يوميات التقاضي بالمحاكم المغربية الحلقة الأولى


امال الحسين
الحوار المتمدن - العدد: 7410 - 2022 / 10 / 23 - 11:38
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

لما قررت الكتابة حول هذا الموضوع الشائك أعرف جيدا أنه حافل بالمغامرات والمخاطر في نفس الوقت، خاصة ونحن في دولة تطغى فيها جذور ما قبل ـ الرأسمالية رغم وجود واجهة حداثية، لكون السلطة القضائية في الدول التي لم ترق فيها بعد الممارسة الديمقراطية وتطبيق حقوق الإنسان مكبلة بهذه الجذور، ولن ترق فيها هذه السلطة إلى مستوى حماية حقوق المظلومين، لكون العلاقات ما قبل ـ رأسمالية ما زالت طاغية على تطبيق النصوص القانونية رغم حداثتها. فالمستعمِر لما صاغ الترسانة القانونية بالبلدان المستعمّرة راعى فيها حماية مصالحه السياسية والاقتصادية، في الوقت الذي لم يستطع فيه تحريك البنية الاجتماعية المعقدة، التي بقيت تحمل إرثا ثقافيا ماضويا يشدها إلى الماضي العميق ويعرقل تقدمها، هكذا نشأت هذه السلطة حاملة عاهات مستدامة داخلية وخارجية، من طبيعة المستعمِر نفسه ومن طبيعتها القبلية.

لقد أكد ماركس أن القوانين والتشريعات من أسس البنية الفوقية التي تعتمدها الدول في تمرير سياساتها على الشعوب، وهي غالبا لا تنسجم مع أسس البنية التحتية خاصة بالدول التي خلفها الاستعمار، والمجتمعات في هذه الوضعية تبقى مرهونة بقيود الماضي المتخلة، التي تعمقت خلال الاستقلال الشكلي وأنتجت عقليات سلطوية معقدة، تعمقت مع ممارساتها السلطوية الهوة بين هاتين البنيتين، مما عمق التناقض بينهما، وعمق عرقلة سير هذه المجتمعات نحو التقدم، بل وعمق تشبثها بالماضي المتخلف، مما يحول دون إيجاد حل لمشاكلها العميقة. والسلطة القضائية تحمل معها هذه العراقيل من النظرية والممارسة والعكس صحيح، رغم محاولة الدولة تقديم هذه السلطة على أنها حداثية، وهي حقا كذلك شكلا لكنها ماضوية مضمونا، مما حولها إلى أداة تعرقل حركة المجتمع وتقدمه، باعتبارها أداة قمع للمجتمعات في يد الدول كما يقول إنجلز، فما بالنا إذا كانت هذه الدولة نفسها مكبلة بقيود علاقات ما قبل ـ رأسمالية: دولة القبيلة.

في هذه الشروط يهرع المتقاضون إلى المحاكم المغربية بحثا عن العدالة علها تنصفهم وترجع لهم الحقوق التي يظنون أنها ضاعت منهم، وهم جاهلين بالوضعية الصحية للترسانة القانونية التي تواجههم، والتي تتخذها الدولة نفسها وسيلة لحماية لنفسها أولا قبل هؤلاء المتقاضين، الذين تعتبرهم منتجون عمالا كانوا أم فلاحين أم خداما وموظفين، تسعى إلى استمرارهم في مزيد من العمل والإنتاج وذر الربح عليها، لضمان استمراريتها هي قبل التفكير في إنصافهم وتمتيعهم بالحقوق التي هضمتها هي نفسها، ولم يفكروا يوما في استرجاعها، في أحسن الأحوال، لما يدركوا أنها حقوقهم وجب استرجاعها. هكذا يتسابق المتقاضون حاملين وثائقهم مدججين بحججهم معتقدين أنها وسائل الوصول إلى ما ضاع منهم، غافلين أنهم يحملون بداخلهم نقيضهم هم أنفسهم، النقيض الذي يمنعهم من الوصول إلى أي حق يرونه سهل المنال، الذي يجعلهم ترددون في المطالبة بحقوقهم لدى الدولة أولا، ويغرقون في قضاياهم التي بدأت يوما قضية وحيدة وأصبحت مع طول التقاضي تلد قضية تلو القضية، ويعيشون في هذه الدوامة المفرغة من القضايا إلى أن يرثها عنهم أبناؤهم وأحفادهم فتتعمق الخصومات في المجتمع، وتتعمق العراقيل التي تحول دون تقدمه.

طيلة أزيد من ثلاثين سنة من العمل النقابي والحقوقي نظريا وممارسة، التي مررت بها في حياتي، تم خلالها احتكاكي بطبقات وفئات اجتماعية عديدة من عمال وفلاحين ومعطلين وأساتذة وطلبة وتلاميذ وغيرهم نساء ورجالا، عشت معهم خلالها معاناتهم ومطالبهم ونضالاتهم وتظاهراتهم ومحاكماتهم واعتقالاتهم، شاهدت فيها نساء يتقدمون الرجال بحثا عن حقوقهم في احتجاجات عارمة وأطفالهن وراءهن يهرولون، شاهدت ذلك في عدة مناطق من المغرب المتعدد الثقافات، وكأن هذا البلد متعدد الشعوب، إن لم يكن كذلك حقا، تجمعهم معاناة واحدة: البحث عن الوصول إلى حقوقهم. طيلة أزيد من ثلاثين سنة تعمقت فيها هذه المعاناة إلى حد لم أكن أتصورها عند بداية نضالي مع المقهورين بالمغرب، ولا أبالغ إن قلت أن التراجعات عن الحقوق بهذا البلد خطيرة جدا وعميقة جدا، رغم ما يبدو لنا في الواجهة على أنه تقدم في ممارسة الحقوق. لما نشاهد أصحاب البلدة السوداء، المحامون يخرجون في مظاهرات دفاعا عن حقوقهم، ونرى وزير العدل متشبثا بقراراته ضد حقوقهم، فما بالنا عن حقوق المتقاضين الذين ينتظرون من المحامين الدفاع عنهم أمام القضاة، قضاة بعضهم يهين المتقاضلين أمام دفاعهم في الجلسات العمومية، التي يحولونها إلى مجالس تأديبة للمتقاضين.

يتبع