يوميات التقاضي بالمحاكم المغربية - الحلقة الثانية


امال الحسين
الحوار المتمدن - العدد: 7412 - 2022 / 10 / 25 - 17:06
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

لما دخل الاستعماران الفرنسي والإسباني إلى المغرب وجدا بنية قضائية متطورة عبر قرون مضت، أسسها النظرية من تشريعات الثقافة الأمازيغية والعقيدة الإسلامية، وتم تركيزها من طرف الفقهاء والقضاة بالمدارس العتيقة التابعة للزوايا خدمة لشيوخ القبائل، وتعتبر منطقة سوس إحدى معاقل هذه التشريعات الأمازيغية المحلية، حيث تعتبر المناطق الجنوبية معاقل تأسيس الدول الإمبراطورية الأمازيغية خاصة منها المرابطية والموحدية، اللتان امتد حكمهما إلى أوروبا عبر إسبانيا والإمارات العربية بالأندلس، مما ركز تفاعل الثقافة الأمازيغية مع الثقافة العربية والغربية، وكان لسقوط الإمارات الأندلسية في نهاية القرن 15 أثر كبير في تركيز ثقافة التشريع والتوثيق بمناطق الشمال والجنوب بالمغرب.
وكانت ثورة الجنوب التي قادها الشيخ أحمد الهيبة في 1912 انطلاقا من المدرسة العتيقة بتزنيت خير دليل على قوة الثقافة الأمازيغية ـ العربية، والتي تم تركيزها خلال الثورة الريفية بالشمال من طرف القاضي محمد بن عبد الكريم الخطابي بين سنتي 1919 و1926، خلال تأسيس أول دولة وطنية ديمقراطية مستقلة بشمال إفريقيا، بعد هزيمة الإستعمار الإسباني في معركة أنوال، وأسس أول تشريع قانوني حداثي في مستواه العالي وهو دستور هذه الدولة، الذي يعتبر تطويرا لمنظومة العدالة المحلية بعد بناء دولته، بإخراجها من المدارس العتيقة وإدماجها في التشريعات الحداثية والعلاقات الدولية، انطلاقا من تجربته في مجال القضاء بإسبانيا وتركيزها في نظام موحد بجميع أركانه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية، ليبني بذلك أول مؤسسة قضائية في دولة ديمقراطية حداثية بالمغرب، مما دفع الإمبرياليتان الفرنسية والإسبانية إلى التحالف العسكري بينهما وتدميرها عبر إبادة الشعب الريفي، بعون ودعم من دولة المخزن التي يحميها تحالف الاستعمار والكلاوي.
ولم يكن أمام الإمبرياليتين إلا تعاقب جيوب المقاومة بالأطلس المتوسط والجنوب والجنوب الشرقي، التي استمرت إلى حدود 1934 بأيت بعمران في الجنوب وأيت عطا في الجنوب الشرقي. وكان القضاة والفقهاء الأمازيغ يشكلون الذراع النظري للمقاومة، ولم تخل المدارس العتيقة من مراكز الأسلحة خلال مرحلة المقاومة، ومن داخلها يتم استنهاض القبائل لمواجهة الاستعمار كما هو الشأن خلال ثورة الجنوب، التي انطلقت من المدرسة العتيقة بتزنيت مرورا بقبائل سوس والأطلس الكبير وصولا إلى مراكش، تم خلالها مبايعة القبائل والقضاة للشيخ أحمد الهيبة "ملكا في مملكته" كما كان شعاره المرفوع ضد الاستعمار، إلى أن دخل مراكش وتم خلع الباشا التهامي الكلاوي.
