثا معينا، يصور الأشجار تمشي، الجبال تتحرك، والقمر يسير ..إلخ.

حول التناقض في الطبيعة والمجتمع

ومقارنة ما يجري في الطبيعة بما يجري في المجتمع، من أجل تأكيد وجود قانون التناقض في الطبيعة والمجتمع، لا يتم بشكل ميكانيكي، الذي حاول ماو دحضه، لكن ماو يقع في نفس التفسير الميكانيكي، أو الديالكتيك الميتافيزيقي، بالخلط بين نمو النباتات في الطبيعة، وتطور الإنسان في المجتمعات، ذلك أن ماو بمحاولته تبسيط الديالكتيك، أو تعليم الديالكتيك بشكل تبسيطي لمناضلي الحزب، أوقعه في السقوط في الديالكتيك الميتافيزيقي، والتفكير الميكانيكي.
إن محاولة ماو، تجاوز الفكر البرجوازي الرجعي، ومحاربته في صفوف مناضلي الحزب، يتطلب دراسة الفكر البرجوازي، الذي لعب دورا هاما في القضاء على مخلفات الفكر الإقطاعي، المرتكز على الفكر الديني، ذلك ما لم يقم به ماو، مما جعله بعمله هذا، يمارس القطيعة الإبستيمولوجية مع تطور الفكر البشري، في الصين شبه الإقطاعية، المتناقضة مع أوربا الثورة البرجوازية، إذ لا يمكن أن نؤسس للفهم الماركسي اللينيني، دون دراسة تاريخ تطور الفكر البشري، فالمسألة التي يريد مار معالجتها في هذا النص، تستوجب معالجتها في علاقتها بتطور الفكر البشري، من الإقطاعية إلى الرأسمالية، وبروز الاشتراكية العلمية، ويعتبر الفكر البرجوازي في هذه العملية، تقدميا في حينه، بعد انتصار المفاهيم البرجوازية على مصالح الإقطاع، قبل بروز الاشتراكية نقيض الرأسمالية.
لقد كان للتطور الهائل للقوى المنتجة بفرنسا، واستعداد البورجوازية الفرنسية، لخوض معارك الثورة البرجوازية ضد الإقطاع، من أجل تدمير علاقات الإنتاج الإقطاعية، دور هام في بناء الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين، الذين حملوا فكرا متطرفا ضد الأفكار القديمة، من الطبيعة مرورا بالدين وصولا إلى السياسة والاقتصاد، من أجل القضاء على النظام الإقطاعي، حاربوا الفكر المثالي، ويقول ديدرو في هذا الصدد :"إن الحقيقة ليست هي الله الذي هو الطبيعة بل هي إما الله أو الطبيعة"، وحقق الماديون الفرنسيون نجاحا باهرا في تطوير الفلسفة الطبيعية، لكنهم فشلوا في مجال التاريخ، ولم يستطيعوا فك علاقة الإنسان بالمجتمع وعلاقته بأفكاره، مما جعل أفكارهم المادية التي أعطت الأهمية للطبيعة، عاجزة عن الوصول إلى العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، ويقول هيلفيتيوس :"إن الإنسان تصنعه ظروفه الاجتماعية"، مما يطرح إشكالية تغيير المجتمع، حيث إذا أراد الإنسان أن يتطور، لابد له من تغيير ظروفه الاجتماعية، التي صنعته الشيء الذي يطرح التناقض بين علاقة الإنسان بمحيطه.
وهكذا يجب طرح مسألة الديالكتيك، دون بطر جزء مهمة من تاريخ تطور الفكر البشري، وصدق لينين لما قال إن الاشتراكية تبني نفسها من الأدوات التي خلفتها الرأسمالية، ولا يمكن الانتظار حتى يصبح المجمع كله بروليتاريا حتى نقوم بالثورة الاشتراكية، وإن البروليتاريا لما تظفر بالسلطة، تعامل العلماء الطبيعيين الذين خلفتهم البرجوازية معاملة الجار للجار، على أساس أن يقوموا بالمهام التي تحملها إياهم البروليتاريا، كما قال لينين، أما محاولة ماو نشر الدياليكتيك بهذا الشكل التبسيطي، إنما يندرج ضمن النظرة الميكانيكية للأشياء، بينما هو يريد دحض هذا التفكير، لكن بأدواته نفسها، وليس بالديالكتيك الماركسي عند لينين.
هنا تكمن علاقة التناقض بين الإنسان والعالم الخارجي، الإنسان والمجتمع، ليس في تناقض مع الطبيعة، لكن في تناقض مع ظروفه الاجتماعية، ومقارنة النبات في الطبيعة، كما تحدث ماو عن هذا التناقض، وما سماه "باطن الأشياء" في الطبيعة، الذي لا يطابق باطن حركة الإنسان في المجتمع، التي تشكل تناقضا في مستوى عال، من البسيط في النباتات والطبيعة، إلى المعقد في الإنسان والمجتمع، وهنا يوجد الخلل فيما أورده ماو، بمقارنة ما لا يمكن مقارنته.
من هنا، لابد من التذكير بجذور الخلل في التفكير لدى مناضلي حزب ماو، من خلال التذكير بالخلل في الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين في القرن 18، الذي يتجلى في اعتبارهم أن الإنسان نتاج ظروفه الاجتماعية، مما يعني أن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان، وليس العكس، ويقول جون لوك في هذا الصدد :"إن أفكار الناس لا تخلق معهم بالفطرة"، وعارض أفكار ديكارت، الذي اعترف بالأفكار الفطرية، ولم يستطع الفلاسفة الفرنسيون تطوير مفهوم التاريخ، وظلوا حبيسي الفلسفة المادية الطبيعية، النظرة الميكانيكي للمجتمع، نتيجة عدم قدرتهم على القطيعة مع الميتافيزيقا، وقام هيكل، باكتشافه للصيرورة الجدلية، بحسم مسألة تطور التاريخ، لكن دون القطيعة مع مخلفات الميتافيزيقيا، التي قام ماركس بإزالتها عن الديالكتيك الهغلي، وأسس الديالكتيك الماركسي.
وجاء في محاولة ماو دراسة التناقض في النظرة إلى العالم، من وجهة نظر المادية، في تناقض مع وجهة النظر المثالية، وأكد أن الديالكتيك المادي يدعو إلى "دراسة تطور الشيء في باطنه ومن حيث صلته بالأشياء الأخرى، وذلك بمعنى أنه ينبغي النظر إلى تطور الشيء على أنه حركته الباطنية والذاتية والحتمية، وأن كل شيء يرتبط في حركته بالأشياء الأخرى التي تحيط به ويتبادل معها التأثير. فالعلة الأساسية في تطور الشيء إنما تكمن في باطنه لا خارجه، في تناقضه الباطني. وهذا التناقض الباطني موجود في كل الأشياء، وهو الذي يبعث فيها الحركة والتطور."، وهنا ينسجم مع ما هو عام حول التناقض في الأشياء.
لكن ماو، هنا، في هذا النص، لم يفسر لنا كيف نشأت هذه الأشياء، التي يتحدث عنها وعن تطورها الباطني، في انطلاقتها الأولى في الطبيعة، التي نعرف جميعا أنها موطن هذه الأشياء، كما هو الشأن بالنسبة للإنسان، والتناقض في باطن الأشياء، لم ينشأ دفعة واحدة، إنما هو نتيجة الصراع في الطبيعة، في تفاعلات مكونات المادة، من تكون الذرات الأولى، والجزيئات الأولى، والأجسام الأولى، في أشكالها المختلفة، الصلبة، اللزجة، السائلة والغازية، وفي أشكالها الحيوية، نشوء المادة الحيوية، عند النباتات والحيوانات، وفي أعلى تطور المادة الحيوية عند الإنسان، وكيف أن التطور لم يشمل الإنسان دفعة واحدة، بل يختلف تواتره بين المجتمعات البشرية، بشكل صارخ، ذلك ما جعل ماو يتكلم عن "المجتمعات المتخلفة"، ولكن دون أن يوضح لنا ماذا يقصد ب"التخلف"، هنا يظهر بوضوح المستوى الابتدائي في تعليم تعاليم الماركسية في كتاب "في التناقض".
لم يستطع ماو المغامرة في عمق الأشياء، في تناقضها الداخلي، الذي سماه الباطني "الأساسي" في التطور كما قال، ذلك أنه لم يستطع تجاوز خلاصات لينين في نقده للتجريبيين، في الخوض في المسائل العلمية، في العلوم الطبيعية، في العلوم الحقة، الدقيقة، في علاقتها بالديالكتيك الماركسي، في انعكاس المادة في ذهن العلماء الطبيعيين، بعد أزمة الفيزياء، التي جعلت العلماء الفزيائيين البرجوازيين، يرجعون بالديالكتيك المادي إلى الخلف، من ماركس إلى بركلي، من المادية إلى المثالية، وحسم لينين الصراع مع المثاليين الذاتيين، العلماء التجريبيون اللاعرفانيون، وطور الديالكتيك الماركسي إلى أعلى مستوياته، المذهب الماركسي اللينيني.
وفي كتابه هذا، "في التناقض"، يقوم ماو باستعارة بعض أقوال لينين، حول الديالكتيك، لكن دون أن يقول أنه قد تم تجاوزها، ودون أن يقر أنه طور الديالكتيك الماركسي إلى أعلى مستوياته، كما يدعي "الماويون" اليوم، إن ما قام به ماو، باعترافه، وفي قول الناشر أن الغرض من هذا الكتاب، هو محاربة الفكر المثالي في صفوف مناضلي حزبه، الذي انتشر بشكل خطير في صفوفهم، وهذا الكتاب محاولة لتبسيط الديالكتيك الماركسي عند لينين، لكن ماو يقع في التناقض، حيث منهجه التبسيطي أوقعه في الأخطاء العلمية.
والخطأ الأساسي في فكر ماو، في هذا الكتاب، هو اعتقاده أنه يمكن تغيير الفكر المثالي، بإنتاج أفكار مجردة، مما أوقعه في المثالية الذاتية، حيث لا يمكن تغيير المجتمع، من باطنه، من داخله، دون تغيير الأساس الاقتصادي لهذا المجتمع، فمحاربة الأفكار الرجعية، لا يتم فقط بنشر الأفكار التقدمية، خاصة وأن المجتمع الصيني مجتمع شبه إقطاعي، مما يؤكد أن الحزب الشيوعي الصيني في 1937، لم يستطع بعد ربع قرن، نشر الماركسية في صفوف مناضليه، وذلك راجع ليس لنشر الأفكار البرجوازية المتسمة بالمثالية والرجعية فقط، كما جاء في الكتاب، إنما كذلك، لضعف تطور المجتمع الصيني.
ونظرا للمستوى المعرفي لمناضلي حزب ماو، لم يجرؤ ماو على الخوض في مسائل العلوم الحقة، الدقيقة، كما فعل لينين قبله، واكتفى بسرد بعض خلاصات لينين، محاولا تبسيطها، بهدف إزالة المثالية في تصورات مناضلي حزبه الشيوعي، خاصة في أوساط الشباب ـ هذا الكتاب عبارة عن محاضرة في الكلية الحربية والسياسية المناهضة لليابان في يانآن في 1937 ـ فهو إذن عبارة عن دروس تكوينية، لهذا لا يسمح له الوقت بأن يخوض في المسائل العلمية الحقة، فما بالنا بنقل قوانينها من الطبيعة إلى المجتمع، وهما مجالان مختلفان جذريا، إلا في المسائل المتعلقة بالقوانين العامة للحركة، في الطبيعة والمجتمع، في علاقة المادة بالحركة، هذا ما يمكن أن يبرر بساطة مضمون هذا الكتاب، واحتمال ورود الأخطاء فيه.
وفي أحد نصوص هذا الكتاب جاء ما يلي :"ومن الواضح أن الأسباب الخارجية الصرفة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الحركة الميكانيكية للأشياء، أي إلى تغييرات في الحجم والكمية، لكنها لا تستطيع أن تفسر لماذا تختلف الأشياء نوعيا ذلك الاختلاف الذي لا يمكن حصره، ولماذا يتحول الشيء من نوعية إلى أخرى. والواقع أنه حتى الحركة الميكانيكية المسببة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم باطن الأشياء."، إلى حد الآن لم يجرؤ ماو على السير بالتناقض إلى ما لا نهاية، مشيرا فقط إلى أن التناقض موجود في العلاقة الخارجية للأشياء، من أجل حصر "التناقض الرئيسي"، كما سماه، في باطن الأشياء.
وهنا، يبخس ماو دور التأثيرات الخارجية على باطن الأشياء، ويقول أنها ليست أساسية، وهنا يقع في التناقض مع مضمون الديالكتيك، الذي يدحض وجود المطلق بعينه، كمطلق، دون علاقته بالنسبي، فكما قال لينين في كتابه "حول الديالكتيك" :"إن الذاتية )الريبية والسفسطائية، .. إلخ( تختلف عن الديالكتيك، فيما تختلف عنه، بما يلي، وهو أن الفرق بين النسبي والمطلق هو أيضا نسبي بنظر الديالكتيك )الموضوعي(. فبنظر الديالكتيك الموضوعي يوجد مطلق في النسبي. أما بنظر الذاتية والسفسطائية، فالنسبي ليس سوى نسبي، وهو ينفي المطلق."، هنا جعل ماو، ما سماه التناقض الباطني، مطلقا، وجعل التأثيرات الخارجية نسبية.
ووقع ماو، هنا، في الذاتية والسفسطائية، لكونه يحاول تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، إلا في حدود حصره في تناول حالة معينة، محددة، في مجال معين، في الطبيعة والمجتمع، في العلاقة بين المادة والحركة، دون أن يكون القانون الذي تم استخلاصه نهائيا، ونتائجه تكون نسبية، وعملية الديالكتيك فيه محددة، لا تتجاوز ما تم حصره، في الزمان والمكان، مع نوعية المؤثرات المحددة لذلك، كما يفعل الفيزيائيون عندما يحصرون نقطة معينة، في مستوى معين، أو مجموعة معينة من النقط، لتطبيق قانون السرعة، في علاقتها بالمادة والحركة، دون أن ينسوا، أن نتائجهم نسبية إلى حد ما، هذا في مستوى الميكانيك، أما على مستوى الكوانتوم، فالنسبية ترتفع، لكون الأشياء لا ترى بالعين المجردة، وفي حالات قصوى، لا نراها أبدا، إنما يتم تخيلها، وتطبيق قانون "التناقض" عليها، باعتباره قانونا موجودا في الطبيعة، كما هو الشأن في سرعة الضوء، التي أبهرت علماء العلوم الطبيعية، ووقعوا في الفكر المثالي الذاتي، في محاولتهم لتفسير العالم.
إن ماو، من خلال هذا الكتاب، لم يدرس أبدا العلوم الحقة، حق قدرها، خاصة الفيزياء، ونظرية الكوانتوم، التي تناولها لينين في نقده للتجريبيين، هذه النظرية التي أحدثت أزمة في الفيزياء، وغيرت التفكير من النظرة الميكانيكية للأشياء، والمادة، إلى النظرة النسبية لمعارفنا عن العالم، هذا على مستوى العلوم الطبيعية، أما على مستوى علم الاجتماع، فالماركسية أعطت إجابات صحيحة لهذه الأزمة، التي أدخلت التشويش في ذهن علماء الفيزياء البرجوازيين، فما بالنا بجماهير العمال والفلاحين الفقراء بالصين، ذلك ما جعل النظرة إلى العالم لذا أساتذة العلوم الطبيعية، وخاصة الفيزيائيين، تتسم بالمثالية الذاتية، لعدم قدرتهم على استيعاب الديالكتيك الماركسي، هنا جاء دور لينين، الذي نور العلماء الطبيعيين بروسيا الاشتراكية، مما ساهم في تطور النظرة العلمية لديهم، وأنتجوا أعمالا علمية عظيمة، الشيء الذي ساهم في تطوير الصناعة بالاتحاد السوفياتي.
أما في المجتمع، فالنسبية في هذه النتائج، تكون جد مرتفعة، ذلك ما أبهر ماو، عندما لاحظ أن مناضلي حزبه، لم يستوعبوا مضمون الديالكتيك الماركسي، فحاول، في محاضرة واحدة، اختزال ما يمكن اختزاله، في مضمونه المادي، وحصره في قانون "التناقض"، الذي بدوره حاول اختزاله، وحصره في بعض مقولات لينين، محاولا تطبيقها على العالم، لكن بشكل بسيط، حيث ذهب بعملية الديالكتيك، محاولا تطبيقها، لكن على مستوى أدنى من تعاليم الماركسية، وفي تطبيقها على المجتمع، بنقل قانون "التناقض" من الطبيعة إلى المجتمع، لكن بشكل بسيط، ناقص، ذلك ما يتناقض وتاريخ تطور الفكر البشري، من الديالكتيك البدائي لدى الهنود والإغريق، إلى نظرية النسبية عند إنشتاين، والعلماء الفيزيائيين البرجوازيين، وتصحيح أفكارهم من طرف لينين، بالدفع بالديالكتيك الماركسي إلى الأعلى، هنا يبدو عمل ماو بسيطا.

بأي معنى يمكن تطوير الديالكتيك الماركسي ؟

في 1937، لما قطعت نظرية النسبية أشواطا في التطبيق والنقد، والتناقض بين المثالية الذاتية، التي أحدثتها، والديالكتيك الماركسي، مازال ماو يعطينا أمثلة من عهد اليونان القديم، وقوله :"فالبيضة تتبدل في درجة حرارة ملائمة فتصير كتكوتا، ولكن الحرارة لا تستطيع أن تحول حجرا إلى كتكوت، لأن كل منهما أساسا يختلف عما للآخر."، إنما يدل على هذه البساطة، والتعامل الساذج مع الآخرين.
ومقارنة "البيضة" ب"الحجر"، لا يمكن نعته إلا بالسذاجة في التفكر، حيث لا مقارنة بين الجسمين، بين المادة الحيوية، والمادة الصلبة، وهنا يمكن أن نتحدث عن المطلق، في الهدف الذي وضعه ماو، لكن في قانون "التناقض"، يمكن أن نبين أن في كلتي الحالتين يوجد تناقض داخلي، فقانون "التناقض" يسري على المادة في علاقتها بالحركة، والحركة تختلف من مجال إلى مجال، من جسم إلى آخر، حسب الزمان والمكان، والشروط المحيطة به، فعامل الحرارة يؤثر في البيضة والحجر معا، لكن النتائج هي التي تختلف، ذلك ما يريد ماو تفسيره، لكن يبقى، تفسيره محصورا في مستوى أدنى من الديالكتيك، حيث لم يدفع به إلى أعلى مستوى، وهو أن الحجر يمكن أن يذوب في مستوى عال معين من الحرارة، كما أن البيضة لا تعطي دائما كتكوتا، إلا في شروط معينة، وهي أن تخضع أولا للتلقيح، في علاقة ذلك بمدة زمنية معية، ومحددة، قبل تعرضها للحرارة، وفي شروط ثانوية أخرى، أن لا يمسها جرثوم في مدة تعرضها للحرارة، فهل تلقيح البيضة مسألة ثانوية ؟
فبدون تلقيح البيضة، لا يمكن الحديث عن التناقض الباطني في البيضة، الذي يعطي الكتكوت، هنا تكمن سذاجة استعمال البيضة من طرف ماو، لتفسير التناقض الباطني، الذي يرجع بنا إلى سؤال أصل العالم، لا ما يجري في العالم، إلى أصل المادة الحيوية، وهنا يكمن الفرق بين الديالكتيك الماركسي عند لينين، في انتقاده للتجريبيين، وبين ديالكتيك ماو في مستوى أدنى من المعرفة الساذجة.
وإذا أردنا الدفع بالديالكتيك إلى مستوى عال، انطلاقا من مثال ماو حول "البيضة"، يمكن أن نطرح السؤال الرائج في الأوساط الشعبية، هل الدجاجة أسبق أم البيضة ؟ للجواب على هذا السؤال، ننطلق من كون البيضة الملقحة هي التي تعطي الكتكوت، وبما أن التلقيح يجري بين كائنين حيويين، فإن وجود كائنين أولين، أو مجموعة من هذه الكائنات، على مستوى الخلايا الحيوية، ذات صفة الذكورة، وذات صفة الأنوثة، في المجال الطبيعي الحيوي، كما هو الشأن في جميع الكائنات الحية، بعد نشوء عالم المادة الحيوية، وتلقيحهما، بازدواجهما، في وحدة، تسمى بيضة، يحكمها التناقض، في ظل صراع الضدين، كما أوضح لينين ذلك في كتابه "حول الديالكتيك".
ولا يمكن أن نتحدث عن التناقض الباطني، الداخلي، بدون ازدواج الاثنين، خلية الذكر وخلية الأنثى، في مثال البيضة، ولكن أين يكمن الأساسي في"التناقض" هنا ؟ التناقض هو قانون، يحكم الضدين أينما تواجدا، في ظل الوحدة، في الطبيعة والمجتمع، ما هو أساسي وثانوي هو الصراع بين الضدين، لكن هذا كما رأينا سابقا، يحكمه ما يحكم المطلق والنسبي، العام والخاص، في جميع الأشياء، وفي الصراع في المجتمع، وفي مستوى عال للصراع في المجتمع، الاستراتيجي والتكتيك، في عملية الجدلية بينهما، ففي النسبي مطلق، وفي الخاص عام، وفي التكتيك استراتيجي ...إلخ.
وهنا لا أعتقد أن ماو، في هذا الكتاب، يسعى إلى تطوير الديالكتيك الماركسي، بقدر ما يريد تبسيطه حتى يكون في متناول أعضاء حزبه، الذين تشوب تصوراتهم النظرة المثالية للعالم، وما يجري في الحركة الاجتماعية، يجري في الحركة المعرفية.
وعلى مستوى الحركة المعرفية، وعلى مستوى قانون "التناقض"، نرى أن كانط توصل إلى مفهوم التناقض، وسماه الجوهر النهائي، لكنه لم يدفع به إلى مستوى عال، إلى الديالكتيك، وانطلق هيغل من التناقض عند كانط، وانتقد هذا المفهوم، وأسس مفهوم الصيرورة الجدلية، العلاقة بين الأشياء سبقت وجودها، أي قانون "التناقض"، وهو أساس تكوين الأشياء، في العلاقة داخل الأشياء، وليست خارجها، ولا خارج الأشياء فيما بينها، وهو "التناقض" بداخلها، الذي يعتبر جوهر كل شيء، وانتقد ماركس مفهوم التناقض عند هيكل، لكونه صاغه داخل الفكرة المطلقة، وهو مفهوم مثالي، وأخرج جدلية هيغل من الفكر إلى الواقع، انطلاقا من الواقع الملموس، من الجدلية المثالية إلى الجدلية المادية، وصاغ مفهوم التناقض التناحري، وهو جوهر الحركة، الذي يجعل أحد الضدين ينفي الآخر في وجوده وليس في تماثله، كما هو الشأن في الصراع الطبقي، وصاع القانون الأساسي الثاني، النفي ونفي النفي، الذي يتبلور عبر القانون الثالث، الكم والكيف، وتراكمهما، وتحول التراكم الكمي إلى تراكم كيفي، وحدوث القفزة النوعية.
ولا يعتبر ماركس الدولة حلا للصراعات الاجتماعية، كما أقر هيغل في مفهومه للتناقض، بل هي مجال لصراع الضدين، في ظل قانون النفي ونفي النفي، تنتهي بالقضاء على أحد الضدين المتناحرين، وفي نفس الوقت يتم تناقض تناحري جديد في ظل صيرورة جدلية جديدة، والجوهر ليس شيئا ثابتا، بل هو معطى متحرك.
نرى فيما سبق كيف تحول مفهوم التناقض، عبر عملية النفي ونفي النفي، من مفهوم كانط، مرورا بمفهوم هيغل، وصولا إلى مفهوم ماركس، من الجوهر المطلق، مرورا بالفكرة المطلقة، وصولا إلى المادية، من اللاعرفانية، مرورا بالمثالية الذاتية، وصولا إلى الديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين، بالدفع به إلى أعلى مستوى، في نقده للعلماء التجريبيين، الذين يريدون تجاوز الماركسية، باسم تطويرها، فسقطوا في اللاعرفانية.
ودفع لينين بنفي النفي، في صراعه ضد الإمبريالية، وبنى أول مجتمع اشتراكي، تقوده البروليتاريا بقيادة حزبها الثوري، لكن ليس بشكل مطلق، بل في ظل صراع الضدين، حيث لم يتم نفي الإمبريالية بشكل نهائي، بل بقي الصراع بين الضدين متواصلا، على المستوى العالمي، الذي قاده ستالين بعده، في العلاقة التناقضية، بين الاشتراكية والإمبريالية، بعد انتصار الاتحاد السوفييتي الجزئي على الإمبريالية، وبناء الوطن الاشتراكي، وفي ظل وجود مجتمعات مضطهدة، ومن بينها المجتمع الصيني، الذي حاول ماو، قيادة حرب التحرير ضد المستعمر الياباني، بقيادة حزبه الشيوعي، الذي تعوقه البنية الاجتماعية، ذات الأسس ما قبل ـ رأسمالية، مما طرح أمامه إعادة بناء مفهوم النظرة العلمية المادية إلى العالم.
ففي ظل سيطرة الإمبريالية اليابانية على الصين، التي دخلت الحرب الإمبريالية العالمية الثانية في 1939، سنتين بعد كتابة هذا الكتاب، وامتدادات الحرب في أوج الصراع بين الاشتراكية والإمبريالية، وانتصار الاتحاد السوفييتي الجزئي على الإمبريالية بقيادة ستالين في 1945، في الوقت الذي مازالت فيه الصين في ظل الصراعات الداخلية، واستمرار الحرب من أجل السلطة، والتي لم يتم حسمها جزئيا لصالح ماو إلا في 1949، لتبرز صراعات جديد أمام الحزب الشيوعي الصيني، في ظل التناقض في الصراع بين البروليتاريا والبرجوازية حول السلطة.
وفي نفس السياق، في مسألة التناقض، هل تقسيم الواحد إلى اثنين يتم عبر التناقض الباطني فقط ؟ أم أن دخول جزء خارجي هو الذي يحدث هذا التحول الكبير ؟ مما يؤدي إلى تقسيم الواحد إلى اثنين، وإحداث انفجار هائل وغير مجرى الحروب الإمبريالية؟ وهل يبقى التناقض الباطني أساسيا بشكل مطلق؟ أم أن صفته الأساسية تبقى نسبية ؟
في الجزء الأول من كتاب "في التناقض" بعنوان "نظرتان إلى العالم"، لم يستطع ماو الغوص في ديالكتيك القضايا العلمية في العلوم الطبيعية، العلوم الحقة، كما فعل لينين في 1908، وبعد سنة من تاريخ وضع كتاب "في التناقض"، وفي 1938، عرفت العلوم الفيزيائية تطورا هائلا، على مستوى تفاعلات مكونات الذرة، خاصة ذرة اليورانيوم، الذرة الثقيلة، عبر تأثير امتصاص نترون واحد من طرف هذه الذرة، وتسمى هذه العملية انفلاقا Fission، الذي يؤثر على نواة هذه الذرة، ينتج عنه تقسيم الذرة إلى جزأين غير مستقرين، واثنين أو ثلاثة نترونات مستقلة، مما ينتج عنه انفجار هائل، وإشعاع هائل، بملايين درجات الحرارة، التي تحرق الأخضر واليابس، نواة القنبلة الذرية، التي تم إسقاطها على اليابان في غشت 1945، التي وضعت حدا للحرب الإمبريالية الثانية، والحرب الإمبريالية الكلاسيكية، وحرب اليابانية على الصين، دون أن ننسى طبعا، دور الاتحاد السوفييتي في تلك الحرب.
وقد يتحول هذا الإشعاع إلى طاقة هائلة، في التناقض بين مسار العملية، في السرعة والحركة، في التناقض بين الضدين، في ظل الوحدة، وفي امتداد الحركة، في الزيادة والنقصان، فكلما تم امتصاص نترون من النترونات المستقلة، كلما حدث انشطار وانفجار، وامتد الإشعاع، وهكذا إلى نهاية عملية امتصاص النترونات، كما وقع في حالة القنبلة النوويةA ، وحسب ارتفاع سرعة امتصاص النترون، ترتفع قوة الانفجار، وحسب انخفاض هذه السرعة، يتحول الإشعاع إلى طاقة هائلة، غرام واحد من اليورانيوم يعطى أكثر، مما يعطيه إحراق عدد كبير من أطنان الفحم الحجري.
حسب الديالكتيك، في المطلق نسبي، وفي النسبي مطلق، ونحن لا نريد، هنا، أن نؤكد ما إذا كان التناقض الباطني هو الأساسي أم لا، بقدر ما نريد أن نؤكد أن، في كل ما هو أساسي، يوجد نسبي، ثانوي، وأن الثانوي يتحول إلى أساسي، حسب نوعية الصراع، مستواه، ودرجة تطوره، فكما يتحول النسبي إلى مطلق، في درجة معينة، حسب أهميته في عملية الصراع، فإن الثانوي يصبح أساسيا، في مستوى معين من الصراع، وهكذا يكون الديالكتيك الماركسي، من العام إلى الخاص، وفي الخاص يوجد العام، وتناول التناقض في هذا المثال، يعتبر مستوى عال من الديالكتيك، في الطبيعة، في المادة، في الحركة داخل المادة، ويمكن نقله من الطبيعة إلى المجتمع، كما لا يمكن حصره في هذه النقطة بالذات.
وكما قال لينين :"يستطيع التفكير البشري بحكم طبيعته أن يعطينا وهو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة إلى مجمل الحقيقة المطلقة هذه، ولكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة وتضيق طورا من جراء نمو المعرفة اللاحق"، وبعد كل نتيجة علمية، يطرح تساؤل، يعطينا انطلاقة جديدة، للتفكير في المسائل العلمية المستقبلية، التي يستمر العلم بالخوض فيها، إلى حين الوصول إلى نتائج جديدة متطورة، متقدمة على ما سبقها من نتائج، لكونها نتائج نسبية، في حاجة إلى الذهاب بها نحو النهاية، ذلك ما لم نلمسه في كتاب "في التناقض"، الذي تمت كتابته في 1937، في علاقته بكتاب "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، الذي تمت كتابه في 1908.
لقد سبقت مضمون هذا الكتاب نتائج أعمال لينين الغزيرة، العميقة والمتطورة إلى حد بعيد، يمكن اعتمادها، كانطلاقة علمية جديدة في علم الديالكتيك، في عصر الإمبريالية، بكونها استنتاجات عامة، تضم إلى حد بعيد، المسائل الخاصة، في مسائل العلوم الطبيعية، خاصة الفيزياء، التي طورها ماركس وإنجلز في هذا المجال، في علاقتها بتطويرها في مجال الصراعات الطبقية، التي حاول ماو في كتابه هذا الإحاطة بها، لكن بشكل لم يضف أي جديد لاستنتاجات لينين، بقدر ما قام بتبسيط بعضها، لكن في تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، في حقل العلم، خاصة علم الديالكتيك، أرقى ما يمكن أن تصل إليه المعرفة البشرية، باعتباره مفتاح جميع الإشكاليات العلمية، المطروحة في الطبيعة والمجتمع.
فإذا كانت عملية انفلاق Fission، تعطينا انفجارا هائلا، فإن عملية انصهار Fusion، تعطينا انفجارا أقوى بكثير، ذلك ما توصل إليه علم الفيزياء النووية، من اكتشاف جد متقدم، القنبلة الهيدروجينية Bombe H، في تناول ذرة الهيدروجين، الذرة الخفيفة، لكن في عملية معقدة، التي تتم عبر ثلاث عمليات متتالية : انفلاق ـ انصهار ـ انفلاق Fission-Fusion-Fission، مما يحدث انفجارا يبلغ تأثيره مستويات عالية جدا، حدود شعاع دائرتها يصل إلى 100 كلم، وتبلغ فيه الحرائق الدرجة الثالثة، وتم تفجيرها في 1952، بينما الصين فجرت أول قنبلة نووية A في 1964.
لا نستعرض هنا، نوعية الأسلحة النووية، إنما نستعرض تواتر تطور العلوم الطبيعية، في علاقتها بعلم الديالكتيك، في مستوى عال، في هذه العملية، في التناقض الداخلي فيها، في سرعة المرور من جميع مراحل الديالكتيك، في ظل الوحدة، في المرور عبر القوانين الأساسية الثلاثة، التناقض، النفي ونفي النفي والكم والكيف، في سرعة فائقة، تعطي نتائج باهرة، في التناقض بين إيجابياتها، الطاقة الهائلة، وسلبياتها، انفجار هائل، في التناقض بين تسريع حركة النترون، وانخفاض حركته، في تراكم عدد النترونات المستقلة، ونوعية الانفجار، واستمراريته، في زيادته، ونقصانه، في توجيهه نحو إنتاج الطاقة، في صالح الإنسانية، وتوجيهها في دمار الإنسان والطبيعة.
وفي التناقض بين الذرة الثقيلة، اليورنيوم، والذرة الخفيفة، الهيدروجين، في التناقض بين القوة الهائلة، التي تنتج عن هذه العملية، في مستوى الذرة الخفيفة، التي تنتج دمارا هائل، أكثر مما تنتجه، الذرة الثقيل، فكيف يمكن ترجمة هذه العملية، من الطبيعة إلى المجتمع، في المجتمعات البسيطة، المضطهدة، مجتمعات العمال والفلاحين، حتى تنتج قوة هائلة ؟ قوة ثورية ؟
لا يعني امتلاك القنبلة النووية، تطور المجتمع الصيني، إلى حد مستوى تطور العلوم الطبيعية، خاصة علوم الفيزياء، فكيف يمكن ترجمة تطور العلوم الطبيعية إلى علوم الاجتماع؟ يمكن ذلك طبعا، عبر الماركسية، عبر الديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين إلى مستوى عال، المذهب الماركسي اللينيني، ليس عبر تلقينه للمناضلين، كما أراد ماو، فعل ذلك، إنما عبر كيفية جعله منهجا للتفكير، في علاقته بتطوير القوى المنتجة، ذات الصفة الثورية، لتحطيم علاقات الإنتاج القديمة، من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وإلى الهدف الأسمى، الشيوعية.
إن ما يسمى في علوم الحرب الحديثة بوسائل الدمار الشامل، وتطورها كما شاهدنا فيما سبق، لا يمكن إهماله في شأن التطور الاجتماعي، ذلك ما قامت به روسيا، الصين، الهند وباكستان، التي امتلكت السلاح النووي، وأصغر هذه البلدان كوريا الشمالية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة، أن هذه البلدان في مستوى واحد من التطور الاجتماعي مع بلدان متقدمة أخرى، رغم أنها شبه متساوية في مستوى التطور التكنولوجي في مجال الصناعة النووية، فرغم أن اليابان لم تمتلك هذه الوسائل المدمرة، إلا أنها في مستوى عال من التطور الاجتماعي، كما هو الشأن بالنسبة لسويسرا والدول الإسكندنافية، نتحدث هنا عن مستوى العيش وتطور العلوم، لكن يبقى النظام المهيمن في مجمل هذه البلدان، هو الرأسمالية الإمبريالية.
فهذه البلدان جميعها في وحدة مع أمريكا، الدول الأوربية الغربية والكيان الصهيوني، التي تنشر الحرب والاستعمار، واضطهاد البلدان الأخرى، والشعوب عامة، باسم امتلاك القوة العسكرية، والنووية خاصة، وتكرس التفاوت في التطور، التطور اللامتكافئ، كما سماه لينين، عبر تطور الدولة الاحتكارية، في ظل التناقض الداخلي في العالم، في الصراع في ظل هيمنة الرأسمال المالي العالمي، على السوق التجارية العالمية، حول تقسيم العمل، حول السيطرة على باقي البلدان المضطهدة، شبه المستعمرة، المستعمرة بشكل غير مباشر.
فكيف يمكن تحويل قوة البلدان المضطهدة، إلى قوة هائلة ؟ ليس عبر التسليح النووي طبعا، فهذا الاتجاه يحمل مخاطر كبيرة على الإنسانية، في ظل انقلاب النفي إلى ضده، من نفي النفي إلى النفي، كما وقع في روسيا والصين، لكن عبر اكتشاف القوة الهائلة، التي تتسم بها الشعوب المضطهدة، جوهرها، العمال والفلاحون، كيف يمكن تحويل هذه القوة إلى طاقة هائلة؟ طاقة متجددة، تقوم بإعادة بناء مفهوم الإنسانية، الذي وضعت الماركسية اللينينية، أسسها المادية، عبر الديالكتيك الماركسي لدى لينين.
وأحدث النظام الرقمي ثورة هائلة في التطور العلمي، وأصبح بإمكان الناس العاديين التواصل بسرعة فائقة ومواكبة الأحداث والتأثير عليها، مما خلق لدى الدول الاحتكارية هاجس الأمن، بعد انتفاضات بلدانها، وتأثيرها على الشعوب المضطهدة عبر "الربيع العربي"، الذي حولته إلى جحيم، سيعا إلى التحكم في تطور القوى المنتج بهذه البلدان، بعد تطورها الذي عرفته بفضل النظام الرقمي، وتطور الحواسب والهواتف الذكية التي تم استغلالها لنقل أخبار الانتفاضات والتأثير عليها وتحويلها إعلاميا، وعملت على وقف زحف الجماهير، وتوقيف البعد الثوري لهذه الانتفاضات، وتركيز الحرب بآسيا وإفريقيا، ووضع البرنامج المقبل للحروب اللصوصية، انطلاقا من الغرب الإفريقي، حتى تكتمل خريطة الأشكال الجديدة للاستعمار ونهب ثروات الشعوب المضطهدة، وأنهت جائحة كورونا هذا المشروع الاستعماري الإمبريالية الجديد بتهديد حياة الشعوب بالفناء، وفرض الطوارئ، وتوقيف الاستثمار الصغير، وتغيير أنظمة التعليم عبر استغلال وسائل التواصل الاجتماعي، ويحضر اتحاد الاحتكاريين السياسيين والاقتصاديين برنامجا جديدا لعالم جديد، يتم فيه استعمال النظام الرقمي للضبط الاجتماعي للشعوب والأفراد والتحكم في مسار ومصير حياتهم.

حول منظور الديالكتيك عند منظمة "إلى الأمام"

تشكل مسألة التوثيق في مسار منظمة "إلى الأمام" أهم، إن لم نقل، جل ما يمكن تسجيله في تاريخها التنظيمي والنضالي، حيث أن حجم الوثائق التي أصدرتها ، مضمونها الأيديولوجي، السياسي والتنظيمي، تفوق بكثير حجم نضالاتها الجماهيرية، منذ إصدار أول وثيقة لها في 30 غشت 1970 من طرف المناضلين المنسحبين من حزب التحرر والاشتراكية، وجميعهم إما موظفون، أساتذة، طلبة أو تلاميذ من شبيبة هذا الحزب، وانضم إليهم مثقفون وحقوقيون فيما بعد، أبرزهم الشهيد عبد اللطيف زروال.
وعزا المؤسسون للمنظمة انسحابهم إلى توجهاتهم الثورية التي تتناقض وتوجهات الحزب التحريفية، الذي اعتبروه تابعا للحزب الشيوعي السوفييتي التحريفي، وكانت وثيقة "سقطت الأقنعة فلنبن الطرق الثوري"، التي أبرزوا فيها مضمون تصورهم الأيديولوجي، السياسي، التنظيمي والنضالي، أول وثيقة من سلسلة وثائق أيديولوجية، سياسية وجماهيرية، ومن ضمنها :

وثيقة "تناقضات العدو والأفق الثوري بالمغرب"

وبما أن هذه الوثيقة صدرت في 1972، ونسبت إلى قياديين في منظمة "إلى الأمام" فإنها، ولا شك، تم اعتمادها في التصور الأيديولوجي والسياسي للمنظمة، ومن خلال قراءتها نستنتج بعض الملاحظات الأولية :

من حيث الشكل :

ترجمتها يشوبها نقص حاد يجعل الوثيقة بالعربية تعاني خللا في المعنى الذي يتبين من عدم تسلسل الأفكار وتناثرها مما يجعلها قد لا تفي بمضمون الوثيقة الأصلية، وهذا غالبا تعاني منه جل الترجمات.
إضافة إلى ذلك، تحاول المترجمة أن تتدخل في تفسير بعض المصطلحات مما يجعل تدخلها تعسفا على الكاتبين، فبدل أن تشير إلى المصطلح المستعمل بلغته الأصلية (الفرنسية) وتترك القارئ يستنتج ما يفهمه تختار المصطلح الذي ترى فيه المعنى المناسب حسب قولها.
مثلا مصطلح "السوسيال – امبريالية" مترجم ترجمة خاطئة بدل مفهوم "الاشتراكية الإمبريالية" كما حدده لينين، أي الاشتراكية قولا والإمبريالية ممارسة، والقصد هنا في الوثيقة هو تجربة الاتحاد السوفييتي.

من حيث المضمون :

تحتوي الوثيقة على بعض المصطلحات والأحكام الصادرة عن مضمون البنية الطبقية للنظام السائد بالمغرب، وأسسها المادية التاريخية والتي في حاجة إلى نقد علمي مادي.
مثلا مصطلح "المخزن" الذي يفتقد للأسس المادية التاريخية كالقول ب"طبقة المخزن" كما جاء في المقدمة.

نتناول بالنقد بعض النقاط التي جاءت في المقدمة :

جاء في الوثيقة :" طبقة المخزن" هذا المصطلح الذي يفتقد للأسس الطبقية يتم إدراجه في تحليل الطبقات بالمغرب، ذلك ما لا ينسجم والتحليل المادي العلمي لتاريخ تطور الصراعات الطبقية بالمغرب، كما جاء في الوثيقة في محاولة لتفسير هذا المصطلح عبر القول:" تهيكلت الطبقة التي توجد في موقع السلطة تاريخيا في السيرورة التي انطلقت ابتداء من الانحطاط المريني وبشكل أكثر انسجاما في ظل الأسرة العلوية , حيث قامت بتنظيم المخزن كجهاز استغلال للبنيات الجماعية الفلاحية المنظمة في القبائل".
نحن نعلم جميعا أن تفكيك الدولة الموحدية انبثق عنه ثلاث دول من بينها الدولة المرينية، التي حكمت المغرب بعد فشلها في توحيد تونس/إفريقيا والجزائر/تلمسان والمغرب/مراكش، ودولة الإمارة بالأندلس بدأت في الانحطاط، بعد نهضة الأمم الأوربية واكتشاف البارود ونشوء الرأسمال التجاري، انطلاقا من إيطاليا في علاقتها التجارية بدولة الموحدين بشمال إفريقيا، ونشأت الطبقة التي حكمت المغرب منذ ذلك الحين، بعد بروز الأرستقراطية المدنية المشكلة أساسا من الأندلسيين الهاربين من الأندلس، بعد سقوط دول الإمارات، وهم مثقفون وتقنيون يقودون النقابات والجمعيات الحرفية بالمدن (تطوان، الرباط، فاس)، ولا يملكون الأرض، عكس الأرستقراطية القبلية، وأصبحوا الذراع الأيمن للنبلاء والأشراف بالمدن، الذين أسسوا الدولة المركزية، وهم يسيطرون على التجارة مما عزز أسس البورجوازية التجارية الناشئة بالمدن.
وبالمقابل هناك أرستقراطية قبلية، القياد الإقطاعيين الذين يملكون الأراضي والعبيد والجيش، ويتمتعون بحكم ذاتي نسبي عن سلطة أرستقراطية المدين، والأرستقراطية القبلية تكون دائما وراء الإطاحة بالدولة وبناء دولة جديدة، كما هو الشأن بالنسبة للمرينيين المنطلقين من الجنوب كغيرهم من الدول المرابطية والموحدية، والسعدية التي جاءت بعد المرينيين، هذه الدول تملك الجيش والعصابات الحربية الأساسية في بناء وإسقاط الدول.
هكذا تأسست دولة البرجوازية التجارية بالمغرب بعد سقوط دول الإمارات بالأندلس، على أساس التبادل التجاري بين شمال إفريقيا وإيطاليا عكس ما جاء في الوثيقة :"بورجوازية المخزن المركنتيلية , البيروقراطية , المالكة العقارية Absenteiste)) انطلاقا من المدن الرئيسية و تقوم إلى جانب العلماء بالوظيفة الإديولوجية المركزية. – الوكلاء – (Les Mandataires نقترح هذا المصطلح بدل مصطلح الإقطاعيين المستعمل عموما و الذي لا يوافق الواقع التاريخي للمغرب , وكذا مصطلح إقطاع ( Iqtaa ) المستعمل من طرف العروي ومؤلفين آخرين و الذي يناسب أحد أوجه هذه الفئة الاجتماعية – المكلفون بجبي الضرائب (لصالح المخزن و لصالحهم) و نقل المنتوجات الزراعية الموجهة للتصدير , هؤلاء الوكلاء هم من الأعيان المنبثقين من الجماعات الفلاحية والذين يتم إدماجهم بالجهاز المخزني عن طريق السيرورة الدينية ( الشرفاء ) أو الاجتماعية (القواد وإمغاران) ويتم إسنادهم بالجهاز العسكري المركزي للمخزن . هاته البنية المزدوجة القطبية تعتمد على مبدأ موحد هو الملكية خصوصا عن طريق الدور الموهم لمبدأ ”"
فالقياد الإقطاعيون/شيوخ القبائل "إمغارن" يملكون الأرض والعبيد وتأسيس الزوايا يكون بقرارهم وهي أدوات أيديولوجية تحت تصرفهم، ولم تكن الزوايا يوما مستقلة عن الأرستقراطية القبلية، التي تملك القوة الاقتصادية (الأراضي والعبيد) والعسكرية (جيش القبيلة) وتقرر في بناء الدول التي مرت بالمغرب، وقد تعززت قوة الأرستقراطية القبلية بالعلاقة بالقوة السياسية للأرستقراطية المدنية، التي سيطرت على السلطة المركزية واستغلت الموانئ والتجارة الخارجية (تصدير المعادن، النسيج والمنتوج الفلاحي) خاصة بعد تأسيس الدولة المرينية.
هكذا تم بناء أسس دولة البرجوازية التجارية ما بين القرنين 14 و15، التي تم تركيزها بتدخل الإمبريالية باستعمار المغرب، بعد ضعف الدولة المركزية العلوية وقيام ثورات الأرستقراطية القبلية بالبوادي بغية تأسيس دولة بديلة، لكن تطور الرأسمالية في مستوياتها المتقدمة الإمبريالية، حال دون تأسيس دولة جديدة، نتيجة ضعف القوة العسكرية للأرستقراطية القبلية والصراع بين الأرستقراطيات القبلية بالجنوب (الكلاوي ضد أحمد الهيبة الذي أعلن قيام مملكته بالجنوب واحتل مراكش في 1912)، ولو لا تحالف الكلاوي مع الإمبريالية الفرنسية، ورفض الأرستقراطية القبلية بسوس العليا/الأطلس الصغير والكبير دعم أحمد الهيبة، لتمت إقامة دولة جديدة بالجنوب كما هو الشأن في تاريخ الدول العظمى التي بناها الأمازيغ بالمغرب انطلاقا من الجنوب.
وعكس ما تعدي الوثيقة :"هؤلاء الوكلاء هم من الأعيان المنبثقين من الجماعات الفلاحية والذين يتم إدماجهم بالجهاز المخزني عن طريق السيرورة الدينية (الشرفاء ) أو الاجتماعية (القواد وإمغاران) و يتم إسنادهم بالجهاز العسكري المركزي للمخزن. هاته البنية المزدوجة القطبية تعتمد على مبدأ موحد هو الملكية خصوصا عن طريق الدور الموهم لمبدأ ”الإمام” الذي سيتدعم مع انبثاق السلالات المسيحية. إن مبدأ انتخاب الإمام من وسط السلالة من طرف العلماء ومجموع ”المؤسسات المنظمة ” (أي مجموع ممثلي طبقة المخزن يظهر التضامن الحاصل في الواقع كما في القانون بين الملكية ومجموع طبقة المخزن التي في نفس الوقت تنبثق عنها وتقوم بدور الحكم وسطها)."
وكما تمت الإشارة سابقا، فالزوايا لها ارتباط وثيق بالقبائل التي تؤسسها وتمولها وتستغلها أيديولوجيا عبر المساجد والمدارس التابعة لها، فالقياد القبليون/شيوخ القبائل "إمغارن" هم الذين يعيينون شيوج الزوايا والأئمة بالمساجد، وقد قام شيخ قبائل إسكتان بتالوين شرق تارودانت في نهاية القرن 19 بطرد شيوخ زاوية بن يعقوب بتكركوست، وتعيين أحد أعوانه شيخا على الزاوية واحتل جميع الأراضي التابعة للزاوية، وحولها كما يقول أحد الفلاحين الفقراء إلى "فدان واحدا" وعين إمام مسجد قلعة تالوين، كما أن الكلاوي لما احتل قلعة تالوين في 1915 تمهيدا لدخول المستعمر لها في 1932، قد سمح للشيوخ المطرودين من الزاوية بالرجوع واحتفاظه بالشيخ، الذي عينه شيخ القبيلة المخلوع، وعين إمام مسجد قلعة تالوين قاضيا لحكمه.
ويتضح من مضمون هذه المقدمة أن المعطيات التي تم اعتمادها في تحليل الطبقات السائدة بالمغرب، لم يتم معالجتها وقف التحليل العلمي المادي.
وبالإضافة إلى بروز الأرستقراطية المدنية كطبقة بورجوازية تجارية برزت بالتالي طبقة البورجوازية الصغيرة بالمدن، من خلال تطور النقابات والجمعيات الحرفية والمدارس، ونشأت بورجوازية صغيرة مثقفة لم تستطع الوصول إلى السلطة، وبقيت في مستوى الخدمات كما برزت بورجوازية صغيرة في مجال التجارة والحرف/التجار الصغار والحرفيين.
وبالإضافة إلى تطور الأرستقراطية القبلية وتقلص نفوذ الشيوخ بعد الاستعمار القديم، برزت بورجوازية صغيرة بالبوادي/الفلاحين الصغار والحرفيين بالبوادي.
وقد تطورت هذه الطبقة خلال مرحلة الاستعمار القديم عبر التحالف الطبقي بين الإقطاع والاستعمار والبرجوازية التجارية، وتشكلت الطبقة العاملة مع تنمية الرأسمال بالمدن والبوادي معا، كطبقة مناقضة للبورجوازية والبورجوازية التجارية، ونمت البورجوازية الصغيرة بالمدن والبوادي.
وجاء في الوثيقة :"إن بنية المجتمع المغاربي – والتي وضعت في تعارض مع طبقة المخزن سلطة المقاومة للقبائل باعتبارها جماعات فلاحية مسلحة – دفعت طبقة المخزن إلى الاعتماد على الرأسمالية الأوربية الصاعدة وذلك بالتنازل لها عن احتكار التجارة الخارجية. طبقة المخزن هاته , ومنذ الفترة الأولى لتهيكلها تميزت بجوهر كومبرادوري (أول سلطان علوي الرشيد استفاد من أجل تأمين حكمه من دعم فرنسا في مقابل حصولها على الاحتكار التجاري على مصب وادي باديس بالبحر الأبيض المتوسط الذي يربط فاس بهذا الأخير. وقد وقفت القبائل الريفية حاجزا ضد هذا الاحتكار. هكذا ومنذ هذه الفترة اخذ الصراع الطبقي بين القبائل وطبقة المخزن طابعا وطنيا , فالقبائل تهيكلت في الجماعة الوطنية العربية بفضل الاندماج الاجتماعي والثقافي العربي – الأمازيغي."
وجاء في هذه الفقرة ما سمي ب"بنية المجتمع المغاربي"، أي البنية الاجتماعية للبلدان الثلاثة، التي تشكلت بعد تفكيك الدولة الموحدية وقيام الدولة المرينية بالمغرب/مراكش، هنا يضع الكاتبان في نفس المستوى أسس البنية الاجتماعية بالمغرب، الجزائر وتونس، ذلك ما لا يمكن الاختلاف حوله كثيرا، حيث إن المنطقة المغاربية ظلت تعيش لقرون نفس الأوضاع السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، في ظل الدولتين العظيمتين اللتين بناهما الأمازيغ (المرابطون والموحدون)، لكن بنية هذه البلدان الثلاثة التي تشكلت بعد تفكيك الدولة الموحدية، قد تختلف كثيرا عما كانت عليه من قبل (توحيد هذه البلدان في ظل المرابطين والموحدين في علاقتها بالأندلس)، في ظل اختلاف الأوضاع السياسية باختلاف الدول التي حكمت البلدان المغاربية، والصراعات السياسية بين هذه البلدان خاصة بعد سقوط الدولة المرينية وتأسيس الدولة السعدية وسيطرة الإمبراطورية العثمانية على تونس والجزائر.
إن سقوط دولة الإمارات بالأندلس لعب دورا هاما في تغيير البنية الاجتماعية بالمغرب، حيث طرأ فيها تحول أساسي بعد دخول العنصر العربي ـ الأندلسي خلال القرنين 14 و 15، الذي ساهم في تكثيف دور البورجوازية التجارية في الاقتصاد والسياسة، هذا العنصر الذي حمل معه الثقافة والتقنية المتطورة في الأندلس، خاصة في مجال التسيير الإداري والدواوينية والتجارة والتنظيم (تأسيس النقابات والجمعيات الحرفية بالمدن)، مما ساهم في تطوير دولة البرجوازية التجارية بالمغرب، أكثر مما هو عليه بتونس والجزائر اللتين سرعان ما احتلتهما الإمبراطورية العثمانية، التي طبعتهما بطابع الحكم العثماني المتزمت، الذي وجد أمامه دولة قوية بالمغرب، دولة السعديين التي بلغت شأنا كبيرا في الصناعة والزراعة والتبادل التجاري وفي الحرب، والتي تملك قوة عسكرية واجهت الاستعمار الإسباني وانتصرت في حرب وادي المخازن، لتتحول إلى دولة إمبراطورية من المتوسط إلى نهر السنغال.
هكذا إذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار في أي تحليل للبنية الاجتماعية بالبلدان المغاربية الاختلاف بين بلاد المغرب وباقي البلدان المغاربية (موريتانيا جزء من المغرب تحت سلطة السعديين بل حتى ما يسمى نهر السنيغال المحتل من طرف الدولة القوية بمراكش)، أما تونس والجزائر فهما بلدان محتلان من طرف الإمبراطورية العثمانية.
إن تأسيس دولة البرجوازية التجارية القوية بالمغرب التي ترتكز إلى القوة العسكرية التي تستمدها من قوة الأرستقراطية القبيلة، هذا التحالف أحدث تحولا كبيرا في البنية الاجتماعية، بفعل التأثير السياسي والاقتصادي على الحركة الاجتماعية، وليس كما جاء في هذه الفقرة أن "– والتي وضعت في تعارض مع طبقة المخزن سلطة المقاومة للقبائل باعتبارها جماعات فلاحية مسلحة –"، حسب الوثيقة فإن السلطة ب"الدولة الكومبرادورية" بالمغرب في يد ما سمي "طبقة المخزن" في تعارض مع ما يسمى "سلطة المقاومة للقبائل باعتبارها جماعات فلاحية مسلحة"، وكأن المجتمع المغربي في ظل هذه الدولة عبارة عن "جماعات فلاحية مسلحة" تواجه "طبقة المخزن" المسيطرة على السلطة.
إن ما ذهبت إليه الوثيقة يعتبر نتيجة لتحليل تجزيئي بعيد كل البعد عن التحليل العلمي المادي للتاريخ وفق الديالكتيك الماركسي، وهو ما يمكن تفسيره بتأثير التحليل التجزيئي لدى بول باسكون على الماركسيين اللينينيين المغاربة في السبعينات، والذي يعطي أهمية مبالغة لتأثيرات البنيات ماـ قبل طبقية (القبيلة والعشيرة والعائلة)، أي التي ترجع إلى عهد الإقطاع لتفسير التناقضات الاجتماعية بالمجتمع المغربي، ذلك ما يجعل هذا النوع من التحليل ناقضا لكونه يغفل الأبعاد الطبقية، بعد تشكل طبقة البرجوازية التجارية كامتداد للأرستقراطية المدنية ودورها في السيطرة السياسية والاقتصادية بالمدن، في مقابل الأرستقراطية القبلية بالبوادي، ونشوء برجوازية صغيرة في أوساط الفلاحين/الفلاحون الصغار، والتحولات التي طرأت على مغرب ما بعد تفكيك الدولة الموحدية المتميزة ببروز البرجوازية التجارية، مما أفرز داخل البنية الاجتماعية بالمغرب تشكل صراعات طبقية جديدة، ساهم فيها سقوط دولة الإمارات بالأندلس، حيث تحول مركز السلطة من الأندلس إلى مراكش، مما أعطى أهمية كبرى لبلاد المغرب، التي تأسست بها دولتين عظيمتين أسسهما الأمازيغ (المرينية والسعدية)، ولا غرابة أن تعطي الدولة المرينية أهمية كبرى للثقافة ببنائها المدارس خاصة، المدرسة البوعنانية، بفاس مما يوحي ببعث ثقافي يتشكل بالمغرب بديلا عن الثقافة الأندلسية، التي سقطت بسقوط غرناطة.
وجاء في الفقرة كذلك "دفعت طبقة المخزن إلى الاعتماد على الرأسمالية الأوربية الصاعدة وذلك بالتنازل لها عن احتكار التجارة الخارجية" أي أن "بنية المجتمع المغربي" ومن خلال التناقضات بين ما سمي "طبقة المخزن" و"الجماعات الفلاحية المسلحة" قد دفعت "طبقة المخزن" إلى البحث عن الخلاص من هذه التناقضات بالهروب إلى الخارج للبحث عن الحل لدى "الرأسمالية" عبر "التنازل لها عن احتكار التجارة الخارجية"، والقارئ قد يفهم من هذا التعبير أن ما يسمى "طبقة المخزن" متحكم في احتكار التجارة الخارجية وأن الرأسمالية تلقت هدية من هذه "الطبقة"، إن القول بهذا الكلام إنما يدل عن ابتعاد التحليل المعتمد في هذه الوثيقة عن المادية التاريخية، في تناول التناقض الذي يجري في البنية الاجتماعية بالمغرب، والذي تطرحه الوثيقة للدرس والتحليل.
فالمادية التاريخية تقول أن الوضع الاقتصادي يكون خاضعا للوضع السياسي في علاقة ديالكتيكية، فكلما تقوت الطبقات المسيطرة على الاقتصاد تقوت دولتها التي تؤسسها من أجل حماية مصالحها، وهذه الطبقة الوهمية التي سمتها الوثيقة "طبقة المخزن"، إنما هي حسب هذا التعبير الوارد في الفقرة قيد الدرس والتحليل ضعيفة، ولا يمكنها قمع مقاومة ما تسميه "الجماعات الفلاحية المسلحة"، فمتى تشكلت دولة ما قبل الاستعمار القديم خارج العلاقة بين الأرستقراطيتين المدنية والقبلية ؟ إن تاريخ الدول بالمغرب يؤكد على أن الأرستقراطية القبلية هي التي تملك القرار في تأسيس وإسقاط الدول بالمغرب، ويكون بذلك تحول السلطة السياسية خاضعا لإرادة للقبيلة القوية اقتصاديا وعسكريا، التي تقوم بإخضاع باقي القبائل التي تشارك في تأسيس الدولة الجديدة، وهكذا فبعد سقوط الدولة السعدية قامت قبيلة العلويين بتافلالت بتأسيس الدولة العلوية، التي عاشت حروبا طويلة على طول بلاد المغرب للقضاء على ثورات القبائل الأمازيغية، التي تعلن هنا وهناك قيام دول مستقلة (استقلال ذاتي)، وقد عاش إسماعيل العلوي طيلة حكمة (54 سنة)، على إيقاع الحروب ضد ثورات القبائل الأمازيغية المنتفضة ضد الدولة الجديدة.
أما القول الذي جاء في هذه الفقرة بأن "هكذا ومنذ هذه الفترة اخذ الصراع الطبقي بين القبائل وطبقة المخزن طابعا وطنيا , فالقبائل تهيكلت في الجماعة الوطنية العربية بفضل الاندماج الاجتماعي والثقافي العربي – الأمازيغي."، والمقصود بالفترة هو "أول سلطان علوي الرشيد استفاد من أجل تأمين حكمه من دعم فرنسا في مقابل حصولها على الاحتكار التجاري على مصب وادي باديس بالبحر الأبيض المتوسط الذي يربط فاس بهذا الأخير. وقد وقفت القبائل الريفية حاجزا ضد هذا الاحتكار" كما جاء في الوثيقة، هنا يتم القفز على تاريخ ثورات الأمازيغ ضد تأسيس الدولة العلوية، وأما كيف تأسست هذه الدولة على أنقاض القوافل التجارية من طرف مؤسسها " على الشريف"، فإن التاريخ يفند القول بدعم الرأسمالية الفرنسية لتأسيس الدولة العلوية كما جاء في الوثيقة.
فبعد قيام الشريف بن على العلوي بكسب عطف القبائل أسس عصابته التي تحمي القوافل التجارية من اللصوص، في الطريق التجارية من سجلماسة إلى فاس عبر تافلالت، وفي شروط متقدمة لهذا العمل أقدم على السيطرة على هذه القوافل وتملكها، من أجل تأسيس دعم اقتصادي لحكمه الذي بناه على أنقاض القبائل الأخرى، التي يتم تهجيرها واستيطانها بأراضي القبائل المجاورة لخلق النزاعات بينها، والتدخل من أجل الحكم بينها، وبالتالي السيطرة عليها وإخضاعها لتأسيس حكمه، لقد تقوت قبيلة العلويين بتافلات لأول مرة في تاريخ المغرب، بقيام قبيلة ذات جذور عربية من الشرق بإقامة دولة قوية مستمر حتى الآن، في موازاة مع تفكك الدولة السعدية، التي تأسست في الجنوب كما هو الشأن بالنسبة لباقي الدول الأمازيغية الأخرى، وإعلان تأسيس دولة العلويين، انطلاقا من تطور الأرستقراطية القبلية التي تزعمها علي الشريف، وهي ذات أبعاد سياسية واقتصادية تعتمد الانتماء إلى الشرق، من سلالة النبي محمد، باستعمال الدين، الذي تم تسخيره من طرف كل الدول الأمازيغية السابقة، كأداة أيديولوجية، إلا أن التركيز على بعد الإنتماء إلى الشرق (من سلالة النبي محمد)، أعطى للدين واللغة العربية بعدا عرقيا أكثر مما هو عليه الدين في الدول التي بناها الأمازيغ (المرابطون، الموحدون، المرينيون، السعديون).
أما القول ب"فالقبائل تهيكلت في الجماعة الوطنية العربية بفضل الاندماج الاجتماعي والثقافي العربي – الأمازيغي."، إنما هو قول لم يتم بناؤه على أساس مادي تاريخي، ويفتقد للتحليل العلمي المادي، وكما أشرنا إلى ذلك سابقا فالقيام الفعلي للدولة العلوية إنما تم خلال القرنين 17 و18، خلال حكم إسماعيل العلوي بن على الشريف عبر 54 سنة من الحروب ضد ثورات القبائل الأمازيغية، التي رفضت قيام هذه الدولة الجديدة، ولم يتم تأسيس الدولة العلوية كما جاء في الوثيقة عبر تهيكل القبائل في "الجماعة الوطنية العربية بفضل الاندماج الاجتماعي والثقافي العربي – الأمازيغي."، والقول ب"الإدماج الاجتماعي والثقافي العربي – الأمازيغي" إنما هو تعبير ينبع من عمق التحليل التجزيئي، والتفكير المثالي الذاتي، الذي يتملك البورجوازية الصغيرة، والذي يجب محاربته داخل الحركة الماركسية اللينينية.
هكذا نشأت دولة البرجوازية التجارية بالمغرب واستمر التناقض بينها وبين الأروستقراطية القبلية، التي تتمتع باستقلال ذاتي نسبي في المناطق الأمازيغية وتتحكم في تحول السلطة بين القبائل انطلاقا من الجنوب، حتى انتقلت إلى الجنوب الشرقي بتفيلالت مع نشأة دولة العلويين.