وكان القضاة والفقهاء في الصفوف الأولى للمقاومة وطلبتهم حاملين للسلاح إلى جنبا إلى جنب مع عساكر شيوخ القبائل، وكان الشيخ محند أعبد الله ند بوبكر بتالوين من داعمي هذه الثورة في مواجهة الكلاوي، حيث رفض الوقوف إلى جانبه ضد الثورة، وأرسل مجموعة من ممثليه من زاوية تكركوست في اتجاه مراكش، وكان الفقيه الحاج محمد ند ناصر بالمدرسة العتيقة بأمزميز من بين المبايعين للشيخ أحمد الهيبة بمراكش، وكان سلاحه لا يفارقه بعد هزيمة الثورة ورجوعه إلى بلدة زوجته نواحي تارودانت، التي أقام فيها حيث رفض مبايعة الكلاوي وحيدا أميس في حصارهما للثورة بتارودانت، وأدى الثمن غاليا حيث تم تسميمه من طرف أحد أقربائه وتوفي مسموما.
لقد كانت تارودانت ملجأ للثورة بعد هزيمتها في مراكش طيلة سنتين من المقاومة الكلاوي وخونة الثورة بسوس المدعومين من طرف الاستعمار، حيث تعتبر مركز الزوايا والمدارس العتيقة والقضاة، وكانت من أوائل عواصم الدول الأمازيغية ومركزا للطرق التجارية من شمال المغرب إلى جنوبه في اتجاه الصحراء وغرب إفريقيا، خاصة في عهد السعديين ومقاومتها لجيوش إسماعيل العلوي بسوس، وهي كذلك في علاقة وطيدة بالزاوية الدلائية بالأطلس المتوسط معقل مقاومة الدولة العلوية التي أفضت إلى اعتقال سليمان العلوي.
خلال هذا التاريخ الطويل من الصراعات حول السلطة في المغرب تبقى السلطة القضائية حاضرة بقوة، وتشكل الدعامة الأيديولوجية للدول التي بناها الأمازيغ حيث جل قادتها كانوا قضاة ومفكرين، وكانوا يهتمون بالتوثيق خاصة بعد نشأة المدارس العتيقة التي يشتغلون فيها قضاة يفصلون في القضايا المدنية للقبائل والسكان، وكانت لهم شهرة عالمية في الأندلس والشرق وربطوا علاقات مع الجامعات العالمية كالأزهر بمصر والزيتون بتونس، وكانت الزوايا في أقاصي المناطق الجنوبية تتابع الحركة الثقافية العالمية عبر هؤلاء القضاة المثقفين، الذين وضعوا بصماتهم الخاصة في التشريعات المحلية الأمازيغية، وخير دليل على ذلك مؤسس الدولة الموحدية المهدي بن تومرت، الذي زار الأندلس والشرق وشمال إفريقيا ورجع إلى معقل رأسه بالأطلس الصغير بتارودانت، لينطلق منها عبر جبال الأطلس الكبير إلى مراكش.
وكان العديد من القضاة المقيمين بالمدارس العتيقة مهتمون بالثقافة والكتابة والتوثيق، وكانت مدرسة تكركويت العتيقة بتالوين من بين هذه المدارس التي عرفت نهضة علمية عالية في القرن 17، وكان المعلم محمد إبراهيم اليعقوبي من هؤلاء القضاة المعروفين آنذاك، وبنى مدرسة عتيقة جديدة جلب لها أمهات المخطوطات في شتى العلوم والآداب والتشريع والفلسفة والمنطق من الأزهر والزيتون، وقال عنه المختار السوسي: إنه يستعين ب 70 مخطوطا عند تدريس طلبته، وقال عن مكتبته عند زيارتها بتكركوست في أواخر الأربعينات من القرن 20 "أخاف عن هذه المكتبة من الضياع".
لقد صدق تخوف صدق تخوف العلامة والمؤرخ المختار السوسي، ففي 1956 تمت سرقة كل تلك المخطوطات وأصبحت في أيدي القاضي والعدول وبعضها في أيدي أحفاد شيخ الزاوية، وفي 1957 تم تعيين القاضي قائد دائرة تالوين يتحكم في أرشيف الاستعمار الفرنسي بالقيادة وأرشيف الكلاوي بالمحكمة، وفي 1964 عند توقيفه حمل معه الأرشيف والمخطوطات إلى وجهة غير معلومة، وساهم في إنجاز إشهاد مزور لآل وهبي لاحتلال قلعة محند أعبد الله وقصبة الكلاوي وأراضيهما.
يتبع