وثيقة "الثورة في الغرب العربي في المرحلة التاريخية من تصفية الإمبريالية"

تعتبر هذه الوثيقة من أهم وثائق المنظمة، التي نحن بصدد دراستها، تحليلها ونقدها، بدءا بما سماه الكاتب "توضيح أولي" في تقديمه لهذه الوثيقة، التي نشرها بالموقع الفرعي ل"30 غشت" بالحوار المتمدن، ونشر الوثيقة ب"موقع 30 غشت".
إن أول ما يمكن أن يثير القراء هو اعتبار الكاتب في تقديمه للوثيقة أنها "وثيقة جديدة، لم تنشر من قبل" وهي وثيقة صدرت في 1971، ويقدمها على أنها "جديدة" و"لم تنشر من قبل"، ويقول ذلك في 2015 بعد 43 سنة من صدورها، وهو يعني بذلك أنها لأول مرة تخرج للعموم، والسؤال المطروح هو لماذا السكوت عنها طيلة هذه المدة الزمنية الطويلة ؟
لا يمكن لأي قارئ لهذا القول إلا أن يستغرب هذا التقصير، على الأقل، في الإعلام من طرف الكاتب ورفاقه في منظمة ثورية، فهل يعني ذلك أن المنظمة عاجزة عن التواصل مع الطبقة والجماهير؟ أم أن مفهوم السرية لديهم جعلهم ينطوون على أنفسهم ؟ أم أنهم غير قادرين على نشر أفكار المنظمة ؟ ذلك ما يجيب عنه في مضمون تقديمه لهذه الوثيقة.
لقد استهل تقديمه هذا بما يلي: "مساهمة في التعريف بوثائق وتاريخ المنظمة الماركسية ـ اللينينية المغربية "إلى الأمام"، وتعميما للفائدة، ننشر ولأول مرة وثيقة لم يسبق أن تم نشرها من قبل، ولم يطلع عليها من رفاق الجيل الأول للمنظمة إلا القلة. أما الجيل الثاني؛ فلم يطلع عليها ولم تكن معروفة لديه، وهي وثيقة "الثورة في الغرب العربي في المرحلة التاريخية من تصفية الإمبريالية" الصادرة بتاريخ 4 مايو 1971."
وهنا يجيب بشكل ضمني ويقر أن المنظمة عاجزة عن التواصل حتى مع مناضليها، أي افتقاد التواصل بين المناضلين أنفسهم، فكيف يمكن لمنظمة ثورية أن تتواصل مع الطبقة والجماهير وهي عاجزة عن ربط التواصل بين مناضليها ؟ قد يرجع البعض ذلك كما هو معتاد للشروط الذاتية، السرية والموضوعية، القمع المستشري آنذاك، بعد اعتقالات، محاكمات، إدانات وإعدامات في حق اليسار الثوري والضباط الشباب الثوريين، لكن هذا التبرير ضعيف أمام الهدف الاستراتيجي للمنظمة، خاصة أن الوثيقة صدرت بعد أقل من سنة من التأسيس.
إن القول ب"ولم يطلع عليها من رفاق الجيل الأول للمنظمة إلا القلة" إنما يدل على المبالغة في السرية حتى بين المناضلين، إن صح التقدير، أو طغيان سيادة "البيروقراطية"، التي لا تسمح إلا للقيادات بتناول مسألة المواقف السياسية، وذلك في حد ذاته ما يدل على تغييب الديمقراطية الداخلية، التي من المفروض أن تسمح لجميع المناضلينن على الأقل، بالاطلاع على ما ينشر باسمهم، بل ومن المفروض إشراكهم في صياغة المواقف والمصادقة عليها ولتكن الشروط أيا كانت، كما رأينا في تجربة الحزب الشيوعي الفيتنامي.
وأما القول ب"أما الجيل الثاني؛ فلم يطلع عليها ولم تكن معروفة لديه" فتلك معضلة تنظيمية عميقة، والتي أنتجت القطيعة بين الجيلين.
قد يقول قائل أن مسألة "التحريفية" التي صادفت زمن الجيل الثاني هي السبب، لكن هذه الحجة ضعيفة جدا، حيث كيف يمكن لأصحاب "الخط الثوري" أن يكون لهم امتداد في المنظمة، دون قدرتهم على التواصل مع الجيل الثاني ؟ ليس القيادات طبعا، إنما الشباب والمنخرطين الجدد.
هنا يمكن أن نثير عدة تساؤلات حول طبيعة الفهم التنظيمي داخل المنظمة، وطبيعة المنظمة في حد ذاتها، ذلك ما نتوخى الجواب عنه في كتابنا هذا، أي الوقوف على مستوى مفهوم "الثورية" من منظور المنظمة، وكيف يجسده مناضلوها في الواقع الملموس.
فكيف لمناضلين ثوريين عاجزين عن التواصل فيما بينهم، بناء منظمة ماركسية ـ لينينية ؟ وبالأحرى الامتداد الجماهيري لهذه المنظمة، وتحقيق هدفها الاستراتيجي، بناء الحزب الماركسي ـ اللينيني.
أما إن كان قصده في قوله ذاك هو أنه يعلم الكثير عن المنظمة دون الآخرين، فتلك معضلة ذاتية، حيث لا يمكن تفسير السكوت عن قول الحقيقة من طرف "ثوري"، إلا بالخيانة التاريخية، أما العجز عن قول الحقيقة، فيمكن تفهمه من منطلق الخوف المستشري في صفوف المناضلين، نتيجة القمع الأسود، الذي طال الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية بعد سنة من صدور هذه الوثيقة، وربما لم يطلع عنها الكاتب نفسه، ولم يعثر عليها بعد خروجه من السجن لأزيد من ربع قرن.
وعن مضمون الوثيقة يقول:"الوثيقة، لأهميتها السياسية والإيديولوجية، تلقي الضوء على فكر منظمة "إلى الأمام" في فترتها الأولى من التأسيس، فترة 1970 ـ 1972، وهي هنا مترجمة إلى اللغة العربية عن نصها الأصلي باللغة الفرنسية."، وهنا يعطي جزءا آخر من الجواب، الذي يجسد مدى ابتعاد عملهم بالمنظمة عن الطبقة والجماهير، حيث إن الوثيقة تمت صياغتها بالفرنسية، وبقيت هكذا إلى أن ترجمها في 2015، ذلك ما يوضح افتقار المنظمة لكوادر قادرة على ترجمة الوثائق، الأمر الذي يعتبر مهما في حياة أي منظمة تتوخى التواصل مع الطبقة والجماهير، كما رأينا في عمل الثوريين الفيتناميين في تواصلهم مع الفلاحين وبلغتهم المحلية التي تعلموها.
فما معنى صياغتها بالفرنسية دون ترجمتها ؟ هذا إن كانت غير مترجمة، أما صياغتها بالفرنسية فيبين مدى نخبوية كوادرها المؤسسين للمنظمة، التي بدأت كنادي للمثقفين الثوريين، الذين يضعون مهام أكبر بكثير من قدراتهم التنظيمية، لهذا قلنا أن التوثيق أكبر من الممارسة العملية في حياة المنظمة، وحتى إن تمت ترجمتها ولم تصل إلى الطبقة والجماهير، فذلك يعني أن المنظمة يطغى عليها توجه النخبة السياسية بعيدا عن القواعد، إن وجدت، وعن الطبقة والجماهير، وبالتالي فهي تعبر فقط عن أصحابها، حيث لم تنبثق من الواقع الموضوعي، فهي عبارة عن عمل إطاروي ـ ذاتوي حتى في نشرها وتصريفها، إذ ما جدوى إصدار وثيقة بلا قواعد وجماهير إن لم يكن من باب التثقيف والتكوين ؟
ويضيف الكاتب:"غطت الوثيقة مجمل النضالات المتصاعدة التي خاضتها الجماهير الشعبية في تلك الظرفية، نضال العمال والفلاحين (أولاد خليفة وقطارة مثلا) ونضال الطلبة والتلاميذ الذي لقي مساندة من جهة جماهير الشعب أفزعت النظام وأعوانه، وعرت بالكامل مجموع التيارات الانتهازية الانتظارية من البرجوازية الصغيرة. قوبل هذا المد النضالي بالاختطاف والتعذيب، وبلجوء النظام لاستعمال "كوموندوهات" فاشية لتفتيت هذا المد الكفاحي وعزل نواته الثورية."، هذا القول الذي يجعل من المنظمة المتتبع للنضالات الجماهيرية من عمال، فلاحين، طلبة وتلاميذ، دون أن يبرز الكاتب دور المنظمة في تلك النضالات، التي يعتبرها قد "عرت بالكامل مجموع التيارات الانتهازية الانتظارية من البرجوازية الصغيرة"، نعم عرتهم حسب قوله، لكن دون أن تصل الوثيقة إلى القواعد والجماهير، في غياب تام لمساهمة المنظمة في هذه النضالات الجماهيرية، التي تبرز مدى تقدم وعي الجماهير، مما يوجب على الثوريين التنظيم أكثر فأكثر كما يقول لينين، ويشير الكاتب إلى القمع الذي واجه به النظام هذه النضالات الجماهيرية، في محاولة لربطه بشكل كبير بقمع المنظمة فيما بعد، مما يدل على أن السرية مرتبطة بالخوف من القمع، وليس كأسلوب في الممارسة التنظيمية، مما ينعكس على الفهم الضيق للتنظيم لدى هؤلاء المناضلين.
وفي استعراضه لمضمونها في قوله: "تعرضت الوثيقة كذلك لقضية الثورة العربية وبؤرتها الرئيسية قضية الثورة الفلسطينية التي حاصرها تواطؤ الامبريالية والتحريفية والبرجوازيات العربية العميلة، لتنتقل للحديث عن النهوض النضالي التحرري عالميا ضد الامبريالية وتعمق أزمة نظام الرأسمالية سياسيا واقتصاديا." ويتحدث هنا عن "الثورة العربية"، دون تناول هذا المفهوم بالنقد مكتفيا بتقديم "الثورة الفلسطينية" على أنها قائدة "الثورة العربية"، رغم أنها محاصرة من طرف "الامبريالية والتحريفية والبرجوازيات العربية العميلة"، في استعراض لمواقف المنظمة دون دراستها، تحليلها ونقدها.
هذه الإشارات الأولية تأتي ضمن التحقيق في مسار الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، وأزمة التنظيم التي تلازمها، عبر دراسة، تحليل ونقد وثائق منظمة "إلى الأمام"، في علاقتها برؤية مناضليها، وضمنه الكاتب الذي عمل على نشر هذه الوثائق، في محاولة للوقوف على ما يمكن تقديمه للمساهمة في فهم مكامن القوة والقصور في فكر المنظمة، وبالتالي الوقوف على أخطاء مناضليها، وإعادة البناء الحقيقي للحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية.
ونعمل على دراسة، تحليل ونقد الوثيقة في علاقتها بفكر المنظمة من خلال نظرة المناضلين، الذين ساهموا في صياغتها.
فمن خلال القراءة الأولية للوثيقة نلمس طغيان الأسلوب الصحفي ـ الوصفي، في تناول الوضع السياسي الذي ميز تلك المرحلة ـ منذ 10 سنوات قبل إصدار الوثيقة ـ في غياب شبه تام للديالكتيك الماركسي اللينيني، الذي من المفروض أن يميز كتابات الماركسيين اللينينيين.
والنص شبه بعيد عن التحليل العلمي المادي للواقع الملموس، في علاقته بالصراع الطبقي، المؤشر الأساسي في طريق الثورة التي يتحدث عنها النص، فنجد طغيان التضخيم من حجم الاحتجاجات الجماهيرية، إلى حد وضع الجماهير فوق الحزب والطبقة، في غياب تام لوضع أسس بناء تصور سياسي لمستقبل الصراع الطبقي بالمغرب، فيما يسمى في النص "الثورة في الغرب العربي" و"تصفية الإمبريالية"، مما يدل على التذبذب النظري لدى هؤلاء المناضلين حول مفهوم الثورة، الشيء الذي جعلهم يتنبؤون بقيامها من خلال بعض انتصارات الشعوب، وحتى عبر احتجاجات الجماهير العفوية بالمغرب ـ العمال، الفلاحون، الطلبة والتلاميذ ـ دون القدرة على استنباط مفهوم الثورة لدى لينين، الذي لم يتم ذكره إلا مرة واحدة في هذه الوثيقة، بينما يتم تغييب ستالين وحضور ماو تسي تونغ بشكل فج، والإثناء على الثورة الفيتنامية، بعيدا عن علاقتها بالحزب الماركسي ـ اللينيني الذي أسسه هو شي منه، الذي لم يحض بالذكر قط في هذا النص.
على العموم النص حسب الترجمة بالعربية ـ غياب النص بالفرنسية ـ متواضع في دراسته، تحليله ونقده للوضع السياسي خلال 10 سنوات الماضية قبل كتابته، كما تمت الإشارة إلى ذلك في الوثيقة، مما يدل على تواضع الفكر السائد لدى قيادة منظمة "إلى الأمام" آنذاك، أو بالأحرى تواضع الثقافة الماركسية لديهم حتى لا نقول الماركسية اللينينية، لهذا نرى أنهم يكتفون ببعض أقوال ماو تسي تونغ، دون القدرة على الوقوف عند التحليل الماركسي اللينيني للأساس الاقتصادي للثورة والإمبريالية، أو يتم استبعاده إن لم نقل جهلهم به، ولتقليص المسافات بين التحليل العلمي المادي للواقع الموضوعي، يتم الحديث عن "التحريفية" واختزل كل تاريخ البلشفية في "التحريفية" ووضع "الماوية" بديلا للماركسية اللينينية.
أما الشق الاقتصادي الأساسي الحاسم في أي تحليل علمي مادي للوضع السياسي ماركسيا لينينيا فهو شبه غائب، حيث اكتفى النص بالتركيز على بعض المعطيات حول احتكار "البترول والغاز"، باعتبارهما طاقة يتم الصراع حول السيطرة عليهما من طرف الإمبريالية الأمريكية، والاكتفاء بذكر بعض الأرقام، التي لا يمكن اتخاذها مؤشرات للتحليل الاقتصادي للوضع السياسي ومستقبل "الثورة"، ناهيك عن مستقبل "تصفية الإمبريالية"، كما يتم ذكر الرأسمال المالي دون القدرة على تحليل مستويات تطوره، منذ أن وضعه لينين كمؤشر أساسي في السيطرة على السوق التجارية، في دراسته للإمبريالية في 1916، ذلك ما جعل من النص أن يكون قريبا من التقرير الصحفي على الدراسة الماركسية اللينينية للوضع السياسي.
كما أن قراءة النص لا توحى بأن هناك بالفعل ما يدل على مؤشرات مفهوم "الثورة بالغرب العربي"، في مقابل "المشرق العربي" المأزوم، ولا ما يربط هاتين المنطقتين جيوـ سياسيا ولا اقتصاديا، إلا بإقحام عامل البترول بالجزائر، ليبيا والصحراء، والحديث عن الثورة الفلسطينية قائدة "الثورة العربية" كطريق للخلاص، دون تحديد دور الثوار بالبلدان العربية، كما قال القائد جورج حبش عن دورهم في بلدانهم المضطهدة، في الوقت الذي يتم فيه الحديث عن "الإقطاعيات والبورجوازيات العربية"، أي الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية، التي تساوم مع الإمبريالية الأمريكية على حساب تصفية القضية الفلسطينية، وربط ذلك في "الغرب العربي" بمؤامرة "تأسيس كيان بالصحراء"، من طرف الإمبريالية الأمريكية بالتعاون، مع النظامين التبعيين لها بالمغرب وإسبانيا، على غرار الدولة الصهيونية ب"الشرق العربي"، كما جاء في الوثيقة، دون الحديث عن الثورة بالصحراء ضد الاستعمار الإسباني، التي قادها الثوار الصحراويون، والتي التحق بها الشباب الصحراوي الثوري بالجامعات المغربية، مما يدل على عدم استيعابهم لدور الصحراء في الصراع بالغرب الإفريقي الذي يعتبر من البؤر المشتعلة حتى الآن.
ويفتقد النص إلى ما يدل على تقدير حجم المفاهيم الماركسية الينينية، التي وضعها لينين خلال الصراع بين الاشتراكية والإمبريالية من قبيل "التحريفية"، التي وضع لها لينين أسسها الطبقية، هذا المفهوم الذي جاء في النص كناية عن تحريف الحزب الشيوعي السوفييتي بعد موت ستالين، دون القدرة على وضع أسسه الطبقية بالاتحاد السوفييتي، مما يدل عن عجز الفكر الماركسي اللينيني بالمغرب على الوقوف عند أزمة هذا الحزب الثوري، والفصل بين مرحلين متميزتين من تاريخه، والاكتفاء بذكر صفة "التحريفية"، من أجل إبراز موقع المناضلين أيديولوجيا وسياسيا، مما يدل على ضعف التحليل الذي يتجاهل حجم الضربة التي تلقتها الحركة الماركسية ـ اللينينية عالميا، والهروب إلى الأمام بعيدا عن مواجهة الواقع الموضوعي لسيطرة الفكر التحريفي لهذا الحزب عالميا، والبحث عن بديل له وهو الحزب الشيوعي الصيني عزاء للماركسيين اللينينيين، بل والذهاب ببعضهم إلى وضع "الماوية" كمستوى أعلى للماركسية اللينينية، كما هو الشأن بالنسبة للكاتب.
هذه الأخطاء النظرية إنما تنم عن قصر النظر لدى المناضلين آنذاك ـ لا نطلب منهم أكثر مما هو ممكن إنجازه في الواقع الموضوعي ـ إنما خطأهم الكبير هو عدم تقديرهم لحجم المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق الماركسيين اللينينيين، وحجم الصراع الأيديولوجي والسياسي الناتج عن التحريفية، ذلك ما يتجلى في الاندفاع وهو في حد ذاته طبيعي لدى ثوريين غالبيتهم شباب، وثقافتهم الماركسية الينينية المتواضعة بالنسبة لحجم مهام الماركسية اللينينية، المرتبطة بحجم الثورة الاشتراكية نقيض الإمبريالية، أمام هول التحريفية التي ضربت الماركسية اللينينية في الصميم وفي عقر دارها، ليس لكون التحريفية فقط نتاج فعل الحزب الشيوعي السوفييتي، إنما هي كذلك نتيجة حرب مدعومة من طرف الإمبريالية ضد الاشتراكية، بمعنى أن حجم مقاومة تخريب كل ما بنته الماركسية اللينينية في الواقع الموضوعي، لا يمكن أن يكون إلا في مستوى حجم التخريب إن لم يكن يتعداه.
هكذا اعتقد المناضلون الماركسيون اللينينيون آنذاك أن الحزب الشيوعي الصيني يمكن أن يكون بديلا لانتظاراتهم الثورية، ولذلك تجاهلوا موقع ستالين في الصراع ضد التحريفية بل هناك من منهم يعتبره ضمن التحريفية.
والنص يحتوي على مجموعة من المفاهيم غير الدقيقة في التحليل من قبيل "الثورة في الغرب العربي"، "تصفية الإمبريالية"، "الأحزاب البورجوازية"، "كمندوهات الفاشية"، "الثورة العربية"، "الإقطاعيات والبورجوازيات العربية"، "المغرب العربي"، "المغرب الكبير"، "الدول المغاربية"، "البلدان المغاربية".. .ويشكل مصطلح "إسرائيل" الوارد في الوثيقة على الأقل مرتين لبسا واضحا في فكر هؤلاء المناضلين، مما يعطي للنص بعدا تقريريا كباقي التقارير الصحفية.
هنا لا نريد التقليل من أهمية الوثيقة ومحاولة قيادة المنظمة آنذاك لتشخيص الوضع السياسي، بقدر ما نسعى إلى فهم مستوى الفكر الثوري السائد آنذاك في أوساط المناضلين الماركسيين اللينينيين، ولا نريد المس بسمعتهم إنما نسعى إلى فهم مكامن الضعف والأخطاء التي تم ارتكابها وحجمها، في علاقة ذلك بحجم مشروع الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية الثوري وخاصة منظمة "إلى الأمام".
ومن خلال ما ذكرناه نحاول الوقوف على مكامن القوة والضعف في الحركة الماركسية اللينينية، حتى يتبين لنا حجم القوى الفكرية الثورية المؤسسة لهذه المنظمة، التي اعتبرت نفسها نقيض التحريفية بالمغرب بعد انسحاب مناضليها من حزب التحرر والاشتراكية، الصيغة التنظيمية المعدلة للحزب الشيوعي المغربي الموالي للحزب الشيوعي السوفييتي.
انطلاقا من الجزء الأول من العنوان "الثورة بالغرب العربي" تتضح مخلفات الفكر القومي العربي، الذي سيطر على تصورات البورجوازية الصغيرة ب"أحزاب الحركة الوطنية" بالمغرب، على غرار الأحزاب القومية البعثية والناصرية، والذي طبع تصورات الماركسيين اللينينيين بعد انسحابهم من هذا الحزب، الفكر الذي يعتبر عامل اللغة العربية عنصرا أساسيا في توحيد الشعوب المضطهدة من طرف "الدول العربية" التبعية للإمبريالية، التي تتحكم في ثروات هذه الشعوب، على قاعدة نفي وجود هذه الشعوب بتعدد ثقافاتها واختلافها وتنوعها، والانتماء الجغرافي الذي له دور كبير في المسائل الجيوستراتيجية في الثورة، مما جعل الأسس الأيديولوجية والسياسية لمنظمة إلى الأمام في تناقض مع أسس الصراع الطبقي، نتيجة سقوط تصوراتها في هفوة القومية، الشيء الذي جعلها تتقاطع مع هذه الأحزاب، وبالتالي مع الدول التي أسستها على مبدأ "القومية العربية"، وهي كيانات صنيعة الإمبريالية في مرحلة الاستعمار القديم، بهدف إدارة الاستعمار الجديدة تحت هيمنة البورجوازية التجارية، الطبقة التي تأسست قبل الاستعمار القديم، وحلفائها الملاكون العقاريون الكبار/المعمرين الجدد، الذين خلفوا المعمرين الفرنسيين والإسبان وليس "الإقطاعيين الجدد" كما ورد في الوثيقة.
في البداية ودون مقدمات تناولت الوثيقة الوضع السياسي المحلي بالمغرب، وسجلت "تصاعد" الحركة الاحتجاجية للفلاحين، العمال، الطلبة والتلاميذ واعتبرت ذلك مؤشرا نوعيا طبع نضالات الجماهير الشعبية في أفق تحقيق الثورة ب"الغرب العربي"، الاحتجاجات التي قادها الفلاحون بنضالاتهم التي عرفت "تطورا كيفيا في نضالات الفلاحين، مع نضالات فلاحي أولاد خليفة، الذين هبوا من أجل انتزاع أراضيهم من أيادي الإقطاعيين الجدد" كما جاء في الوثيقة، واحتجاجات العمال "الإضرابات ... والتوقفات عن العمل" الذين تحدوا بذلك "الخضوع لعرقلة البيروقراطية النقابية" وعلى رأسهم العمال المنجميين، وهذه النضالات قائمة كلها بالبوادي بينما بالمدن مازال "ثقل البيروقراطية النقابية فعالا"، واعتبرت الوثيقة أن المنجميين هم من حمل مشعل الحركة العمالية وسطر "الطريق الصحيح للبروليتاريا"، مما دفع العمال بالمدن إلى أن يحدوا حدوهم، بتجسيد إضرابات جعلت "البيروقراطية العمالية محط تساؤل وسط بروليتاريا المدن"، واحتجاجات التلاميذ التي عرفت تصاعدا "نضالات طويلة وأكثر حدة من السنوات السابقة، والتي كانت قد هزت النظام بقوة"، وعرفت مساندة شعبية في عدة مناطق، كما عرفت مساندة الطلبة بتنظيم "الإضرابات بالجامعة"، رغم سيطرة البورجوازية الصغيرة على نقابتهم مما "يضعفهم أمام الأحزاب البورجوازية"، أي طلبة أحزاب "الحركة الوطنية".
وخلصت الوثيقة إلى أن "نقط الضعف الأساسية لنضالات الجماهير تتمثل في عدم التنسيق والتجذر غير الكافي للمناضلين الثوريين داخل الجماهير، ونقص الأفق. لكن التطور نفسه لنضالات الجماهير يخلق شروطا أحسن لتجاوز نقط الضعف هذه"، مما جعل طريق الثورة ب"الغرب العربي" حسث الوثيقة يتوضح لديهم.
كل ما ورد هنا جعل من الوثيقة تقريرا شبه صحفي، يمجد عفوية الجماهير باعتبارها كفيلة بخلق شروط نجاحها، والثوريون ما عليهم إلا التنسيق والتجذر في أوساط الجماهير، في غياب الحديث عن دور حزب العمال والفلاحين والجنود في مواجهة الإمبريالية، ودور الطبقة في قيادة الجماهير في العلاقة بين الطبقة، الحزب والجماهير، كما تنص الماركسية اللينينية على ذلك، مما يدل على الضبابية في الرؤية لدى الماركسيين اللينينيين، التي تتجلى في تقديس عفوية الجماهير، باعتبار هذه الاحتجاجات بمثابة قفزة نوعية في اتجاه تحقيق الثورة المغربية أو ما سمي ب"الثورة بالغرب العربي".
وتناولت الوثيقة رد فعل النظام المتسم ب"تشدد النظام"، عبر رفض مطالب الفلاحين والشبيبة والزيادة في الأسعار والقمع واعتقال ومحاكمات المناضلين، رغم "عدم انسجامه" الذي يتجلى في "ضعف القاعدة الطبقية للأوليغارشية الكومبرادورية، وتعفنها المتسارع، يمنعانها من المرور إلى القمع المعمم تجاه نضالات الجماهير" كما جاء في الوثيقة، التي تبشرنا بقرب قيام الثورة وسقوط النظام غير المنسجم، في ظل ضعف قاعدته الطبقية، دون إعطاء مؤشرات مادية تدل على ذلك من صلب الصراع الطبقي في تلك المرحلة.
والوثيقة تسجل تطورا ملحوظا في نضالات الجماهير الشعبية بينما واقع الصراع الطبقي يؤكد العكس، حيث إن هذه الاحتجاجات ما هي إلا ما تبقى من جيوب مقاومة العمال والفلاحين ضد الاستعمار القديم، بعد تصفية المقاومة المسلحة للتحالف الطبقي للعمال والفلاحين، من طرف النظام والأحزاب البورجوازية الصغيرة بدعم من الإمبريالية، مما يجعل الوثيقة لا تنسجم وأسس الديالكتيك الماركسي، وبذلك تكون بعيدة عن التحليل السياسي الطبقي.
وعزت الوثيقة هذا "التشدد" إلى القوة التي استمدها "النظام الكومبرادوري" باندماجه بالإمبريالية، عكس ما تذهب إليه البورجوازية الصغيرة من فصل للقضايا الوطنية عن "علاقتها الدولية"، ذلك ما يتجلى في قضية الصحراء حيث "إن هذا الاندماج، يظهر بوضوح، في تعاون النظام في مشاكل الصحراء، في تعزيز الروابط مع الإمبريالية الفرنسية والإسبانية، كل هذا في إطار استراتيجية الإمبريالية الأمريكية في المنطقة" كما جاء في الوثيقة، وفي مزيد من البعد عن الفهم الماركسي تسمي الوثيقة قضية الصحراء "مشكلا" ؟
وهنا يتبين غياب التحليل العلمي المادي لدى الماركسيين اللينينيين بالمنظمة، حيث يعتقدون أن غطرسة النظام القائم مصدرها اندماج بالإمبريالية في "مرحلة تصفية الإمبريالية"، في تفسير مبسط للقمع المسلط على الشعب المغربي، واعتبار التحريفية ساهمت بشكل كبير في ذلك.
وأكدت الوثيق أهمية اعتماد الإمبريالية على "الحكومة المغربية" في نظام غير منسجم حسب الوثسقة وهو "نظام كومبرادوري"، لا يرتكز على قاعدة طبقية، بتحالف مع "الفاشية الإسبانية" من أجل ضمان "الأمن في البحر المتوسط" و"الوعي المتوسطي"، في تجاهل للقمع المسلط على الشعب المغربي خلال السنوات العشر قبل صدور الوثيقة، بعد تصفية المقاومة المسلحة وقطع الطريق عنها حتى لا يتم التحالف بيتها وبين المقاومة المسلحة الجزائرية، التي خرجت من حرب المليون ونصف شهيد منهكة تنتظرها "حرب الرمال"، لقطع الصلة نهائيا بين الشعبين المغربي والجزائري.
وفي غياب تام للمادية التاريخية تتحول الوثيقة إلى تقرير سياسي بورجوازي صغير، يضرب الأحداث في السطح، متناسيا المخططات الإمبريالية لتصفية الثورة الاشتراكية بالاتحاد السوفييتي، وحركة التحرر الوطني بشمال إفريقيا، كامتداد للثورة المغربية بالشمال والجنوب، وامتداداتها بالصحراء، هكذا وبكل سهولة تسجل الوثيقة تطور الحركة الاحتجاجية للعمال والفلاحين بالبوادي والمدن، باعتبارها قفزة نوعية، في طريق الثورة المغربية ضد نظام "متهالك غير منسجم ومتعفن وعلى وشك السقوط".
وفي نفس التحليل البورجوازي الصغير يتم ربط، "الثورة بالغرب العربي" ب"الثورة العربية" وعلى رأسها الثورة الفلسطينية "البؤرة الرئيسية للثورة العربية"، التي تلقت "الضربات" و"التطويق" وساعدت الإمبريالية و"التحريفية" معا في ذلك، كما أن "الانتصار المباشر لقوى الثورة المضادة، يجذر بذور الأيديولوجية الثورية في مجموع الأمة العربية"، وبكل بساط حسب نظر الوثيقة فالثورة المضادة تبعث "الأيديولوجية الثورية" في "الأمة العربية"، وبهذه الكلمات التي تفتقد للأسس الطبقية، يعتقد الماركسيون اللينينيون بالمنظمة أنهم ينتجون تحليلا ماركسيا لينينيا للأساس الاقتصادي للثورة، التي يسمونها "عربية"، في سقوط تام في ورطة منهجية ضد ـ ماركسية لا تمت بصلة بالديالكتيك الماركسي.
وبهذه الكلمات وغيرها من قبيل "المغرب العربي" و"المغرب الكبير" و"البلدان المغاربية" و"الأمة العربية" التي تعتبرها الوثيقة مفاهيم، تعبر عن ضعف التثقيف الماركسي لديهم، مما جعلها لا تخرج عن نطاق التقارير السياسية للأحزاب البورجوازية الصغيرة، نتيجة عدم قدرتهم على الممارسة البروليتارية الكفيلة برسم الخط البروليتاري للثورة، بعيدا عن الإطاروية والتثقيف البورجوازي الصغير، بالاندماج في الحركة العمالية بالمعامل والمناجم، وبلورة الفكر الثوري في أوساطهم، قبل إعلان أي فعل ثوري خارج الطبقة وبالتالي خارج الجماهير، حتى لا تكون المنظمة إطارا برجوازيا صغير، يتم فيها إنتاج كم هائل من الوثائق خارج الممارسة العملية.
هكذا يبين أسلوب الإطاروية التي حظيت بها هذه الوثيقة، في كتابتها ونشرها حتى بين المناضلين أنفسهم، وبقي هؤلاء المناضلون الماركسيون اللينينيون حبيسي العمل البورجوازي الصغير بالتركيز على الحركة الطلابية، التي لجؤوا إليها لإبراز تناقضاتهم مع التحريفية، وكما جاء في الوثيقة و"ظهرت الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين بقوة، أمام اضطراب السياسيين البورجوازيين والبوليس"، التي واجهتها التحريفية ب"كمندوهات فاشية" والمخبرين ب"الشبيبة الاشتراكية"، في تضخيم لفعل طلبة أحزاب "الحركة الوطنية" البورجوازية الصغيرة، الذين اعتبرتهم الوثيقة "فاشيين" منظمين في "كمندوهات"، في استعمال تعسفي لمفهوم الفاشية، التي تعتبر شكلا من أشكال التعبيرات السياسية الحربية ضد ـ ثورية، كما رأينا في تجربة الثورة الفييتنامية، والفاشية نتاج تناقضات الإمبريالية خلال الحرب الإمبريالية الأولى، هذا المفهوم الذي ورد في فقرة أخرى في محله في وصف النظام الإسباني ب"الفاشي".
إن استعمال مفهوم التحريفية في هذه الوثيقة، يأتي من أجل تحريف الصراع الأيديولوجي ضد الإمبريالية، إلى الصراع بين الحزب الشيوعي السوفييتي والحزب الشيوعي الصيني، بينما مشروع التحريفية بالاتحاد السوفييتي يعتبر أكثر بكثير من ذلك المستوى، وهو تدمير الاشتراكية وإعادة بناء الإمبريالية في البلد الوحيد، الذي تحققت فيه الاشتراكية، وتدمير كل ما بنته الماركسية اللينينية بعد سحق الفاشية والنازية، وتوسيع جغرافية الوطن الاشتراكي، وهو مشروع يتجاوز المسائل الأيديولوجية والسياسية إلى تناول المسائل الاقتصادية، تغيير الأساس الاقتصادي بالاتحاد السوفييتي من الاشتراكية إلى الرأسمالية والإمبريالية، وتدمير القوى المنتجة الاشتراكية التي لا يمكن إيقافها فقط بالصراع الأيديولوجي والسياسي المجردين، بعيدا عن علاقتهما ببناء الأساس الاقتصادي.
وكما جاء في مضمون "مرحلة تصفية الإمبريالية" الجزء الثاني لعنوان الوثيقة، أن الحرب الشعبية هي الخلاص، واعتبار الثورة الصينية هي النموذج والاستشهاد بالثورة الفيتنامية، تبقى الوثيقة حبيسة الوصف بينما الذي يجب هو التغيير، الذي لا يمكن أن يكون بعيدا عن التجارب الثورية بشمال إفريقيا، في علاقتها بالتجارب الثورية العالمية، التي هي بدورها استفادت منها، وعلى رأسها الثورة المغربية بالشمال والجنوب وامتداداتها بالصحراء.
ويبقى الفكر البورجوازي الصغير سيد الموقف لدى هؤلاء الماركسيين اللينينيين المبتعدين عن الممارسة البروليتارية، بعدما أخذوا من الماركسية اللينينية كل ما يرونه منسجما مع تصوراتهم البورجوازية الصغيرة، الذي لن يكون إلا التحريفية بعينها، مما حعلهم يسقطون في التحريفية من جديد بتبني "الماوية" خيارا للثورة، بعيدا عن التحليل العلمي المادي لتطور الإمبريالية على أساس القاعدة الاقتصادية لاستغلال الشعوب.

وثيقة "المرحلوية أو النيومنشفية ــ إشارات حول أحد المظاهر الأساسية للفكر اليميني في الحركة الماركسية ــ اللينينية المغربية"

خلال نصف قرن من حياة الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، مازالت الاختلافات الجوهرية بارزة بين تياراتها المتبنية للخط الثوري لمنظمة "إلى الأمام": خط الشهيد عبد اللطيف زروال، الذي شكل استشهاده ضربة قوية فقدت المنظمة على إثرها أحد أبرز المنظرين الثوريين، مما حدا بمن بقي بالسجون من قياداتها بمحاولة إعادة بناء هذا الخط الثوري، بعد بروز الخط التحريفي المتحكم في قيادتها داخل السجن، مما دفع بهؤلاء المناضلين إلى التشبث بمنطلقات الحركة الماركسية ـ اللينينية الفرنسية بعد انتفاضة 1968 أي "الماوية"، التي رأوا فيها حصنا حصينا لتصوراتهم الثورية في ظل القمع الأسود للنظام القائم بالمغرب، وتعبر الوثيقة أعلاه التي صاغها بعض المناضلين بسجن غبيلة في 29/30 نونبر 1976، إحدى الوثائق المهمة في هذا المجال.
استهل أصحاب هذه الوثيقة دراستهم ب"طرح المسألة"، في محاولة لتقديم "مظهرا من المظاهر الأساسية للفكر اليميني في الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية"، من خلال نقدهم ل"مجموعة اليمين المستحوذة على قيادة منظمة 23 مارس"، متناولين مفهوم المعرفة كمعيار لنقد مواقف هذه المجموعة حول الثورة بالمغرب، في علاقتها بقضية الصحراء، وحددوا الإطار المعرفي للورقة في "أطروحة ماركس الثالثة حول فيورباخ التي طورها ماو في "في الممارسة""، كما جاء في الوثيقة، مما يعني أنها تجاوزت أطروحات لينين حول المعرفة والديالكتيك الماركسي، وجعلت أطروحات ماو تسي تونغ أعلى مستوى للمعرفة الماركسية.
وتناولت الوثيقة مسألة "النخبوية" و"المرحلوية"، اللتين يتسم بهما فكر تلك المجموعة المعنية بالنقد، التي لا تعترف ب"النخبوية" شكلا إلا أن "المرحلوية أكثر مكرا، في هذا. كما يظهر، فهذه المجموعة اليمينية تبقى مطابقة لما تتميز به الانتهازية، كما أكد عليها لينين، أي لا تظهر أبدا بوجهها المكشوف" كما جاء في الوثيقة، وبالنسبة إليهم فهذه المجموعة انتهازية، واستشهدوا بقول لينين لتأكيد صحة صفتها الانتهازية " أي لا تظهر أبدا بوجهها المكشوف".
وفي سياق نقدهم ل"المرحلوية" تضيف الوثيقة أنه "يمكن أن توضح انطلاقا من مواقف متعددة لهذه المجموعة، وبالأخص، انطلاقا من ملاحظات باريسية حول الصحراء"، من مضمون الوثيقة التي أرسلتها قيادة منظمة 23 مارس بالخارج إلى سجن غبيلة، حسب إشارة الكاتب، وتتجلى "المرحلوية" في تصورهم للثورة المغربية، التي يجب أن تتسم بالتبعية للأحزاب الإصلاحية حتى في قضية الصحراء، ولم توضح هذا التصور ولا نقيضها، وتجلى ذلك في المنطلقات الأيديولوجية لهذه المجموعة التي تستند إلى "منظمة العمل الشيوعي بلبنان" و"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"، التي أدت إلى الإفلاس الأيديولوجي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ... حسب الوثيقة.
وخلصت الوثيقة إلى وجوب محاربة اليمين داخل الحركة الماركسية ـ اللينينية بلا هوادة، وذلك عبر التمسك بتعاليم لينين حول "القيادة البروليتاريا في "الثورة الديمقراطية البرجوازية"، وتعاليم ماو حول "القيادة البروليتاريا في الثورة الديمقراطية الشعبية"، وتعاليم الثورة الوطنية الديمقراطية الفييتنامية، دون أن توضح أسس هذه التعاليم، ولا كيف يمكن دمجها، والتناقض بينها ومستويات تكاملها.
ومن أجل وضع أسس تصورهم للثورة المغربية، يأتي الجزء الثاني لتناول ما أسمته الورقة "بعض الأسس النظرية للمادية الجدلية: التناقض والحركة".
وتناولت الوثيقة مسألة الشيء، الجوهر والظواهر بشكل مبسط، في مستوى ابتدائي تعليمي للمفاهيم ودلالاتها الفلسفية، عبارة عن درس للمبتدئين في تعلم تعاليم الفلسفة الماركسية، من أجل إقناعنا أن المعلم الكبير في الديالكتيك هو ماو تسي تونغ، كما جاء في الوثيقة : من الديالكتيكي الأول الفيلسوف الإغريقي "هيراغليت"، مرورا بأطروحة دكتوره ماركس حول هذا الفيلسوف، وصولا إلى المعلم الكبير ماو، في إشارة عابرة لقولة لينين التي اعتمدها "المعلم الكبير ماو" في تطويره للديالكتيك "الجدلية هي دراسة التناقض في جوهر الأشياء نفسها"، وما تلا ذلك من تفسير وتوضيح لأصحاب هذه الوثيقة، كل ذلك من أجل تجاوز أعمال لينين الفلسفية حول تطوير الديالكتيك الماركسي على مستوى المعرفة، وبناء المفهوم الماركسي اللينيني للثورة، من طرف أصحاب هذه الوثيقة، والذين يتبنون هذا الطرح بعدهم اليوم، حتى يقصروا المسافات عن طريق الثورة المغربية، من أجل الانتصار المحتوم في شكل الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية بقيادة البروليتاريا.
وفي عبث فكري حاولت الوثيقة تناول الظواهر من منظور العلوم الطبيعية، على شكل دروس ابتدائية للمتعلمين بالاعدادي، في محاولة لفهمها فلسفيا، واستعارتها من أجل فهم الحركة الاجتماعية وتناقضاتها، بشكل فج لا يمت بصل بالديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين على مستوى المعرفة، من خلال نقده لعلماء العلوم الطبيعية، وخاصة منهم الفيزيائيين في كتابه المادية والمذهب النقدي التجريبي، وأمثلة كثيرة واردة في الوثيقة : "المد التأثيري بين الكهرباء والميغناطيس. جريان الماء في النهر إلى البحر، سيرورة تطور الأنواع، تطور الجنين الحيواني عند غاستون مايير؟ تطور الإنسان عند ماركس في مقولة واحدة "التركيب العضوي للإنسان هو مفتاح التركيب العضوي للقرد"، مع تغييب دراسة داروين التي تتطلب العلم المادي كما تناولها لينين... إلخ.
كل هذه الأمثلة وغيرها تم سردها في محاولة منهم لفهمها فلسفيا ديالكتيكيا، بفهم التناقض في الصراعات الداخلية والخارجية بالطبيعة، واستعارتها من أجل فهم التناقض في الصراعات الطبقية بالمجتمع، وبناء مفهوم الثورة بالمغرب، من أجل الإقرار بأن أطروحات ماو تسي تونغ التبسيطية هي أعلى مستوى في الديالكتيك.
إن تغييب أعمال لينين الفلسفية التي تناولت نقد منظور الفيزيائية بمستوى عال، لا يمكن اعتباره إلا تطفلا على الفلسفة المادية والديالكتيك الماركسي، واستهتارا بعلم نقل قوانين المادة من الطبيعة إلى المجتمع، أي الماركسية، وفي تغييبها، إلا في إشارة عابرة لقولة بسيطة في الجزء الأخير من كتاب لنينين "حول الديالكتيك"، وفقط من طرف المترجم، الذي أشار إلى مصدر هذا الجزء لإنقاذ ماء وجه أصحاب الوثيقة، دون الاستشهاد بمضامين أطروحة لينين العبقرية حول الديالكتيك، باعتبارها خلاصة لدراسته الفلسفية في كتابه "دفاتر فلسفية"، التي تناول فيها نقد المادية، انطلاقا من أعمال الفيلسوف الفينيقي المقيم بأثينا المادي زينون، مرورا بكانظ اللاعرفاني، وصولا إلى هيغل المادي المثالي ونقده من طرف ماركس، ليصيغ خلاصته التي سماها "حول الديالكتيك"، وهي عبارة عن البناء العلمي المادي لمفهوم التناقض، في جميع مستويات تفاعلاته داخليا وخارجيا، في تكامل تام مع مفهوم النفي ونفي النفي، في سيرورة وصيرورة الصراع المادي للحركة، عبر تراكماته الكمية، وتحولاته الكيفية، وتغييب هذه الخلاصة التي اعتمد فيها ماو تسي تونغ جزءا بسيطا منها لوضع كتابة "في التناقض"، الذي يمكن اعتباره كتابا تعليميا لدى المتعلمين المبتدئين في تعليم الديالكتيك الماركسي.
واتخاذ أصحاب هذه الوثيقة أفكار ماو تسي تونغ البسيطة والتبسيطية، فيما يسمى "في التناقض" يطرح التساؤل التالي :
هل ذلك ناتج عن محاولة تغييب الديالكتيك الماركسي عند لينين في صياغة طريق الثورة؟ أم هو عجز عن استيعاب مستوى الفكر الفلسفي الديالكتيكي المادي لدى لينين؟
إن التخبط الفكري الذي وقع فيه أصحاب هذه الوثيقة، إنما يدل عن عجزهم الفكري والنظري، وعدم القدرة عن الرد الحاسم على هجوم النظام القائم على قيادة منظمة "إلى الأمام"، وما يهدد كيانها من فكر تحريفي وانتهازي، ليس فقط من طرف منظمة 23 مارس، بل كذلك من داخل المنظمة، خاصة بعد استشهاد الشهيد عبد اللطيف زروال، الذي أحدث شرخا واضحا في المنظمة، وفراغا نظريا بعد 14 نونبر 1974 تاريخ استشهاده، الذي أعطى للمنظمة خلال حياته، بعدا ثوريا أدق وأشمل سرعان ما بدأ يتراجع شيئا فشيئا بعد استشهاده، وهو المنظر الحقيقي للخط الثوري للمنظمة، وباعتراف أحد مؤسسي هذه المنظمة.
إن إصدار هذه الوثيقة، في شكلها ومضمونها، يوضح بالملموس العبث الفكري والعجز النظري لدى أصحابها، الذين حاولوا إيجاد طريق الثورة المغربية، من خلال نقد "الإطاروية" و"المرحلوية" في منظمة 23 مارس، دون القدرة على التخلص من "الإطاروية" و"الذاتوية"، اللتين أسقطتهم في انتقاء ما يمكن انتقاؤه في الفكر الماركسي، كما يشاؤون ويعتقدون، دون الإلمام بأعمال لينين، فلم يجدوا إلا فكر ماو تسي تونغ البسيط، لاتخاذه لبناء نظريتهم الجديدة حول الثورة، رغم أنهم أشاروا إلى منظور لينين لكن بشكل مشوه، وإلى منظور هو شي منه بشكل ناقص، وتشبثوا بالتجربة الثورية الصينية، رغم سقوطها مع موت ماو تسي تونغ مباشرة قبل كتابة هذه الوثيقة.
وانطلقوا في التحليل الديالكتيكي للصراعات الطبقية بالمغرب في منتصف السبعينات من القرن 20، من أجل بناء الطريق الثوري للثورة المغربية، وأقروا بأن ماو تسي تونغ قد طور الديالكتيك الماركسي، دون أن يبينوا لنا أين تم ذلك، وبالرجوع إلى منظور لينين حول جوهر الديالكتيك، يتبين أنهم لم يطلعوا على ذلك العمل البالغ الدقة في تطوير المعرفة الماركسية.
وأراد أصحاب الورقة بذلك المنطلق البسيط لمفهوم الديالكتيك عند ماو تسي تونغ، تناول الصراعات الطبقية بمغرب السبعينات من القرن 20، ورسم طريق الثورة المغربية، مما أوقعهم في اللاعرفانية التي اختزلت تطور الديالكتيك الماركسي في كتاب "في التناقض"، محاولين تجاوز أعمال لينين حول الديالكتيك، بل أقروا أن أعمل ماو التبسيطية قد تجاوزت الديالكتيك الماركسي عند لينين، رغم أن ماو لم يقر بذلك، بقدر ما قام بتفسير جزء بسيط من أعمال لينين القيمة، والبالغة في الدقة مستوى عال من المعرفة الماركسية، أنظر كتابه "حول الديالكتيك" في كتاب: المادية ونقد المذهب النقدي التجريبي، وكتاب دفاتر فلسفية.
لقد كان ماو منشغلا بالممارسة العملية في مستواها العالي، ألا وهي قيادة الحرب الوطنية الثورية، ولا يسعه الوقت لدراسة جميع أعمال لينين دراسة علمية نقدية، مثل ما قام به المعلم الكبير لينين بدراسته للمعرفة منذ 22 قرنا مضت قبل الثورة الروسية، واختزال المضمون المعرفي لدى لينين في كتابه "حول الديالكتيك"، وفي تلك الجملة، التي انطلق منها أصحاب هذه الورقة، إنما ينم عن جهلهم بالمعرفة الماركسية اللينينية، وذلك، بطبيعة الحال، يمكن تفهمه نظرا لعدم امكانية إلمامهم بأعمال لينين الكاملة على مستوى المعرفة، حيث الشروط الموضوعية داخل السجن، على ما يبدو، إن لم يكن افتقارهم للمراجع، دفعهم إلى الاكتفاء بكتاب "في التناقض" الذي اعتبروه مستوى عال من المعرفة الماركسية، مما دفعهم بالإقرار بوجوب الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية بالمغرب، على غرار الثورة الصينية، دون القدرة على دراسة أسسها الطبقية، ووضع تصور صحيح وبلورته عبر الصراعات الطبقية بالمغرب.
وكانت محاولتهم لبناء تصور ديالكتيكي، من منظور معرفي ماركسي، لعملية إنجاز الثورة المغربية، عبر نقل قوانين الحركة من الطبيعة إلى المجتمع، لا ترقى إلى الفهم الماركسي اللينيني للثورة، فلا يكفي الإقرار بأن الثورة الصينية حدث كبير، في بلد شبه مستعمر، واختزال المعرفة الماركسية اللينينية في أقوال ماو تسي تونغ، حتى نقول أننا وجدنا طريق الثورة المغربية، كما لا يمكن إسقاط تناقض داخل الثورة الصينية، بشكل فج، على عملية بناء الطريق الثوري للحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية.
فكما جاء في الوثيقة، بأن الثورة الصينية بدأت في 1911، ولم تنتصر جزءا إلا في 1949، حيث بدأ التناقض من جديد يطرح أمام ماو تسي تونغ، على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فإن اختزال الثورة الصينية في أعمال الحزب الشيوعي الصيني، ودوره في قيادة الثورة، لا يكفي لبناء تصور عام حول التناقض في الثورة الصينية.
كما أن تجاهل تناقضات الثورة المغربية، التي بدأت في 1912، من الجنوب في الحرب الوطنية الثورية ضد الإمبريالية وامتداداتها بالصحراء، والتجربة الثورية بالريف، وبناء الدولة الوطنية الديمقرطية الشعبية الأولى بشمال إفريقيا، باعتبارها أول تجربة عالمية، التي وضعت أسس الحروب الوطنية الثورة ضد الحروب الإمبريالية، باعتراف ماو تسي تونغ وهو شي منه بذلك، يعتبر "مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية" كما سماه لينين.
كما أن تبني التجربة الثورية الصينية بشكل أعمى، دون فهم تناقضها، إنما ينم عن اللاعرفانية التي تختزل الطريق من أجل الوصول إلى الهدف، الذي لا يمكن أن يكون إلا انعكاسا للفكر المثالي الذاتي والسوليبسيسم في الممارسة العملية، التي تقود إلى الانتهازية والتحريفية.
إن غياب بعد النظر لدى أصحاب الوثيقة، قد قادهم إلى اختزال موقع التناقض في الصراعات الطبقية بالمغرب، من أجل تقديم الثورة الصينية، في طبق من ذهب، على حساب تجاهل التراكم الكمي للثورات البروليتارية عبر العالم، وتمييعها في بعض الأحيان، كما جاء في الوثيقة، فيما سماه أصحابها "تعاليم لينين حول القيادة البروليتارية في الثورة الديمقراطية البرجوازية"، دون الإشارة إلى أين يكمن ذلك.
لقد استطاع لينين توضيح العلاقة بين الثورة الديمقراطية البورجوازية والثورة الديمقراطية البروليتارية، بصورة فائقة، باعتبار سيطرة البروليتاريا على السلطة أساسي، في الانتقال السلس من الأولى إلى الثانية، وفي إنجاز المهام الثورية الرئيسية، وفي تجاوز المهام الثورية الثانوية، وفي القدرة على بلورة مفهوم الديمقراطية البروليتارية، الديمقراطية الثورية، الديمقراطية الاشتراكية، في ظل ديكتاتورية البروليتاريا، في دولتها، في اضطهادها للطبقة البورجوازية، المهمة الرئيسية للثورة البروليتارية الاشتراكية.
وأكد لينين على أهمية العلاقة الجدلية بين الثورة البورجوازية الديمقراطية والثورة البروليتارية الاشتراكية، على اعتبار أن مهام الأولى لا يمكن إنجازها كاملة، إلا في ظل الثانية، وأنه بدون ديمقراطية كاملة لا يمكن الحديث عن الديمقراطية البروليتارية.
هكذا توصل لينين إلى صياغة كيفية مرور عملية الانتقال من الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى الثورة الديمقراطية البروليتارية، ولم يتحدث عن "القيادة البروليتارية في الثورة الديمقراطية البرجوازية" كما جاء في الوثيقة، إنما في تناوله للتناقض بين الثورة الديمقراطية البرجوازية والثورة الديمقراطية البروليتارية، من منظور الديالكتيك في علاقته بالبراكسيس، خلال الحرب الأهلية، التي باشر خلالها أهمية التحالف الحربي بين الببروليتاريا والفلاحين، وانتصارهم بقيادة البروليتاريا على الإمبريالية والانتهازية، دفاعا عن الوطن الاشتراكي، والشروع في البناء الاشتراكي، في ظل التحالف الاقتصادي بين البروليتاريا والفلاحين، بقيادة البروليتاريا بعد نهاية الحرب الأهلية، ليكون لينين بذلك قد استكمل منظوره الديالكتيكي الماركسي حول التناقض بين الثورة الديمقراطية البرجوازية والثورة الديمقراطية البروليتارية.
أما القول ب"القيادة البروليتاريا في الثورة الديمقراطية الشعبية"، كما جاء في الوثيقة، فإنه يحمل لبسا عميقا، مناقضا مع الفهم الديالكتيكي الماركسي للثورة الديمقراطية البروليتارية في تناقضها مع الثورة الديمقراطية البرجوازية، ذلك أن الصيغة الثالثة للثورة التي سماها ماو "الثورة الشعبية" دون أن يكون لهذه الصفة الثالثة "الشعبية"، موقعا طبقيا في الصراعات الطبقية حول السلطة، كما هو الشأن بالنسبة للبروليتاريا والبرجوازية، المتناقضان المتصارعات حول السلطة في النظام الرأسمالي، فإن هذا المنظور الجديد الغريب عن الماركسية، والذي يسميه "الماويون" "الديمقراطية الجديدة"، دون أن تحمل هذه الصفة أي موقع طبقي في الصراعات الطبقية حول السلطة، إنما يأتي ضمن الخيار الثالث بين المادية والمثالية التي سماها إنجلز اللاعرفانية.
أما القول ب"تعاليم الثورة الوطنية الديمقراطية الفيتنامية"، كما جاء في الوثيقة، فلا يختلف كثيرا عن التسمية الجديدة للثورة الصينية، ذلك أن الثروة الفيتنامية، كما هي في مثيلتها الصينية تمت بقيادة الحزب الشيوعي، الذي يمثل بالنسبة للحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية خاصة منظمة "إلى الأمام"، مشروعا غير منجز إلى حد الآن، فبدل الشروع في بناء الحزب الماركسي ـ اللينيني المغربي، من صلب الانخراط في الصراعات الطبقية، قام أصحاب الوثيقة بالتيه في عالم المعرفة، دون التسلح بما يكفي من الدراسة والتحليل للماركسية والماركسية اللينينية، والتجارب الثورية الوطنية والعالمية، مما يوضح محاولتهم الهروب إلى الأمام، بالشروع في تناول التناقض في الصراعات الثانوية بين منظمة "إلى الأمام" ومنظمة 23 مارس، دون التسلح بما يكفي من المعرفة الماركسية اللينينية، مما جعلهم يخلطون ما هو أساسي وثانوي في الصراعات الطبقية.
هكذا حاول أصحاب هذه الوثيقة تحديد منطلقاتهم النظرية، لوضع تصورهم حول الثورة المغربية، انطلاقا من دراسة المادة والحركة، من خلال منطلقات تحديدات الفيزياء الحديثة، نظرية الكوانطا، لكن في اتجاه يرجع بالنظرية إلى الخلف، في تجاوز تعسفي لأعمال إنجلز ولينين في المجال العلمي المادي، الديالكتيك الماركسي، بالرجوع إلى أقوال هيغل المثالية، التي وردت في هذه الوثيقة.
كل ذلك من أجل الإقرار بأن ماو تسي تونغ قد طور المعرفة الماركسية إلى مستوى عال، لكن غير مدركين أن عملهم هذا يوقعهم في اللاعرفانية، حيث تجاوزهم لأعمال لينين في قولهم :"إن الأيديولوجية البرجوازية قد استنتجت بأن الكوانطا ظاهرة متقطعة ظاهريا، لا يمكن أن تفسر بالمادية. في الواقع هذا خطأ، فبصفة خاصة، قام أحد الفيزيائيين، ينتسب إلى الفكر المادي الجدلي (Jean Vigier)، بتوضيح أن الكوانطا تمثل في حقل طاقة ـ مادة نقط عقدية ذات تراكم طاقي مكثف." انتهى كلام الوثيقة، والتحدث هنا عن المادة والطاقة دون ذكر الحركة التي أكد عليها إنجلز في تناوله للحركة في الطبيعة، ولينين في نقده للتجريبيين في مسألة المادة تزول في نظرهم، واستخلاص أن لا حركة بدون مادة وبالتالي لا طاقة بدون حركة، وقول الأستاذ الماوي بالمادة والطاقة هو تحريف لقول إنجلز لا حركة بدون مادة.
وتكريسا لرغبة أصحاب الوثيقة في تجاوز أعمال لينين في هذا المجال، أو ربما جهلهم بها، يستشهدون بأحد الشيوعيين "الماويين" بفرنسا 1968، الذي انسحب من الحزب الشيوعي الفرنسي، في محاولة لهم للتأكيد على أن ما يسامونه "ماوية" قد تجاوزت أعمال لينين الفلسفية، باستعارة أقوال هذا الأستاذ الفيزيائي، لملء فراع نظرية "الماوية"، رغبة في تجاوز أعمال لينين في "حول الديالكتيك" وأعمال إنجلز حول "ديالكتيك الطبيعة".
إن محاولة تبخيس أعمال لينين، من طرف أصحاب الوثيقة، وتقديم أعمال ماو البسيطة حول بلورة الديالكتيك من الطبيعة إلى المجتمع، إنما يندرج ضمن النزعة التحريفية في الشيوعية، في الربع الأخير من القرن 20، ذلك ما ساهم في تكبيل الحركة الماركسية ـ اللينينية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة، إن تمييع أعمال ماو، التي يؤطرها قوله بأنه يجب على الديالكتيك أن يكون في متاول الجماهير، الدفع بالديالكتيك ومحاولة ربطه بالثقافة الشعبية، وعدم فهم مدلول قول ماو في هذا الصدد، دفع بهؤلاء الأساتذة أصحاب هذه الوثيقة، إلى السير أبعد من ذلك، بالقول بتطوير المعرفة الماركسية إلى مستوى عال، بينما ما فعله ماو هو تبسيطها، وهو عمل جيد كذلك، حتى تفهمها الجماهير حسب مستوى ثقافتها الشعبية، وليس تطويرها فلسفيا، إنما صياغة أساليب بسيطة لنشر تعاليم الماركسية في صفوف الجماهير.
والقول ب"الديمقراطية الشعبية"، ليس مفهوما جديدا للديمقراطية، إنما هو من صلب التحلي بأخلاق المناضل الثوري، الذي يجب عليه أن ينبذ النخبوية والتعالي على الجماهير، فالتناقض بين الديمقراطية البروليتارية والديمقراطية البرجوازية، لا يمكن تعويضه ب"الديمقراطية الشعبية"، وليست بديلا عن الديمقراطية البروليتارية، التي تعتبر أعلى أشكال الديمقراطية، والقول ب"الديمقراطية الشعبية" لا يستند إلى أساس طبقي، بقدرة ما هو مصطلح فضفاض، إذا ما أردنا تحويلها من أسلوب التعامل الديمقراطي مع الجماهير إلى مفهوم طبقي نقيض الديمقراطية البرجوازية، التي تتناقض مع الديمقراطية البروليتارية.
وباعتقادهم أنهم اكتشفوا مفهوما جديدا، وهو غريب عن الماركسية، بإلصاق كلمة "الشعبية" بكل شيء : "الثورة الشعبية"، "الديمقراطية الشعبية"، "الديكتاتورية الديمقراطية الشعبية" ... إنما يندرج ذلك ضمن التحريفية والانتهازية، حتى أن هؤلاء الأساتذة تملكم الغرور، إلى حد القطع مع أعمال إنجلز ولينين العلمية والنقدية للمادية الميتافيزيقية لدى الأساتذة البرجوازيين، الذين حاولوا دحض المادية الديالكتيكية باستنتاجات المذهب النقدي التجريبي ذات المنحى اللاعرفاني والمثالي.
وانطلاقا من قولة Jean Vigier المشار إليها أعلاه، يحاول أصحاب الوثيقة صياغة مفهوم جديد لما يسمى في الماركسية ب"القفزة النوعية"، في قولهم :"إن كل لحظة من لحظات التاريخ، التي تتميز بتحول كيفي، هي النقطة التي تكون فيها السيرورة المتراكمة عميقا في المرحلة السابقة، قد وقع فيها الانفجار، إنها النقطة حيث تحل الضربة الأولى التناقضات المتراكمة. هذه النقطة المسمى نقطة عقدية ليست هدفا في حد ذاته ونقطة النهاية، حيث كل الماضي تمت تصفيته وتطهيره دفعة واحدة. إن مفهوما مثاليا مثل هذا، يقدم صورة متداولة كثيرا حول ثورة أكثوبر، ولا تسمح إذن بفهم التطور اللاحق للاتحاد السوفييتي."، انتهى كلام الوثيقة.
ونرى هنا كيف حاول أصحاب هذه الورقة، استعارة ما سماه أستاذ الفيزياء الشيوعي "الماوي" ب"نقط عقدية ذات تراكم طاقي مكثف"، من الفيزياء إلى الثورة الاجتماعية، حتى يبرهنوا أنهم يطورون الديالكتيك الماركسي، من صلب ما يسمونه "الماوية" نقيض "اللينينية"، وحتى يؤكدوا برهانهم يعطون مثالا ب"ثورة أكتوبر"، التي في نظرهم تعتبرها اللينينية أنها متكاملة ؟ من أجل القول أن فهم اللينينية للثورة متجاوز بإطلاق تهمة اعتبار الثورة البلشفية متكاملة ونهائية، هنا تعبير عن تشويه اللينينية، التي عبر عنها لينين في قوله السابق حول "الثورة الاشتراكية"، وأن الثورة عبارة عن سيرورة لا تنتهي إلا ب"تحقق الديمقراطية الكاملة" أي الديمقراطية البروليتارية.
واعتبروا الفهم اللينيني للثورة فهما مثاليا، كما جاء في قولهم :"إن مفهوما مثاليا مثل هذا، يقدم صورة متداولة كثيرا حول ثورة أكثوبر، ولا تسمح إذن بفهم التطور اللاحق للاتحاد السوفييتي."، دون قدرتهم على تقديم حجة واحد على ذلك، إنه العبث الفكري الذي يتوخى بناء نظرية جديدة للثورة البروليتارية من أدوات مادية ميتافيزيقية للفكر المثالي الذاتي الجديد في أوساط "الماويين"، مما كان له تداعيات خطيرة على الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية وخاصة منظمة "إلى الأمام"، التي يسعى "الماويون المغاربة"، إلى إلصاق نظرياتهم المادية الميتافيزيقية بمظورها للطريق الثوري للثورة المغربية.
إن كل التقديمات السابقة لأصحاب الوثيقة، التي تتوخى تقديم "في التناقض" لماو، على أنه التطوير الممكن للماركسية إلى مستوى عال من المعرفة، إنما هو عبث "الماوية" فيما يسمى التناقض الأساسي والتناقض الرئيسي، الذي يبرز في قولهم :"يجب هنا، أن ندقق، في كل سيرورة تكون محددة (موسومة) بفترات من داخل كل مرحلة. وبالفعل، فداخل كل مرحلة، لا توجد كذلك حركة خطية، فسيرورة التراكم، وسيرورة الانفجار، الجزئي على الأقل، تسجل كذلك تناقضات داخل السيرورة الطويلة التي تشمل المرحلة كلها.إن هذا التميز بين المرحلة والفترة، يشرح الفرق بين التناقض الأساسي والتناقض الرئيسي. فالتناقض الأساسي يحدد المرحلة كلها، لكن كل فترة من هذه المرحلة تتميز بتناقض رئيسي." انتهى كلام الوثيقة.
ونرى هنا كيف يتم التلاعب بالكلمات، عبر تقزيم مفاهيم الماركسية، ومحاولة نفيها بتناول أجزاء معينة من قوانينها، وإعادة تجزيئها، للقول بأن ذلك اكتشاف جديد، والقول ب"التناقض الأساسي" و"الناقض الرئيسي" يأتي ضمن مفهوم العام والخاص، في المادة والحركة، في العلاقة بينهما، وهو ليس باكتشاف جديد، إنما هو تكييف للمفاهيم الأساسية في المادية الديالكتيكية، من البسيط إلى المعقد، في كل معقد بسيط، وفي كل بسيط معقد، هكذا يتلاعب "الماويون" بالكلمات، لإيهام الماركسيين أنهم يطورون الماركسية، وفعلا يطورونها في اتجاه الكانطية، من العرفانية المادية إلى العرفانية المثالية الذاتية والسوليبسيسم، فمهما تكن محاولاتهم للهروب من المعرفة المادية الديالكتيكية عند لينين، يسقطون في تناقضهم الذاتي.
لقد أسس لينين نظريته حول الديالكتيك، بصورة فائقة في الدقة، في التناقض بين العام والخاص في كل الأشياء، في الطبيعة كما في المجتمع، في العلاقة بين المادة والحركة، وقال عن المادة أنها "مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي"، واستعمل "المادة" في كل دراساته بعدما ميع التجريبيون مفهوم الواقع، وحدد العلاقة بين العام والخاص، في الطبيعة والمجتمع، من أبسط الأشياء إلى أعقدها، في العلاقة بين أجزاء الحركة، في تطورها، في العلاقة بين ما هو عام فيها، وما هو خاص، في العلاقة بين تناقض العام والخاص، إلخ..
إن كل محاولة لتطوير الماركسية، بمحاولة تجاوز استنتاجات لينين، إنما هي محاولة للقطيعة الإبستمولوجية بين الماركسية والماركسية اللينينية، وتعويضها بتفاهات "الماوية" الصبيانية اليسارية في الحركة الماركسية ـ اللينينية.
فما معنى الأساسي والرئيسي ؟ هي كلمات يريد بها أصحابها تعويض مفاهيم ماركسية، دون القدرة على إنتاج نظرية منسجمة مع المنهج المادي الديالكتيكي الماركسي، فتقديم مصطلح التناقض وتقسيمه إلى ما هي أساسي ورئيسي، وإسقاطه على التراكم الكمي للصراعات الطبقية في حركة المجتمع، التي ينتج عنها تراكم كيفي، القفزة النوعية، عند انفجار الثورات الاجتماعية، التي قال عنها ماركس أنها نتاج التناقض بين القوى المنتجة الثورية وعلاقات الإنتاج الرجعية في المجتمع الرأسمالي، ذي الصفة التناحرية، إنما هو تبسيط لما هو معقد في الحركة الاجتماعية، أي أقصى تفاعل قوانين الحركة على مستوى المجتمع البشري، فالمقارنة بين "المرحلة والفترة" في علاقتها ب"التناقض الأساسي والتناقض الرئيسي" وتحديد الرئيسي بالفترة والأساسي بالمرحلة في سيرورة من الفترات إلخ، إنما ينم عن الفكر الميكانيكي الذي يقول بالمطلق هو مطلق، والنسبي هو نسبي، بينما في الديالكتيك الماركسي في المطلق نسبي، وفي النسبي مطلق، ونفي صفة الأساسي فيما هو رئيسي، إن وجد الرئيسي، إنما هو جهل بالديالكتيك الماركسي، فحصر الفترات التاريخية للحركة فيما هو رئيسي، إنما هو عمل دوغمائي، من منطلق الفكر الميكانيكي، الذي ورط أصحاب الوثيقة في محاولة تجاوز خلاصات لينين حول الثورة والحركة الثورية، في المجتمعات الرأسمالية وتناقضاتها وسيرورة الصراعات الطبقية فيها.
إن محاولة أصحاب الوثيقة فهم الصراعات الطبقية بالمغرب، وبناء الطريق الثوري للثورة المغربية، كما جاء في هذه الوثيقة، إنما تندرج ضمن مستويات تعليم تعاليم الماركسية للمبتدئين، وبشكل فج، فهي تروم القطيعة الإبستيمولوجية في النظرية الماركسية بتجاوز اللينينية، واختزال الماركسية فيما يسمونه "الماوية"، التي يقدمونها كنظرية متكاملة للثورة في عصر الإمبريالية، ذلك ما يتجلى في قولهم :"وفي كل هذا الذي يجب بناؤه، فتحطيم جهاز الدولة الكمبرادوري لن يمنع الأشكال السابقة من التطور من جديد، في هيئات جديدة، وأيضا، فصراع الطبقات سيستمر في أشكال جديدة تحت قيادة الديكتاتورية الديمقراطية الشعبية، وهنا أيضا نجد فترات متتالية من التراكم والانفجار، ولكن يمكن التحكم فيها في هذه المرة بواسطة الحزب البروليتاري، داخل جدلية حزب ـ جماهير الذي رسمت نموذجه العظيم الثورة الثقافية البروليتارية الصينية." انتهى كلام الوثيقة.
ونرى هنا كيف تم تشويه الصراعات الطبقة، في مقولة "الديكتاتورية الديمقراطية الشعبية"، من دولة ديكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية البروليتارية، إلى هذا المصطلح الغريب عن الماركسية المركب من كلمات متناقضة، فمفهوم ديكتاتورية البروليتاريا نقيض دكتاتورية البرجوازية، من منطلق الصراع الطبقي الذي حددته الماركسية، في التناقض بين البروليتاريا والبرجوزية، أما "الديكتاتورية البروليتارية" ليست بمفهوم ماركسي، إن لم يكن التشويه المصطلحي لديكتاتورية البروليتارية، أي صناعة كلمات بديلة عن المفاهيم، التي وضعها ماركس، للقول بتطوير الماركسية، فعلا تطويرها في اتجاه المثالية الذاتية، أما إضافة كلمة "الشعبية"، فهي تندرج ضمن الرغبة في التميز عن الماركسية اللينينية، بما يسمى "الماوية".
في الأخير يقرون بإمكانية استمرار التناقضات في الحركة الثورية، في ظل ما سموه "الديكتاتورية البروليتارية الشعبية"، غير أنهم وجدوا لها الحل في قولهم :"... ولكن يمكن التحكم فيها في هذه المرة بواسطة الحزب البروليتاري، داخل جدلية حزب ـ جماهير الذي رسمت نموذجه العظيم الثورة الثقافية البروليتارية الصينية."، انتهى كلام الوثيقة.
ونرى كيف حاولوا اختزال كل شيء ينبع من الماركسية اللينينية، فقول لينين حول "الحزب، الطبقة والجماهير" أصبح في "نظريت"هم الجديدة "الحزب ـ الجماهير"، فلا وجود للطبقة، فقط الجماهير أي الشعب في ظل الثورة الشعبية، أي نفي الطبقية في مجتمعهم "الماوي"، "الشيوعية الماوية"، إنه العبث الفكري الذي يريد نفي المجتمع الاشتراكي الضروري في نفي الدولة، في اضمحلالها في دولة ديكتاتورية البروليتارية، كما جاء في الماركسية، وليس "البروليتارية الديمقراطية الشعبية" كما يقولون.
بهذا المنظور اللاعرفاني المثالي الذاتي يريد السادة الأساتذة أصحاب هذه الوثيقة، محاربة اليمينية في الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، وخاصة بمنظمة "إلى الأمام"، وذلك ببلورة "نموذج الثورة الثقافية البروليتارية الصينية"، في أوساط الجماهير، لكن مع الأسف الشديد تبخرت كل أحلامهم حول "الماوية"، بعد موت ماو تسي تونغ شهورا قليلة قبل كتابة هذه الورقة، مما يؤكد خطأ أطروحتهم المثالية الذاتية، وهم لا يعلمون أن الصين انتقلت بشكل سلس نحو الإمبريالية، في نفس المرحلة التي يتحدثون فيها عن الفترات والانفجارات الثورية، بينما الاتحاد السوفييتي لم يتم تفكيكه إلا بعد 15 سنة ونهب أموال روسيا وتحويلها إلى نادي الإمبرياليات إلى جانب الصين، مما يطرح إعادة بناء الطريق الثوري للثورة المغربية.

عن الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية

يعتبر هذا المفهوم أحد أصول الثورة في تصور منظمة "إلى الأمام" للثورة المغربية، الذي يمكن أن نتفق عليه مبدئيا، لكن نختلف عليه من منطلق فهمه الأيديولوجي والسياسي، وحتى الاقتصادي، في التكتيك والاستراتيجية، في الديالكتيك والبراكسيس، وفي تفسير بنية المفهوم التركيبية اللغوية في حد ذاتها، ذلك ما يمكن أن يواجه أصحاب الوجبة الجاهزة للثورة المغربية، من أصحابنا "الماويين" المتهافتين لإلصاق فهمهم تعسفا بتصور المنظمة للثورة المغربية، بالتعسف على مفهوم تطوير الماركسية والماركسية اللينينية.
وبالرجوع إلى الأسس التاريخية لهذا المفهوم، كما أشرنا لذلك سابقا، فإنه غير غريب عن التجارب الوطنية الثورية المغربية، خاصة الثورة الريفية ضد الإمبريالية ودولة البرجوازية التجارية، عبر أسس الحرب الوطنية الثورية ضد الحرب الإمبريالية، الصيغة الجديدة للثورة بالبلدان المضطهدة، بما فيها الصين، وتأسيس أول دولة وطنية ديمقراطية شعبية بشمال إفريقيا.
هذا المفهوم إذن، ليس بغريب عن تجارب بلادنا الثورية ضد الإمبريالية، ولا نحتاج لمن يعطينا فيها دروسا، ويضعها أمام المناضلين أيديولوجيا وسياسيا، أما مسألة تطويرها عبر التجربة الثورية بالصين فذلك شان آخر، يمكن أن نختلف أو نتفق حوله، فلكل حججه في تاريخ التجارب الثورية العالمية، وهي عديدة وعلى رأسها التجربة الثورية الفيتنامية الرائدة عالميا.
هكذا نرى هذه المسألة الشائكة، التي يريد أصحابنا "الماويين" الركوب عليها، ولن يكون ذلك بالسهل عليهم، فتجربة بلادنا الثورية أولى بنا من أي أحد آخر، بالاستفادة منها، بالرجوع إلى أصولها التاريخية، لو عاش ماو تسي تونغ اليوم، لقال لهؤلاء الأساتذة نفس الكلام عن هذه التجربة الثورية العالمية، كما فعل يوما مع انتهازيي حزب التحرر والاشتراكية عندما زاروا الصين.
ومفهوم الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية، يوحي بأن الثورة الوطنية يجب أن تكون ديمقراطية، وأن تكون شعبية حتى تنتصر، وهذان الشرطان أساسيان في انتصارها الحتمي، على شكل الحرب الوطنية الثورية ضد الحرب الإمبريالية، ذلك ما قام به القائد الثوري محند بن عبد الكريم الخطابي، في ظل دولة البرجوازية التجارية عميلة الإمبريالية، لكن هل تتم في مرحلة واحدة، أم في مرحلتين متتاليتين؟ أو منقطعتين؟ هنا أيضا قد نختلف مع أصحابنا "الماويين"، الذين يحملون نسخة جاهزة طبق الأصل للنسخة الصينية، وقد نختلف معهم اختلافا جوهريا.
وحول ما جاء في هذه الوثيقة المليئة بمصطلحات لا علاقة لها بالمفاهيم الماركسية، نختلف معهم جوهريا عن تحريف المفاهيم الماركسية المحددة للصراع الطبقي، المحرك الأساسي للتاريخ كما حدد ماركس ذلك، وأكده لينين عبر إنجاز الثورة البروليتارية، عبر مرحلتين، الانتفاضة والحرب الأهلية، وليس عبر الانتفاضة فقط كما يدعي "الماويون" في نقدهم للبلشفية، إنما أيضا عبر الحرب الوطنية الثورية ضد الحرب الإمبريالية وعملائها من الانتهازيين، البرجوازيين والملاكين العقاريين، في حرب دامت أربع سنوات، وهي حرب شعبية بقيادة البروليتاريا، دفاعا عن الوطن الاشتراكي، وتجاوز الثورة البرجوازية بقيادة الانتهازية التي تم إسقاطها.
إن محاولة أصحاب الوثيقة الرامية إلى تقديم تصورهم للثورة المغربية، عبر ما سموه "التناقض الأساسي" و"التناقض الرئيسي" في علاقتهما ب"المرحلة" و"الفترة"، من أجل تحديد طريق الثورة المغربية، إنما هو لعب بالكلمات وهروب إلى الأمام، من أجل تقديم "حسائهم الاختياري" كما قال إنجلز في نقده للكانطيين.
والتناقض، يعتبر أحد القوانين العامة للحركة، التي حددها ماركس وإنجلز بعد اكتشافه في الطبيعة والمجتمع معا، فلا غبار عنه، والحركة الثورية يسري عليها ما يسري على الحركة بصفة عامة، والثورة باعتبارها حركة خاصة في المجتمع، في أقصى تجليات الحركة في تناقضاتها، تضم بداخلها ما هو عام وما هو خاص ككل حركة، مع العلم أن في كل عام خاص، وفي كل خاص عام، وليس هناك عام مطلق ولا خاص مطلق إلا في حدود معينة جدا، والثورة تحمل صفة الوحدة، لكنها حابلة بالتناقض في ظل الصراع والوحدة.
إن التناقض في الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية هو الصراع الأساسي ضد الإمبريالية، بين البروليتاريا والبرجوازية، بين الحرب الوطنية الثورية والحرب الإمبريالية، وهو المحدد الأساسي لسيرورة الثورة في طريقها نحو الانتصار، وهو يشمل مرحلة الثورة عامة، منذ بروزها على شكل تناقضها من مستواه البسيط إلى أعلى مستوى في تناقضها، الحرب الثورية التي تقودها البروليتاريا، في استراتيجية الثورة في علاقتها باستراتيجية بناء الحزب الثوري، والتناقض يشمل هذه المرحلة على شكل قفزات نوعية، في فترات معينة يتم التناقض في ظل الصراع بين أجنحته المتناقضة، لما يكتمل نضج كل قفزة نوعية، عبر تراكمها الكمي، يتولد معه تراكم كيفي، يصبح معطى جديدا، وثابتا في سيرورة الثورة، ومحددا من محددات صيرورتها، وفي أعلى تجلياته مع ميلاد الحزب الثوري، الحزب الماركسي ـ اللينيني الذي يقود الثورة إلى نهايتها، انتصار البروليتاريا على البرجوازية وبناء الدولة الاشتراكية، في أفق اضمحلال الدولة في المجتمعات الشيوعية.
أما اختزال التناقض "الأساسي والرئيسي" في المرحلة والفترة، كما فعل أصحاب الوثيقة، فما هو إلا لعب بالديالكتيك للمبتدئين من المتعلمين لتعاليم الماركسية، فالمرحلة والفترات هي أجزاء من التاريخ الطويل للثورة، كما هو الشأن بالنسبة للثورة المغربية ذات التاريخ الطويل من الصراعات الطبقية، وتناقضها، خلال مرحلة الإمبريالية لم يتغير فيها ما هو أساسي وما هو رئيسي، إذ لم تحدث فيها ثورة برجوازية يمكن أن نعتبرها قفزة نوعية، تحدد صيرورة الثورة المغربية، بل تعمق فيها التناقض في الصراع ضد الإمبريالية، في ظل التناقض في الصراع ضد دولة البرجوازية التجارية، المهيمنة على السياسة والاقتصاد، هنا يكمن الطرح الديالكتيكي للثورة في علاقته بالبراكسيس وبناء الحزب الثوري، قائد الثورة.
وكل ما جاء في هذه الوثيقة وفي ملحقها، يمكن تصنيفه ضمن ممارسة ديماغوجية، حاول عبرها أصحابها تقديمها على أنها علم الديالكتيك الماركسي، وهو ديالكتيك ميتافيزيقي مغلف بالديماغوجية طبعا، والحامل لأخطاء نظرية سموها علم "الماوية"، وأكدوا ذلك بالملموس في تحريف مفاهيم الماركسية، في إصرار تام على تجاهل الديالكتيك الماركسي عند لينين، من أجل تقديم "حسائهم الاختياري" على أنه تطوير للمعرفة الماركسية من طرف ماو تسي تونغ، وهو بريء من هذا القول حيث لم يقر يوما أنه تجاوز لينين وبعده ستالين.
فالوثيقة تكرس بشكل فج مقولة "نحن لسنا بحاجة إلى أعمال لينين" القيمة، ولا ل"تجربة ستالين الثورية"، ما دامت هناك نظرية جديدة للثورة في عصر الإمبريالية، "الماوية"، من أجل تحقيق ما سموه "الديمقراطية الجديدة" ثم "الاشتراكية"، في فترات من "النضالات الديمقراطية الجماهيرية الكبيرة" من أجل تحطيم "أجهزة الدولة الكمبرادورية"، بقيادة "الديكتاتورية الديمقراطية الشعبية"، التي "يمكن التحكم فيها هذه المرة بواسطة الحزب البروليتاري داخل جدلية حزب ـ جماهير"، هكذا بنى هؤلاء الأساتذة تصورهم المثالي الذاتي حول الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية بالمغرب، لكن دون القدرة على تحديد كيف بنوا حزبهم البروليتاري هذا ؟ وهي آليات "جديدة" خالية من المضمون الماركسي اللينيني : حزب ـ جماهير، في تغييب للطبقة.
الوثيقة تنتقد كذلك الميكانيكية في التفكير، لدى اليمين في الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، ولكن دون قدرة أصحابها على التخلص من الفكر الميكانيكي، الذي جعلهم يمارسون القطيعة الإبستيمولوجية في النظرية الماركسية اللينينية، وذلك بنفي التجربة الثورية البلشفية التي استفاد منها ماو تسي تونغ بنفسه، عدا ذكر "الحزب البروليتاري"، لكن دون الحديث عن سيرورة بنائه خلال ما سموه "المرحلة"، ودون الحديث عمن يقود ما سموه "دكتاتورية الديمقراطية الشعبية" و"النضالات الديمقراطية الجماهيرية الكبيرة"، ولا تحديد الطبقة التي تقود هذه النضالات ولا الأدوات التنظيمية الجماهيرية، وهل هي أيضا تنظيمات جديدة شعبية ؟ أم ماذا ؟
تسير الأحداث في الوثيقة، في شكل خليط من الأفكار غير المنسجمة مع الواقع الموضوعي للصراعات الطبقية بمغرب ما بعد موت ماو تسي تونغ، كأن المغرب معزول عن عالم الإمبريالية، نشاهد سيرورة بناء "الديمقراطية الجديدة" بمغرب "الماويين"، دون أن تحرك الإمبريالية ساكنا ؟ إنه الفكر المثالي الذاتي الذي يسيطر على فكر أصحاب الوثيقة، الذين يقدمون أنفسهم على أنهم "ماويون"، بعد الشهيد عبد اللطيف زروال، ولو فكرة من أفكاره الثورية واردة في الوثيقة، كأن فترة من الفترات الزاهية في حياة المنظمة لم تمر يوما، وأقروا بأن الثورة الصينية أسقطت الإمبريالية، وهي وجبة ثورية جاهزة للتطبيق بالمغرب و"الغرب العربي".

الأساس الاقتصادي للإستراتيجية الثورية

لما تحدث ماركس عن العنف الثوري، تأكد أولا من أن الدولة هي أداة لممارسة عنف الطبقات المسيطرة على الطبقات المضطهدة، فلا يمكن مواجهة عنف الدولة إلا بالعنف الثوري، فالحركة الثورية ضد استبداد الدولة لا معنى لها بدون ممارسة العنف الثوري.
أكد إنجلز أن تطور الدولة تم بعد تجاوز وضع العالم القديم، وبرزت السلطة العامة "... وتوجد هذه السلطة العامة في كل دولة. وهي لا تتألف فقط من رجال مسلحين، بل كذلك من ملاحق مادية، السجون ومختلف مؤسسات القسر...".
وهذه القوة المشكلة في العالم الحديث هي نقيض ما يسميه إنجلز "منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها"، السائدة في العالم القديم ولم يعد لها شأن مع بروز الدولة كقوة في خدمة مصالح أيديولوجيا الطبقات السائدة في المجتمع.
وواجه إنجلز الفكر البرجوازي الصغير، الذي يؤمن بوجوب وجود قوة الدولة، إذ لم يستوعب "لماذا غدا من الضروري وجود فصائل خاصة من رجال مسلحين (الشرطة والجيش الدائم) توضع فوق المجتمع وتنفصل عنه"، حيث يجيب البرجوازي الصغير أن ذلك ضروري بسبب "تعقد الحياة الاجتماعية، تمايز الوظائف ...".
وأسهب إنجلز في تفسير موقع الدولة في المجتمع، ودحض ماركس المفهوم المثالي للدولة لدى هيكل، القائل بأنها طرف ثالث محايد بين المتصارعين في المجتمع، فالدولة كما قال لينين "هي نتاج استعصاء التناقضات الطبقية".
وأكد لينين منظور ماركس حول العنف الثوري، فبدون أداة ثورية، الحزب الماركسي ـ اللينيني لن يستقيم الطريق الثوري، لم يستطع البلاشفة الوصول إلى السلطة إلا بالعنف الثوري المنظم، فقدموا من أجل ذلك شهداء من صلب العمال والفلاحين.
ففي أول مجزرة كبيرة في بتروغراد استشهد العمال أبناء الفلاحين، خرجوا فقط للمطالبة بتحسين أوضاع الاستغلال، استشهدت قبلهم الجماهير الشعبية أمام قصر القيصر عندما طالبوا بفك بعض أغلالهم، فتعرضوا لمجزرة رهيبة.
وقام ماو تسي تونغ على استلهام دروس الثورة الاشتراكية بالاتحاد السوفييتي وإنجاز الثورة بالصين، البلد المضطهد من طرف الإمبريالية، من الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية إلى محاولة بناء النموذج الاشتراكي في بلد شبه مستعمر.
وعمل هو شي منه على بلورة الحرب الثورية ضد الإمبريالية بقيادة الفلاحين المنظمين في الحزب الشيوعي، الذي بناه في الأدغال والكهوف، بعد أن اقتنعت جماهير الفلاحين بالحرب الثورية الشعبية، ضد الحرب الإمبريالية الاستعمارية التي استغرقت أزيد من 30 سنة، من النضال الثوري في علاقته ببناء الحزب الثوري والإستراتيجية الثورية.
إن عنف الدولة من طبيعتها كأداة عنف تحت تصرف الطبقات المسيطرة المستثمرة للطبقات المضطهدة في المجتمع، لما تحتدم الصراعات الطبقية إلى حد تتشابك فيه القوتان المضادتان في المجتمع، قوة العنف الثوري للمضطهدين وقوة عنف المسيطرين، تنتشر الفصائل المسلحة في الشارع العام لقمع المتظاهرين، رغم أنهم سلميين يتم قمعهم باسم الخروج عن النظام العام للدولة، وتفتح السجون لاستقبال المعتقلين السياسيين الخارجين عن طاعة الدولة كقوة داخل المجتمع، في خدمة المسيطرين على الاقتصاد، السياسة والجيش.
قد تكون المظاهرات عفوية أو منظمة، غالبا ما يطال الاعتقال السياسي المناضلين المنظمين، الذين صنفتهم الدولة في اللوائح السوداء أيام السلم، وقد يكون المعتقلون مناضلين جدد تفرزهم الاحتجاجات الجماهيرية بالشارع العام.
إن أقوى مراحل العنف الثوري لما تمثلك القوى الثورية السلاح، كما كان الشأن في التجارب الثورية العالمية، وأبرزها التي أحدثت تحولات عميقة في العالم، البلشفية، الصينية والفيتنامية، هذه الأخيرة أغفلتها جل الدراسات الماركسية، رغم أنها قادت أطول حرب ضد الإمبريالية، أزيد من ثلاثة عقود، قادها الفلاحون ضد ثلاث إمبرياليات، اليابان، فرنسا وأمريكا.

الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة

إن انتقال الرأسمالية الحديثة/الإمبريالية من احتكارية الشركات الإمبريالية إلى احتكارية الدول الإمبريالية، عبر انتقالها من اتحادات الرأسماليين الاقتصادية إلى اتحاداتهم السياسية، وبناء الدول الامبريالية الجديدة، يتطلب وحدة البروليتاريا عالميا، أكثر من أي وقت مضى، لمواجهة السيطرة الاستعمارية لاتحادات السياسيين والاقتصاديين الإمبريالية، التي تسخر اتحادات الأروستقراطية العمالية المتبرجزة، المنظمة في أحزابها التحريفية والإصلاحية عالميا، ويشكل هذا العمل النضالي الثوري في الحركة العمالية الثورية العالمية الأساس المادي للصراعات الطبقية.
ذلك ما يتطلب من الحركة الماركسية ـ اللينينية قيادة الثورات الديمقراطية البروليتارية بالدول الإمبريالية، والثورات الوطنية الديمقراطية الشعبية بالبلدان المضطهدة، ولن يتم ذلك دون المرور عبر الطريق الثوري، البناء الاستراتيجي للثورة في علاقته ببناء الأحزاب الماركسية ـ اللينينية وتوحيد نضالاتها عالميا، ولن يتم ذلك دون فهم الأساس الاقتصادي للوضع السياسي العالمي الجديد، وظروف نشأته وتطوره والطبقات المتصارعة فيه، مما يتطلب دراسة علمية مادية للصراعات الطبقية بين البناء الاشتراكي للدول، في مواجهة تحالف الدول الاحتكارية والدول التابعة لها بالبلدان المضطهدة.
إن مرحلة التفكيك الفعلي للتجارب الاشتراكية قد بلغ أوجه بعد التحاق روسيا والصين بركب الدول الاحتكارية، فرغم انتصار الثورة الفيتنامية في حربها ضد الإمبريالية في 1975، إلا أن الاتجاه الجديد للحزب الشيوعي الصيني (الاشتراكية ـ الإمبريالية) بعد موت ماو تسي تونغ في 1976، والانقلاب على الثورة الصينية حال دون تطوير هذا الانتصار، في اتجاه تصليب المد الثوري الشيوعي، وساهم في ذلك انخراط الحزب الشيوعي السوفييتي في الحروب اللصوصية بشكل مباشر منذ حربه على أفغانستان في 1978.
وعملت أمريكا على نقل الحروب اللصوصية من "الشرق الأدنى" إلى "الشرق الأوسط"، مع احتداد "الحرب الأهلية" بلبنان، لتصفية المقاومة الفلسطينية وإشعال "الحرب الطائفية" بين العراق وإيران، التي تم فيها توظيف الإسلام أيديولوجيا، بهدف السيطرة على النفط والغاز وتفكيك ما تبقى من الحركة الوطنية الثورية بالمنطقة، بعد تحويل ما يسمى الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، إلى حرب فعلية غير مباشرة بأفغانستان وتسخير أموال النفط في تمويلها باسم الإسلام.
وبدأ بروز الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة، بتحييد مصر عن الصراع من أجل فلسطين، بعد معاهدة كامب ديفيد بينها وبين الكيان الصهيوني في 1978، التي جاءت بعد حرب أكتوبر 1973 المفبركة، من أجل ضمان حياد الجيش المصري، وفتح سوق تجارية للكيان الصهيوني بمصر، وفك العزلة السياسية عنه، وإضعاف جامعة الدولة العربية، مما ساهم في توسيع مجال الصراعات الثانوية بين الدول العربية، الرافضة للمعاهدة والمشاركة في طبخها في السرية والعلنية.
وساهم هذا الوضع في بروز الحروب ضد ـ ثورية، على رأسها الحرب في الصحراء، وما تلا ذلك من حروب ضد الأنظمة الوطنية الديمقراطية بإفريقيا، لتكتمل خريطة الحروب اللصوصية وتشمل آسيا وإفريقيا، بعد انتهاء ثورات التحرر الوطني بهاتين القارتين، في اتجاه توسيع رقعة هذه الحروب، خاصة بعد انهزام الحزب الشيوعي السوفييتي بأفغانستان، تفكيك الاتحاد السوفييتي، وإسكات طبول "الحرب الطائفية" بين العراق وإيران و"الحرب الأهلية" بلبنان، ووقف إطلاق النار بالصحراء، في استراحة استراتيجية لهيكلة المشهد السياسي لمرحلة جديدة من الاستعمار الجديد، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حائط برلين وإدماج أنظمة بلدان شرق أوربا في المنظومة الإمبريالية الأوربية، فيما يسمى الاتحاد الأوربي.
وواكبت هذه الأحداث الدموية حملة إعلامية شرسة على الفكر الماركسي وخاصة الماركسية اللينينية، بلغت مداها في التسعينات من القرن 20، فيما يسمى عصر "العولمة ونهاية التاريخ"، والتبشير ب"الديمقراطية وحقوق الإنسان" في العالم، بعدما بلغت الأحزاب الشيوعية عبر العالم ذروة عالية من التحريفية، عبر التعايش مع الأحزاب الاشتراكية، التي تشارك في تسيير أزمة الرأسمالية الإمبريالية الأوربية، وفشل الأحزاب الاشتراكية القومية العربية في بناء دول وطنية ديمقراطية، بعد حربها الشرسة على الفكر الماركسي اللينيني وإعدام الشيوعيين، وعقد مصالحة مع الفكر الظلامي، والتحالف مع تنظيماته العسكرية في الحروب اللصوصية ب"الشرق الأوسط"، خاصة في "الحرب الأهلية" بلبنان و"الحرب الطائفية" العراقية ـ الإيرانية، مما قاد الأنظمة القومية العربية الفاشلة إلى السقوط في أحضان الظلامية الوهابية، التي تدعمها الإمبريالية الأمريكية وتمولها الأنظمة العربية الرجعية، التي ترى فيها الدول الاحتكارية سوقا تجارية عالمية مربحة في ترويج الأسلحة، وتم إخماد الثورية الفلسطينية عبر اتفاق أوسلو، والتبشير بدولة فلسطين على الأراضي المحتلة في 1967 مقابل "السلام"، ليتم دك آخر مسمار على نعش المقاومة الفلسطينية الثورية، بأيدي البرجوازية الصغيرة بمنظمة التحرير الفلسطينية فيما سمي "السلطة الفلسطينية".
وانطلق البعد الاستراتيجي الجديد للإمبريالية العالمية بقيادة أمريكا للحرب الإمبريالية على العراق في 1991، وتستمر بالمنطقة العربية الحروب اللصوصية وتجارة الأسلحة، بعد تفكيك ترسانة الأسلحة الكيماوية العراقية واحتلال العراق في 2003، بموازاة مع الحرب الجديدة بأفغانستان تحت ذريعة ما يسمى "الحرب على الإرهاب"، مما ساهم في إنعاش مد الحركات الأصولية ـ الظلامية المسلحة، التي طبعت كل الحروب اللصوصية التي تشعلها الإمبريالية بالمنطقة، والتي بلغت مداها في ما يسمى "الربيع العربي"، الذي عرى فشل الأحزاب القومية العربية، وأكد فشل المشروع الأيديولوجي المرتكز على القومية، في مواجهة الإمبريالية وبالتالي دحض المشاريع الاشتراكية ـ القومية، التي منحت الشرعية للفكر الأصولي ـ الظلامي.
ووصل هذا الوضع الجديد ذروته مع الحرب الإمبريالية ـ الصهيونية ـ الرجعية على الشعب السوري، كامتداد طبيعي للحرب الإمبريالية على العراق لتشمل المنطقة العربية برمتها، في أفق توسعها بإفريقيا، القارة المصنفة لدى الإمبريالية بالواجهة الخلفية لمستقبل الحروب اللصوصية، التي تم التمهيد لها بالقضاء على الدول الوطنية الديمقراطية بها، وإشعال الحروب القبلية بين شعوبها، من أجل تركيز أنظمة تبعية للإمبريالية، لتسهيل السيطرة على اليورانيوم باعتباره الطاقة التي تعوض البترول مستقبلا.
وعرفت إفريقيا منذ اندلاع ثورات حركة التحرر الوطني بها في الستينات والسبعينات من القرن 20، بسط السيطرة الإمبريالية عبر هيمنة الدول الاحتكارية وعلى رأسها فرنسا، وبدا فشلها في السيطرة على الأوضاع الثورية هناك أمام نبض الحركة الثورية التي حاولت بناء تجارب ثورية محلية، في علاقتها بالتجربة الثورية الفوكية، التي تمت مواجهتها من طرف الإمبريالية الأوربية بتنظيم انقلابات عسكرية على التجارب الوطنية الديمقراطية واغتيال الثوار وعلى رأسهم توماس سانكرا في 1987، الرئيس الشيوعي لدولة بركينافسو، وساهم النظام التبعي بالمغرب في دعم هذه الانقلابات والحروب اللصوصية خاصة في الكونغو ومالي، تحت إشراف الإمبريالية الفرنسية، وتدخل الإمبريالية الأمريكية بشكل مباشر بعد تأسيس جيش أفريكوم مقره بفرنسا، وتركيز قاعدته العسكرية بالنيجر لدعم الإمبريالية الفرنسية، من أجل مراقبة شريط دول الساحل العابر لعرض إفريقيا والغني باليورانيوم.
وأصبحت إفريقيا مجالا للحروب الطائفية التي من المنتظر أن تنتقل إليها عبر ليبيا كأحد الأهداف الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة، تحت ذريعة ما يسمى الحرب على "داعش" و"القاعدة"، بعد تأصيل النموذج المحلي للحركات الأصولية ـ الظلامية "بوكوحرام"، من أجل تبرير تدخلها العسكري بالمنطقة، للسيطرة على خيراتها ومنع شعوبها من التحرر والديمقراطية.
هكذا تم وضع الخريطة الجديدة للإستراتيجية الإمبريالية الجديدة، التي تحظى فيها إفريقيا بأهمية قصوى، وتكون فيها الصحراء مدخلا أساسيا في الصراع بين الإمبرياليات، حول تقسيم العمل عالميا، حيث تعتبر هذه المنطقة الواجهة الخلفية للصراعات الطبقية بالغرب الإفريقي، التي يشكل فيها المغرب على مدى 60 سنة أداة في يد الإمبريالية، لتطويع الشعوب الإفريقية وعلى رأسها الشعب الكونغولي الذي قتل منه أزيد من 9 ملايين شخص بالحرب، الجوع والمرض.
وتعتبر الصحراء حسب القوانين الدولية منطقة تصفية الاستعمار، مما جعلها خلفية لتخزين الثروات الطبيعية خاصة اليورانيوم، البترول، الغاز والذهب، حيث لا يمكن استغلالها من طرف الشركات الإمبريالية العالمية إلا بعد تصفية وضعيتها القانونية دوليا، مما جعلها بؤرة توثر دائمة وبوابة للحروب اللصوصية المقبلة بجنوب الصحراء ودول الساحل، ووسيلة ضغط على النظام التبعي بالمغرب، الذي أصبح أداة طيعة في يد الإمبريالية لتمرير سياساتها الاستعمارية الجديدة بإفريقيا، خاصة أن موقعه في ظل الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة قد لا يحظى باهتمام كبير بعد الحرب بسوريا، اليمن وليبيا التي ساهمت في انتقال مشروع أفريكوم من الصحراء إلى النيجر، في استراتيجية جديدة من أجل دعم الحروب اللصوصية الجديدة المقبلة بإفريقيا، المرتكزة في دول الساحل، التي تشكل فيها الجزائر مركزا إقليميا قويا وخصما عنيدا للمغرب حول قضية الصحراء.
وتميزت الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة باعتمادها على المد الأصولي ـ الظلامي، الذي يسير في اتجاه التوسع بينما الأحزاب الإصلاحية والتحريفية تسير في اتجاه الالتفاف حول الأنظمة التبعية للإمبريالية، في اعتقاد منها أنها ستحميها من خطر الحرب.
وما يميز الحروب اللصوصية الجديدة هو بروز حرب العصابات، التمرد والإرهاب التي تتحكم فيها الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة، عبر بارونات وشركات إشعال الحروب وعلى رأسها الإمارات، التي فتحت سفارتها بالعيون ونواة القاعدة العسكرية بطانطان وموريتانيا، مما يجعل الجيوش النظامية لا يمكن أن تنتصر في ظل دعم الدول الاحتكارية لهذه الحروب.
ويتميز الوضع السياسي الجديد بالمنافسة على السيطرة على الطاقة بين أمريكا والإمبرياليات الصاعدة، أساسا روسيا والصين، مما يزيد في شروط اندلاع هذه الحرب، ويعتبر الغرب الإفريقي قابلا للاشتعال، خاصة عبر الصحراء، في أي وقت ترى فيه الإمبريالية مصلحتها في ذلك، ويبشر بذلك وضعية ملف الصحراء لما وصل إلى مجلس الأمن، في انتظار قرار أمريكا لتحديد مصيره وفق الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة بإفريقيا.
أسس الإستراتيجية الثورية للأحزاب الماركسية ـ اللينينية
في ظل الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة وانطلاقا من تجارب الحروب اللصوصية بالمنطقة العربية وامتداداتها بإفريقيا، تبقى الأحزاب الإصلاحية والتحريفية عبارة عن أدوات فارغة من المضمون السياسي الوطني الديمقراطي، ذلك أن تجارب الحرب بالعراق وسوريا أكد شيئا مهما، هو أن العقيدة العسكرية للحزب الثوري تشكل في المرحلة الجديدة للاستعمار الجديد أهمية قصوى في تنظيم الجماهير.
وفي ظل الوضع السياسي العالمي الجديد يتحتم على الحركة الماركسية ـ اللينينية النظر في الاستراتيجية الثورية الجديدة، الملائمة لها في علاقتها باستراتيجية بناء الأحزاب الماركسية ـ اللينينية، الأداة الثورية الوحيدة الكفيلة بتنظيم جماهير العمال والفلاحين، لمواجهة الاستراتيجية الإمبريالية الجديدة والأشكال الجديدة للسياسات الاستعمارية الجديدة.
وتعتبر التجارب الثورية العالمية أهم روافد الخط الأيديولوجي والسياسي للأحزاب الثورية، حيث نضالاتها الثورية مرتبطة بنضالات الحركة العمالية الثورية العالمية، إذ يعتبر النضال الثوري ضد الإمبريالية أهم المنطلقات الثورية، وتشكل وحدة البروليتاريا عالميا، التي نادى بها ماركس، إحدى المهام المركزية للحركة العمالية الثورية العالمية، ويشكل الخط الثوري للحركة العمالية بالبلدان المضطهدة، أحد روافدها المهمة، باعتبارها مستهدفة في الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة، خاصة بالغرب الإفريقي وامتداداته بمجمل بلدان القارة الإفريقية.
ويعتبر ضرب الحركة العمالية الثورية بهذه البلدان، من بين المهام التي سطرتها الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة ضمن أولوياتها، مما يجعل النضال الثوري مرتبط أشد ارتباط بالتجارب الثورية العالمية وخاصة السوفييتية، الصينية والفيتنامية.

موقع البلشفية في الإستراتيجية الثورية

تعتبر الثورة البلشفية إحدى أسس الخط الأيديولوجي والسياسي للحركة الماركسية ـ اللينينية، لما لها من تأثير كبير على بناء طريق الثورة في البلدان التي تحكمها أنظمة إمبريالية، فهي أول ثورة اشتراكية أسقطت أوهام الإمبريالية، وزعزعت أركانها في مرحلة تاريخية من حسم الصراع بين الإمبرياليات، حول تقسيم العمل عالميا خلال الحرب الإمبريالية العالمية الأولى، وتم تحقيق سيطرة البروليتاريا على السلطة في دولة ديكتاتورية البروليتاريا، دولة السوفييتات، دولة العمال والفلاحين والجنود الثوريين.
ولم يسلم الوطن الاشتراكي من هجوم الإمبريالية وحلفائها البورجوازيين والملاكين العقاريين الكبار، من أجل إجهاض الثورة الاشتراكية وإعادة الرأسمالية إلى روسيا، فخلال الحرب الإمبريالية العالمية الأولى والحرب الأهلية، تعلم الثوريون المحترفون بالحزب البلشفي الكثير حول مسألة البناء الاشتراكي، الذي وضع لينين أسسه المادية عبر مسألتين أساسيتين:
ـ ضرورة التحالف الحربي بين العمال والفلاحين ضد تحالف البورجوازية والملاكين العقاريين الكبار/الكولاك من أجل الانتصار في الحرب.
ـ ضرورة التحالف الاقتصادي بين العمال والفلاحين في مرحلة البناء الاشتراكي في دولة ديكتاتورية البروليتاريا.
وتشكل هاتين المسألتين الأساس المادي التاريخي لنظرية البناء الاشتراكي في الوطن الاشتراكي، حيث لا يمكن بناء الاشتراكية دون القدرة على الدفاع عن الثورة الاشتراكية ضد الأعداء الطبقيين عالميا، إقليميا ومحليا.
وتشكل الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية الهدف المركزي للإستراتيجية الثورية عالميا، من أجل إسقاط الأنظمة الإمبريالية وتحرير شعوبها والشعوب المضطهدة.
وتعتبر وحدة البروليتاريا في البلدان الرأسمالية أحد الأسس المادية لانتصار البروليتاريا على البورجوازية وبناء دول ديكتاتورية البروليتاريا بها.
إن الحزب الثوري هو الذي يتعلم في زمن الأزمة أكثر مما يتعلمه خلال أيام الرخاء كما قال لينين، وذلك عبر استراتيجية التراجع الصحيح واستراتيجية الهجوم الصحيح، ولما يقرر الحزب الثوري إشهار سلاحه فليس تمة فرصة للتراجع بعد ذلك، ولو في ظل تحقيق انتصارات قليلة الأهمية يتم الحفاظ على مكتسباتها، كما أكد لينين ذلك.
استطاعت التجربة الاشتراكية توحيد شعوب وقوميات الاتحاد السوفييتي في ظل نظام اشتراكي امتد إلى شرق أوربا، وأسس سوق تجارية اشتراكية عالمية مناقضة للسوق التجارية الإمبريالية العالمية، في الممارسة الثورية ضد الإمبريالية على المستوى الاقتصادي مما أحدث تناقضا أساسيا في الأساس الاقتصادي العالمي.
ولما تم التخلي عن تعليم الماركسية اللينينية في البناء الاشتراكي في علاقته بقيادة الحزب البلشفي تم تحريف الطريق الثوري إلى الشيوعية، مما ركز من جديد ديكتاتورية البرجوازية، وتم سحق ديكتاتورية البروليتاريا، وتفكيك دول الاتحاد السوفييتي، ولم يتم ذلك بين عشية وضحاها إنما استمر هذا التفكيك أزيد من 35 سنة، من تدمير البنية الأساسية للدولة الاشتراكية وتحولت روسيا إلى دول إمبريالية.

موقع الثورة الصينية في الإستراتيجية الثورية

تعتبر التجربة الثورية الصينية الشكل الثاني، من التجارب الثورية التي أفرزتها الصراعات الطبقية بين الاشتراكية والرأسمالية في عصر الإمبريالية، وتختلف عن الثورة البلشفية بكونها تمت في بلد شبه مستعمر ودولة شبيهة بالإقطاع، كما تعتبر النموذج الثوري المكمل للثورة البلشفية في بعدهما العالمي، في التناقض بين الثورة الديمقراطية البورجوازية والثورة الديمقراطية البروليتارية، وفي تكاملهما في الانتقال من الديمقراطية البورجوازية إلى الديمقراطية البروليتارية، التي دعا إليها لينين.
وعمل ماو تسي تونغ على بلورة مفهوم الديمقراطية البروليتارية التي سماها "الديمقراطية الجديدة"، في بلد يسود فيه نظام شبه إقطاعي لم تنضج فيه شروط الثورة الاشتراكية بعد عكس شروط روسيا المتطورة.
وأكد ماو تسي تونغ على دور البورجوازية الوطنية في التحالف الطبقي ضد الإمبريالية، وحلفائها البرجوازية التجارية/الكومبر، من التحالف في حرب التحرير الشعبية إلى وضع أسس البناء الاشتراكي، الذي قاده الحزب الشيوعي الصيني والسيطرة على السلطة بقيادته، في بلد مضطهد من طرف الاستعمار الإمبريالي.
وكان للحزب الشيوعي الصيني دور كبير في بلورة التكتيك والإستراتيجية الثوريين أثناء حرب التحرير ضد الإمبريالية، فكان للتحالف التاكتيكي مع الكومنتينغ أثناء الحرب الإمبريالية العالمية الثانية، أثر كبير في انتصار حركة التحرر الوطني، وكان لاستراتيجية التحالف الطبقي بين البروليتاريا والفلاحين أثر كبير في القضاء على سلطته، خلال حرب التحرير الشعبية وسيطرة البروليتاريا على السلطة، وجاء التحالف التاكتيكي مع البورجوازية الوطنية من أجل التسريع ببلورة الشروط المادية للبناء الاشتراكي في دولة ديكتاتورية البروليتاريا.
إن التحالف الطبقي المركزي في البناء الاشتراكي هو التحالف الحربي والاقتصادي، بين البروليتاريا والفلاحين وفق النظرية الماركسية اللينينية، ويبقى التحالف بين العمال والفلاحين في الثورة مع البورجوازية الوطنية، في التجربة الصينية تحالف تاكتيكي، نظرا لشروط الحياة المادية لتحقيق الثورة الاشتراكية، التي لم تنضج بعد بالصين لكون البنية الرأسمالية ضعيفة فيها، وفي وطن شاسع غالبية سكانه فقراء، حيث لا يمكن الحديث عن الثورة الاشتراكية، دون وجود مقدمات الأساس الاقتصادي الرأسمالي في أعلى مراحلها/الإمبريالية.
وهكذا تكون الثورة الصينية قد أتمت مقومات النظرية الماركسية اللينينية ممارسة، حول مفهوم الثورة في عصر الإمبريالية، في التناقض بين أقلية من الدول الإمبريالية، التي تضطهد شعوب البلدان الفقيرة، للسيطرة على ثرواتها الطبيعية، وترويج سلعها في السوق التجارية العالمية، وبين الغالبية العظمى من الدول التابعة للإمبريالية، التي تقوم باضطهاد شعوبها في ظل التحالف الطبقي بينهما ضد مصالح الشعوب المضطهدة.
إن العلاقة الجدلية بين الثورات الاشتراكية في ظل الديمقراطية البروليتارية بالدول الإمبريالية، والثورات الوطنية الديمقراطية الشعبية بالبلدان المضطهدة، يحيلنا إلى العلاقة الجدلية بين التحالف الطبقي بين البروليتاريا بالدول الإمبريالية والبروليتاريا بالدول التابعة لها، وحلفائهما الطبقيين الفلاحون والبورجوازية الوطنية في التجربة الصينية.
وهكذا فإن الثورتين البلشفية والصينية صيغتين متناقضتين متكاملتين لطريق انتصار الثورات الاشتراكية على الإمبريالية، طريق الثورات البروليتارية يكون فيها الحزبان الشيوعيان البلشفي والصيني الصيغتين التنظيميتين المتكاملتين في تحقيق الثورة الاشتراكية عالميا، تم استخلاص دروسهما وبلورتها من طرف هو شي منه، الذي بنى تجربة ثورية فريدة من نوعها.

موقع التجربة الثورية الفيتنامية في الإستراتيجية الثورية

تعتبر التجربة الثورية الفيتنامية المحك الحقيقي للثورة البلشفية والصينية، حيث تمت في بلد مستعمر سكانه فلاحون، واستطاع الرئيس هو شي منه بلورة مفهوم الحرب الوطنية الثورة الجديدة، في مواجهة الإمبريالية في أعتى تجلياتها، تجربة طويلة، قادته من النضال الثوري العالمي في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، مروا بالتجربة البلشفية، وصولا إلى القيادة العسكرية في التجربة الصينية، وبناء تجربة ثورية جديدة بأوساط الفلاحين، التجربة الثورية الفيتنامية، في علاقتها ببناء الحزب الشيوعي الفيتنامي، وقيادة الحرب الوطنية الثورية ضد الإمبريالية.
استمرت الحرب الوطنية الثورية الفيتنامية 30 سنة بعد نهاية الحرب الإمبريالية الثانية، التي انتصر فيها الحزب البلشفي وانبثقت فيها الحرب الشعبية بالصين، بقيادة الحزب الشيوعي، فما كان أمام القائد هو شي منه، إلا أن يقود بناء تجربة ثورية جديدة، في ظل أعتى نيران حرب إجرامية قادتها الإمبريالية الأمريكية، بعد هزيمة الإمبريالية الفرنسية في حربها ضد الشعب الفيتنامي، في معركة ديان بيان فو، وعاش الحزب الشيوعي الفيتنامي أقوى لحظات بنائه تحت القصف العسكري الرهيب للإمبريالية الأمريكية، التي استعملت جميع وسائل الدمار الشامل ضد ثورة الفلاحين.
وفي ظل المقاومة العسكرية للشعب الفيتنامي بقيادة الحزب الشيوعي، عاش الاتحاد السوفييتي والصين صراعات أيديولوجية وسياسية عميقة، عصفت بالمد الشيوعي عالميا، وقاد الحزب الشيوعي السوفييتي تدمير البناء الاشتراكي، بينما الحزب الشيوعي الصيني في طور قيادة البناء الاشتراكي في أفقر بلد أنهكته الحرب، مما وضع الحزب الشيوعي الفيتنامي في محك قيادة الحرب الوطنية الثورية وحيدا، ضد الإمبريالية الأمريكية القائدة للحروب اللصوصية عالميا.
وضع الحزب الشيوعي الفيتنامي بقيادة هو شي منه استراتيجيته الثورية بعد تأسيسه، وبلور عقيدته العسكرية، الفريدة من نوعها، في أوساط الفلاحين، ونقلها الجنرال جياب إلى باقي أقطار العالم، بعد انتصار الثورة الفيتنامية، واستمرت بلورتها في الحروب الوطنية الثورية ضد الحروب اللصوصية، التي تقودها أمريكا ضد الشعوب المضطهدة بأسيا وإفريقيا.
وكانت نظريات القائد هو شي منه حول حرب العصابات، التي بلورها منذ بناء الأنوية الأولى للجيش الوطني الثوري في 1941 في أوساط الفلاحين، قد تمت كتابتها من طرف الجنرال جياب ورفاقه، على شكل سرد يقدم دروسا سياسية مبسطة قابلة للتطبيق، كان يستفيد منها الفلاحون المنظمون بجمعيات الدفاع الذاتي والعصبة الشيوعية، بعد التحام القبائل فيما بينها حول حرب التحرير الشعبية ضد الإمبريالية، عبر دراسة العقيدة العسكرية الثورية سريا بالأدغال، وتكوين الأطر السياسية والعسكرية بعد تأسيس الحزب الشيوعي، الذي تم بناء أنويته الأولى بالكهوف والأكواخ في ظروف جد قاسية، وتم نقل هذه النظريات من طرف القائد العسكري الثوري الجنرال جياب، عبر العالم.
ورغم قلة الدراسات حول الحزب الشيوعي الفيتنامي تبقى عقيدته العسكرية النموذج الثوري القوي، في الإستراتيجية الثورية ضد الإستراتيجية الإمبريالية الجديدة، تركت بصماتها على التجارب الثورية الحديثة في العالم، بعد انحراف جميع الأحزاب الشيوعية في القرن 20، ويعتبر الجنرال جياب المنظر الثوري لها بعد وفاة الرئيس هو شي منه.
تعتبر مذكرات الجنرال جياب مهمة، حول تأسيس الحزب الشيوعي الفيتنامي، ودوره في تأسيس الجيش، وقيادة الحرب الوطنية الثورية ضد الحرب الإمبريالية على الشعب الفيتنامي، من خلال سرده يضع الجنرال جياب أمامنا تجربة فريدة من نوعها، حول استراتيجية بناء الحزب الشيوعي في علاقتها باستراتيجية قيادة الحرب الثورية، في العلاقة بين الممارسة العملية وبناء التصور الأيديولوجي والسياسي، وبالتالي بناء الدولة في شروط جد قاسية تتطلب الانغراس في مجتمع الفلاحين، وتثقيفهم ثقافة ثورية ومواجهة الثقافة الاستعمارية، وبناء الكوادر السياسية الثورية القادرة على قيادة الثورة.
أعطى الجنرال جياب من خلال هذا السرد، تصورا سياسيا حول البناء الجماهيري للحزب في أوساط الفلاحين، ووضع استراتيجية البناء الثوري من صلب القاعدة الثورية لجماهير الفلاحين، من السياسي إلى العسكرية وبأدوات محلية بدائية، انغراس المناضلين الثوريين في أوساطهم، وتغلغل النظرية الثورية التي أصبحت قوة مادية، ليس بتلقين الدروس الأكاديمية لكن بإشراكهم في صياغتها، واستيعابها وبلورتها في الواقع، من النظرية إلى الممارسة، وبوسائلهم الخاصة واقتناهم بأهمية الحزب الثوري والحرب الوطنية الثورية.
وكانت الدروس السياسية تتم عبر شبكة من التنظيمات المرتبطة، من جمعيات ولجان وأنوية سرية في علاقة سياسية، يرتقى فيها المناضل حسب مستواه السياسي، النضالي والفكري، نظرا لخطورة كشف هذه التنظيمات من طرف العدو، وارتقى التنظيم من الاجتماعي مرورا بالسياسي وصولا إلى العسكري، وبناء المدارس العسكرية، في السرية والاضباط الواعي للقرارات التنظيمية، التي يتم صياغتها جماهيريا واقتناع الفلاحين بها بوعيهم الذاتي.
ولعب الحزب الشيوعي الفيتنامي دورا كبيرا في تأسيس الجيش الوطني الثوري، وبلورة مفهوم الحرب الوطنية الثورية ضد الإمبريالية، خلال 30 سنة من الحرب المستمرة ضد اليابان، فرنسا وأمريكا، انتهت بانتصاره واستقلال الشعب الفيتنامي وتأسيس الدولة الوطنية الثورية، ولعب الجنرال جياب دورا كبير في التكوين العسكري لجل الحركات الثورية عبر العالم.

تطور الحركة الاحتجاجية بالمغرب والأمازيغية

بعد أحداث الحراك الشعبي بالحسيمة نشأت حركات سياسية تسعى لحل السؤال التاريخي المطروح، حول أفق العلاقة بين ثورة الريف وامتداداتها وعلاقته بتقرير مصير الشعوب، في العلاقة بين البعد التحرر للثورة وبناء أنظمة ديمقراطية بشمال إفريقيا، كما يراها قائد الثورة الريفية ابن عبد الكريم الخطابي، في العلاقة بين التحولات الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية بالريف، في علاقتها بالتحولات السياسية بالغرب الإمبريالي والغرب الإفريقي، نحاول هنا طرح تجربتين احتجاجيتين، ذات أبعاد سياسية الأولى وطنية والثانية جهوية، في علاقتها بالحرية والديمقراطية، في علاقتها بأفق التغيير بالمغرب ودور الحركة الثقافية الأمازيغية في ذلك.
إن السياقات الهامشية التي أطرت لقاءات الأيديولوجيين والسياسيين الحزبيين وجعلوا منها صراعات سياسية، حول التنسيقات، أو التحالفات مع الظلامية، أو ضدها منذ حركة 20 فبراير، وتصاعدت تحت ضغط قوة الحراك الشعبي بالحسيمة في 2017، ما هي إلا تخبط البرجوازية الصغيرة في وحل فشلها أمام الحركة الجماهيرية المتقدمة طيلة 17 سنة، بعد تنازلهم عن المشروع الثوري وتوزيع الأموال فيما بينهم باسم جبر الضرر، في ظل تصارع وتيرة الأحداث العالمية ضد المشروع الاشتراكي، الذي تقوده أمريكا والدول الرجعية العربية في ظل أشكال استعمارية جديدة.
وظل مشروع اليساري الثوري بعيدا كل البعد عن لقاءات الحزبيين اليساريين، حول طاولات الفراغ الفكري الذي أصابهم، والبؤس السياسي الذي أطرهم، في سباق متأخر للالتحاق بركب الحراك، في أوج انتفاضته الشعبية، التي لم تنتظر منهم حلولا لمشاكلها الضاربة في أعماق التاريخ، وشكل لديها الحراك مشعلا ينير طريقها لانتزاع حقوقها، دون أن تنتظر من جميع المناطق ذات التاريخ العميق في مقاومة الاستعمار، أن تلتحق بها، ولا من المناضلين اليساريين بباقي المناطق مجاراتها.
لا يمكن فصل أزمة اليسار الثوري عما يجري عالميا، في علاقته بأزمة النضال الثوري بالمغرب، عكس ما يعتقد الحزبيون اليساريون في مشروعهم الإصلاحي الغارق في الانتهازية، خلال إطلالاتهم العابرة في بعض ساحات الاحتجاج، متجاهلين أهمية إعادة بناء مشروع اليسار الثوري، في مواجهة المشروع الإمبريالي في صيغته الجديدة، بعد إفشال الانتفاضات الشعبية فيما يسمى "الربيع العربي"، وأتى حراك الحسيمة لتذكيرهم بنكساتهم التاريخية أمام زحف الجماهير لانتزاع حقوقها.
وتبقى الحركة الاحتجاجية بالصحراء متقدمة على حراك الحسيمة نظرا للشروط السياسية بهذه المنطقة، منذ 1999 تاريخ بروز هذه الحركة إلى أحداث أكديم إزيك في 2010، وما تلا ذلك من اعتقالات، محاكمات وإدانات في علاقتها بالتطورات السياسية حول ملف الصحراء، فشل وقف إطلاق النار بعد أحداث الكركرات، ورفض مقترح الحكم الذاتي، مما يتطلب تخصيص كتاب خاص بهذه الحركة.

البعد القومي الأمازيغي في الحركة الاحتجاجية

أصبح دور الحركة الثقافية الأمازيغية بارزا في الحركة الاحتجاجية منذ نشأتها في 1967، من طرف مجموعة من الطلبة المنتمين إلى منطقة سوس، الذين نشأ لديهم إحساس بالتهميش والتحقير من طرف الأساتذة بالجامعات المغربية، وخاصة من طرف الأساتذة الفاسيين، وعملوا على تأسيس أول جمعية ثقافية تهتم بالتراث الثقافي الأمازيغي، جمعية البحث والتبادل الثقافي، تعبيرا عن رغبتهم للخروج من نطاق اغترابهم بمدينة نشأ بها الوعي القومي للحركة الوطنية، مدينة فاس، واعتبروا ذلك سببا رئيسيا في تهميش الثقافة واللغة الأمازيغية، بدعوى "وحدة الأمة المغربية" تحت راية "العروبة والإسلام".
وشكل هذا التأسيس تحولا كبيرا في الصراعات الثانوية ما قبل- رأسمالية، بين فاس وسوس بخروجهم عن خط "رابطة علماء سوس"، المتشبثة بالثقافة العربية الإسلامية بقيادة المختار السوسي، التي تتنافس مع علماء فاس (دعم المدارس العتيقة بسوس وتطويرها وتأسيس المعهد الإسلامي بتارودانت)، وتأسيس هذه الجمعية يشكل نتيجة عكسية لأهداف الرابطة، حيث تلاميذ "المعهد الإسلامي بتارودانت" بجامعتي فاس والرباط، هم من أسسوها، لمواجهة "الثقافة الأندلسية" المستوردة وإعطاء اللغة والثقافة الأمازيغية مكانتها التاريخية كما يزعمون.
كما تجاوز هذا الحدث مستويات الصراع/التنافس بين هاتين المنطقتين، سوس وفاس، في المجال الاقتصادي/التنافس في السوق التجارية، بين البورجوزية التجارية الفاسية والبورجوازية التجارية السوسية، والمجال السياسي/الصراع بين حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، تعتبر منطقة سوس قطبا هاما لهذا الحزب، إلى مستوى الصراع/التنافس الثقافي بين الأمازيغية والعربية، الذي تجاوز مستوى التنافس الثقافي التقليدي لرابطة علماء سوس.
وحولت نشأة الحركة الثقافية الأمازيغية بشكل كبير مسار الصراعات السياسي، الاقتصادي والثقافي بين هاتين المنطقتين ليتسع بإضافة البعد القومي، الذي يعتبر مخفيا في كل الصراعات الاجتماعية ما قبل- رأسمالية، بينهما منذ تأسيس المقاومة وجيش التحرير، الذي لعب فيه المناضلون بمناطق سوس دورا هاما، وامتداداته بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (مجموعة شيخ العرب، مجموعة عمر دهكون).
ويعتبر ميثاق أكادير للحركة الثقافية الأمازيغية في غشت 1991، الخطوة الفاصلة بين البعد الثقافي للقضية الأمازيغية والطرح السياسي المباشر لها، بعد المطالبة بدسترة الأمازيغية، وشارك في صياغته مجمل الجمعيات الثقافية الأمازيغية في جميع مناطق المغرب (الريف، صغرو،الأطلس، سوس).
وكان للقمع الذي تعرض له مناضلو الحركة الثقافية الأمازيغية أثر كبير في تطور هذه الحركة، خاصة عند رفع لافتات كتبت بالأمازيغية في فاتح ماي 1994 بالرشيدية (اعتقال نشطاء جمعية تليلي في هذه التظاهرة)، مما لفت انتباه النظام القائم إلى خطورة الحركة الثقافية الأمازيغية محاولا احتواءها باستقطاب زعمائها وتأسيس ما يسمى "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" في 2001.
وتنامى البعد السياسي للحركة الثقافية الأمازيغية ليصل مرحلة تأسيس أحزاب سياسية من طرف بعض زعمائها بسوس، والمطالبة بالحكم الذاتي بالريف من طرف جمعيات ثقافية أمازيغية.
وكان لنشأة الحركة الثقافية الأمازيغية بالجامعات المغربية في بداية التسعينات من القرن 20 أثر كبير في التحول السياسي للحركة، خاصة وأن الجامعة عرفت أشكال تنظيمية ذات أبعاد إقليمية (مجموعة من الجمعيات للطلبة حسب انتمائهم الإقليمي بجامعة أكادير)، ونشوب الصراع بينها وبين فصائل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والطلبة الصحراويين، وصل إلى حد العنف والقتل ...
وقد شكل انتشار الجامعات بجل الأقاليم مجالا لانتعاش الحركة الثقافية الأمازيغية بالمناطق ذات الخصوصيات الأمازيغية (آكاذير، الرشدية، مكناس، سلوان ...) إضافة إلى تواجد لجانها بكل الجامعات المغربية.
وكان للوعي القومي للحركة الثقافية الأمازيغية بالجامعات، أثر كبير في إشعال الصراعات الثانوية بين مناضليها وبين الطلبة الصحرويين والطلبة القاعديين، وبرز خلال هذه الصراعات خط متطرف يعادي كل من هو غير قومي أمازيغي (القومجية العروبية والمتمركسيين حسب قولهم)، داعيا إلى طردهم من "بلاد تامازغا"، والمنتمون إلى هذا الخط، "تنسيقية غيغوشن" ينحدرون من مناطق الجنوب الشرقي، من قبائل معروفة تاريخيا بمناهضتها للاستعمار القديم والجديد معا (معركة بوكافر وبادو في 1934، حركة 3 مارس في 1973).
وخلافا لمنطقة سوس عرفت هذه المناطق عداء تاما للغة العربية (عدي أوبهي مقاوم وأول عامل لقصر السوق/الرشيدية انتفض على النظام القائم ودافع على توظيف أبناء المنطقة بالإقليم)، ومتعصبة للقومية الأمازيغية إلى حد كبير.
وساهم انتشار التعليم في مرحلة الاستعمار الجديد ورفض أبناء هذه المنطقة للغة العربية، على انتشار التكوين العلمي لديهم خلال الدراسة الثانوية والجامعية، مما ساهم في نشأة أطر تكنوقراطية بالمنطقة تسير مؤسسات عمومية وشبه عمومية وشركات كبرى، خاصة في مجال البناء والتعمير، كما تشكلت بهذه المناطق طبقة عاملة هاجرت إلى أوربا، مما ساهم بشكل كبير في الرقي بالمستوى المعيشي للعائلات الفقيرة بهذه المناطق، خاصة وأن العلاقات ما قبل- رأسمالية، التي ترتكز على "التضامن العائلي" و"التضامن القبلي"، لعبت دورا هاما في تسهيل العبور إلى القارة الأوربية للعدد الكبير من أبناء الفقراء، للحصول على العمل وتحسين وضعهم الاقتصادي، كما ساهمت تجارة الفضة في السوق السوداء بهذه المناطق الغنية بمناجم الفضة في بروز برجوازية تجارية.
وساهمت هذه العوامل في نشأة بورجوازية بيروقراطية وبورجوازية تجارية وصغيرة أمازيغية بالمناطق الجنوبية الشرقية، تعتمد أساسا على الاستثمار الرأسمالي في مجال التعمير، وذلك بعد خلق شبكة من التكنوقراط الذين يسيرون المؤسسات الكبرى، وهذه البيروقراطية ذات التكوين التقني العلمي، تطغى على علاقات أفرادها العلاقات الاجتماعية ما قبل- رأسمالية، كما تمتاز بالتعصب القومي للأمازيغية، مما جعلها تذكي روح الزبونية، التي ترتكز فيها على العلاقات العائلية والقبلية في التشغيل، وقضاء الأغراض الإدارية، واستغلال الطبقة العاملة، مما يساهم في حظوظ فوز شركاتهم بالمشاريع الاستثمارية، التي يشرف عليها هؤلاء التقنوقراط.
وتشكل هذه الطبقة البورجوازية البيروقراطية والتجارية دعامة للحركة الثقافية الأمازيغية بالجامعات، نظرا لتعصبها الناتج عن التهميش، الذي عاشته مناطقهم منذ مرحلة الاستعمار القديم، والذي استمر خلال الاستعمار الجديد وتداعيات انتفاضة 3 مارس على ذلك.
وعكس البورجوازية البيروقراطية والتجارية بالمناطق الجنوبية الشرقية (الرشيدية وتنغير)، فإن البورجوازية التجارية بسوس عرفت انفتاحا على جميع المستويات السياسية، الاقتصادية والثقافية، وعرفت التنافس مع البورجوازية التجارية الفاسية، في السوق التجارية الداخلية والخارجية منذ بداية الاستعمار الجديد.
وكان لموقع سوس في الصراع حول السلطة المركزية منذ القدم دور هام في انفتاحه على الثقافات الأخرى، خاصة العربية والإسلامية، وكان للمدارس العتيقة التي نشأت به منذ 10 قرون، أثر كبير في إخفاء التعصب للثقافة الأمازيغية، مما ساهم في تنمية البعد الفرداني لدى سكان سوس، إضافة إلى عامل التضاريس المفتوحة على البحر والصحراء، ونجاح الاستثمارات الرأسمالية الفلاحية، بعد تفكيك الملكية الجماعية للأراضي بنزع ملكية الفلاحين من طرف المعمرين القدامى والجدد، مما خلق طبقة عاملة زراعية وفلاحين فقراء بعد بروز الملاكين العقاريين الكبار، ومنهم المنحدرون من سوس، مما له أثر كبير في تطور الطبقات الاجتماعية بسوس عكس المناطق الجبلية المعزولة بالجنوب الشرقي، التي لم تندمج في نمط الانتاج الرأسمالي الإمبريالي خلال مرحلة الاستعمار القديم والجديد، خاصة وأن المناطق الجبلية بصغرو وبادو تم استثمارها في الصناعة المعدنية (اعتصام السكان بقرب منجم إمضر مطالبين بالحق في الماء والتنمية، اعتصام فلاحي تمتتوشت بسد تودغى، اعتصام فلاحي سيدي عياد بميدلت)، ولم تعرف الطبقة العاملة هناك تطورا كبير نظرا لتخلف الوعي الطبقي لديها، نتيجة طغيان العلاقات الاجتماعية ما قبل- رأسمالية، في ظل علاقات الإنتاج شبيهة بالعبودية، رغم وجود مناجم منذ الاستعمار القديم (منجم أحولين بسيدي عياد، منجم إميضر منذ الستينات).
أما منطقة الريف والأطلس المتوسط فلم تعرف فيها الحركة الأمازيغية انتعاشا إلا بعد ميثاق أكادير، نظرا لكون هاتين المنطقتين شبيهتين بالمنطقة الجنوبية الشرقية في مقاومة الاستعمار القديم (ثورة محند بن عبد الكريم، ثورة موحى أحمو)، وطالهما التهميش خلال الاستعمار الجديد بعد قمع الانتفاضات الشعبية بهما (الريف 58/59 ، الأطلس في 1973)، مما له أثر كبير في عزلتهما عن الحركة الثقافية الأمازيغية بسوس، إضافة إلى تضاريسهما الجبلية والفقر المنتشر في أوساط السكان، نتيجة انتشار مافيا المخدرات بالريف ومافيا الأرز بالأطلس، واللتان شكلتا دعما أساسيا للبرجوازية التجارية الحاكمة وأدوات لقهر الفقراء بهاتين المنطقتين، مما ساهم بشكل كبير في الانغلاق الاجتماعي، الذي تتسم به هاتين المنطقتين وسيادة العلاقات الاجتماعية ما قبل- رأسمالية بهما.
ونشأ بالريف رفض لكل ما هو خارجي عن المنطقة نظرا للإحساس الذي تكون لدى السكان حول اغترابهم في ظل قهر الدولة البرجوازية التجارية، التي ترفضهم وبالتالي تقمعهم وتهمشهم، استمرارا للتهميش الذي مارسه عليهم الاستعمار الإسباني، ونشأ لديهم الوعي الحسي القومي المرتبط بملاحم الثورة الريفية والجمهورية الريفية، لكن دون وجود استراتيجية ثورية ملائمة لشروط الحياة المادية خلال الاستعمار الجديد، فكان لهذا الاغتراب آثار سلبية على المناطق الريفية، شجعت السكان للهجرة إلى أوربا هروبا من واقع الفقر المدقع والتهميش، بحثا عن تحسين أوضاعهم الاقتصادية، وقد تكررت هذه الظاهرة بعد قمع الحسيمة وإصدار الأحكام الجائرة في حق مناضلينه، وتكونت بالريف طبقة عاملة مهمة تعيش بأوربا، إلا أنها لم يتكون لديها الوعي الطبقي نظرا لسيادة العلاقات ما قبل- رأسمالية، التي تربط أفرادها بالتعصب للريف والثقافة الأمازيغية الريفية، ورفض كل ما هو خارجي، بينما الفلاحون يعيشون اضطهادا بمناطق زراعة القنب الهندي.
وكان لهذا الرفض ومحاولة الخروج من الاغتراب أثر كبير في نشأة الحركة الطلابية الثورية، ذات أيديولوجيا الماركسية اللينينية بالمنطقة من طرف الطلبة بفاس ووجدة، مما ساهم في خلق منافس للحركة الثقافية الأمازيغية الناشئة بالريف، دون أن يصل ذلك إلى مستوى الصراعات الدموية بالجامعات الأخرى (الرشيدية، مكناس، أكادير)، وقد ساهمت هذه الحركة في ربط علاقات بالحركة التلاميذية وحركة المعطلين، أعطت شهداء وعلى رأسهم الشهيد كمال الحساني، كما نشأت حركة احتجاجية ذات بعد قومي متعصب للريف، برزت في تنسيقيات المعطلين، حركة 20 فبراير، حراك الحسيمة.
ويختلف الوعي القومي بالريف عن الوعي القومي لدى الحركة الثقافية الأمازيغية، فرغم حضور البعد الأمازيغي لديها، إلا أن تأثير البعد الثوري للقائد محند بن عبد الكريم الخطابي، يبقى هو البعد المشترك لدى الحركة الاحتجاجية بالريف، فالكل يعتبر نفسه امتدادا للثورة الريفية في حنين إلى جمهورية الريف، مما نتج عنه البحث عن صيغ مشتركة تهدف إلى تحقيق "استقلال الريف"، وهذا الوعي القومي وهو قريب من الوعي الطبقي كما أشار ماو تسي تونغ لذلك حول البرجوازية الوطنية، ودورها في مواجهة الاستعمار، كما هو الشأن في مرحلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار القديم، وما تلاه من انتفاضات خلال الاستعمار الجديد، عكس الحركة الثقافية بسوس التي تنكرت لثورة أحمد الهيبة، التي تعتبر المقاومة المسلحة بأيت باعمران استمرارية لها وامتداداتها بالصحراء.
إن الوعي القومي بالريف ساهم في انصهار العلاقات الاجتماعية ما قبل- الرأسمالية في مضمونه التحرري، مما ساهم في إخفاء التناقضات الطبقية بين مكونات الحركة الاحتجاجية الريفية، التي تضم بداخلها جميع عناصرها المتناقضة بمختلف طبقاتهم وفئاتهم وأيديولوجياتهم المتناقضة أيضا، مما يعطيها بعدا قوميا بامتياز، لكن الحركة الاحتجاجية بالريف تعرف انفصالا بين قواعدها العريضة، والمتسمة بالشباب وقياداتها غير المنسجمة وغير المنظمة أيضا، فالكل يتبنى نضالاتها الجماهيرية من منطلقه الخاص ومن موقعه الأيديولوجي والسياسي، دون الوصول إلى وحدة التنظيم التي قد تعطيها بعدا أدق وأشمل، وقوة لتحقيق هدفها في التحرر من سيطرة الدولة، وهذه القيادات منتمية إلى تنظيمات وشبه تنظيمات سياسية وحقوقية علنية وسرية تلعب فيها قوة النفوذ السياسي والاقتصادي دورا هاما، ولا نريد أن ندخل في التفاصيل وتعيين التنظيمات بأسمائها، تفاديا لما قد يخلقه ذلك من صراعات وفضح لأطراف، لا ترغب في الكشف عن نفسها إلا أن الساحة الريفية تكشف ذلك.
إن تناول الحركة الاحتجاجية بالريف له أهميته القصوى في رسم معالم الطريق الثوري للثورة المغربية، نظرا لأهمية ذلك في إبراز الأخطاء التي يمكن أن ترتكب خلال البناء الاستراتيجي للثورة، وهنا لابد للإشارة أنه رغم كون كل الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب ترتكز على رفع شعارات لا تتعدى فضح الواقع الموضوعي(الفساد، الفقر)، أي النتائج دون الوقوف على الأسباب (مسؤولية الدولة في ذلك)، عكس البعد القومي للحركة الاحتجاجية بالريف (رفع راية الجمهورية الريفية فوق مقر قيادتها بأجدير حركة 20 فبراير وحراك الحسيمة).
وحراك الريف يشكل في تاريخ الحركة الاحتجاجية بالمغرب، تحولا خطيرا يصعب تحديد مساره، فإما أن تنغلق الحركة عن نفسها ويسيطر عليها حلفاء النظام القائم (حزب البام، مافيا المخدرات)، وإما أن يتطور بداخلها البعد القومي في اتجاه الاستقلال (الحكم الذاتي في أحسن الأحوال) أو أن تكون شرارة للثورة المغربية.
واختيار طريق الثورة له مقوماته وشروطه الذاتية والموضوعية، وأساسها الإستراتيجية الثورية للحزب الثوري، كما تقر بذلك النظرية الماركسية اللينينية، ودراسة مكونات الحركة الاحتجاجية بالريف، يستبعد هذا الخيار الأخير، ذلك أن المغامرة التي يتسم بها بعض الثوريين هناك، قد يقودهم إلى حرق أوراقهم دفعة واحدة، كما أن التحريفية التي تتسم بها بعض التنظيمات السياسية "اليسارية" هناك، تجعلها ترفض هذا الاختيار الأخير وتعمل على عرقلة تحقيقه، أما إذا تحول البعد القومي في اتجاه تغليب منظور الحركة الثقافية الأمازيغية، فقد يكون ذلك نكسة أمام الطريق الثوري للثورة المغربية.

تجربة حركة 20 فبراير

يتم الحديث في الأوساط السياسية والشعبية على السواء عن دولة "المخزن" التي تعتبر السلطة المركزية بالمغرب خلال القرون 17، 18، 19، عن طريق فرض الإتاوات على القبائل الأمازيغية مقابل جزء من الحكم الذاتي، والذي تمت مواجهته بعد سقوط الدولة السعدية في مناطق ما كان يطلق عليها آنذاك "بلاد السيبة"، أي الحكم الذاتي للأروستقراطية القبلية بالبوادي، مقابل "بلاد المخزن" التابعة لسلطة الأروستقراطية المدنية بالمدن.
و قد نشب صراع مرير بين هاتين السلطتين لمدة 54 سنة من الحروب الأهلية، بين المنظمات الحربية الأروستقراطية بالبوادي و دولة "المخزن" بزعامة إسماعيل العلوي، ولم يتم تطوير دولة "المخزن"، إلا بعد فرض الاستعمار المباشر على المغرب في 1912، لضرب مطلب الشعب المغربي في دستور يؤسس للمواطنة بعد انتفاضة 1908.
وكان لتحالف الإقطاع (حكم القياد الكبار أمثال الكلاوي والكندافي بالجنوب) والاستعمار (الفرنسي والإسباني)، أثر كبير في تطوير دولة "المخزن"، بعد القضاء على مقاومة الفلاحين الفقراء بالريف، الأطلس وصغرو، والسيطرة على جل أراضي بلاد المغرب، حيث تم تغيير مظاهرها القبلية إلى دولة رأسمالية تبعية، تحكمها البرجوازية التجارية والملاكون العقاريون الكبار وعلى رأسهم الملك منذ 1956، وتحولت هذه الدولة إلى استعمار جديد لهاتين الطبقتين المهيمنتين على السلطة السياسية والاقتصادية بدستور ممنوح يؤسس لحكم مطلق استبدادي منذ 1962.
وما التدخل الإمبريالي الفرنسي والأمريكي في شؤون المغرب في ظل الانتفاضة الشعبية، التي مازلنا نعيش أطوارها اليوم، إلا محاولة فاشلة لإجهاض الثورة المغربية مرة ثانية، لتركيز أسس الاستعمار الجديد الذي تمت زعزعة أركانها في 20 فبراير 2011، بعد رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" في جل التظاهرات، مما يبين وجود تيارات ثورية أعلنت عن برنامجها الثوري في حركة جماهيرية.
واختلفت الآراء ما بين مؤيد ومعارض لهذا الشعار، كل حسب منطلقه الأيديولوجي والسياسي، إلا أنه بعد قمع مظاهرات 20 فبراير و06 مارس تبين بالملموس أن النظام القائم، لم يكن مستعدا للتفاعل مع مطالب الحركة الشبيبية 20 فبراير، خاصة بعد خطاب 09 مارس، الذي تجاهل جوهر مطالب حركة 20 فبراير المتعلق بالاقتصاد والاعتقال السياسي.
وقامت الإمبريالية الأمريكية والفرنسية بمباركة مضمون هذا الخطاب ودافعتا عنه، باعتبارهما قادتا الثورة المضادة بالمغرب، وخاصة منذ عشر سنوات مضت، عبر تدفق مئات الملايين من الدولارات ومئات الملايين من الأوروهات لتسخير بعض النقابات، الجمعيات الحقوقية، الثقافية والتنموية لهذا الغرض، ويلتقي الخطاب الظلامي مع مضمون خطاب الإمبرياليتين، مما يوحي بمستقبل الظلامية بالمغرب.
وبين من ينادي بالجمهورية الديمقراطية ومن ينادي بالملكية البرلمانية يتشكل قطبي حركة 20 فبراير، وبين هذين المنظورين فرق كبير، فالرئيس يتم انتخابه وتحديد مدة رئاسته أما الملك فهو من عائلة ليست كباقي عائلات البلاد لا يمكن انتخابه، ومن ناحية المضمون فكلاهما ضمن نظام بورجوازي يتبنى الرأسمالية كنظام اقتصادي، يركز استغلال البروليتاريا والفلاحين، أما مفهوم الجمهورية الوطنية الديمقراطية الشعبية فهو ينبع من دولة ذات بعد وطني ديمقراطي، ذات توجهات اشتراكية تسيطر فيها البروليتاريا على السلطة، وهو الطرح الثالث الذي بدأ يتشكل داخل الحركة انطلاقا من امتدادات التيارات الماركسية اللينينية، التي ترى في هذا الطرح مضمون شعار "الشعب يريد إسقاط النظام".
فقبل الحديث عن أي دستور تريده حركة 20 فبراير وجب عليها اختيار نوع النظام السياسي، وفق الأساس الاقتصادي الذي يلائم هذا الدستور، ففي الأنظمة الغربية التي تسمي نفسها ديمقراطية، يتم تيسير استغلال البروليتاريا في ظل الوهم بالحرية، أما النظام الذي تريد حركة 20 فبراير تغييره فهو يجمع بين الملكية والديكتاتورية، في ظل نظام شبيه بالفيودالية، حول البلاد إلى إقطاعية عائلية يسيطر فيها الملاكون العقارييون الكبار، على كل منابع الاقتصاد، بعقلية ذات أبعاد إقطاعية، ذلك ما نسميه حكم البرجوازية التجارية والملاكين العقاريين الكبار، نظام ديكتاتوري تحكمه عائلات محدودة على رأسها العائلة الملكية، فلا فرق فيه بين العمومي والخصوصي في الملكية، التسيير والتدبير.
ولا يمكن الحديث عن أي دستور من طرف حركة 20 فبراير بمعزل عن النقاط المقرونة بالدستور الديمقراطي الواردة في إعلانها ، فذلك هو ما يجمع مكونات الشبيبة في هذه الحركة إلى حين تحقيقها.
فلماذا التركيز على مناقشة الدستور قبل تحقيق المطالب الأساسية ؟
يعتبر هذا العمل تحريفا لجوهر نضال حركة 20 فبراير، وهو يسعى إلى تسيير وتيسير المسار المسطر في 09 مارس، في اتجاه إلغاء مضمون مطالب حركة 20 فبراير، ورغم رفض تحريف مسار الحركة من طرف بعض مكوناتها، إلا أن الحركة وقعت في ورطة تاريخية، بين إعلانها التاريخي لمطالبها ومسار نضالها المنحرف عن خطها وبرنامجها، وكان العامل الأساسي في إفشالها هو التحالف مع الظلامية من طرف التحريفية، مما يؤكد أن المتحالفين على أرضية الواقع كما يدعون مشاركان في عرقلة تطور حركة 20 فبراير، وبرزت فيها الحركة الثقافية الأمازيغية في بعض المناطق كسوس، الجنوب الشرقي والريف.

تجربة الحراك الشعبي بالحسيمة

نشأت علاقتي بالحسيمة منذ 2005 خلال تضامني مع معتقلي احتجاجات الفلاحين بتماسينت، من أجل الحق في السكن، تهدمت منازلهم جراء زلزال فبراير 2004، دون إسعافهم وتعويض خسائر جل الفلاحين، وكانت تلك المرة الأولى التي أتعرف فيها على الريف، والمرة الثانية في 2008 للمشاركة في تأطير نشاط ثقافي اجتماعي نظمته جمعية "كفوس غ فوس" بأيت بوعياش، وفي طريقي توقفت بإساكن، زرت فيها عائلة فلاحة بإحدى القرى المعروفة بزراعة القنب الهندي، لأول مرة أرى على أرض الواقع نساء فلاحات يعملن بمزارع القنب الهندي، نساء يحصدن، المنتوج يحملنه إلى باب المنزل، يقوم الرجال على توزيعه على شكل رزمات، يضعه بالمنزل حتى يجف، يخرج إلى السوق للبحث عن المشتري، ممنوع عليه حمله إلى السوق، كان مجمل أحداث هاتين المحطتين مضمون مداخلتي في نشاط الجمعية، في العلاقة بين معاناة الفلاحين الفقراء ومافيا المخدرات بالريف ومافيا العقار بسوس.
شكلت هاتان المحطتان انطلاقة سفري بعيدا بالريف، 10 سنوات متواترة، جعلتني أتعلق بهذه المنطقة ذات التاريخ الهائل أكثر فاكثر، اكتشفت خلالها أن الريف يختلف كثيرا عن باقي مناطق المغرب، بتأثير ثقل تاريخه الكبير على الثورة بالمغرب، إنطلاقا من هذه النقطة تعلقت بالريف وشعبه، الذي بحق لديه مميزات شعب، وفي كل زيارة من زياراتي لهذه المنطقة الرائعة، تغتني ذاكرتي التاريخية وتتسع في اتجاه السفر بعيدا في تاريخ الثورة بالمغرب، إنه اكتشاف شعب يحمل بصمات تاريخ قائد ثورة عظيمة، مولاي محند بن عبد الكريم الخطابي، رجل السياسة والحرب، الإستراتيجية والتكتيك.
حدثان آخران مهمان طبعا زياراتي للريف، الأول عند تضامني مع الفلاحين بسد غيس يوم 24 يناير 2016 الذي تلاه زلزال اليوم الموالي بإمزورن، حيث قضيت الليلة هناك، والذي أعادة لذاكرة الريفيين مأساة 2004، الثاني عند اغتيال الشهيد محسن فكري في تلك الليلة من زيارتي لإمزورن إلى الحسيمة حيث قضيت ليلة 28 أكتوبر 2016 هناك، نشبت بعد هذين الحدثين الهائلين مظاهرات عارمة قادها شباب الحسيمة، إمزورن، أيت بوعياش وباقي البلدات المجاورة.
يعتبر الحراك أطول حركة شعبية، برز فيه دور الحركة الثقافية الأمازيغية، كان موازيا ل"بلوكاج" تشكيل الحكومة الثانية بعد حركة 20 فبراير، مما منحه وقتا طويلا وفرصة ليتمدد ويتصلب ويحافظ على دينامية قوته، في الوقت الذي انخرطت فيه الأحزاب السياسية الإدارية في جدال عقيم، وصراع مكشوف حول مصالحهم السياسية والاقتصادية، بينما الأحزاب المحسوبة على اليسار خارج هذا الجدال العقيم، وموجودة بشكل متفاوت بحراك الريف وجدت فيه عزاءها الأخير في تلك الفترة، في هذه المدة استطاع الحراك أن يجدد الوعي الجمعي لسكان الريف، ويوقظ الذاكرة التاريخية الجماعية المظلمة لديهم، هاتان الميزتان منحتا للحراك مناعة ضد الانتهازية واندماجا نسبيا لمكوناته الداخلية المتناقضة، مما أمكنه أن يسير متقدما في اتجاه أفق الثورة بالمغرب لولا فقدانه لحلقة التنظيم المحكم.
نهض الريف في حراك شعبي قلبه النابض بالحسيمة، وبالنسبة لمن لم تكن له علاقات بشعب الريف، لا يمكن له أن يفهم ما جرى هناك، بالمدينة الكبيرة الحسيمة وعلى طول سلسلة المدن الصغيرة، أجدير، بويكدارن، إمزورن، أيت بوعياش، تامسينت وغيرها، وعلى امتداد قرى جبال الريف، التي تشكل جميعها منطقة آهلة بالسكان، مرتبطة بتاريخ الثورة ضد الاستعمار، وهذا المجال الجبلي عاش الثورة مرتين في 1921ـ1926 وفي 1958ـ1959، في أحداث لازمتها المعاناة والمجد، وخضبت الذاكرة التاريخية الجماعية للريف بالظلمة والأفق المسدود.
حراك الريف تطور، وحصلت قفزة نوعية هناك، وهي انطلاقة في طريق الاستقلال من جديد، كما يطمح أهله لذلك، ذلك ما يتم حجبه، والذي أصبح مع الحراك واضحا، حيث شباب الريف استثمر في التعليم والثقافة، أغلبهم طلبة ومعطلين، مرتبطون جدا بثورة الريف، يسعون في طريقهم إلى الهدف الثوري لقائد جمهورية الريف، في أوسع تجلياته، حراكهم الأخير جد متطور، لأول مرة تتظاهر النساء إلى جانب الرجال، ترافقهن على طول حياتهن ذاكرة تاريخ مظلمة، ثقيلة ببصمات تدخل الجيش الإسباني والمغربي في القرن 20، وهن في الحراك يستيقظن، الشباب، رجال ونساء، مثقفون ثوريون، يعتبرون هذه الذاكرة نقطة سوداء لا يمكن أن تزول إلا بتحقيق ثورة التحرر.
الريفيون، من منظور الذاكرة التاريخية المظلمة التي يحملون، وجدوا في الحراك وسيلة للتعبير عن مطالبهم، التعبير الذي يقترب في بعض الأحيان من حد إعلان الاستقلال، وقد تأسست تيارات حتى قبل هذا الحراك، الأمازيغية، الجمهوريون، الإسلاميون وغيرهم، وتيارات أخرى يسارية ثورية وراديكالية، دون أن ننسى تدخل الأحزاب، البام والعدالة والتنمية خاصة.
التدخلات القمعية الوحشية لآلة الحكم ضد الحراك عمقت التناقضات بين الريف والنظام القائم، ويكون من الصعب على الحراك الرجوع إلى الخلف أمام العدد الهائل من المتابعات، الاعتقالات، المحاكمات والإدانات الثقيلة، استمرار الحراك ليست نتيجة عفوية، لكن، التأثيرات السياسية، التاريخية والديمغرافية هي السبب، أجيال جديدة، المتعلمون خاصة، يوجدون في مقدمة الحراك، ولا يتصورون ضياع هذه اللحظة التاريخية بين أيديهم، التي فوتوها خلال انتفاضة 20 فبراير، حيث الحسيمة آخر منطقة سكنت فيها أصوات الحركة التي أعطت شهداء ومعتقلين، مازالوا في السجون إلى اليوم.
النظام القائم اختار طريق القمع ضد الحراك، منع تصوير الفيديوهات والتقاط صور المظاهرات، كل من صور فيديو أو التقط صورة ونشر الأحداث تمت متابعته، آخر من تم استدعاؤه واستنطاقه من طرف شرطة إمزورن هو طفل في السادسة من عمره، تم تصويره في فيديو الدعوة إلى مسيرة 07 يوليوز 2017.
إن علاقاتي الطويلة بالريف تسمح لي باستنتاج، وهو أن هذه المنطقة تختلف كثيرا عن باقي مناطق المغرب، لم يندمج الريف مطلقا يوما في النظام القائم، عاش تاريخا مظلما أبعده عنه شيئا فشيئا بلا رجعة، بفعل مميزات بقايا الإقطاع التي طبعت النظام القائم، وأبعدته شيئا فشيئا عن طريق الديمقراطي، ومجمل هذه الشروط التاريخية، السياسية والديمغرافية مجتمعة تشكل قوة شعبية، يصعب تجاوزها الآن، تقف في وجه قوة القمع المنظم، قوتان كبيرتان في صراع بالريف، قوة الحراك وقوة النظام القائم.
شعب ولد في حضن الثورة لا يمكن أن يندمج في نظام يعيش على امتداد بقايا الإقطاع، إنه شعب لا يمكن أن يعيش إلا في ظل دولة الحكم الذاتي الديمقراطية في أحسن الأحوال، حيث النظام القائم لن يتنازل عن السيطرة على الريف، بحكم التزاماته مع الإمبريالية الفرنسية ذلك ما تجلى في زيارة ماكرون في عز اعتقالات مناضلي الحراك، وخطابه الذي يبرهن على مدى موافقة فرنسا على هذه الاعتقالات وما تلاها من أحكام قاسية، وانتهى حراك الحسيمة بالقمع، التنكيل، الاغتيال، التعذيب بمخافر الشرطة والمحاكمات شبه عسكرية استمرت أشهرا، ومازالت مستمرة، أسفرت عن أحكام قاسية شبيه بأحكام الستينات والسبعينات من القرن 20، أيقظت في ذاكرة المناضلين مأساة سنوات القمع الأسود، كل ذلك من أجل وقف حركة شعب متعلق بالحرية.

درس في ثورة الريف العظيمة

لما قام قائد ثورة الريف العظيمة محند بن عبد الكريم الخطابي بحشد جماهير الفلاحين، لمواجهة الإمبريالية كان يعي جيدا أنه يؤسس لتاريخ ثوري، كانت تجربته بإدارات الإمبريالية الإسبانية قد علمته إلى أي حد لا يمكن لأي ثوري أن يقبل خدمة الاستعمار، أدرك جيدا مفهوم الدولة كأداة طبقية، فاختار بناء دولة الفلاحين في مواجهة دولة الإمبريالية، كانت قوة الفلاحين هائلة بحكم خبرتهم الطويلة والكبيرة بمنطقة الريف ذات التضاريس الجبلية التي نحتت في جباهم معنى الحرية، وامتزجت بفكر قائد مثقف يهوى حمل القلم والبندقية بحثا عن الحرية في تجلياتها الواسعة ألا وهي امتلاك أداة قهر الطبقات : دولة الفلاحين.
لم يكن لانتصار ثورة الريف العظيمة أن يمر دون طبع التاريخ في عصر الإمبريالية وكان انتصارا لكل الشعوب التواقة إلى الحرية، انتصار أنتج صياغة جديدة للمقاومة الشعبية المسلحة ضد الهيمنة الاستعمارية الإمبريالية، انتصار لقن المستعمر درسا جديدا من دروس المواجهة المسلحة بصيغة جديدة حقا، وكان القائد العظيم المنظر لهذا الانتصار يعرف جيدا إخفاقات ثورة الجنوب في السهل أمام الإمبريالية الفرنسية، ولم يتحقق صمودها إلا بعد احتمائها بجبال الأطلس الصغير في أوساط أيت باعمران الصامدة، وكان قائد ثورة الريف العظيمة يعي جيدا موقع الجبال في بناء صمود مقاومة الفلاحين ضد قمع الدولة الإمبريالية.
لم يكن لانتصار ثورة الريف العظيمة أن يتحقق لو لا وعي قائدها العظيم بقدرة قوة جماهير الفلاحين على إبداع أشكال جديدة من العقيدة العسكرية لم تعرف في تاريخ الحروب من قبل، وصلت إلى حد تصبح فيه قوة جماهير الفلاحين قادرة على بناء دولتهم المستقلة كأداة لقهر الاستعمار الإمبريالي، بناء دولة الفلاحين بمفهومه الجديد في ظل السيطرة الإمبريالية في أوج نهوضها كمستوى أعلى للرأسمالية، ولم يكن للدولتين الاستعماريتين الفرنسية والإسبانية أن توحدا قوتهما إلا لما شرعت دولة الفلاحين الثورية في بناء أسس الدولة الوطنية الديمقراطية الشعبية، التي ترى فيها الإمبريالية تهديدا لمشروعها الاستعماري بالبلدان المضطهدة بإفريقيا.
لم تنته دروس ثورة الريف العظيمة بعد سحق الإمبريالية لجيوش الفلاحين وتدمير أسس دولتهم الحرة إنما انطلقت دروسها لتعم باقي البلدان المضطهدة، ولم ينته دور قائدها العظيم بتسليم نفسه أسير حرب إنما استمرت دروسه بمنفاه باعتباره ملهم الحرب الشعبية ضد الإمبريالية، وأسس بذلك مدرسة العقيدة العسكرية الثورية الجديدة يستفيد من دروسها كل ثوار العالم وعلى رأسهم الماركسيون اللينينيون بالصين والفيتنام، ولم تحول يوما الهزيمة أنظار القائد العظيم عن الثورة بالريف إنما عمت أنظاره الثورات بكل البلدان المضطهدة، فكان انبعاث المرحلة الثانية للثورة في سنوات 1950 بإطلاق أول رصاصة في جبال الأوراس على يد تلميذه حدو أقشيش إعلانا لاستمرار مشروعه الثوري الجديد.
واستمرت دروس ثورة الريف العظيمة عبر حركة التحرر الوطني بشمال إفريقيا التي واجهت المشروع الاستعماري الجديد، وكان أول درس لها في جبال الريف الثوري في استمرار للعقيدة العسكرية الثورية بقيادة تلامذة القائد الثوري العظيم، ليمتد الدرس الجديد في الثورة إلى جبال الأطلس الصغير من جديد، ويؤكد التاريخ أن الجنوب والشمال صنوان في خندق واحد يسمى الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية، ولم يكن للإمبريالية أن توقف زحف الثورة نسبيا إلا لما تكاملت شروط التحالف الاستعماري الجديد المتجسد في الدولة التبعية بجميع أركانها السياسية، الاقتصادية، الثقافية والعسكرية، واستمرت دروس ثورة الريف العظيمة في أشكال ثورية جديدة في صيغة انتفاضات شعبية آخرها ما نسميه اليوم الحراك الشعبي بالحسيمة.
لم يكن لدروس ثورة الريف العظيمة أن تستمر إلا باستمرار الهيمنة الإمبريالية في أشكال استعمارية جديدة ببلادنا والتي يجب مواجهتها بأشكال ثورية جديدة، فكان الحراك الشعبي بالريف أرقى هذه الأشكال الثورية الذي استنهض الجماهير الشعبية والذي تميز بانخراط المرأة الريفية الثورية فيه، الشيء الذي أعطى إشارة تاريخية كبيرة وهي أن دروس ثورة الريف العظيمة قد تعمقت فعلا في أوساط شعب يهوى الحرية ويرفض الخضوع، وكان للشباب المثقف الواعي دور كبير في تصليب العمود الفقري للحراك الشعبي بالحسيمة مما جعل الدولة التبعية للإمبريالية تظهر في مظهر من الهشاشة التامة رغم القمع والاعتقالات والمحاكمات والإدانات والمساومات.
لم يكن للحراك الشعبي بالحسيمة أن يستمر لولا تكامل الشروط الذاتية والموضوعية لانبعاث القوة الثورية بالريف من جديد بعد تعميق الهوة بين الجماهير الثورية ودولة الاستعمار الجديد، دولة البرجوازية التجارية والملاكين العقاريين الكبار المسيطرين على الرأسمال المالي المحلي المندمج في الرأسمال المالي الإمبريالي المهيمن على التجارة والصناعة والفلاحة والخدمات ببلادنا، فكانت زيارة ماكرون في أوج احتداد الصراع الطبقي بالمغرب إشارة كبيرة لدعم القمع الدموي للجماهير الشعبية بالريف ضد إرادتهم القوية في الحرية والديمقراطية.
وتستمر دروس ثورة الريف العظيمة في أشكال جديدة للانتفاضة يقودها الشباب المثقفة الثائر في تحد كبير لوسائل القمع الطبقية وعلى رأسها الوسائل الثقافية، التي يشكل فيها المثقفون الأكادميون بالدواويين والوزارات والجامعات والأحزاب الإصلاحية والنقابات والجمعيات التابعة لها .. أبواقا لترويج السلعة الفاسدة للمنظور التنموي الاستعماري الجديد، من أجل تحويل الشعب المغربي عن المطالب السياسية الأساسية وعلى رأسها الحرية والديمقراطية، المشروع الذي يرتكز على استغلال العمال والفلاحين والثروات الطبيعية وتأسيس البنية التحية للاستعمار الجديد : الموانئ والمطارات والسكك الحديدية والطرق السيارة والاتصالات .. ومؤسسات القمع المتعددة.
وتستمر دورس ثورة الريف العظيمة في السعي إلى بناء الإنسان المتحرر الرافض للخضوع والتواق إلى الحرية والديمقراطية، في صيغة ثورية جديدة يشترك فيها الرجال والنساء جنبا إلى جنب ضد اضطهاد الدولة الاستعمارية الجديدة، في أفق بناء تحالف العمال والفلاحين بأداتهم الثورية القيادة التنظيمية الثورية لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية الشعبية.

خلاصة

بين النظرية والممارسة ضجيج من كلام الأيديولوجيين والسياسيين، عن قصة الثورة وبطولات الثوار، التي هزمت البورجوازية، دون أن يستطيعوا إقامة دولة ديكتاتورية البروليتاريا، لا يستقيم لهم كلام إلا في ظلمات أزمة الحركة الشيوعية، هم حطب النيران التي أتت على الأخضر واليابس في ربيع الثورة، وهم عبيد السماع ببصيرة عمياء يطأطئون رؤوسهم كالنعام، أمام الهزات الثورية للجماهير، يتساءلون عن مصيرها المحتوم، ويتسابقون لقيادتها حتى ترسو على شواطئ البورجوازية، وعلى بطونهم في البسيطة يتحسسون خطى المناضلين، الصامدين بالطريق الثوري، يتعاقبون الحركة الثورية بكل إصرار، من أجل إخمادها، هي حال الانتهازية في كل زمان ومكان، أثناء أزمات الحركة الثورية، لما تنتصر البورجوازية على البروليتاريا نسبيا.
ليست الانتهازية فقط هي التي تعم الدنيا ضجيجا، إنما تصاحبها في الطريق عفوية الفوضويين، ليس بالمعنى التنظيمي للكلمة، إنما بالممارسة العفوية التي تجعل من الحركة كل شيء باسم الثورية، معتقدين أن الثورة على الأبواب، وأننا لسنا في حاجة إلى النضال الجماهيري الإصلاحي ذي الأفق الثوري، في غياب تام للفهم المادي للنظرية والممارسة، في غياب تام لاستراتيجية الثورة في علاقتها باستراتيجية البناء التنظيمي الثوري جماهيريا.
وليست فقط الانتهازية والفوضوية العفوية هما اللتين تملآن الفضاء ضجيجا اليوم، إنما يواكبهما صراخ الظلامية التي تتبنى كل هذا الضجيج، الذي يزعج آذاننا، فبينما تنهمك الانتهازية في تحريف ما يمكن تحريفه من الديالكتيك الماركسي، بدعوى تطوير الماركسية، من أجل مسخها بإدماج المفاهيم البورجوازية في قاموسها الثوري، تتألق الظلامية بشوارع المدن، مدعية أنها تقود "الثورة الديمقراطية"، وهي فعلا تقودها على حساب جماجم النساء والأطفال، عبر دوس جميع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، تتألق الانتهازية وتعانق المشروع الظلامي "الثوري الديمقراطي"، بدعوى التحالف الميداني، مدعية أنها انتصرت على الفوضوية العفوية.
ويبقى هذا الثلاثي بضجيجه يشوش على المشروع الثوري للحركة الماركسية ـ اللينينية، وتنتعش الرجعية باسم الديمقراطية والاقتراع المباشر، والتهليل للبرلمانية البورجوازية.
ويتسارع هذا الثلاثي لقيادة الحركة الاحتجاجية العفوية للجماهير، التي تخرج إلى الشارع العام، لما تضيق بها الحال في ظل تعميق استغلال عرق ودم البروليتاريا والفلاحين، من طرف البرجوازية التي تهلل بالديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، وتفوض للبورجوازية الصغيرة "المثقفة" هذه المهمة الصعبة، التي ترى فيها هذه الأخيرة ملاذا آمنا لمصيرها المنتظر، بالعصف بها في صفوف جماهير الكادحين أثناء أزمات الرأسمالية، ويجتهد المغامرون التصفويون من البرجوازيين الصغار، ويهللون بالانتصار على البورجوازية في شوارع المدن، يجرون وراءهم الشباب الثوري، خدمة للبرجوازية التي سخرتهم لمسخ العمل الجماهيري الثوري.
لقد لاحظ لينين في نهاية القرن 19 وجود مجموعات شبيبية في الحركة الشيوعية بروسيا، مرتبطة بالحركة العمالية الثورية، وفي دراسته لهذه الظاهرة، تأكد له أن المجموعات الشبيبية غير واعية بأهمية الطبقة في تحقيق الثورة البروليتارية، وهي معرضة بشكل سافر لقمع البوليس السياسي، الذي يلاحقها ويعتقل بعض قياداتها، كلما نضجت شروط حركتها الثورية، تاركا بعض رموزها لتتبع تطور هذه الحركة.
وهذه المجموعات الشبيبية غير واعية أن عملها في أوساط الحركة العمالية بشكل عفوي، لا يمكن أن يقود البروليتاريا إلى بناء دولتها الاشتراكية، إنما عملها يندرج ضمن "مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية"، وإن القول بالثورة خارج الطبقة، إنما هو عمل صبياني يقود الحركة إلى الفوضوية العفوية والانتهازية التصفوية.
وأكد لينين على أهمية ديالكتيك النضال الإصلاحي ذي الأفق الثوري في علاقته بالعمل الجماهيري، في أوساط البروليتاريا والفلاحين، واستخلص من ذلك أسس مفهوم التنظيم، في علاقته بالمنظمات الجماهيرية وشبه الجماهيرية، في نقده لعفوية الجماهير في علاقتها بتقدم وعيها، وأهمية العمل التنظيمي للمناضلين الثوريين، وخلص إلى أنه كلما تقدم وعي الجماهير، كلما استوجب ذلك تقدم العمل الثوري المنظم أكثر فأكثر.
واليوم نلاحظ أن هذا المرض ينتشر في الحركة الماركسية ـ اللينينية المغربية، بشكل سافر في أوساط بعض المجموعات الثورية، في ظل سيادة العمل الثوري الفوضوي العفوي، وعملهم هذا يغذي هجوم الانتهازية والرجعية على الحركة الثورية، ويساهم بشكل كبير في تدميرها، وهو عمل يندرج ضمن التصفوية، التي تدفع بالمغامرة الثورية العفوية، من أجل تدمير كل عمل منظم، في اتجاه بناء الطريق الثوري، في علاقته باستراتيجية وتاكتيك الثورة المغربية، في علاقتها بالثورة في الغرب الإفريقي.
رأينا في هذا الكتاب أهمية الممارسة العملية في علاقتها بالنظرية الثورية، وتشكلت لدينا هذه الرؤية حول التغيير الممكن في العالم، خلال متابعتنا للحركة الاحتجاجية بالمغرب زهاء 25 سنة، تتوجت بحركة 20 فبراير، استخلصنا منها دروسا عملية لا يمكن تجاوزها، في علاقتها ب"الربيع العربي"، وكان آخر تجلياتها دروس حراك الحسيمة، الذي أكد أهمية التنظيم في علاقته بالنظرية الثورية، في كل حركة جماهيرية تهدف إلى التغيير، مما يتطلب بناء مفهوم جديد للنضال الديمقراطي ذي الأفق الثوري، على أسس دروس ثورتي الجنوب والريف، في مرحلة تاريخية يتم فيها هيكلة الدول الاحتكارية، في أفق تحديد المسار التاريخي لحياة الشعوب عامة، والشعوب المضطهدة بصفة خاصة.

الهوامش

لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي،ص 292.
فيورباخ ، ص 16 من الطبعة الألمانية.
لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي، ص 293.
(4) ضد دوهرينغ ، ص 50.
(5)، (6)، (7)، (8)كتاب: نظرية الفيزياء عند الفيزيائيين المعاصرين، باريس 1907 ص 151،152، 298،299.
(9) (10)، (11)، (12)، (13)، (14)، (15)، (16) المادية ونقد المذهب التجريبي ـ ص 304، 301، 305، 306.
(17)، (18)، (19)، (20)، (21)، (22)، (23)، (24)، (25)، (26) لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي ص:53.
(27) ماركس، برومير لويس بونابرت.
(28)، (29) إنجلز، لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية.
(30)، (31)، (32)، (33)، (34)، (35) لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي. ص:228.
(36) إنجلز، (Werke, II, S, 302-303).
(37) ماركس، موضوعات عن فورباخ 1845.
(38) إنجلز،لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية 1888.
(39)، (40) لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي.
(41) إنجلز، مقدمة كتاب ماركس "بؤس الفلسفة".
(42) لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي.
(43)، (44)، (45) ستالين، أسس اللينينية.
(46) لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمال".
(47)، (48)، (49)، (50)، (51)، (52)، (53) لينين، المادية والمذهب النقدي التجربي.
(54) ستالين، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
(55) لينين، المادية والمذهب النقدي ا لتجريبي.
(56)، (57)، (58)، (59) ستالين المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
(60) لينين، ما العمل؟.
(61) ماركس، .نقد الفلسفة الهغلية.
(62)، (63) ستالين، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
(64)، (65)، (66) ماو، المنهج الجدلي لتثبيت وحدة الحزب.
(67) ماو، نظرات إلى العالم.
(68) ماو، المنهج الجدلي لتثبيت وحدة الحزب. النسخة الإليكترونية.
(69) ماو، نظرات إلى العالم.
(70) لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي.
(71)، (72)، (73) لينين، ما العمل ؟
(74)، (75) لينين، ضد الجمود العقائدي والانعزالية في الحركة العمالية.
(76) لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
(77)، (78) لينين، في الدفاع عن الوطن الاشتراكي ـ دار التقدم موسكو.
(79) ستالين، أسس اللينينية.
(80)، (81)، (82) لينين، خطوة إلى أمام، خطوتان إلى وراء، المجلد6.
(83) لينين، نصائح غائب، المجلد 21، ص 319، 320،
(84)، (85) لينين، مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية.
(86) لينين، حول أهمية الذهب ، المؤلفات الكاملة، المجلد 27، ص 82.
(87) لينين، حول أهمية الذهب المجلد 27، ص 84 – 85.
(88)، (89)، (90) ماو، قضايا الإستراتيجية في حرب العصابات.
(91)، (92)، (93) لينين، الدولة والثورة.
(95)، (96)، (97) لينين، مسائل السياسة القومية والأممية البروليتارية ـ الثورة الاشتراكية والنضال في سبيل الديمقراطية، ص 160 232.
(98) لينين، مختارات الجزء الرابع.
(99)، (100)، (101) لينين، الكارثة المحدقة وكيف نحاربها.
(102)، (103) ستالين، المسائل الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفييتي
(104) لينين، في الثقافة والثورة الثقافية.

المراجع المعتمدة :

1 ـ ماركس، العمل المأجور والرأسمال.
2 ـ ماركس، بؤس الفلسفة.
3 ـ إنجلز، مبادئ الشيوعية.
4 ـ الاشتراكية الطوباوية والعلم.
5 ـ موجز رأس االمال.
6 ـ لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي، دار التقدم موسكو 1981.
7 ـ لينين، في الدفاع عن الوطن الاشتراكي ـ دار التقدم موسكو.
8 ـ لينين، ضد الجمود العقائدي والانعزالية في الحركة العمالية.
9 ـ لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
10 ـ لينين، في الثقافة والثورة الثقافية، دار التقدم موسكو.
11 ـ لينين، ما العمل؟ المائل الملحة لحركتنا.
12 ـ لينين، مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية.
13 ـ لينين، الدولة والثورة.
14 ـ ستالين، المسائل الاقتصادية للاشتراكية بالإتحاد السوفييتي.
15 ـ ستالين، أسس اللينينية.
16 ـ ستالين، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
17 ـ ماو تسي تونغ، في التناقض.
18 ـ ماو تسي تونغ، نظرات إلى العالم.
19 ـ ماو تسي تونغ، المنهج الجدلي لتثبيت وحدة الحزب.
20 ـ ريمون أرون، النقد الفلسفي للتاريخ.
21 ـ فو نغوين جياب، سرد حول المقاومة الفيتنامية 1925ـ 1945.
22 ـ لينين، البرنامج العسكري للثورة البروليتارية.
23 ـ امال الحسين، المذهب الماركسي اللينيني أعلى مراحل الديالكتيك الماركسي.